تقديم كتاب:”خطاب الاستعراب بتونس في عهد الحماية، الخصائص والخلفيّات” لنجاة قرفال

خطاب الاستعراب بتونس في عهد الحماية، الخصائص والخلفيّات

 

1- مقدّمة:

صدر كتاب: “خطاب الاستعراب بتونس في عهد الحماية الخصائص والخلفيات” للباحثة نجاة قرفال عن مجمع الأطرش للكتاب المختصّ في طبعته الأولى سنة 2020. ويمكن تنزيل موضوعه ضمن المشروع الفكري المتعلّق بدراسة تمثّلات الفكر التونسي وعلاقاته الثقافية والأيديولوجية الذي تخصّص فيه بعض أساتذة قسم الحضارة والتاريخ بالجامعة التونسية أمثال المرحومين أحمد عبد السلام وكمال عمران والبشير التليلي ومنجية عرفة منسية وفتحي القاسمي وغيرهم.

يستدعي البحث في خصائص خطاب ما ضرورة الانفتاح على مقاربات متعدّدة التخصّصات مثل اللسانيات وتحليل الخطاب والتاريخ وعلم الاجتماع الثقافي وعلم الاجتماع السياسي. وهو ما يشكّل أفقا بحثيّا واعدا لا سيما أنّ الموضوع يفتح بابا واسعا للنقاش في قضايا حيوية متّصلة بالهوية والغيرية والبنى العميقة والصورة النمطية والشخصية القاعدية والسياسة الثقافية والتربوية في منعطف حاسم من تاريخ تونس الحديث والمعاصر.

وإذا كان الكتاب يطرح في ظاهره إشكالية متّصلة بسمات الخطاب الاستعرابي وخلفياته المعلنة والمضمرة، فإنّه في باطنه يتضمّن سؤالا محوريا يتّصل بعوامل تشكّل الشخصية التونسية ووضعها الحضاري القائم ومنزلتها في عيون الآخر الاستعماري وبناه العميقة الموجّهة لسياساته واستراتيجياته. وهو ما أفضى إلى تولّد أسئلة فرعية متّصلة بخلفيات الاستعراب وآلياته، وعلاقة البيداغوجيا بالسياسة، وصلات التعليم بالإعلام وعلاقات المستعربين برجال الدين والأهالي، ومنزلة الاستعراب ضمن الايديولوجيا الاستعمارية وتأثيرات ذلك في صراع الهوية بتونس المعاصرة وتقييم إمكانيات تجاوز الوضع الراهن.

تكمن الفكرة الأساسية التي يقوم عليها الكتاب في كون الخطاب الاستعرابي بتونس خلّف نصوصا متنوّعة من مقالات وخواطر ورسائل وكتب وصور ورسومات تفضي قراءتها قراءة معمّقة وتقليب زوايا النظر فيها إلى كشف جوانب مغيّبة من تاريخ الحضارة التونسية المعاصرة، ومن ثمة فنحن أمام شكل من أشكال الاهتمام بالتاريخ المنسيّ الذي غالبا ما تكون له أدوار خطيرة في توجيه البنى العميقة وطرق تمثّل الذات والآخر.

تبدو الرؤية المتحكّمة في تأليف الكتاب رؤية سليمة بحكم تقيّدها بجملة من المحدّدات:

-المحدّد التاريخي بتحديد مرحلة تاريخية دقيقة تمتد من سنة 1881 إلى سنة 1956.

-المحدّد المفاهيمي من خلال تذكير المؤلّفة بحدود اقترابها من مجال تخصّص تحليل الخطاب وحرصها البيّن على تحديد ما يتناغم مع خطة عملها مثلما سنفصّله لاحقا.

-المحدّد المعرفي والمنهجيّ: توضيح هوية البحث المندرج ضمن تخصّص الحضارة الحديثة التي تتقيّد بتحليل نصوص مدوّنة محدّدة مع الاستعانة بمقاربات متعدّدة التخصّصات للتعمّق في القضايا المطروحة. ويمكن إجمالا توزيع أبرز قضايا الكتاب على المحاور الآتية:

2- منطلقات خطاب الاستعراب ودلالاته:

وقع الاعتماد على مدوّنة ضخمة من المصنّفات المتنوّعة لا تقلّ عن خمسين مؤلّفا أي مستعربا. ويمكن أن نذكر منها:

-مصنّفات لويس ماشويل Machuel الذي اهتم بالتّعليم العموميّ والتعليم الإسلامي في تونس.

-روبار برونشفيق Bronschvig الذي اختصّ بتاريخ افريقية في العهد الحفصيّ.

-عبد الكريم قوستاف جوصّو Jossot الذي بحث في موضوع اعتناق الإسلام.

-شارل منشكور الذي درس تاريخ بعض القبائل والأماكن التونسية مثل الفراشيش وماجر.

فضلا عن آخرين أمثال أبريبا جول Abribat Jules وبرشي ليون BercherLeon وديمرسمان وهودا أكتاف وغيرهم.

وقد تمّ تحديد معنى الاستعراب انطلاقا من العودة إلى جذور استخداماته الأولى وتاريخيّته ومقارنته بمعنى الاستشراق. وتبنّت المؤلّفة الرأي الذي يذهب إلى أنّ مصطلح “مستعرب” استعمل أساسا بالأندلس حين أطلق لفظ المستعربين على جماعة من المسيحيين كانوا يعيشون في ظلّ الحكم الإسلامي[1]. كما أنّ الاستعراب جزء من الاستشراق والعلاقة بينهما محكومة بمنطق علاقة العام بالخاص. فالحديث عن الاستعراب يماثل الحديث عن الاستفراس والاستتراك. ومن ثمة يختصّ الاستشراق بدراسة الشرق وآدابه بينما يقتصر الاستعراب على دراسة حضارة العرب وآدابهم. وتطلق كلمة المستعرب في ضوء ما هو مثبت في المدوّنة الغربية على كلّ من اشتغل بالعربية دراسة وكتابة وترجمة، أي الحضارة العربية الإسلامية لغة وآدابا وحضارة[2].

أجادت المؤلّفة توزيع المستعربين وفق ثلاث آليات: آلية التعليم والإعلام، ويمثّلها لويس ماشويل الذي شغل خطة وزير التعليم العمومي بتونس ما يقارب من ربع قرن، وآلية الترجمة والتصنيف التي شكّل المستعرب برشي أبرز رموزها بحكم تخصّصه في ترجمة مصنّفات فقهية إسلامية، وكتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق، كما قام المستعرب أكتاف هودا بترجمة صحيح البخاري.

أمّا الآلية الثالثة فتهمّ الخدمات والعلاقات مع السّلطة السياسية لا سيما الإقامة العامة والمؤسّسات الدينية كالكرادلة وأساقفة كنيسة قرطاج. وهي آلية تشمل جلّ المستعربين.

وقد عمدت الباحثة إلى تحديد مفهوم الخطاب تحديدا وظيفيا. إذ بدت على وعي كبير بأنّ مسألة تحليل الخطاب تحليلا نقديا مسألة اختصاص ضمن المدارس اللسانية التي لها نواميسها وباحثوها المختصّون. لذلك أكّدت على أنّ انفتاحها على ذلك التخصّص كان على سبيل الاستئناس للتعمّق في الإشكالية الأساسية موضوع بحثها. وبمقتضى ذلك فرّعت أشكال الخطاب الاستعرابي بحسب القوالب الفنّية التي صيغ فيها، فميّزت بين المحاضرة والرسالة والمقال والكتاب والصورة والرسم.

يوازي ذلك التعدّد في مستوى الأشكال تعدّدٌ آخر أهم يتّصل بالمضامين والدلالات. إذ لا يمكن اختزال الخطاب الاستعرابي في حدّ واحد بحكم تراوحه بين المعرفة والأيديولوجيا والبيداغوجيا والبراغماتية والإرشاد والدعاية. وقد أفرز ذلك التنوّع في أشكال الخطاب الاستعرابي ومضامينه نزعات محدّدة له مرتبطة بالسياقات المتحكّمة فيه والرهانات الموكولة إليه. ضبطتها المؤلّفة في ثلاث نزعات متمثّلة في نزعة التعالي والاستكبار، ثم نزعة التحقير والاستصغار، فنزعة التّثمين والاعتبار.

3- الوجه والقفا في الخطاب الاستعرابي:

إذا كان الاعتقاد السائد يربط ربطا آليا بين الاستعراب والاستعمار المباشر، فيتمّ غالبا الحديث عن تزامن نزعة التغريب والغزو الحضاريّ مع انتصاب الحماية الفرنسية بتونس، فإنّ الاستقصاء التاريخي يكشف أنّ الاختراق الثقافي والاقتصاديّ والعسكريّ قد تمّ منذ بداية القرن الثامن عشر. ولئن أشارت المؤلّفة إلى أنّ تأسيس أوّل منشأة تعليمية فرنسية سنة 1845 على يدّ القس بورقارد Bourgarde متبنّية في ذلك وجهة نظر لويس ماشويل[3]، فإنّها أغفلت دور المجامع الماسونية في توفير مهاد سوسيوثقافي للاختراق الغربي للبلاد التونسية، إذ ترجع أحدث الدراسات حول الماسونية تأسيس المحافل الماصونية بتونس إلى وقت مبكّر قبل انتصاب “الحماية” الفرنسية بسبعين سنة. إذ تمّ تأسيس أوّل محفل سنة 1812 تحت اسم Sant- Jean d’ Ecosse L’ impériale  على ايدي مجموعة من المرسيليين (أهل مرسيليا). كما بعث الشرق الكبير لبالرمو محفلا بقرطاج وأوتيك Carthagineed Utica سنة 1838 وتلته محافل أخرى بتونس[4].

وبقدر ما برزت العناية بالتعليم واضحة في الخطاب الاستعرابي خاصّة مع ماشويل الذي نشر سنة 1889 كتابا حول التعليم العمومي بالإيالة التونسية، فإنّ ذلك الاهتمام كان متفاوت المستويات وموجّها توجيها محكّما في خدمة الاستراتيجيا الاستعمارية مثلما توضّحه بعض النقاط الآتية:

-يوجد نمطان من التعليم: تعليم لا يتجاوز المرحلة الابتدائية تغلب عليه النزعة المهنية سواء أكانت فلاحية أم صناعية موجّه كلّيا للأهالي التونسيين المسلمين، وتعليم ثانوي متطوّر اختصّ به الفرنسيون منذ وقت مبكّر من دخول الاستعمار المباشر.

-إقبال العائلات التونسية المرفّهة على تعليم أبنائها اللغة الفرنسية منذ وقت مبكّر، بل حتّى قبل الاستعمار المباشر بنصف قرن. بينما ظلّت العائلات الآفاقية والمتواضعة ترسل أبناءها للدراسة بجامع الزيتونة وفروعه.

وقد أحسنت المؤلّفة اختيار المستعرب بول لابي paulLapie أنموذجا لتحليل علاقة البيداغوجيا بالسياسة الاستعمارية. إذ أكّد هذا المستعرب للسلطة الفرنسية استحالة اختراق الثقافة التونسية دون المرور وجوبا بفرض اللغة الفرنسية حتّى في التعليم الزيتوني من خلال اشتراطها في الامتحان المخصّص لإعفاء طلبة الجامع الأعظم من الخدمة العسكرية. ففي ظلّ هذا المعطى أشار إلى إمكانية كسب ما لا يقلّ عن خمسمائة متعلّم منتسب إلى اللغة الفرنسية وثقافتها. ووقعت الاستعانة في سبيل تحقيق ذلك الهدف بمؤسّسة القيّاد لما تحوزه من سلطة إدارية ومعنوية على الأهالي.

ولئن تحكّمت في الخطاب الاستعرابي خلفيات ثلاث موزّعة بين النواحي التشريعية والأمنية والعقائدية، فإنّه قد اعتمد آليات متعدّدة للتغطية على تلك الآليات وتضليل جمهور المتلقّين. وقد أجادت المؤلّفة حصر تلك الآليات وتبويبها في ثلاث آليات متعاضدة: وهي أوّلا: آلية التعليم والإعلام ثم ثانيا: آلية التربية والترجمة فثالثا آلية الخدمات والعلاقات[5].

ولمّا كانت العلاقة جدلية بين التعليم والإعلام فقد حرص الخطاب الاستعرابي على إثارة مختلف إشكالياتها. فعلى سبيل الذكر ألحّ ماشويل مرارا وتكرارا على أنّ تغيير العقليات أو الذهنيات لا يمكن أن يتمّ بين عشية وضحاها، وإنّما هو مسيرة تتطلّب الكثير من المثابرة والمكابدة. ويمكن بواسطة التعليم تربية العقول وفق الأجندات الفرنسية الاستعمارية. والمعوّل في ذلك على الصّحافة الفرنسية. وهو ما جعل شارل أندري جوليان يصف الصحافة الفرنسية بكونها صحافة قتال مثلما تفطّنت إلى ذلك مؤلّفة كتاب الاستعراب.

لم تكن آلية الترجمة عفوية، وإنّما وظفت ضمن آليات التعرّف على الآخر للسيطرة والتحكّم فيه. فهي ترجمة انتقائية. وقد برز في هذا الصدد المستعرب ليون برشي Leon Bercher الذي اختصّ بترجمة أمهات كتب الفقه الإسلامي المعتمدة في التعليم الزيتوني آنذاك. فترجم على سبيل الذكر:

-كتاب: مسألة الردّة من كتاب مختصر سيدي خليل تحت عنوان لافت للنظر “الردّة والتجديف والتمرّد في الفقه الإسلامي المالكي”.

-كتاب الورقات لأبي المعالي الجويني تحت عنوان: الورقات بحث في المنهجية الإسلامية ترجمة وتعليق[6]..

ولئن برز جلّ المستعربين في شكل حملة فكر وقلم، فإنّهم في الحقيقة اضطلعوا بالعديد من المهام والمهمات الخطيرة صلب السلطة الفرنسية الاستعمارية. فقد شارك المستعرب جيل أبريبا Jule Abribas ضمن الحملة الفرنسية على تونس سنة 1881 وكان ضمن الوحدة العسكرية الفرنسية خلال الحرب العالمية الأولى، ثم ألحق بالخدمة المدنية لشؤون الأهالي وكلّف بكتابة التقارير من المقيم العام أثناء فترات القلاقل والاضطرابات الاجتماعية. فكان يتنقّل بين مختلف المدن التونسية.

بدا الخطاب الاستعرابي متناقضا في خصوص موقفه من الإسلام. إذ لم يتجاوز موقفه دائرتي الاحتواء والمهادنة. وهو ما حرمه من صياغة توجّه إنساني عميق فعلى سبيل الذكر يذهب المستعرب هنري صلدان Saladain في تفسيره لانتشار الإسلام السريع إلى الدور التمهيدي الذي لعبته اليهودية والمسيحية، لكنه في موضع آخر يتراجع عن هذا التّفسير فيربط انتشار الإسلام بنوعية العنف الذي صاحب الفتوحات الإسلاميّة.

4- أبعاد الخطاب الاستعرابي:

يعدّ كتاب الخطاب الاستعراب حفرا في مميّزات البنى العميقة الموجّهة لأنظمة التعبير والتفكير في تاريخ تونس المعاصر والراهن. فلا جدال في أنّ أنساق تشكّل التصوّرات والتمثّلات شبيهة في نظام اشتغالها بحركة الطبقات الجيولوجية التي تسبق بأمد طويل بعض الظواهر الطبيعية مثل الزلازل والبراكين. إذ تختمر الأفكار الموجّهة للأنساق الفكرية والمؤثّرة في الشخصية القاعدية[7] مدّة طويلة قد تستغرق عشرات بل مئات السنين لتعطي مفعولها.

لعلّه في ضوء المعطى المشار إليه آنفا والمفصّل في كتاب الأستاذة قرفال يمكن تفهّم جوانب هامة من صراع الهوية القائم في تونس لا سيما في العشرية الأخيرة التي تراجعت فيها سلطة الدولة الشموليّة، فطفى على السطح ما كان مخفيّا أو مسكوتا عنه أو مكبوتا أو مقموعا.

ولئن كان من الصّعب إنكار إيجابيات الاستعراب المتمثّلة أساسا في إحياء بعض المصنّفات التراثية المنسية ونفض الغبار عنها ومحاولة إقناع غلاة الاستعماريين بضرورة إشراك التونسيين في تدبير شؤونهم، فإنّ ذلك كلّه لم يكن بمعزل عن الأيديولوجيا الاستعمارية التي كانت أذكى من أن تباشر أهدافها دون تزيين آلياتها وخلفياتها المتحكّمة فيها بما يصرف عنها سخط الأهالي ومقاومتهم لها.

وقد ربط الاستعراب شبكة من العلاقات المعقّدة مع المؤسّسة الدينية، وحاول تعصير التعليم الزيتونيّ مثلما أفصح عنه مشروع ماشويل الذي يهدف إلى بناء جامعة عصرية على أنقاض المؤسّسة الزيتونية. غير أنّه جوبه بمعارضة مزدوجة قويّة التأثير، سواء من بعض شيوخ الزيتونة المحافظين أو من غلاة الاستعماريين، إلاّ أنّ ذلك المشروع سيجد النور في جوانب جوهرية منه خلال قانون توحيد التعليم سنة 1958 مع المتفقد الفرنسي جان دوبياس الذي هندس مشروع توحيد التعليم وتعميمه.

ولئن أبدع الخطاب الاستعرابي في إخراج عديد المصنّفات المطمورة في غياهب النّسيان إلى مجال النشر والتعريف بها، فإنّ ذلك المنجز قد شابته نقائص معرفية لا سيما خلال الترجمة مثلما أشارت إلى ذلك مؤلّفة الكتاب. وبقدر ما عبّرت المؤلّفة عن سعة أفق معرفيّ ومنهجيّ من خلال إدراكها لأهمية التحليل الآلي والتّحليل الإحصائي والتّحليل التوزيعي والتّحليل الغرضي في تفكيك بنية الخطاب الاستعرابي لكشف آليات التسلّط والهيمنة، فإنّ بعض المسائل والأفكار في حاجة إلى مراجعة وتوضيح أكبر. يمكن حوصلة أهمّها في النقاط الآتية:

-إلى أيّ حدّ يصحّ حديث المؤلّفة عن اختراق الخطاب الاستعرابي للعقلية الفرنسية؟ أكان ذلك اختراقا حقّا أم استراتيجيا خطابية في التنويم والتضليل؟

-ما المقصود بالقول: “إنّ دراسة الخطاب الاستعرابي من جهة الخصائص المائزة له والخلفيات المطلّة منه تختلف اختلافا كلّيا عن دراسة الاستعراب”؟ فهل فعلا عند الممارسة التطبيقيّة يمكن الالتزام بذلك التحديد المنهجيّ الفاصل بين دراسة الخطاب الاستعرابي ودراسة الاستعراب؟

–تحدّثت المؤلّفة عن التّعطيل الذي تعرّض له مشروع المستعربين ونشاطهم من غلاة الاستعماريين ممّا حال دونهم وصياغة تصوّرات إنسانيّة حقيقية. لكن، ألم يكن من الأجدى البحث في جذور الصّورة النّمطية التي يحملها الوعي الأوروبي عن المسلمين؟ ألا نجد في الآداب البيزنطية رواسب غذّت المخيال الغربيّ بأصناف من الاعتقادات الخاطئة حول الإسلام والمسلمين؟

-تحدّث هيقل Hegel في فلسفة التاريخ على تونس وشمال إفريقيا معتبرا تلك المنطقة إفريقيا الأوروبية على حدّ تعبيره: ألا يمكن أن تكون الفلسفة التاريخية الهيقلية إحدى موجّهات الخطاب الاستعرابي خاصّة أنّ هيقل دعا إلى ضرورة قيام أوروبا بواجبها الحضاريّ واستعادة عمقها الاستراتيجي؟

-وضع الاستعراب مع منشكور تقسيما عنصريّا لنظام العمل والحضارة بمقتضاه يختصّ العربي المسلم بالمحراث والفلاحة، ويمتهن اليهودي التجارة، بينما ينفرد الفرنسي والأوروبيّ عموما بالتسيير والإدارة فإلى أيّ حدّ بعد سبعين سنة من الاستقلال تخلّصنا من كلّ أشكال هذا التصوّر النمطيّ ونظرته العنصرية؟

-حافظت المؤلّفة على التّفريع (في مقدّمة عملها وخاتمته) الذي كان معتمدا في عملها الأصلي المخطوط بحكم كون كتابها أطروحة دكتورا نوقشت في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس. وهو أمر في حاجة إلى مراجعة وإعادة نظر عند طبع الكتاب طبعة جديدة بما أنّه لكلّ من الكتاب والأطروحة أعرافهما الجاري العمل بها. لذا يستحسن إنجاز صياغة تأليفية لعناصر المقدّمة والخاتمة.

5- خاتمة:

إجمالا قام كتاب الاستعراب على معالجة مسألة مغيّبة في تاريخ تونس الحديث والمعاصر ممّا استدعى من الباحثة بذل مجهودات مضنية سواء في البحث عن مصادر أساسية نادرة بقسم الدوريات بالمكتبة الوطنية والأرشيف الوطني وبعض المكتبات التاريخية، وهي وثائق في معظمها في حالة سيئة بحكم التقادم والإهمال، أو مشاقّ ترجمة النصوص. ومن ثمة فهو عمل تطلّب نفسا طويلا وقدرة بيّنة على تمحيص الآراء وترجيح المواقف والأحكام للخروج بنتائج موضوعية. لذلك يمكن الإقرار بانّ كتابها يشكّل إضافة نوعية للمكتبة التونسية والعربية في مجال الدراسات الحضارية والنقدية.


[1]– نجاة قرفال: خطاب الاستعراب بتونس في عهد الحماية الخصائص والخلفيات، مجمع الأطرش للكتاب المختصّ، تونس، 2020، ص122.

[2]-المرجع نفسه، ص123.

[3]– قرفال: خطاب الاستعراب بتونس في عهد الحماية، ص445.

[4]– محمد لطفي الشايبي: الماصونية في الوطن العربي زمن الاستعمار الأوروبي، سوتيميديا للشر، تونس، 2019، ص69-90.

[5]– قرفال: خطاب الاستعراب بتونس في عهد الحماية، ص349-440.

[6]– المرجع نفسه، ص189.

[7]– انظر:

 Ralph Linton, Le Fondement culturel de la personnalité, Dunod: Paris : 1986.

مقالات أخرى

قراءة في كتاب: البينيّة في الأكاديميا العربية والإسلاميّة من الاختبار التقني إلى المسؤولية الحضارية

روح الأنوار في كتاب الطبّ الرّوحانيّ

الصّعوبات الّتي تواجه أعضاء هيئة تدريس جامعة جدارا  في نشر البحوث العلميّة من وجهة نظرهم

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد