خطاب التغريب المجتمعي واغتيال الهوية الإسلامية

The Muslim "identity matrix" reduces and commercializes at the same time.

1- مقدمة في مفهوم التغريب المجتمعي

 الغزو الفكري، الغزو الثقافي، الغزو الإعلامي، الاغتیال الثقافي، القهر الثقافي، اختطاف الهویة، اغتيال الهوية، استلاب الهوية، استلاب الشخصية، القهر السلوكي، التغريب الفكري، التغريب الثقافي، التغريب السلوكي؛ كلها مصطلحات ومفاهيم تدخل في إطار مشروع واحد، هو المشروع الاستكباري الغربي الهادف الى تغريب مجتمعات المسلمين، لغايات استعمارية وسلطوية. والحديث عن التغريب لا يمثل حديثاً نظرياً وبحثاً ترفياً، بل هو لصيق بواقع المجتمعات المسلمة كافة، ودون استثناء، لأن هذه المجتمعات تعيش مظاهر كبيرة للتغريب الفكري والسلوكي والمؤسسي، على مستويات الفرد والمجتمع والدولة.

 نقصد بالتغريب: اتخاذ الغرب مرجعية، على مستوى مناهج التفكير، والنتاجات الفكرية والمفاهيم والمصطلحات، والثقافة العامة والخاصة، والسلوك الفردي والمجتمعي، وهو ما يتعارض مع الهوية الإسلامية الفردية والمجتمعية التي تستند الى المرجعية الإسلامية في التفكير والسلوك، وهي مرجعية القرآن والسنة، ثم مرجعية الاجتهاد المتفرعة عنها، إضافة الى العادات والتقاليد المحلية التي لا تتعارض مع المرجعية الإسلامية، وهي غالباً عادات وتقاليد محافظة ومتوازنة. وإذا كان الله (تعالى) قد نهى عن اتخاذ المسيحيين واليهود مرجعية، وهم مؤمنين وأهل كتاب ((يا أيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضُهم أولياءُ بعض، ومن يتولّهم منكم فإِنّه منهم، إِنّ اللّه لا يهدي القوم الظالمِين))، ((يا أيها الذين آمنوا لَا تتّخذوا الذين اتّخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء، ۚواتّقوا اللّه إِن كنتم مُؤمنين))؛ فكيف بالمسلم وهو يتخذ النصارى واليهود الذين تحولوا الى ملحدين وعلمانيين مرجعية وأولياء سياسيين وفكريين وثقافيين؟

 وتعد فئات المراهقين والشباب والنساء الأكثر استهدافاً في عملية التغريب، وتحديداً المرحلة العمرية 14 ــ 35 سنة، وهي ـــ عادة ــ مرحلة تلقي واستقبال وانجذاب وانفعال، ويكون فيها الإنسان أكثر قابلية ذاتية على التماهي والحفظ والتقليد، شعوراً ولا شعوراً، أكثر منها مرحلة عطاء وفعل واستقطاب وجذب. وإذا تشكلت شخصية الإنسان وفق قواعد أو قوالب فكرية وثقافية وسلوكية معينة في هذه المرحلة العمرية؛ فسيكون من الصعب إحداث تغيير واختراق فيها عندما يتقدم في العمر.

 إن التغريب المجتمعي هو أهم مخرجات الغزو الشامل الذي تقوم به المدنية الغربية للشعوب الأخرى منذ أكثر من قرنين، وهي المدنية التي أفرزها ما يسمى بعصر الأوروبية، وما رافقه من احتلال عسكري مباشر لأراضي بلدان الجنوب، أي البلدان الإسلامية والأفريقية والآسيوية واللاتينية، وهيمنة اقتصادية، ونهب للثروات، وتصدير للأفكار والثقافات والمنهجيات، والنظم الإلحادية والعلمانية والليبرالية والكنسية، وتشكيل جماعات من العملاء السياسيين والعسكريين والفكريين والثقافيين والمخابراتيين.

 هذا الغزو الشامل هو مظهر للصراع الجدلي بين الأمم والحضارات والمدنيات والشعوب، والذي تتمكن من خلاله الحضارة أو المدنية المتفوقة والأمة المتفوقة مادياً أو معنوياً من فرض وجودها وسياساتها وأدبياتها وثقافتها ومفاهيمها وتقاليدها السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والمجتمعية على الأمة المنهزمة المقهورة. وهذه هي سنة الله في خلقه ((فلولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع ومساجد يذكر اسم الله فيها كثيرا)). وبالتالي؛ لا يمكن، وفق سنّة التدافع، أن نلوم الأمة المتفوقة على فرض شروطها على الأمة المنهزمة المتخلفة، إلّا بمقدار ما نلوم الأمة المنهزمة نفسها، والتي سمحت لعوامل الهزيمة بالتسلل إليها.

 وظل الغازي الغربي يستهدف في عملية تغريب المجتمعات المسلمة الرخوة، ثلاثة مستويات: الفرد المسلم، والمجتمع المسلم، ودولة المسلمين، سواء في المرحلة التي كانت فيها الدولتان التركية والإيرانية تهيمنان على أغلب البلدان الإسلامية، أو مرحلة تأسيس الدول القومية والوطنية. وكانت المرحلة الأخيرة التي بدأت بعد سقوط الدول القاجارية في ايران والعثمانية في تركيا والمغولية في الهند، هي الأكثر ضغطاً وشراسة وتركيزاً، وهي المرحلة التي لاتزال مستمرة حتى اليوم؛ إذ تتوجت عملية الاستهداف الغربي للواقع الإسلامي بتأسيس أنظمة سياسية مرتبطة بالدول الغربية المحتلة ارتباطاً عضوياً ووظيفياً، وقد عملت هذه الأنظمة على توفير كامل الظروف للنفوذ الثقافي والفكري الغربي، من أجل تحقيق أهدافه في ضرب قواعد الثقافة الإسلامية وعناصرها النظرية والبشرية، واستلاب الهوية الإسلامية أو تشويهها وحرفها حداً أدنى، وصولاً الى الأعراف والتقاليد الاجتماعية، وذلك بذريعة التحرر والتطور والتقدم والعلم والنماء الفردي والاجتماعي، والقضاء على التخلف والرجعية والفقر، وهي شعارات أثبت تقادم الزمن أنها كانت لمجرد الاستهلاك الدعائي وحرف الأنظار عن حقيقة ما يضمره الغرب من أهداف استكبارية، تضمن له هيمنته السياسية والاقتصادية والثقافية الأبدية على بلدان المسلمين، بمساعدة الأنظمة المحلية المرتبطة به وعملائه الثقافيين.

 وتشتمل أدوات الغزو الثقافي والتغريب على أغلب مجالات حركة الفرد والمجتمع والدولة، كالفكر والثقافة والتعليم والفن، والسياسة، والتشريعات، والاقتصاد، والسلوك، في إطار إستراتيجية متكاملة، الأمر الذي يجعل مواجهة الغزو وصده وتحصين الهوية الإسلامية والثقافة المحلية، محفوفاً بالصعوبات والتعقيد، لأن من يقوم بعملية الردع والصد والتحصين، سواء كان فرداً أو جماعة إسلامية أو مؤسسة دينية أو ثقافية أو حراكاً اجتماعياً، سيواجه بشبكة عميقة نافدة في جميع مفاصل الدولة ومؤسساتها، وفي الأحزاب، والصحافة والإعلام، والمؤسسات التعليمية، ومؤسسات الإنتاج الفني، ومنظمات المجتمع المدني، بما يشبه الدولة العميقة التي تحميها مافيا كبيرة لا ترحم أي صوت مختلف أو معارض.

 ويمكن حصر منافذ التغريب المجتمعي وأدواته ووسائله بما يلي:

  • المنفذ الأساس: وهو العامل الداخلي، المتمثل بضعف الحصانة الداخلية، وضعف الارتباط بالموروث الثقافي وبالدين وبالمؤسسة الدينية. وأسباب هذه الحالة تعود الى التقصير العام المشترك للفرد والأسرة والمؤسسة التعليمية والمؤسسة الدينية والشارع والمجتمع والإعلام الداخلي، وصولاً الى الدولة وقوانينها ووسائلها نفسها؛ إذ لا تقع مسؤولية التقصير على الفرد أو المجتمع أو جهة بذاتها، بل يتحمل الجميع المسؤولية. ولعل من غير الممكن؛ نجاح الغزو الثقافي الغربي في تحقيق أهدافه، إذا كانت الجبهة الداخلية قوية ومتماسكة ومحصنة، وكانت مؤسساتها الدينية والثقافية والاجتماعية فاعلة، لأن النفوذ الخارجي سيكون صعباً أمام التحصين الداخلي وسد الثغرات والذرائع، ولا ينجح الاستعمار، المباشر وغير المباشر، إلّا بوجود قابلية داخلية على استقبال مخرجاته وتلبّسها.
  • الأداة الأساس: وهو الغزو الثقافي الشامل، عبر الأدوات الخارجية المصدرة من الغازي الغربي نفسه، أو الأدوات المحلية التي تسهل مهمة العناصر الخارجية وتمارس دوراً مكملاً، وخاصة وسائل الصحافة والإعلام والتواصل الاجتماعي المنحرفة دينياً وأخلاقياً، والسينما والدراما والموسيقى والحفلات والمهرجانات الفنية الفاسدة، والكتب والروايات المبتذلة، والتعليم العلماني، ومراكز الدراسات المنحازة، والرياضة النسوية غير الملتزمة، والألعاب الإلكترونية، والأزياء الخليعة، والمفاهيم والمصطلحات الموجّهة، وصولاً الى أساليب العيش.
  • الوسيلة الأساس: وتتمثل في ثلاث جهات متعاونة متعاضدة:
  • المستعمر الغربي، المحتل سياسياً واقتصادياً وثقافياً، سواء احتلالاً مباشراً أو غير مباشر، والمتمثل ــ غالباً ــ بدول بريطانيا وفرنسا وأمريكا
  • المؤسسة السياسية المحلية الحاكمة (النظام السياسي وحكومته)، وكثير من رجالها، وتشريعاتها، ومؤسساتها الإعلامية والفنية والتعليمية، وبعض الأحزاب. وليس من الضرورة أن يكون الحكّام أو الأسر والجماعات الحاكمة في هذه الأنظمة، مرتبطون ارتباطاً عضوياً ووظيفياً بدولة غربية، أو عملاء مخابراتيون وسياسيون لها، بل لعل بعضهم يحمل نزعة مناهضة للاستعمار والتدخل الأجنبي، لكنه يؤدي، من حيث يدري أو لا يدري، دوراً مساعداً للأهداف الغربية في تكريس التبعية الثقافية للغربي، وفي حرف مجتمع المسلمين دينياً وأخلاقياً وسلوكياً، وفي نشر الفساد والابتذال.
  • العملاء الثقافيون للمستعمر، سواء كانوا أفراداً أو جماعات، وخاصة العاملين في مجالات الفكر والكتابة والصحافة والإعلام والتعليم والسينما والموسيقى. وينطبق على النخبة المثقفة العميلة ما ينطبق على النخبة السياسية العميلة أيضاً؛ فلعل كثيراً من هذه النخبة يناهضون الاستعمار والغرب، لكن إنتاجهم الفكري والثقافي والإعلامي والتعليمي والبحثي والفني، ومجمل أداءهم الثقافي، يصب في مجرى الأهداف الغربية في استلاب الهوية الإسلامية واغتيال مجتمع المسلمين ثقافياً وأخلاقياً وسلوكياً.

2- بين الغزو الثقافي والمثاقفة

 يرى بعض المعنيين بالخطاب الثقافي أن الحديث عن الغزو الثقافي والاغتيال الثقافي واستلاب الهوية وضرورة التحصين الداخلي، يتعارض مع المثاقفة وحوار الثقافات وتفاعل الأفكار وتكامل الحضارات، وأنه بات من أحاديث الماضي، بعد أن عملت وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلوماتية والاقتصاد العابر للحدود، على تحويل العالم الى بيت واحد، وليس مجرد قرية واحدة.

 وهنا أقول؛ إن التفاعل الموضوعي بين الأفكار المتنوعة، والحوار الندي والمتوازن بين الثقافات، والمثاقفة الطبيعية وغير القسرية والتي لا تحمل أهدافاً استعمارية، هي مفاهيم وأمور مقبولة، بل ضرورية، لأنها هدف إسلامي أصيل بالأساس، لأن الإسلام حضّ على الاستفادة من نتاجات الآخر الفكرية والعلمية والثقافية التي لا تتعارض مع النص المقدس ((الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه))، أو كما يقول رسول الله: ((اطلبوا العلم ولو كان في الصين)). كما حض على التعارف مع الشعوب والأقوام والتحاور معها ((يا أيّها الناس إِنّا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرَمكم عند اللَّه أتقاكم))، وجعل التعارف علّة التنوع القومي والعرقي والديني، بهدف التوصل الى كلمة سواء ((قُل يا أَهل الكتاب تعالَوا إِلى كلمة سَواءٍ بيننا وبينكم ألّا نعبد إلّا اللَّه ولا نشرك به شيئاً وَلا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه)).

 كما لا يعني الحديث عن خطاب التغريب والغزو الثقافي الغربي؛ أن الغرب شر مطلق في أفكاره ومناهجه وسلوكياته ونتاجاته، بل إن القصد هو الجانب العدواني المتمثل بالغرب المستكبر، الذي يعمل منذ ثلاثة قرون على اغتيال هوية المسلمين واستبدالها بهوية مشوهة، واحتلال البلدان المسلمة والمستضعفة، ونهب ثرواتها، واستعباد شعوبها، وليس الغرب بالمطلق، وليست الشعوب الغربية. وهنا ينبغي الفرز بين السلبي والإيجابي والمقبول والمرفوض والسيء والحسن والمفيد والضار من الفكر الغربي والسلوك الغربي، وهو المراد من مفردة ((أحسنه)) في النص القرآني ((((الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه)). وبالتالي؛ فإن قواعد الحوار الحضاري والمثاقفة والتفاعل الفكري تتعارض كلياً مع ما يقوم به الغرب من عمل ميداني هجومي عدواني في الجانب الثقافي والفكري والسلوكي، ينطوي على أهداف استعمارية وهيمنة سياسية واقتصادية وثقافية ومخابراتية، بهدف اغتيال الهوية الإسلامية وتغريب مجتمعات المسلمين.

 ولعل الفرز بين نتاجات الغرب وسلوكياته، وفق قواعد الوعي العميق المذكورة، هو أحد أهم عناصر القدرة على مواجهة الغزو الثقافي والرد على خطاب التغريب. وبرغم سطوة أدوات الغرب في غزوه وفاعليتها وتطورها؛ أن مواجهة الغزو وصده، وتحصين الفرد والمجتمع، وحماية الهوية الإسلامية، أمور مستحيلة أو غير ممكنة، بل على العكس، هي ممكنة جداً، فيما لو توافرت الإرادة والخبرة والتخطيط والأدوات الفاعلة والعمل المتواصل، عند الأفراد والجماعات والمؤسسات ذات العلاقة، لأن مجتمعات المسلمين تؤمن أساساً بهويتها وتعتز بها، وتتقبل فكرة التحصين الذاتي والتمسك بالهوية، وهذه عوامل داعمة مهمة تسهل عملية المواجهة، بينما لا يحظى الغازي الغربي وعملاؤه السياسيون والثقافيون بهذه الميزة الأساسية المهمة، لكنهم يمتلكون ــ في المقابل ــ الأدوات الفاعلة والصوت العالي والسلطة والمال.

3- السلوك التغريبي: الوجه العملي لخطاب التغريب

 ما يعنينا في هذا البحث هو الجانب السلوكي الاجتماعي الذي يفرزه خطاب التغريب، ويشكّل ظاهرة اجتماعية واضحة، أو ــ بكلمة أدق ـــ الظواهر السلوكية المجتمعية التغريبية، وهو أحد أهم الأوجه العملية لخطاب التغريب. والسلوك – كما الرأي العلمي السائد – هو التعبير الخارجي عن ثقافة الإنسان. وأبرز المؤثرات فيه: المبادئ والأفكار والقيم الاجتماعية، وينقسم إلى:

  • سلوك فردي، وهو ردود الفعل الراسخة عند الفرد، أو ما يعرف بـ«عادات الفرد».
  • سلوك اجتماعي، وهو ردود الفعل المشتركة بين أفراد النوع في مجتمع واحد، أو ما يسمى بـ«العادات الاجتماعية».

 إن ردود الفعل التي يتحدث عنها علماء النفس في تعريفهم للسلوك الإنساني هي – من وجهة نظر إسلامية – ردود فعل إرادية مقصودة، لها غاياتها التشريعية والتكوينية التي حدّدها الله (تعالى)، وأساليبها التي يختارها الإنسان غالباً، وليست ردود فعل آلية لا إرادية أو عبثية، تمثّل نوعاً من الجبر؛ لأن الله خلق الإنسان لأهداف وغايات معيّنة ((أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وإنكم إلينا لا ترجعون))، وخيّره بين سلوك الخير وسلوك الشر ((إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً))؛ فالسلوك يمثّل إرادة الإنسان القادر على الفعل والترك، والإنسان هو المسؤول الأول عن أي سلوك يرتكبه، حتى لو ارتكبه تحت مختلف الذرائع والمسوغات، كادّعاء الانجرار (اللاوعي) وراء الفعل الاجتماعي العام، أو ما يعرف بالسلوك الصادر عن تأثيرات «العقل الجمعي» أو الاضطرار للتلون بلون المجتمع أو الجماعة ((إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً)).

 وعلى وفق القواعد التي أشرنا إلى الرأي الإسلامي فيها؛ فإن السلوك التغريبي، كأي سلوك آخر، ربما يصدر في مجتمعات المسلمين عن قصد أحياناً، وهو السلوك الهادف والمبرمج، أو بدون قصد أحياناً أخرى، وهو ما يمكن أن نسميه بالانجرار، وربما يصدر اضطراراً. ولكن في كل هذه الحالات، يمثّل السلوك التغريبي انسحاقاً وهزيمة للذات أمام الآخر، وهو الهدف النهائي للغزو الثقافي والتخريب الاجتماعي الصادر من الخارج، كما أنه لا يشكّل نوعاً من «الاحتكاك الثقافي» (Cultural contact) الموضوعي مع حضارة الغرب، ولا تفاعلاً حقيقياً معها ولا مثاقفة، كما أشرنا سابقاً، بل انبهار بها ولهاث خلفها، حتى بلوغ أقصى حالات الهزيمة والأسر. أي أن السلوك التغريبي هو محظ تشبه ساذج بالغرب وتبعية نفسية وسلوكية وأخلاقية له، ولسيت استفادة من تكنولوجيا الغرب وعلومه وصناعاته ومناهجه الفكرية المقبولة إسلامياً، وهو أيضاً تأثر بالإفرازات السيئة لهذه التكنولوجيا والعلوم، كوسائل الإعلام وطرق المعيشة والملبس والمأكل، ثم انعكاس ذلك على الأخلاق والسلوك.

 والمفارقة؛ أن مستوى ممارسة بعض المناخات الاجتماعية المسلمة للسلوكيات التغريبية، عن قصد أو بدونه أو اضطراراً؛ بلغ حداً، بات عنده الفرد والجماعة اللذان لا يمارسان هذه السلوكيات، وخاصة بعض السلوكيات المتفجرة في المجتمع، يمثّل شذوذاً اجتماعياً وتخلفاً ورجعية، كما أصبح من يحاول الاعتراض على هذه السلوكيات أو التنبيه على خطورتها وتعارضها مع الشرع والعادات والتقاليد الاجتماعية؛ متخلفاً ورجعياً، وكأن الأصل هو الشذوذ السلوكي التغريبي، والطارئ هو السلوكي الشركي والتقليدي الأصيل، وهو ما يمكن توصيفه بانقلاب الموازين، وهي ظاهرة أخطر من السلوك التغريبي الشاذ نفسه.

 لقد أخذ السلوك التغريبي يستفحل وينمو بشكل غير طبيعي ولافت للنظر في مجتمعات المسلمين، تزامناً مع الانطلاقة الجديدة للصحوة الإسلامية في نهاية السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي، حتى أصبح واضحاً أن الاتجاه التغريبي أو تيار انسحاق الذات وذوبانها في الغرب، هو الاتجاه المعاكس الذي يقابل الاتجاه الإسلامي الأصيل، أو تيار اكتشاف الذات والعودة إليها، وكأنّ الغرب الغازي يسعى بكل الوسائل، من خلال دعم الاتجاه التغريبي ونفخه، لبلوغ حالة الموازنة بين حجم الصحوة الإسلامية وثقلها من جهة، والتغريب من جهة أخرى؛ للحيلولة دون ميل كفة الصحوة الإسلامية فكرياً وثقافياً واجتماعياً، ما يؤدي إلى حدوث تغيير اجتماعي جذري في مجتمعات المسلمين. ولذلك؛ يمكن القول بأن الاتجاه التغريبي هو جزء من العمق الاستراتيجي والأمني لحماية المنظومة الغربية، والمحافظة على مصالحها السياسية والأمنية والاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية في البلدان الإسلامية، سواء تم ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

4- عوامل خلق السلوك التغريبي وأنماطه

 العوامل المؤثرة في السلوك التغريبي، والتي تعمل على إيجاد التحوّل في البنى الثقافية للمجتمع، تنقسم إلى مجموعتين، تكمّل إحداهما الأخرى:

1– العوامل الخارجية، وتتمثل في:

  • ممارسات الاستعمار، ومنتجاته المحلية، على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
  • التطور التكنولوجي في الغرب، وانتقال السلع الغربية المتطورة إلى مجتمعات المسلمين.

2- العوامل الداخلية، وتتمثّل في:

  • الوضع الداخلي في البلدان الإسلامية، الذي ترسمه ممارسات الأنظمة، والتخلّف الاقتصادي، وتكريس حالة المجتمع الاستهلاكي، والتخلف الاجتماعي، والجمود الثقافي، والانحراف في مناهج التعليم، وفي أساليب ممارسة الإعلام.
  • الهزيمة الداخلية للكثير من شرائح وطبقات المجتمعات المسلمة أمام الغرب، وقناعتها بتفوق الغرب وصحته فكرياً وتناجيا ومعاشياً، وبالتالي صحة سلوكياته الاجتماعية وأنماطه في ممارسة الحياة.

 إذن، هناك وافد خارج قوي، تفاعلت معه أرضية داخلية خصبة، فكان الناتج سلوكاً آخر مختلفاً في المجتمعات المسلمة، التي أخذت تمارس أنماطاً حياتية منحرفة نفسياً واجتماعياً وأخلاقياً، من أبرزها «السلوك الطقسي» (Comportment Ritual)، وهو مصطلح استخدمه «كونراد لورنر»، ويريد به نمطاً من السلوك يستخدمه الضعيف المنهزم المستسلم أمام القوي الغازي، بغية استرضاء هذا القوي، وطمعاً في كبح جماحه، ومحاولة إيقاف المعركة عند حدها. ولكن اللافت للنظر أن بعضهم استخدم هذا السلوك، ولكنه لم ينجح في استلطاف الغازي القوي (الغرب)، إذ استمر الأخير بغزوه الثقافي، وصولاً إلى أقصى غاياته.

 وهناك سلوك آخر، يسميه علماء النفس الاجتماعي بــ «التماهي بالمتسلّط» (Identification with the aggressor)، أي تشبّه المعتدى عليه المنهزم بالمتسلّط المعتدي، وتمثّل عدوانيته وأسلوب حياته وقيمه المعيشية، في محاولة للهروب من الواقع، والتخلص من مأزق الحقارة والانهزام. وتبدأ العملية بازدراء المتماهي لقيمه وتقاليده وأسلوب حياته، وكل ما يمت بصلة إليها، وذلك جراء القصف الثقافي المركّز الذي يمارسه الغازي، فيدخل الإنسان إليها، فيدخل الإنسان المنسحق من خلاله حالة شبيهة بالغثيان واللاوعي. الأمر الذي يؤدي إلى كراهية المنهزم لانتمائه العقيدي والقومي والوطني، ومن ثم محاولة التشبّه بالمعتدي.

 وفي هذين النمطين – المشار إليهما – وغيرهما، يتشكّل لدى الضعيف المنهزم عقل يسميه بعض علماء النفس «العقل الأسير» (Coactive Mind). وانطلاقاً من هذا العقل، يقبل الضعيف – دون تردد – بكل الأنماط الثقافية التي يفرضها عليه الغازي المتسلّط، بمختلف الوسائل والأساليب، وتعبّر هذه المعادلة التي طرفاها الغازي القوي والمنهزم الضعيف، عن تفاعل ثقافي مفروض من طرف واحد.

5- ذرائع دعاة التغريب

 دعاة السلوك التغريبي في المجتمعات المسلمة هم حملة خطاب التغريب، أو – بتعبير آخر ـــ أصحاب العقول الأسيرة، والمنظّرون للتغريب الثقافي الاجتماعي المحلي، ويطرح هؤلاء في خطابهم التغريبي عدة ادعاءات أو ذرائع، تعبيراً عن أهدافهم الظاهرية، من أبرزها:

1 – التحديث الثقافي:

 يزعم دعاة التغريب الثقافي بأن التحديث في مجتمعات المسلمين، لا يمكن أن يحصل إلا من خلال تبني مدرسة الحداثة الغربية على مستويات الفكر، والتعليم، والثقافة الاجتماعية وغيرها، إذ إن من شأن الحداثة على الطريقة الغربية إجراء تحوّل جذري في البنى الثقافية للمجتمع. ولكن بما أن هذا التحديث هو عبارة عن قالب جاهز وافد، صنع لمجتمع معيّن، وفي إطار أيديولوجية محددة، فإن إدخال مجتمع آخر له خصوصيات مختلفة تماماً، في ذلك القالب، بهدف صهره وإعادة صياغته مع ما بينه وبين المجتمع الغربي (الأنموذج) من فجوة حضارية، سيؤدي إلى ناتج مشوّه بشع وممسوخ، ليس فيه من الحداثة إلا قشورها ومظهرها. وهو ما يمكن أن نسميه بالتحديث في المظاهر والشكل فقط، من خلال الاستهلاك المكثّف واللاواعي لمنتجات الغرب الثقافية والاجتماعية.

2 – تطوير أساليب الحياة:

 تقف التكنولوجيا في مقدمة الوسائل التي من شأنها إحداث ذلك التطوير، كما يعتقد دعاة التغريب. فالحصول على تكنولوجيا الغرب ومنتجاته الصناعية المتطورة، واستخدامها في مجتمعات المسلمين على وفق سلوكيات تغريبية معيّنة، أصبحت هي الغاية، فمثلما التكنولوجيا في الغرب تحوّلت من وسيلة في خدمة الإنسان، ومن أجل إسعاده، إلى غاية في الحياة، فإنها أصبحت عند بعض المسلمين تستخدم أيضاً على حساب المعتقدات والأخلاق والأصالة والتقاليد. وكما يقول البروفسور «رينيه دوبو» (الحائز على جائزة نوبل عام 1986) وهو يصف الحياة في الغرب: «إنها عجلة فولاذية كبيرة، تدور بسرعة جنونية لإحداث التغيير في التكنولوجيا».

 ومن جانب آخر، فإن السلوك التغريبي لا يحاول نقل التكنولوجيا الغربية المتطورة إلى مجتمعات المسلمين، لأنه من جانب الغرب – محظورة عليهم؛ ولأنها تحتاج إلى جهود ذاتية علمية كبيرة، وهو ما يعجز عنه أصحاب السلوك التغريبي، الذين يفضّلون بقاء المجتمع مستهلكاً ومتغرباً في نمط عيشه ومظهره، ومتطوراً وحداثياً في خطابه وفي وسائل الحياة (الغربية) التي يستخدمها، وليس متطوراً على مستوى استثمار جهود الغرب العلمية وتطوره التكنولوجي في المجالات النافعة. ومن خلال ذلك برزت ظاهرة اقتصادية واسعة للغاية، باتت تشكّل علامة فارقة في صناعات المجتمعات المسلمة، وهي ظاهرة التكنولوجيا المستعارة أو الصناعات التجميعية، التي تشير إلى قبول مجتمعات المسلمين بغائية التكنولوجيا وغائية الحصول عليها، ولو كانت تكنولوجيا شكلية.

3 – عصرنة العلاقات الاجتماعية:

 يقصد خطاب التغريب بمفهوم عصرنة العلاقات الاجتماعية؛ صياغة علاقات جديدة تقف على أساس المصالح الشخصية، والذاتيات الضيقة، والعوامل المادية، وتشتمل على كل المستويات، بما فيها علاقات الابن بالأب أو الأم، والأخ بأخيه، والزوج بزوجته، والجار بجاره، والصغير بالكبير، والقريب بقريبه، والصديق بصديقه، والعامل برب العمل، والموظف بمديره، والبائع بالمشتري.. الخ؛ ليكون الهدف من ممارسة الدوامة اليومية الرتيبة للحياة، والتي تبدأ فجراً وتنتهي عند منتصف الليل. هو تحصيل الفرد لأكبر قدر من المكتسبات المادية، كالمكانة الاجتماعية، والموقع الرسمي، والمال. وهذا ما يمكن تسميته مجازاً بـ«الغربة في الوطن». فالفرد في هذه الحالة يعيش غريباً في بيته وأسرته، وغريباً في منطقة سكناه ومحلته، وفي علاقته مع جيرانه، وفي دائرة عمله، وأخيراً في مجتمعه.

4 – عقلنة العواطف:

 يدع خطاب التغريب إلى عقلنة كل شيء وفي المقدمة عقلنة التفكير والعواطف. ويريد دعاة التغريب بالعواطف هنا الجوانب الروحانية والمعنوية في شخصية الإنسان المسلم. فليس القصد من عقلنة العواطف خلق حالة من التوازن بين العقل والعاطفة، أو بين وازع العقل ووازع القلب، بل القصد تصخّر العواطف، وتحجير الجانب الروحي والمعنوي في الشخصية، وحينها تكون نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى خالقه وإلى الخلق، نظرة أحادية جامدة، خالية من أي بعد روحي أو معنوي ((ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة)).

6- التناقض في السلوكيات الاجتماعية

 تكمن المشكلة الأساسية في خطاب التغريب والسلوكيات التي يفرزها، في أن المتغرب يفكر بأسلوب غربي في بيئة ليست غربية، ويتشبه بالغرب في واقع غير غربي، ويريد تطبيق النتاجات الفكرية والثقافية الغربية في مناخات لا علاقة لها بمناخات الغرب التي أنتجت تلك الأفكار والثقافات والسلوكيات عبر تراكم تاريخي طويل، مثّل صراعاً قاسياً بين الاستبداد الثيوقراطي المطلق الذي يمثله تحالف السلطات الثلاث: سلطة الكنيسة والسلطة الملكية المطلقة وسلطة أصحاب المال من جهة، والشعوب الأوروبية المستعبدة من جهة أخرى، وقد أدى حراك هذه الشعوب المتأثرة بالفلاسفة والمفكرين الاجتماعيين التحرريين، الى ظهور عقائد جديدة متناقضة، مناهضة للمسيحية والدين عموماً، ومناهج التفكير السائدة، والأعراف والتقاليد السياسية والثقافية والاجتماعية، وقد تمثلت هذه العقائد في الإلحاد الماركسي والوجودي، والعلمانية والليبرالية والاشتراكية والرأسمالية. وربما كان من الطبيعي أن تفرز تلك المناخات الأوروبية وصراعاتها التراكمية هذه العقائد والمناهج الفكرية والسلوكيات الفردية والمجتمعية، ولكن من غير الطبيعي ان تستورد مجتمعات لها مناخاتها وواقعها التراكمي الديني والاجتماعي والثقافي المختلف كلياً، تستورد تلك الثقافات والأفكار والسلوكيات وتمارسها داخل بيئتها المتعارضة.

 ومن جانب آخر؛ إن الإطار الذي يجمع في داخله مظاهر السلوك التغريبي في المجتمعات المسلمة، هو التناقض والتضاد المتزايدان والحادان أحياناً، في الظواهر والسلوكيات الاجتماعية القائمة؛ فالانزواء والرهبنة – مثلاً – يقابلهما الانفتاح المطلق على الثقافة الغربية والفساد الخلقي والعبثية. وفضلاً عن التناقض الاجتماعي، فهناك تناقض آخر يعيشه الفرد والمجتمع أيضاً، هو الازدواجية بين الفكر والمعتقد والادعاء، وبين التطبيق والممارسة والسلوك العملي.

 وعلى مستوى الأخلاقيات الاقتصادية، هناك تمايز طبقي واضح يكمل التصّدع الاقتصادي، الناتج عن التضخم والغلاء المعيشي والتسوّل والبطالة والديون الحكومية. وحين تنعكس هذه المظاهر على العلاقات الاجتماعية فإنها تخلق تفاوتاً اجتماعياً طبقياً كبيراً في المجتمع الواحد، على مستوى الملكية الخاصة ورأس المال، وعلى نوعية التعامل المتقابل بين الطبقات، وستشح عندها مظاهر التكافل الاقتصادي والاجتماعي.

 وتبرز من خلال ذلك أخلاقية اقتصادية فظة، تتمثّل في تحوّل العملية الاقتصادية في المجتمع إلى هدف بنفسها، أي أن الغاية من ممارسة المهن والحرف – على اختلافها – ستختصر في تحصيل المال وكنزه، على حساب الفضائل والعواطف، فيتعامل الطبيب – مثلاً – مع المريض كآلة فيها عطل، يجب أن يحصل على أكبر مبلغ من المال ليقوم بإصلاحها، بصرف النظر عن الأخلاق الطبية والعواطف الإنسانية. في حين أن قيمة العمل في الإسلام تقاس بغاياته المعنوية، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن تحصيل المال وسيلة لإمرار المعاش. فالطبيب ليس لعمله قيمة إلا بمقدار تحقيقه للغاية في العمل، والمتمثّلة بتقديم الخدمة للمرضى بهدف شفائهم بإذن الله.

 وبشكل عام؛ فإن أساس هذا السلوك التغريبي وأمثاله هو فقدان الفرد والمجتمع للجانب المعنوي والروحي في شخصيتهما. وهو الأمر الذي يحدث في التعامل مع التقنيات العلمية الحديثة أيضاً. فمن مظاهر السلوك التغريبي في هذا المجال هو قبول المجتمع لخيار التكنولوجيا على حساب الأخلاق – كما يصف بعضهم الظاهرة؛ حتى أصبح وجود وسائل التكنولوجيا الحديثة في عمليتي الإنتاج والاستهلاك أهم غايات الحياة، طبقاً للشعار الغربي القائل: «أنتجوا أكثر استهلكوا أكثر، واستهلكوا أكثر لتنتجوا أكثر»، بدل الغاية الأساسية المتمثّلة في رضا الله تعالى، من خلال التمسك بالأخلاق والعقيدة والشريعة. وفي الواقع، إن هذا التناقض – الموهوم غالباً – بين الأخلاق ومفهوم التكنولوجيا، هو من صادرات الغرب إلى المجتمعات الإسلامية أيضاً.

7- غربة الأخلاق والنفس

 نلاحظ ـــ على المستوى الأخلاقي العام ـــ تكريس ظاهرة غربة الأخلاق وتغرّبها، من خلال مجموعة من المظاهر القاتلة، أهمها: الانتشار الواسع لما يعرف بمجتمعات الشباب، والمراقص والحفلات الماجنة، وعلب الليل وأماكن الدعارة، وحانات الخمور، والشواطئ والمسابح المختلطة، والأزياء، والأسماء والمسميّات الشخصية والعامة الغربية، والعلاقات المفتوحة بين الرجل والمرأة، والاختلاط بين الجنسين في مختلف الأماكن والميادين، والسفور، ووسائل الإعلام الماجنة، ومراسم عرض الأزياء، وحفلات اختيار ملكات الجمال، والتي حوّلت – بمجموعها – المرأة إلى سلعة تباع أجزاء منها وتشترى، كما يحدث في الغرب تماماً. هذا فضلاً عن ظواهر أخرى تعادلها أو تزيد عليها في الخطورة، أهمها الشذوذ الجنسي، الذي بات موضوعاً مصيرياً لدى الدول الغربية؛ إذ لا تكتفي بشرعنته والدفاع عنه باستماتة في بلدانها، بل تعمل بكل الوسائل على الترويج له كحالة إنسانية طبيعية في المجتمعات المسلمة، إضافة الى ارتفاع نسب المدمنين على المخدرات، ونسب ارتكاب الجرائم الأخلاقية، التي تعدّها القوانين الوضعية أيضاً جرائم تستحق العقاب، في حين أن هذه القوانين تغضّ الطرف عن تلك الجرائم والممارسات اللاأخلاقية – التي سبق ذكرها – بل تقنّنها وتنظم حركتها.

 كما ظهرت أنواع متخلّفة وأكثر إثارة للاشمئزاز من التيّارات الاجتماعية الغربية المتمرّدة والضائعة نفسها، كالهيبيز والبانكس والربيين. ونقول أكثر إثارة للاشمئزاز؛ لأن الهيبسم – مثلاً – ظهرت في الغرب كفلسفة شاذة تؤمن بالحرية المطلقة في السلوك الاجتماعي، وبالسلام المطلق، وترفض الحياة المادية، استناداً إلى مبدأ أصالة اللذّة والمتعة (في مقابل الرهبنة وقتل اللذّة بالمطلق) وصولاً إلى السعادة المنشودة في الحياة، وهي الغاية النهائية لديهم في الحياة. أما (الهيبيون) الذين ظهروا في المجتمعات المسلمة، فهم لا يفقهون من (الهيبيسم) شيئاً سوى المظاهر الخارجية البشعة، نتيجة التقليد الأعمى، والغربة عن النفس (Alienation)، والفراغ الفكري والثقافي. إضافة إلى العبثية واللاهدفية في السلوك والفكر والثقافة وفي العادات والتقاليد ((ما يأتيهم من ذكر ربهم محدّثٍ إلا استمعوه وهم يلعبون، لاهية قلوبهم وأسرّوا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلاّ بشر مثلكم)).

 هذه الغربة عن النفس والأصالة التي يعيشها الفرد والمجتمع هي غربة الإيمان أساساً، وتعد القاسم المشترك لمعظم السلوكيات التغريبية في مجتمعات المسلمين. ومن الإفرازات البارزة لهذه الحالة، تزايد الأمراض النفسية والعصبية، أو ما يعرف بأمراض العصر، التي نشأت في الغرب نتيجة لأنماطه المعيشية، ثم انتقلت إلى المجتمعات المسلمة بالتدريج. يقول مفكّر أمريكي: «إن العالم الغربي يزداد كل يوم قلقاً، وجذور القلق عميقة في داخل شخصية الإنسان الغربي. إن خلاص الغرب من الهلاك الحتمي لن يكون إلا بالعودة إلى جنّة الإيمان».

 وقد بلغ شيوع السلوك التغريبي مرحلةً، كما أشرنا؛ أصبح فيها الشخص الذي لا يمارس نوعاً من أنواع السلوكيات التغريبية، كالسفور وحضور الحفلات المختلطة والعلاقات الجنسية المفتوحة – مثلاً – يعد متخلّفاً ورجعياً، في حين أن الجماعة – أو الفرد – التي تعترض وتنبه على الخطر وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أو تدعو الى الأخلاق الفاضلة، حتى لو كانت هذه الدعوة بعيدة عن الدوافع العقيدية؛ تتهم بالتحجر والتخلّف والسلفية والعداء للحرية الشخصية والاجتماعية والثقافية. أما من يتخذ أساليب فيها نوع من الردع خلال ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيعتبر «مخرّباً» وربما «إرهابياً». وهذا النمط من التفكير هو ذروة السلوك التغريبي، بل وذروة الانحراف عن المبادئ والقيم الفطرية والعقلانية والعقيدية، ونتائجه المرعبة معروفة سلفاً كما يقول النبي محمد (ص): «لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت عنهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء».

8- التيّارات التوفيقية

 على صعيد النظام الاجتماعي، ظهرت في مجتمعات المسلمين تيارات واسعة، تمثل السلوك التغريبي في جانبه العقائدي السياسي كالإلحاد والعلمانية، وهي عناوين لفكرة أساسية، تتمثّل في فصل الشريعة عن الحياة، وفصل العقيدة عن النظام السياسي، على اعتبار أن السياسة والاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا والفنون والآداب، هي نظم وعناصر مستقلّة عن العقيدة والأخلاق.

 واستمراراً لهذه التيارات، ظهرت تيارات توفيقية أصبحت – هي الأخرى – تمثل ظواهر اجتماعية واسعة، وهي إن كانت تراعي جملة المبادئ والقيم الدينية، إلا أن خطورتها لا تقل عن خطورة التيّارات الأصلية؛ لأن تيّارات الإلحاد والعلمانية تتبنى مقاطعة الدين وعقائده بالكامل، في حين أن التيّارات التوفيقية ترفع بعض الشعارات الإسلامية، بل وتسند نظرياتها أحياناً إلى نصوص وتحليلات دينية، ومنها التيّارات التي تدعو إلى الدولة العلمانية، بحجة عدم وجود نص على قيام دولة تتبع ديناً بعينه. إضافة الى طرح بعض المغالطات الفكرية في مواجهة مبدأ الدولة الإسلامية أو دولة الأديان المتعايشة، والدعوة للنظام الليبرالي وتبني فلسفة الديمقراطية (مذهباً وآليات)، وعدم أدلجة السياسة والاقتصاد، ودعوى تقدّم الحقيقة على الشريعة، وطرح إشكالات من قبيل؛ أيهما يكشف عن الآخر: الحقيقة أم الشريعة، وأيهما في خدمة الآخر: الدين أم الإنسان؟، وهي مغالطات وشبهات يطرحها العمانيون والتوفيقيون في قبال النص القرآني: ((ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)).

 هذه المناهج تفرض جملة في التساؤلات عن إمكانية الفصل بين الديمقراطية كمذهب والديمقراطية كآلية لممارسة السلطة، والليبرالية كمذهب والليبرالية كنظام سياسي، وقبول هذين المذهبين القسمة على نفسيهما، وكونهما مما يسمّى بالعام المشترك بين البشرية كافة. فإذا تمت الاستفادة من بعض أفكار وآليات الليبرالية الديمقراطية، دون كامل الليبرالية الديمقراطية كمذهب، فلماذا الإصرار على تسميته بالليبرالية الديمقراطية؟ ثم ما هو مثال الليبرالية الديمقراطية أو التجربة الليبرالية الديمقراطية التي يمكن الاستعانة بها؟ هل هي الطبعة الإنجليزية أو الأمريكية؟ أم ديمقراطية أنظمة البلدان المسلمة؟ ثم؛ هل انتهت الخيارات أمام المجتمعات المسلمة لتجد نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما: أما القبول بفلسفة الليبرالية الديمقراطية ونظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعي وإما الوقوع في شرك الدكتاتورية؟ فلمَ تقرن الدكتاتورية دائماً بالليبرالية الديمقراطية، وتوضع الأخيرة حلاً وحيداً لمشكلة الدكتاتورية؟ والحال؛ أن المجتمعات المسلمة لديها خياراتها التي تفرزها عقيدتها وشريعتها وفقهها السياسي الإسلامي، وليس كما يزعم الغرب بأن أمام المجتمعات المسلمة خياري الليبرالية الديمقراطية أو الدكتاتورية ولاخيار ثالث معهما. وفي هذا الخصوص يقول السيد محمد باقر الصدر: «إن الإنسان الأوروبي ينظر إلى الأرض دائماً لا إلى السماء». والخطورة تكمن في أن الإنسان الغربي، حتى الذي آمن بالمسيحية؛ حرّف المسيحية من دين سماوي إلى حاجة أرضية. فالغرب استطاع «أن يستنزل إله المسيحية من السماء إلى الأرض ويجسده في كائن أرضي»، وهذا السلوك الغربي يمارسه كثير من المسلمين مع دينهم أيضاً.

9- بين السلوك الغربي والسلوك التغريبي

 يكمن الفرق بين السلوك الغربي والسلوك التغريبي، في أصالة السلوك الغربي، بوصفه إفرازاً لمدنيته ومناهجه الفلسفية والفكرية والأيديولوجية الحديثة، التي أخذت تبرز تدريجياً في القرن الخامس عشر الميلادي، ثم لتتبلور خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وهي المرحلة التي أعقبت العصور الأوروبية المظلمة. أما السلوكيات التغريبية التي تمارسها المجتمعات المسلمة، فهي سلوكيات دخيلة ناتجة عن هزيمة داخلية وتقليد أعمى ونفوذ خارجي، لأنها ليست نتاجاً لحضارة المسلمين وعقيدتهم وفكرهم، وإنما هي نتاج غريب عن كل ما له صلة بأصالتهم وحقائقهم.

 وكواقع تاريخي يؤكد وعي الغرب، منذ أكثر من ثمانية قرون، بالفرق بين التفاعل والمثاقفة والاستفادة من نتاجات الآخر الحضارية والفكرية والثقافية والسلوكية، وبين التبعية الفكرية والسلوكية؛ فحين كانت حضارة المسلمين في فترة ازدهارها حضارة متألقة غالبة؛ حصل الاحتكاك بينها وبين المجتمعات الأوروبية التي كانت تعيش أبشع مظاهر الظلم والظلام والتخلف، وبات الأوروبيون يعيشون حالة شبيهة بالحالة التي تعيشها مجتمعات المسلمين الآن تجاه حضارة الغرب، لكن مع فارق كبير، وهو أن الحضارة الإسلامية ذات جذور دينية أخلاقية، بحيث عاد السلوك التأسلمي ـــ مقابل التغريبي إن صح التعبير ـــ على الأوروبيين بخير وفير؛ إذ استفادوا من نتاجات الحضارة الإسلامية، ومناهجها في البحث وقواعدها في التفكير، وفي كل ما لا يفسد عقائدهم وأيديولوجياتهم، ولم يتمسّكوا بظواهرها وشكلها الخارجي في صقل ثقافتهم وأنماطهم المعيشية، فلم يلبسوا العمائم وأزياء الشعوب المسلمة، ولم تلبس نساؤهم الحجاب أو الخمار، ولم يفصلوا في المحافل والمجالس بين الجنسين، ولم يمتنعوا عن شرب الخمر، ولم يدعوا إلى قيام نظام اجتماعي إسلامي، أو إلى اقتصاد إسلامي، أو علاقات مالية لا ربوية… إلخ، بل ظلوا متمسكين بعقائدهم وتقاليدهم وسلوكياتهم وثقافتهم المجتمعية والسياسية والدينية، بعد أن اخذوا من الحضارة الإسلامية ما ينفهم وينسجم مع عقائدهم وثقافتهم، وضربوا بالباقي عرض الجدار. يقول المفكّر الإنجليزي «بريفولت»: «ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الازدهار الأوروبي إلاّ ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤشرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة». في حين يستلهم بعض المسلمين – اليوم – من الغرب كل ما يسيء لعقيدتهم وثقافتهم ونمطهم في المعيشة.

 ولاشك؛ أن انحدار المجتمعات المسلمة نحو المزيد من التبعية السلوكية الساذجة للغرب، وسط غزو ثقافي غربي متصاعد، وعجز أو تقصير من الجهات المسلمة المعنية بالمواجهة والردع والرد والتحصين، سواء الدولة أو المؤسسات الثقافية أو التعليمية أو الدينية أو الجماعات الإسلامية؛ يعني حثّ الخطى باتجاه الانهيار النهائي وحدوث الكارثة، وفقاً لكل الحسابات والمبادئ، الدينية والوضعية؛ فإذا وضعنا السنن الإلهية جانباً، ووقفنا على أفكار الفلاسفة والمؤرخين الغربيين في القرن العشرين، أمثال: “شبنغلر” و”اشفيتسر” و”توينبي” و”دوبو” حول سقوط الحضارات، أو – تحديداً – تفسّخ الحضارة الغربية، سنرى أن عدوى الكثير من الشواهد والمظاهر والأمراض، التي يستدلون بها على احتمالات انهيار الحضارة الغربية، لا زالت تنتقل إلى مجتمعات المسلمين انتقالاً سريعاً. وبما أن مجتمعات المسلمين لا تمتلك اليوم ما يمكن تسميته بالحضارة بالمعنى العلمي لها، كما هو عليه الغرب، بل تمتلك أنماطاً اجتماعية دينية ثقافية؛ فإن مخاطر الانحدار الثقافي والسلوكي التي تتعرض لها مجتمعات المسلمين، أكبر من أي وقت آخر، وتنطبق عليها محاذير السنن الإلهية والتاريخية.

 وعليه؛ فإن بذل الجهود من قبل الجهات المعنية المذكورة لدراسة السلوك التغريبي كظاهرة اجتماعية متفشية ومتصاعدة في مجتمعات المسلمين، وكذا دراسة أنماطها وأساليبها ووسائلها ومظاهرها وطرق مواجهتها، دراسة واسعة ومعمّقة، تستوجب استحداث أقسام ودوائر خاصة بدراسات التربويات الوافدة، وعلم اجتماع الغزو الثقافي وعلم نفس الغزو الثقافي، في المؤسسات المختصة ومراكز الأبحاث والجامعات الإسلامية، فتلك الحقول تمثّل الموقع المناسب لدراسة السلوك التغريبي في مجتمعات المسلمين، انطلاقاً من فهم إسلامي واعٍ ومركّز وتخصصي. أما تجاوز حقائق السلوك التغريبي الاجتماعي، والمرور إلى جانبها دون استشعار أخطارها، ودون إخضاعها للبحث الموضوعي والحوار العلمي الجاد من خلال منهج إسلامي أصيل، فهو ما ينذر بوقوع الانهيار الثقافي التدريجي التام للمجتمع الإسلامي، وحدوث الكارثة.

مقالات أخرى

أيّ نموذج إيتيقي للإنسانيّة المعاصرة

معطّلات الفهم في الشعر العربي المعاصر

شعريّة اللّباس

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد