طلائع البعث ومحنة العقل السوري

طلائع البعث

“إن الطفل يبقى بريئاً إلى أن يتعلم التصفيق”

مثل فرنسي.

منذ أن استلم حزب البعث سورية في 8 آذار 1963 وبعد أن انتهى الرفاق من تصفية الرفاق، قاموا باستكمال سياسة التأميم، التي بدأت أيام الوحدة، حتى طالت هذه العملية كل شيء نافع وجميل في حياة السوريين، من تأمين (250) شركة صناعية وتجارية وبنوك وتأمينات (اقتصاد وأعمال السوريين 9 آذار 2013) إلى تأميم الأراضي، إلى احتكار العمل السياسي وقمع الحريات العامة وعسكرة المجتمع، إلى مصادرة عقول الأطفال.. الخ.

مع مضي السنوات أفرج هؤلاء عن كل شيء من شأنه المساهمة في انهيار الدولة، مما أدى لإهمال الروابط المؤسساتية في المجتمع مقابل تعزيز الولاءات البدائية والزبائنية، وفقاً لرايموند هنيبوش، بكتابه “تشكيل الدولة الشمولية في سورية البعث” وهو ما فتح باب المحسوبية والفساد على مصراعيه، انتقلت على أثره هذه الشركات المؤممة لصالح المقربين والمحسوبين، فتراكمت لدى هؤلاء الكنوز والأموال، ليزداد حجم الفقر والبؤس لدى عموم الشعب السوري.

لقد أفرجوا عن كل شيء، لكنهم أبقوا على تأميم الحريات ومصادرة عقول الأطفال، أي كل ما من شأنه العمل على بناء الدولة، فكان هذا “الهولوكوست” الدامي الذي نشهد نتائجه الكارثية اليوم، بناءً عليه لم تعد سورية سلة غلال تُطعِم امبراطورية روما الشاسعة، بل بات أكثر من (90%) من أطفالها يحتاجون للمساعدة الإنسانية، وفقاً لليونيسيف (10 آذار، 2022) منهم أكثر من نصف ميلون دون سن الخامسة، يعانون من حالة (تقزُّم) نتيجة سوء التغذية المزمن.(الجزيرة 11 شباط 2022)

بل لم يتبقَّ لدى السوريين شيء، لا ثروات نفطية ولا مائية ولا زراعية ولا صناعية ولا ثقافية ولا حتى علمية، ولا ثرواتهم الشبابية، ولا سيادة أوطان، فقط تبقّى لديهم ثروة (الأطفال) هؤلاء هم مناجم الأمم وحصنها الحصين، فيما لو تم اعدادهم وتعليمهم وتنشئتهم بالوجه الوطني الصحيح، على اعتبار أن الطفل كما يقول ميشيل مونتيني، “ليس زجاجة ينبغي ملؤها بل ناراً يجب إشعالها” يُذكر هنا أن مؤسسات التعليم العالي السورية، وفقاً لتقرير مقدم لجامعة (كيمبردج 2017) لم يتم إدراجها ضمن مؤشر تصنيف مؤسسات التعليم العالي العالمي.

لذلك جاءت أهمية الأطفال في حياة الأمم، حتى بات الاستثمار في تربيتهم هدفاً يتصدّر استراتيجياتها التنموية وخططها النهضوية، بحيث يمكن القول إنه لا يمكن أن تتحقق رسالة الشعوب الحضارية اليوم، إلا بتوفير الشروط الموضوعية في تربية الأطفال وإطلاق مواهبهم، باعتبار أن الطفولة هي الينبوع الحقيقي لكل تقدم حضاري، فضلاً عن أن التربية لا يمكنها أن تغير الإنسان فحسب بل تعمل على إيقاظه أيضاً.

لكن ماذا بوسع السوريين فعله حينما لا يكون لديهم خياراً آخر، سوى إما مدارس “طلائع البعث”! وإما مدارس “حفظ القرآن”؟ إما “شبيبة البعث”! وإما “حلقات القبيسيات”؟ هؤلاء يفنون ذواتهم لصالح الآنسة، وأولئك ينفطمون على حب القائد.

بالمناسبة يروى أن فكرة إحداث طلائع البعث، قد استوردها الرئيس حافظ الأسد من كوريا الشمالية، لكننا نرى أن الأسد كان قارئاً جيداً للتاريخ العربي والإسلامي، خصوصاً المملوكي والعثماني، وما يؤكد على صحة ما نذهب إليه هو وجود عدد كبير من التقاطعات التي تجمع بين الحقبتين، خصوصاً ما قام به السلاطين المماليك والعثمانيين، من سياسة تجهيل وتكبيل العقول، تمكّنوا خلالها من حكم هذه الشعوب أكثر من سبعة قرون متواصلة.

كان السلطان المملوكي يقوم بشراء الأطفال الصغار من تجار المماليك الذين يتم استقدامهم من بلدان بعيدة، ثمّ يأمر بوضعهم في مكان خاصّ يُسمّى “الطباق” وهو أشبه بثكنات عسكرية معزولة عن العالم الخارجي، مجهزة بمختصين، تسمّى “الطواشي الخصيان”، يقوم هؤلاء بتربية الصغار وتنشئتهم وفق قواعد صارمة، تضمّن ولائهم للسلطان والاستعداد التام للدفاع عنه بأرواحهم.

بدورهم العثمانيين كانوا يفرضون على المسيحيين في البلدان التي دخلوها «ضريبة الغلمان» (الدوشرمة) قياسًا على أخذ الخمس في الغنائم، وفقاً لما أفتى به “شيخ الإسلام” بموجب ذلك يتم أخذ الأطفال من أهاليهم ونقلهم لإسطنبول، حيث يتم تحويلهم للديانة الإسلامية بالإكراه، من ثم تدريبهم عسكريا للقتال، وبذلك يتم قطع علاقتهم نهائيًا بآبائهم وأمهاتهم، لا بل يمنعون من الزواج والتملك، بعد عزلهم اجتماعيًا في هذه الثكنات.

وهو بالواقع ما سارت عليه «داعش» المتطرفة، حينما قامت باختطاف عدد من الأطفال العراقيين والسوريين من اليزيديين إلى الآشوريين، ثم لاحقاً أطفال السويداء، وغيرهم، حتى بلغ مجموع من قامت باختطافهم وفقاً للأمم المتحدة من 800 إلى 900 طفل حتى حزيران 2015 (التحالف الدولي، 2017) ليتحول هؤلاء الأطفال لقنابل موقوتة.

والأبشع من كل ذلك أن هؤلاء الصغار الذين تم انتزاعهم من أهلهم، وبعد خضوعهم لتك التربية السلطانية، وتدريبهم على فنون القتال يتم إرسالهم لمقاتلة أهلهم، يجري ذلك بعد عملية تخريب وتشويه يتعرض لها هؤلاء الصبية.

تماماً كما هو حال الطفل السوري، مما ساهم في إحداث شروخ وتصدعات كبيرة في بنية المجتمع السوري، وإلا من يُفسِّر لنا كيف لبعض المحتجين عندما قاموا بالمطالبة بتوفير مادة الخبز والكهرباء والمحروقات ولجم الأسعار، أن يتصدى لهم من هم من بني جلدتهم بالذات، مع أنهم هم أنفسهم من بين الناس المسحوقين؟

بذلك يمكننا القول إن منظمة طلائع البعث قد ساهمت بشكل كبير في تخريب العقل السوري وتطويعه، مما مهّد لصناعة أجيال من القطعان، مهمتها التعظيم والتبجيل للقائد الأوحد، كل ذلك على حساب الولاء للوطن، نتج عن ذلك مواطنين منفصمي الهوية، مسلوبي الارادة والحرية والاختيار.

نعود للسؤال ماذا بوسع السوريين فعله حينما يُمعنون في تجهيلهم واستعبادهم وإفقارهم وتهجيرهم؟ رغم هول الكارثة؟ خصوصاً مع استمرار حشر هؤلاء الأطفال بهذه “الطباق” الجهنمية حتى اليوم؟ كل ذلك خلافا لنص المادة (8) من الدستور السوري، التي “تمنع تسخير الوظيفة العامة أو المال العام لمصلحة سياسية أو حزبية أو انتخابية”.

ختاماً يقول عبدالله القصيمي: “أنه كلما تشدّد بعضهم بالإسلام كلما أعادونا أكثر إلى رمال الصحراء” وهكذا نقول: كلما أمعنت هذه السلطة بالإبقاء على هذه الطباق البعثية، كلما أعادت السوريين إلى الوراء حتى ألف عام.

مقالات أخرى

ثورات الرّبيع العربيّ بين الصّعود والانحدار

حبذا لو يُحاكمون على سياساتهم الخارجية!

دور الدين والهُويّة في الحياة العربية

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد