مقالة في خطاب الصداقة والصديق- د.عبد الله بن علي الخطيب

“إن المشرعين العظام قد اهتموا بالصداقة أكثر من العدل”. أرسطو.

تتطلع هذه المقالة إلى الوقوف عند مفهوم (الصداقة) و”انتظاماتها الخطابية” التي تشكله باعتباره خطابًا  يُحيل على شكل من أشكال الارتباط البينشخصي؛ يقوم على حُرِّيات مركَّبة.

(الصداقة) باعتبارها خطابًا منظورًا إليه في بُعده الاجتماعي وظروف إنتاجه وتأويلاته المحتملة، وهي التي -من هذه الزاوية- قد تكون أفضت بـ”مونتين” إلى القول في مستهل مقالته حول الصداقة بأنه يبدو أن: “لا شيء سارت بنا الطبيعة إليه أكثر من الحياة المجتمعية”.

 الصداقة هي -قبل كل شيء- ظاهرة إنسانية اجتماعية خالصة.

مَن يتأمل هذه الظاهرة الإنسانية؛ تتنامى دهشتُه مع اكتشافه لحيوية الموضوع على امتداد تاريخ الفكر الإنساني، وللمكانة المعرفية التي أولاها كبار المفكرين والفلاسفة له على امتداد العصور: من العصر الإغريقي حتى يومنا هذا.  كتب عن (الصداقة والصديق) وعن مكانتها ودورها في حياة الإنسان شخصيات فكرية مركزية منهم: أرسطو، وأفلاطون، وسينيكا، وبلوتارخ (بلوطرخس)، والتوحيدي، ومونتين، وجان جاك روسو، ونيتشه، وهيوم، وكانط ولارشفوكو، ومارسيل بروست، وبلانشو، ودريدا، وغيرهم… وبلا شك فإنه ما من لغة أو ثقافة أو مجتمع على مستوى الوجود الكوني إلا وقد اختص (الصداقة) وكُنهها بخطابات ومقولات تُحيل على تمثُّلاتها وتصوُّراتها لهذه الظاهرة الإنسانية. الصداقة باعتبارها تجربة إنسانية هي قَدَر الإنسان السويِّ في هذا العالم. يكاد كل فرد سويٍّ في هذا العالم أن تكون له تجربته مع الصديق والأصدقاء، ومن ثَم لديه ما يقوله عن هذه التجربة وفي أي اتجاه سارت عليه، بنعيمها أم بمرارتها.

ما الصداقة؟ والمفاهيم المجاورة التي تُحيط بها؟  كيف نظر المفكرون الكبار لظاهرة الصداقة؟ هل هي ضرورة إنسانية أم بإمكان الإنسان أن يتجاوزها ويجدف كما يشاء في هذه الحياة؟ وما الآليات الخطابية التي تسير وفقَها الصداقة؟

**

بعد أن تحقق الفلاسفة والمفكرون -كما يشير تودوروف- من أن الإنسان هو في الأصل كائن أناني وانعزالي محض، لم يكن أمام الإنسان سوى الانخراط في مسلكين لا ثالث لهما: إما مواجهة طبيعة الإنسان أو تمجيدها. والأغلب أن الإنسان على امتداد تاريخه مع المجتمعات، برغم الآراء التي لا تؤيد ذلك، لم يختر مسايرة الطبيعة، بل ذهب إلى: إعلان الحرب عليها([1]).

في الأصل يرى كانط أن المفارقة الجوهرية للنوع الإنساني تكمن في “عدم اجتماعية نزعته الاجتماعية” وفي “ميوله المتناقضة في نفس الوقت في اللهث خلف المجتمع وفي الرغبة في الفرار منه. ولتوضيح هذه النزعة الطبيعية يسوق لنا كانط تأويلًا عجيبًا (نقلًا عن تودوروف) للصرخة الأولى للمولود الجديد. يقول كانط: “وكذلك الطفل بمجرد خروجه من بطن أمه يبدو أنه -على خلاف جميع الحيوانات الأخرى- يلج إلى هذا العالم صارخًا لهذا السبب، وهو أنه يرى نفسه عاجزًا عن استعمال أعضائه ولذلك يصرخ مطالبًا بالحرية فورًا”([2]).

يعلق تودوروف على ما قاله كانط بقوله: “كون المولود الجديد يصرخ ليس لأجل طلب التتمَّة الضرورية لحياته ووجوده، وإنما احتجاجًا على اعتماده على الآخرين: يولد الإنسان ذاتًا متطلعةً إلى الحرية([3]). ومع كل هذا الإقرار (الكانطي) من أن الإنسان توَّاقٌ بطبيعته إلى العزلة والاستقلال عن الآخرين إلا أنه -كما ينقل لنا تودوروف- في نهاية المطاف يرشدنا إلى أننا “يجب أن نتخطَّى ميولنا”([4]).

ومَن يحاول أن يتأمل أدبيات (اجتماعية الإنسان) يجد أن معظم المفكرين الفلاسفة الذين توقفوا عند هذه المسألة انطلقوا مما طرحه أرسطو بهذا الشأن: “بالنسبة لنا، يتضمن الخير على علاقة مع الآخر”. و”إن الإنسان غير القادر على أن يكون عضوًا في المجتمع، أو الذي لا يجد الحاجة إلى ذلك لأنه يكتفي بذاته لأجل ذاته، فإنه لا يُعدُّ جزءًا من المدينة بأي حال من الأحوال…”.

المجتمع والوجود داخل المجتمع بكل تشابكاته المعقَّدة هو قَدَر الإنسان. قَدَر الإنسان أن يتشابك مع أخيه الإنسان وأن يسعى إلى تشييد العلاقة التي يرتضيها ولا مفرَّ له من ذلك كي يغدو بإمكانه التجديف. وكم كان تودوروف بارعًا عندما قلب المعادلة التقليدية في إعلانه في بداية (الحياة المشتركة) من أن غايته ليست مقاربة مكانة الإنسان في المجتمع وإنما مكانة المجتمع لدى الإنسان. مكانة المجتمع لدى الإنسان لأن المجتمع هو القَدَر الذي لا مفرَّ منه، من ثَم لا بد من التفكير في محاولة فهم المجتمعات وتمظهراتها المختلفة.

**

الصداقة في اللغة العربية مشتقة من الفعل (صَدَق). والصِّدْق، كما جاء في المعجم الوسيط هو: الكامل من كلّ شيءٍ. يُقال: رُمح صِدْق: مُسْتَوٍ صُلبٌ. ورجل صَدَق اللقاءَ: ثَبَتَ فيه. والصدق يُحيل في العربية على المتانة والصلابة والقوة. والصدق “وصفٌ للمخبَر عنه على ما هو به” أو كما قال الأصفهاني: “مطابقة القول الضمير والمُخبَر عنه معًا، ومتى انخرم شرطٌ من ذلك لم يكن صدقًا تمامًا”.  والصدق في ميزان الإسلام هو “روح الأعمال”، ومنزلة الصادق تالية لمنزلة النبوة كما جاء في القرآن الكريم: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}.

في اللغة الفرنسية الصداقة (Amitié) مشتقة من الفعل يحب (aimer) . والحب، كما يُعرَّف يُحيل على شعور بالانجذاب القوي والإعجاب نحو شخص، أو شيء ما. وهو -كما هو معروف- واحدٌ من القِيَم المركزية في الحضارة الإغريقية. اشتغل عليه المثلث الإغريقي الصلب (سقراط، أفلاطون، أرسطو). فكَّكوه وناقشوه وقسَّموه إلى أنواع: الحب الرومانسي الجسدي (الإيروس)،  حب الروح (أغابي)، الحب اللعوب أو حب التسلية واللذة (لودوس)، وحب الذات (فيلوتيا)، والحب الذي يهمنا هنا وهو الفيليا أو حب الأصدقاء والآخرين. و(الحب) في الثقافة المسيحية -كما نعلم- قيمة مركزية وحاضرة في أدبيات ونصوص وخطابات المسيحية؛ منه ينطلق التعريف بها، وكما تنقل الكنيسة: “مَن لا يحب لا يعرف الله لأن الله محبة”.

 والسؤال العابر هنا -الذي لا نملك له جوابًا البتة- هو: ما علاقة التأثر والتأثير بين الحضارة الإغريقية والمسيحية على مستوى الحضور الطاغي لمفهوم الحب باعتباره نقطة انطلاق مفصلية نحو القِيَم الأخرى؟

ولأن “أحبُّك” هي:  “كلمة صغيرة بعدد حروفها ولكنَّها عظيمة بمعناها الذي يؤثِّر في كيان الإنسان، ويبعث في نفسه الكثير من الطُّمأنينة والسَّلام والفرح. إذ إنَّ هذه الكلمة تشعره بأهمِّيَّته وقَدرِه، وبأنه محبوب كشخص. ولعلَّ الإنسان يبذل جهدًا لا بأس به ليجذب الآخر إليه، ويسعى أبدًا ليكون مرغوبًا بوجوده ومحبوبًا”([5]).

يقول دريدا في سياق الحب والصداقة: “أن نحب [الصديق]، هذا هو ما نفهمه قبل كل شيء، بالحس السليم، هذا ما ينبغي أن نفهمه، ما لا نستطيع ألَّا نفهمه، بكل ثقة، عندما يرنُّ لفظ الصداقة: الصداقة تتمثل في أن نحب [الصديق] أليس كذلك؟ إنها طريقة في الحب، بكل تأكيد. والنتيجة والاستتباع: أنها إذن فِعلٌ قبل أن تكون موقفًا، فعل المحبة بالأحرى، قبل أن تكون حالة الكائن المحبوب. الفعل قبل الانفعال”([6]).

في حضرة لغتين وثقافتين مختلفتين في أنظمتهما النحوية والصرفية والدلالية،  ويكاد يفصل بينهما كل شيء، نلاحظ -دون عناءٍ يُذكر- عندما نتأمَّل هاذين التعريفين أن اللغة العربية في تعريفها للصداقة تنطلق من مفهوم (الصدق)، واللغة الفرنسية تنطلق من مفهوم (الحب).

لماذا فضَّلت العربية شدَّ الصداقة على المستوى القِيَمي إلى مفهوم (الصدق)؟ واللغة الفرنسية إلى مفهوم (الحب)؟

بطبيعة الحال كلا القيمتين (الصدق والحب) مرغوبتان في الثقافتين وفي كل ثقافات العالم، لكن يبدو أن كلا الثقافتين (العربية والفرنسية) شيَّدتا علاقتهما مع الصداقة انطلاقًا من القيمة الأهم التي تصوَّرتاها هاتان الثقافتان لكي ترتبط بهذا النوع من العلاقة الإنسانية. بما أن اللغة، كما يرى اللسانيون، هي عملية اعتباطية محضة؛ فإن تشييد الكلمة جاء -في ظني- وفقًا للقيمة المتصوَّرة الأهم المرتبطة بفعل الصداقة في الثقافتين. شيَّدت العربية كلمة (صديق) لأنها ترى أن القيمة المركزية التي يجب أن ينطلق منها فعل الصداقة هي الصدق. الصدق أولًا، ثم بعد ذلك تأتي القِيَم لاحقةً له. في المقابل، شيَّدت اللغة الفرنسية ومن قَبلها الإغريقية كلمة (صديق) من (الحب) لأنها تصوَّرت القيمة المركزية في الحب أولًا، تليها القِيَم الأخرى. وربما لأن الصدق في الذهنية العربية يجب أن يكون سابقًا لفعل الحب. وقد يعود إلى تصوُّر العرب عن اكتمال الإنسان عبر صفة الصدق. فالصادق هو إنسان كامل وليس الحب. وكما نعلم فإن الصفة التي شُيِّدت عليها التهيئة لنبوة النبي محمد عليه الصلاة والسلام هي نعته بـالصادق. صفة الصدق شكَّلت اتفاق المجتمع المكي على الصدق، فهي رأس هرم القيم التي كان يتصف بها. الصدق في العلاقة مع الآخر مقدَّم على الحب. شرط الصدق أولَى من شرط الحب، علينا أن نصدُقَ مع الآخرين حتى لو لم نشعر بالمحبة تجاههم.  والصدق لكي يُستنبت لا يتطلب نفس المقدار من الزمن. يجب أن يكون حاضرًا بادئ ذي بدء في أية علاقة بينإنسانية. بعبارة أخرى، يجب أن يكون الصدق حاضرًا باعتباره نقطة انطلاق لأي علاقة أو فعل تخاطبي، بينما نجد أن لفظ (الحب)، يتضمن في داخل ملفوظه فكرة الاستنبات التي تحضر من اشتقاق الحُب من الحَب (البذرة) التي تُستنبَت وتنمو وتزدهر مع الزمن.

الصدق عند العرب شرط أوليٌّ في نيل الصداقة، ثم تتبعه القِيَم الأخرى. وفي اللغة الفرنسية (التي نتخذها مجالًا للمقارنة)، الحب سبب أوليٌّ لنيل الصداقة، ثم تتبعه القيم الأخرى.

مثلما أن الصداقة في الثقافة الغربية هي طريقة في الحب كما يقول دريدا؛ يمكن القول إن الصداقة هي طريقة في الصدق في الثقافة العربية.

**

كغيره من المصطلحات الكبرى، يتعالق مصطلح (الصديق) مع مصطلحات أخرى تقترب منه في حقلها الدلالي، لكنها بطبيعة الحال، لا تتطابق معه. فمن هذه المصطلحات التي تتعالق مع الصداقة: (الصاحب، الرفيق، الخليل، العشير، …).

 سوف نشير، وإن بشكل عابر، لمصطلحي (الصاحب، والرفيق):

الصاحب: جمعه (أصحاب) و(صُحبة) و(صَحابة) ومؤنثه (صاحبة)، و(الصاحبة) الزوجة. يُجمِع كثيرون ممن تحدَّثوا عن الصداقة والصحبة من القدماء والمُحدَثين أن الصاحب مرتبط ببُعدي الزمان والمكان، أي هو الملازم في نفس الزمان ونفس المكان. كما أن كل صديق صاحب وليس كل صاحب صديق.

اكتسب لفظ (الصاحب) حضورًا لغويًّا راسخًا في اللغة العربية عبر وروده في القرآن الكريم في سياقات متعدِّدة، معظم هذه السياقات كما تقول التفاسير تتمحور حول تموضع هذا المصطلح في دائرة الملازمة المؤقتة والمستمرة (كملازمة السفر أو الوالدين…)، كما في قوله تعالى:  {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي}، و{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}.

 لكن –وفقًا لما تسنَّى لنا الاطلاع عليه- فإن حضور مصطلح (الصاحب) اكتسب كثافة لغوية على إثر الاستعمال المركزي للنبي محمد عليه الصلاة والسلام في أحاديثه، وفي تعبيره عن العلاقة التي تجمعه مع من حوله من الذين أيدوه وناصروه. ما يدعو للتأمل ويتطلب المزيد من الدراسة والحفر والتأويل هو الاستعمال شبه المنعدم على لسان الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام لكلمة (صديق) واشتقاقاتها([7]). لماذا فضَّل الرسول عليه الصلاة والسلام لفظ (صاحب) على صديق رغم ورود لفظ (صديق) في القرآن الكريم؟ هل أراد الرسول أن يأخذ المسافة تجاه جميع الصحابة بما أن لفظ (الصاحب) يشكل الصديق وغير الصديق؟ هل أراد بهذا الاستعمال أن يشمل لفظ (الصاحب) المقرَّب وغير المقرَّب كما يظهر في حديث: «فِي أَصْحَابِي اثْنَا عَشَرَ مُنَافِقًا…»؟ مع الإشارة إلى أن كلمة (صديق) وردت في القرآن الكريم، على الأقل، في موضعين في صيغة المفرد. مسائل (الكم) و(الندرة) حاضرة في المعنى القرآني. وقد يكون أهم شاهد على ذلك البناء الدلالي للآية الكريمة: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}. اتفقت معظم التفاسير على ورود لفظ (الشفاعة) في صيغة الجمع لأن فعل (الشفاعة) كي يكتسب قوَّته ويحقق غايته التي يصبو إليها يتطلب الكم أو الكثرة فكما هو معلوم كلما كثر الشفعاء كانت (الشفاعة) -غالبا-  أقرب إلى التأثير وتحقُّق الغايات التي تأسَّست من أجلها. في نفس الوقت، نجد أن لفظ (الصديق) في هذه الآية ورد في صيغة (المفرد) مما قد يُحيل على مقصديَّة الآية في ارتباط الصداقة بمفاهيم  (الكم) و(الندرة) في مسألة الصداقة.

أما مصطلح الرفيق، فهو من (الرفق) و(اللين) و(العطف). قد تكون هذه (الكلمة)، على مستوى الحقل الدلالي هي الأقرب لكلمة (صاحب) كمًّا و(تماسفًا). وقد يكون من الملائم القول إن كلمة (رفيق) اكتسبت وزنًا ومكانةً خاصةً في الشعر الشعبي في شبه الجزيرة العربية، أفضى إلى استبدال الشعر الشعبي  (اللفظ مكان اللفظ)، أي لفظ (رفيق) بـ لفظ (صديق)، والشواهد على ذلك كثيرة([8]). وقد لا ينطبق هذا القول على الشعر العربي الفصيح، بنفس المقدار، بالنظر إلى الحضور (المكثف) للفظ (صديق) في الشعر العربي قديمًا وحديثًا.

في نفس الوقت،  لا بد من الإشارة إلى أن كلمة (رفيق) اكتسبت، كما هو معروف، بُعدًا سياسيًّا (أيديولوجيًّا) مع قيام الثورة الفرنسية (واستعمال الشيوعية لاحقًا في نفس الاتجاه) كعلامة لتسمية شركاء المنبع الأيديولوجي والفكري للانتماء السياسي (اليساري) على وجه التحديد. ولا نعلم عن وجاهة ما يمكن قوله حول حضور كلمة (رفيق) في الخطابات اليومية في المجتمع الخليجي (والسعودي على وجه الخصوص). فمن المعروف أن كلمة (رفيق) تُستعمل كصيغة تخاطب موجهة غالبًا إلى الوسط العمالي الكريم. نتساءل هنا: هل لحضور هذه الكلمة وارتباطها بالسياق العمالي علاقة بالنفاذ الاشتراكي إلى الوسط العمالي في وسط الستينيات الميلادية؟ هل كلمة (رفيق) التي نستعملها في خطابنا اليومي هي امتداد للتسمية الانتمائية (الاشتراكية)؟

**

يمكن القول إن أرسطو، عبر مقاربته المستفيضة للصداقة وتمظهراتها، هو الذي كتب النص المؤسِّس حول الصداقة.

تهيبتُ كثيرًا -على امتداد محاولاتي مع القراءة والكتابة- الاستشهاد بأرسطو. أقرأ أرسطو وأعود إلى زيارته كلما دعت الحاجة؛ أتحدث في داخلي عنه لكنَّ توجسًا عميقًا يتربَّع في داخلي نابع من أنه يجب علينا أن نكون مسلحين بأدوات معرفية وفلسفية جيدة، كي نجيد استعمال مفاتيح قلعته، ومن ثَم نملك الحد الأدنى من المشروعية في الحديث عن فكره وفلسفته، وإخفاقاته.

هذه المرة توقفت طويلًا عند (علم الأخلاق إلى نيقو ماخوس) وأدعي أنه قد لا تكتمل الوجاهة المعرفية لأي نص يروم مقاربة هذا النوع من المسائل الأخلاقية دون التوقف عند هذا السِّفر الضخم. كتاب مرجعي لا بد أن يُمنح وقتَه من التأمل والفهم. ومؤكَّد أن القارئ المُغرض ليس هو هو قبل وبعد (الأخلاق إلى نيقو ماخوس). نتفق ونختلف بطبيعة الحال حتى مع أرسطو في مقارباته، لكن يظل أحد أهم واجبات المشتغل بالمعرفة وتاريخ الأفكار أن يسعى إلى النهل من كنوزه.

الصداقة بالنسبة لأرسطو هي -في نفس الوقت- “نظرية” و”فضيلة، بل إنها تشكل، بالنسبة له، إحدى “الحاجات الأشد ضرورة للحياة؛ لأنه لا أحد يقبل أن يعيش بلا أصدقاء ولو كان له مع ذلك كل الخيرات”([9]).

يرى أرسطو أن من أثر الصداقة أنها تكون بمثابة صمام أمان للمجتمعات، وأنها أحد السبل المُفضية إلى العدل في المجتمعات. ولأنها كذلك فإنه يرى أن المشرعين لا يُلامون عندما اشتغلوا على الصداقة أكثر من اشتغالهم على العدل، والسبب أنها -كما يرى- تُشيع المحبة بين الناس، وإذا شاعت المحبة شاع مِن ثَم العدل: “بل قد يمكن الذهاب حدَّ القول بأن الصداقة هي رابطة الممالك وأن الشارعين يشتغلون بها أكثر من اشتغالهم بالعدل نفسه. إن وفاق الأهالي ليس عديم الشبه بالصداقة وإن ما تريد جميع القوانين استقراره قبل كل شيء نفي الشقاق الذي هو أضر عدو للمدنية. متى أحب الناس بعضهم بعضًا لم تعد حاجة إلى العدل”([10]). وقد يكون هذا التعالق مع أرسطو هو الذي حدا بابن مسكويه أن يضع الصداقة تحت باب (الفضائل التي تحت العدالة) بخاصة أن حضور أرسطو حضور مفتاحي في نص ابن مسكويه (تهذيب الأخلاق).

يقسم أرسطو الصداقة إلى ثلاثة ألوان:

صداقة المنفعة: وهي عابرة.

صداقة اللذة: وهي كذلك عابرة ويرتبط عمرها أحيانًا بوجود اللذة، متى انتهت اللذة تلاشت هذه العلاقة.

صداقة الفضيلة: التي يطلق عليها الصداقة الكاملة وهي، بالنسبة له، الصداقة الحقيقية التي هي: “صداقة الناس الفضلاء الذين هم فضلاء والذين يتشابهون بفضيلتهم، لأن أولئك يريدون الخير بعضهم لبعض من جهة أنهم أخيار، وأزيد أنهم أخيار بأنفسهم. أولئك الذين لا يريدون الخير لأصدقائهم إلا لهذه الأسباب الشريفة هم الأصدقاء حقًّا، أولئك بأنفسهم، بطبعهم الخاص لا بالعرض، يكونون على هذا الاستعداد السعيد. ومن ثم يجيء أن صداقة هذه القلوب الكريمة تبقى ما بقوا هم أنفسهم أخيارًا وفُضلاء، وإذن فالفضيلة شيء متينٌ باقٍ”([11]).

يرى أرسطو في نفس الوقت أن (الصداقة الكاملة) “نادرة جدًّا لأن الناس الذين هم على هذا الخُلق قليلون جدًّا” ويضيف أن اللذة والمنفعة يمكن أن تشيِّد صداقات بين الأشرار.

في الفكر العربي/الإسلامي، كتب أبو حيان التوحيدي كتاب “الصداقة والصديق” في مرحلة متأخرة من عمره أي في “مساء رحلته”. كتاب ضخم حاول التوحيدي أن يجعله شاملًا لظروف إنتاج الصداقة والصديق في كل تفاصيلها. حفر في مكانة الصداقة وفي وظيفتها وفي صورتها وتمثلاتها المتشابكة. أعلن في بداية كتابه أن ما يقوله هو امتداد لما اقتطفه عبر امتداد حياته من “أهل الفضل والحكمة، وأصحاب الديانة والمروءة، ليكون ذلك كله رسالةً تامَّة يمكن أن يُستفاد منها في المعاش والمعاد”.

يتجلَّى تفرُّد التوحيدي المعرفي في هذا الكتاب فيما قدمه لنا من تجرُّدٍ عالٍ في علاقته مع الصداقة وجمالياتها. بمعنى أن تجربة التوحيدي الحياتية على مستوى الصداقة التي لم تكن وردية – كي لا نقول فاشلة فشلًا مطلقًا- لم تُثنِه عن ممارسة قيمة (التجرُّد المعرفي) في (تخطيب)([12]) الصداقة، مجتهدًا في الإحاطة بتاريخها ومفكريها وطبيعتها ومكانتها وتمثُّلاتها: “ومن العجب والبديع أنا كتبنا هذه الحروف على ما في النفس من الحُرق، والأسف، والحسرة، والغيظ، والكمد، والومد…، لأني مُفقِد كلَّ مؤنسٍ، وصاحبٍ، ومرفقٍ، ومشفقٍ، واللهِ لربما صليت في الجامع فلا أرى إلى جنبي من يصلي معي، فإن اتفق فبقَّال، أو عصَّار، أو نداف، أو قصاب، ومَن إذا وقف إلى جانبي أسدرني بصنانه، أسكرني بنَتَنِه، فقد أمسيتُ غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النِّحْلة، غريب الخُلق، مستأنسًا بالوحشة، قانعًا بالوحدة، معتادًا للصمت متجنفًا على الحيرة، محتملًا الأذى، يائسًا من جميع ما ترى، متوقعًا لِمَا لا بد من حلوله، فشمس العمر على شفا، وماء الحياة إلى نضوب، ونجم العيش إلى أفول، وظِل التلبث إلى قلوص”([13]).

يُدشن التوحيدي الكتاب بهذا البيان المطلق في اليأس، وبخطاب أشبه ما يكون بـ (مهرجان) من الأحكام القيمية المطلقة طالت مكانة الصداقة عند التجار وأهل الدين والكُتَّاب وأهل المذاب والتطفيف. يعزز بعد ذلك التوحيدي خطابه المكرِّس لاستحالة الصداقة التي وصل في نهاية مطافه إلى أنها ضرب من ضروب المستحيل بما وقع عليه من خطابات في هذا الاتجاه وجدها عند مَن لهم باع في الفكر والفلسفة. يقول: “وقبل كل شيء ينبغي أن نثق بأنه لا صديق، ولا مَن يتشبَّه بالصديق”. كما أنه يستحضر في فصل (مراتب الصديق) هذا الملفوظ: قيل لروح بن زنباع: ما معنى الصديق؟ قال: لفظ بلا معنى. وأيضا ما قاله العسجدي من أن: “الصداقة مرفوضة، والحفاظ معدوم، والوفاء اسم لا حقيقة له…”.

كتاب التوحيدي يكاد يحيط بالصداقة من معظم زواياها، لكني سأتوقف عند ملفوظٍ توحيديٍّ لافتٍ وهو السؤال الذي طرحه على أبي سليمان السجستاني، والذي يستوضح به سرَّ الصداقة المَتينة التي يعرفُ التوحيدي أنها تربط أبا سليمان السجستاني بابن سيَّار القاضي.

يقول التوحيدي: “قلت لأبي سليمان محمد بن طاهر السجستاني: إني أرى بينك وبين ابن سيَّار القاضي ممازجة نفسية، وصداقة عقلية، ومساعدة طبيعية، ومواتاة خلقية، فمن أين هذا؟ وكيف هو”([14])؟

يتضمن الحوار الذي دار بين التوحيدي والسجستاني جوابًا فَصَّل فيه السجستاني الأسبابَ التي جعلت هذه الصداقة تصعد إلى منزلة السمو. يحيل السجستاني عمق هذه الصداقة على انصهار الثقة بينهم وعلى المشاكلة العجيبة في كثير من السلوكيات والتصرُّفات و” اللقاء كثيرًا في الإرادات، والاختبارات، والشهوات والطلبات…”.

ما هو -في نظري- ملهم في هذا الحوار، ليس جواب السجستاني رغم عُمقه وجماله، وإنما ما تضمَّنه سؤال التوحيدي للسجستاني.

نستطيع أن نقرأ عبر عبقرية سؤال التوحيدي دلالات ومضامين مفتوحة منها:

أنه يكشف لنا عن درايته العميقة بالشروط اللازم توفُّرها في الصديق والصداقة. وأنه رغم تجربته (البائسة) مع الصداقة إلا أنه يعي بكل دقة ما يجب أن تحظَى به هذه العلاقة البينشخصية كي يحسن بنا أن نصعد بها إلى منزلة الصداقة.

لقد أحاط (السؤال) بالعوامل الداخلية والخارجية التي تحكم الصداقة. الداخلية والمتمثلة في المخالطة النفسية والعقلية بين (الذاتين) الصديقتين. وليس من قبيل المصادفة أن يكون التوحيدي على قدرٍ عالٍ من الحذر من الانزلاق نحو فكرة انصهار الأنا في الغيرية، وإنما كان وصفُه أدقَّ من منطلق أن (الأنا) لا يمكن أن تكون (الغير)؛ ولذلك أتت فكرة الممازجة التي تُحيل على احتفاظ النفس ببعض عناصرها رغم اختلاطها بغيرها.

الممازجة في الصداقة كما يمكن فهم ما يرمي إليه التوحيدي تُحيل على الوعي بقية بقاء الذات راسخة رغم التشابك النفسي والأخلاقي. لا يمكن للذات أن تكون الآخر لا في الصداقة ولا في غيرها. فكرة الانصهار، فضلًا عن أنها طوباوية محضة فإن خطورتها الكبرى تكمُن في نزعتها نحو محو (الذات) وتذويها في (ذات) أخرى. النفس والعقل يتمازجان في الصداقة، ولكنهما لا ينصهران في بعضهما البعض. ولا يمكن أن يتخيَّل إنسان حجم الخسائر والبؤس الذي قد يصاحب ممارسات ( انصهارٍ) من هذا النوع.

وهي في نفس الوقت (خارجية) انطلاقًا من حضور البُعد القيمي السلوكي التبادلي التفاعلي بين الصديقين، وهما هنا يكمنان وفق ما تضمنه سؤال التوحيدي، من جهة، بـ“المساعدة الطبيعية” التي لا تقوم على التكلُّف والتصنُّع، وقابليتها للحضور في كل اللحظات الحرجة وغير الحرجة. ومن جهة أخرى، بـ”المواتاة الخُلقية”، أي الاتفاق في النظرة والممارسة للقيم الإنسانية الكبرى كالصدق، والكرم، والمروءة.

صحيح أن التلقي يجعلنا نسير في اتجاه أن التوحيدي يسأل أبا سليمان السجستاني، لكن خطاب السؤال يحيل على حالة الفهم العميقة التي يتمتع بها التوحيدي لمضامين الصداقة ومآلاتها. التوحيدي يسأل لكنه في نفس الوقت يُشيِّد –عبر سؤاله- خطابًا مكتملًا حول الأسس الكبرى التي إن وُجدت يحق لنا أن نضع العلاقة في منطقة الصداقة. أسس يتحدث عنها ويفهمها لكنه لم يستطع -عبر تجربته- أن يُخالطها.

وبالعودة للفكر الغربي، نلاحظ أن مونتين، من جهته، تمركز تفكيره حول الصداقة انطلاقًا من تجربته مع صديقه الكاتب الشهير دو لابويسي. يشير مونتين في (المقالات) إلى أن كتاب “ضد واحد” أو ما يُسمى بـ “العبودية المُختارة” هو الذي أوقد شعلة الصداقة بينه وبين دو لابويسي، وأنه بفضل هذا الكتاب تمكَّن من تعزيز هذه العلاقة معه، والصعود بها إلى منزلة عالية جدًّا: “لأن هذا النص هو الذي مكَّنني من عقد علاقة صداقة وُثقَى مع مؤلفه، فقد أُشير عليَّ به وقتًا طويلًا قبل أن أتعرف عليه شخصيًّا. فعرَّفني باسم صاحبه، وهو [الكتاب] ما كان وراء هذه الصداقة التي وطدناها ما شاء الله لها ذلك بتمامها وكمالها، مما لا نجد له مثيلًا في الكتب ولا بين معاصرينا”([15]).

يُدشِّن مونتين مقاربته لمفهوم الصداقة بما يشعر به من إعجاب تجاه ما ينتجه ويبدعه الرسام الذي يعمل لديه. يقول عن عمل هذا الرسام: “وأنا أراقب الطريقة التي بها يقوم بالتصوير رسام يعمل لديّ، جاءتني الرغبة في تقليده، فهو يختار أحسن مكان ومنتصف كل حائط كي يعلق فيه لوحة بَلوَرها بموهبته. ثم إنه يملأ الفضاء المحيط بها بلوحات غرائبية. وهي تصاوير بالغة البُعد عن أفهامنا بحيث لا مزيَّة لها غير تنوعها وغرابتها”([16]).

بعد ذلك يعلن أن كتاب دو لابويسي هو بحد ذاته لوحة ملهمة تتماهَى مع الإلهام الذي تنتجه اللوحات الفنية الإبداعية: “مؤهلاتي لا تسمح لي برسم لوحة غنيَّة الأشكال منتظمة الصور ودقيقة التفاصيل حسب قواعد الفن، لذا أبحث لنفسي أن أقتبس لوحة من إتيان دو لابويسي سوف تُشرف بذلك بقية عملي”([17]).

كما لم يفت على مونتين ملامسة الفرق بين علاقة الأب بأبنائه والصديق بصديقه، إذ إنه يرى أنه مهما كانت العلاقة بين الأب وأبنائه فإنها -وفقًا لآلية الاحترام التي تسير عليها- لا تقبل أي نوع من التقريع أو التوبيخ من جهة الأبناء نحو آبائهم، في حين أن كل ذلك ممكن بين الأصدقاء، بل إن الصداقة تتطلب ذلك أحيانًا. يرى أن الصداقات “ليست غير علاقات أليفة تُربط في ظرف معين، أو لفائدة معينة، وتغدو بها نفوسنا مترابطة. ثم يضيف: “تتوحَّد تلك النفوس وتتمازج بشكل تام بحيث تمحو الخيط الذي ربط بينها وتُغيِّبه، وإذا ما ألحَّ أحد لماذا كنت أحبه؟ فأنا أحس أن الجواب لا يمكن أن يعبر عن نفسه إلا كما يلي: “لأنه كان هو، ولأنه كان أنا”([18]).

يميز مونتين بين الصداقة (العادية) والصداقة (ذات السمة المتميزة). العادية التي يمكن لأي شخص أن يتوفر على أكبر عدد منها، ولكن عليه أن يمشي، كما يرى مونتين و”العنان بيده مسلحًا بالحذر والحيطة”. وعلى هذا النوع على وجه التحديد نجد أن مونتين يوظف المقولة الشهيرة لأرسطو: “يا أصدقائي، ليس ثمة البتة من صديق”([19]).

أما الصداقة (ذات السمة المتميزة) فهي: “الصداقة الكاملة المكتملة التي أتحدث عنها لا تقبل القسمة، فكل واحد يمنح نفسه تمامًا لصديقه، بحيث لا يتبقَّى له ما يمنح لشخص آخر”([20]).

وهذا يقودنا إلى ملاحظة أن منظور مونتين للصداقة، على خلاف فكرة الممازجة عند التوحيدي، هو عملية انصهارٍ وذوبان كاملة بين ذاتين تتحوَّلان من صيغة الجمع إلى المفرد. يسوق مونتين صداقته مع دو لابويسي باعتبارها النموذج المطلق للصداقة، ولرؤيته للصداقة: “كان الشاعر القديم ميناندرووس يقول: إن السعيد من استطاع أن يصادف فقط شبح صديق، وما أصدقه في قوله ذاك، خاصة إذا كان قد خَبِر ذلك بنفسه، في الحقيقة، لو أني قارنت ما عشت من حياتي كله، الذي كان بفضل الله ونعمته رائقًا وميسرًا -عدا فقدان أحد الأصدقاء- وخاليًا من المصائب الكبرى، ومليئًا بطمأنينة الروح؛ لأني اكتفيت بمواهبي الفطرية والأصلية من غير سعي وراء مواهب أخرى، أقول إذًا لو أني قارنتها بالأربع سنوات التي أُنعم عليَّ فيها بالتمتع برفقة تلك الشخصية الرائقة وارتيادها، فلن يكون كل ذلك سوى هباء وليل بهيم ممل”([21]). ويختم بقوله: “أنا لا أشك برهة في أنه [دو لابويسي] كان مؤمنًا بما كتب، إذ كان من الدقة بحيث لا يكذب حتى وهو يمزح”([22]).

كانط – كما يشير ديميتري ألمور في كتابه الذي عنونه  بـ”الصداقة”([23]) والذي جمع به مجموعة من أهم النصوص الغربية التي تناولت مفهوم الصداقة  وقيمتها-  لم يترك لنا سوى تحليلين حول مسألة الصداقة. هما عبارة عن نصين قصيرين وردا في الجزء المتعلق بعقيدة الفضيلة (Doctrine de la vertu) في كتابه (ميتافيزيقيا الأخلاق). ومع ذلك يؤكد ألمور أن هذين النصين وقعا ضحية النسيان. وفيهما يُموضِع كانط مفهوم الصداقة ضمن الواجبات التي تجب على الفرد تجاه الآخرين. الصداقة بالنسبة له: “علاقة بين الحب والاحترام”. كما أنها لا تدخل ضمن حريتنا في أن نتبناها أو نتخلى عنها. إنها تتموضع، كما يرى ضمن الواجبات الأخلاقية (الإتيقية) التي تفرض علينا الأخلاق أن نبحث عنها ونذهب إليها.

وبرغم أن الصداقة الكاملة أو المثالية هي ضرب من ضروب المستحيل، كما يرى كانط، إلا أن الصداقة تدخل حتمًا ضمن السلوك الأخلاقي. ومسألة الواجب هنا بالنسبة لكانط لا تتصل بالوضع المثالي غير الممكن، وإنما في محاولة شد الصداقة إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه. ويمكن القول إن كانط عمد إلى رفع الصداقة المثالية إلى منزلة غير الممكن انطلاقًا مما يسميه الصعوبات الكبرى التي تواجه الصداقة وهي: إشكالية المساواة في المشاعر المتبادَلة، ودرجة مصداقية هذه المشاعر، وفي الغايات منها. واحدة من أهم غايات كانط، كما يشير ألمور، هي زحزحة مفهوم الصداقة من معناه وبُعده الرومانسي إلى بُعده العملي، والتعامل معه كفكرة تراندستالية ضمن (العقل الخالص العملي). يُنهي كانط تحليله للصداقة في هذين النصين بإدراج شكل جديد من أشكال الصداقة وهي الصداقة تجاه الإنسان ولكل البشر (l’amitié pour l’homme et pour tous les hommes) . صداقة كما يحددها كانط نابعة من الواجب الأخلاقي المحض تجاه كل البشر.

خصص جاك دريدا للصداقة كتابًا كاملًا عنونه بـ “سياسات الصداقة”([24]).  يشير خالد حسين إلى أن هذا الكتاب صدر في الفترة التي كان دريدا منكبًّا فيها على مقارباته لمسائل متعلقة بالسياسة والأخلاق. كما أن الكتاب -وهو مُحِقٌّ بذلك-  لا يخلو من التعقيد والغموض وتعدُّد الأبعاد والأوجه.

 ضمَّن دريدا كتابه: “قراءات لِطَيْف واسعٍ من الشَّخصيات في الإرث الفلسفي الغربي، مشتملًا على أفلاطون، أرسطو، شيشرون، مونتين، كانط، نيتشه، شميت، هايدغر وبلانشو”([25]). وكما ينقل لنا أيضا خالد حسين فإن الخيط الإرشادي (الفكرة المركزية) لهذا النَّصِّ يتمثَّل: “بعبارةٍ اقتبسَهَا ميشيل دو مونتين من كتاب ديوجينيس لائرتيوس “حياة مشاهير الفلاسفة”: (يا أصدقائي، ليس ثمة صديق)([26]). يشير خالد حسين إلى نقطة مركزية لافتة وهي أن هذا التَّصريح الذي يُعزى إلى أرسطو (يا أصدقائي، ليس ثمة صديق) لا يَظهَر في أيٍّ من أعمال أرسطو([27]).

بحسب دريدا فإن مفهوم الصداقة: “متناقض، وإنَّ تناقضاته لا يمكن حَلُّها. وفي علم المصطلح الدريدي، فالصَّداقة مسْتحيلة؛ من حيث إنَّها تتكئ على مصطلحاتٍ متعارضةٍ تظل في حالة من التوتُّر الحتميِّ. ويجادل دريدا بأنَّ ثمّةَ العديد من الشُّكوك aporias في مفهوم الصَّداقة، وأبرزها يكمُن في العلاقَة بين نموذجين يتكرَّران باستمرار. الأوَّل هو النَّموذج الإغريقيُّ-الرُّومانيُّ، حيث يبدو محكومًا بقيمة المعاملة بالمثل، والانسجام المتماثل، والجوهريّ، والمنتهي -وبخاصةٍ الاتفاق السياسيّ. وفكرة الصَّداقةِ هذه تَتَّبِع منطق التماثل والجوار، إذ يتشابَه الأصدقاء، كلٌّ مع الآخر في كثير من العوامل المشتركة. النَّموذج الثاني هو نقيض للأول، قائم على “التَّبايُن، والتَّعالي، واللاتجانس واللامحدودية، نوع مسيحيّ من المنطق. وبدلًا من متابعة قانونِ الشيء ذاته والقواسم المشتركة، فالأصدقاء تَبعًا لهذا النَّموذجِ مختلفون كلٌّ عن الآخر، ويتشاركون في قليل (أو في عدم) من القواسم المشتركة، إذ تفصلهم المسافة”([28]).

الصداقة مستحيلة لأنها موطن من مواطن التناقض ولأنها استُنبتت كما يرى دريدا، أو كما فهمنا مما مقاربته، في فضاء مصطلحي متعارض. لكن في نفس الوقت تتملكنا أعلى درجات الحيرة -في حال تأكد عبر التحقق التام- ما أشار له خالد حسين من أن المقولة التي أحالها دريدا إلى أرسطو وشكلت فكرته المركزية نحو تشييد أطروحته حول الصداقة لم تظهر في أي من نصوص وأعمال أرسطو، لهو أمر يدعو للتساؤل والفضول حول علاقة حتى الكبار ومن ضمنهم دريدا، مع (التحقق) باعتبارها قيمة معرفية أساسية.

**

من زاوية أخرى، يبدو أن ثمة علاقة (خاصة) بين الصراحة والصداقة. ما طبيعة هذه العلاقة؟ وما كُنهها؟  الصراحة التي هي بالنسبة لفوكو أن “نقول كل شيء” وهذا الـ”كل شيء” بالمعنى الفوكوي لا تتعلق تحديدًا بقول ” كل شيء” و” إنما يتعلق الأمر بمسألة أساسية فيها ألا وهي ما يمكن أن نسميها بطريقة استفهامية: الحرية أو الانفتاح الذي يقتضي أن نقول ما نقوله، كما نرغب في قوله، وعندما نرغب بقوله، وفي الشكل الذي نعتقد أنه ضروري لقوله.

ترتبط الصراحة كثيرًا بالاختيار، وبالقرار، وبموقف المتكلم، ولقد ترجمها اللاتينيون بكلمة الحرية (libertas) . لقد أصبح قول كل شيء بصراحة من خلال الحرية”([29]).

يشير فوكو إلى أن (الصراحة) هي موقف أخلاقي، وأن للصراحة خصمَيْن: الأول أخلاقي ويكمن في المدح والتملُّق، والآخر تقني وهو الخطابة. يعلق فوكو (بطريقة مدهشة) على طبيعة العلاقة التي لا بدَّ للصراحة أن تشيدها مع الخطابة، وللتعقيد الذي يعتري هذه العلاقة بقوله: “أما بالنسبة للخطابة، لأنه يجب على الصراحة أن تنعتق منها، وتتحرَّر منها، وليس أن تتخلص منها أو تبعدها. على الصراحة أن تتحرر من قواعد الخطابة، وأن تستعملها بصرامة، كلما دعت الحاجة إلى ذلك”([30]).

الشخص (الباريسياني)([31]) le parrèsiaste  هو الذي (دائمًا بحسب فوكو)  يقول ما يرغب بقوله بصدق متكئ على إرادة حرة تؤمن بالقول الصريح الصادق الحر.

هل يجب أن يكون الصديق شخصًا صريحًا (باريسيانيا)؟ وماذا يترتب على هذه الصراحة؟ وما طبيعة هذه الصراحة؟ هل المطلوب من الصديق أن يقول “كل شيء” يرغب بقوله للصديق؟

الصراحة في سياق الصداقة (وفقًا للحمولات والتأملات الفوكوية لمفهوم الصراحة أو الباريسيا) تشكل إحدى الرهانات الكبرى المتعلقة في حياة الصداقة أو موتها؛ كما أنها واحدة من أهم مواطن المخاطر على وجود وكينونة الصداقة. الصراحة (الباريسيا) في سياق الصداقة تدخل حتمًا في باب المجازفة. تقول المعاجم: جازف الشَّخْصُ في الأمر: غامر بدون تثبُّت من نتائجه “جازف في استثمار ماله كُلِّه”.

 الصراحة تضع الصراحة في دائرة المجازفة برأس مال الصداقة، ولذلك لا بد من حضور تام ويَقِظ لما يمكن تسميته بالعناية بالجانب النفسي لحجم التلقي لهذه الصراحة من كلا الجانبين. منوط بالصديق الذي يعتني بالصداقة أن يعي طبيعة علاقة الصديق مع الصراحة. هل يتقبَّلها بصدر رحب، أم أنه من الذين يتوجسون منها ويرغب بحدها الأدنى؟

ليس صديقًا مَن لا يجتهد في معرفة صديقه وعلاقة صديقه بـالصراحة.

من جهته، يرى مارسيل بروست أن علينا ألا نبحث عن الحقيقة عند الأصدقاء، وأن الصداقة ليست هي المكان الذي يتكاثر فيه قول الحق والحقيقة، ولذلك من غير المستغرب أن نرى صاحب (البحث عن الزمن المفقود) يوجه انتقادًا عنيفًا للصداقة ومآلاتها. يشير ديمتري ألمور في تعقيبه على رأي بروست أن مقاربة بروست للصداقة تتمركز حول مبدأ أساسي وهو (الحقيقة)، وأن الصداقة -بالنسبة لبروست- هي ظاهرة إنسانية تعمل على إبعادنا عن الحقيقة. علاوة على أن الصداقة بالنسبة له تتمحور حول أمرين: المحادثة والمَلَل، من ثَم فإنه حتى لو كانت الصداقة تدخل في باب الفضيلة فإنها فضيلة سطحية. ولا يُرجى منها أية فائدة من هذا النوع من العلاقات. لذلك يصل بروست إلى هذه الخاتمة وهي أن موطن الحقيقة الأسمى يكمن في فضاءات الفن والإبداع: بما أن الصداقة ليست المكان الذي يجب أن نبحث فيه عن الحقيقة وقول الحق فإنه يجب علينا -إن رغبنا في البحث عن الحقيقة- أن نبحث عنها في الفنون والإبداع([32]).

**

وفق “الانتظامات الداخلية ”  لخطاب الصداقة، وبالنظر لما سبق، يمكن القول إن:

  • الصداقة مُمتنعة وغير متحققة: نقصد عند البعض. لكن يمكن القول بلا تردد: إن من المدهشات التي تواجه من يرغب في تقليب النظر في مفهوم الصداقة وظروف إنتاجها هو حديَّة هذه الأوزان الكبيرة من المفكرين والفلاسفة في رؤيتهم للصداقة ووضعها في مدار (الطوباوية) واللا ممكن. وقفنا على مقولات من قبيل: “يا أصدقاء، ليس ثمة صديق”،  و”قبل كل شيء ينبغي أن نثق بأنه لا صديق ولا من يتشبه بالصديق”، و”الصديق لفظ بلا معنى”، و”الصداقة مرفوضة، والحفاظ معدوم، والوفاء اسم لا حقيقة له…”، و”إن السعيد من استطاع أن يصادف فقط شبح صديق”… وغيرها كثير مما يتسق معها مما حملته صرخات الشعراء عبر العصور، تضع الصداقة في منزلةِ غيرِ المتحقق الإنساني، وفي دائرة الممُتنع، ولأنها ممتنعة فهي غير ممكنة الوجود، إلى أن وصل الأمر إلى أسطرتها ووضعها تالية للغول والعنقاء.

ما الذي جعل هذا الكم الهائل من التجربة الإنسانية تضع الصداقة في دائرة الممتنع في كل العصور وعبر معظم الثقافات إن لم يكن جلها؟! ربما لأن قَدَر الصداقة هو ارتباطها بقيم هي بحد ذاتها تكاد تكون مُمتنعة، على رأسها قيم الصدق الخالص والحب الخالص. الصديق الحقيقي هو الذي يمارس الصدق والحب تجاه صديقه في جميع تمثلاته: في القول، في المشاعر، وفي الموقف… وهذا المطلب هو الذي قد يكون حدَا بهذا الكم الهائل من المفكرين والفلاسفة أن يدرجوها ضمن غير المتحقق. أو ربما يعود ذلك إلى ما توصل إليه دريدا من أنها مستحيلة؛ لأن قَدَرها الحتمي أنها “تتكئ على مصطلحات متناقضة” يضعها في فضاء غير الممكن عمليًّا.

مع ذلك، تقول لنا التجربة الإنسانية على مر العصور إن الصداقة ممكنة وحاضرة في المجتمعات البشرية رغم ما ذهب إليه بعض كبار المفكرين والفلاسفة.  وتتسم عندما تكون في دائرة الممكن  و(دائمًا) عبر “انتظاماتها الخطابية” بأنها من المفترض أن تخضع لمجموعة من القوانين من ضمنها:

– قانون الممازجة بين الصراحة والمُداراة: لكي تكون في دائرة الممكن والمُتحقق، تستوجب الصداقة نوعًا من البراعة في إدارة منظومة متكاملة من القيم والممارسات. قد يتعين على من يرغب في الصعود إليها أن يجتهد في إعمال مجموعة متداخلة من السلوكيات والقيم (الضرورية) غير قابلة للتنازل، أو الاستبعاد. بمعنى أن الصداقة بما هي علاقة بينشخصية قائمة على حريات “الاختيار والعطاء والتلقي” فإنها تخضع لسلوكيات متداخلة. من أهمها: الصراحة الممزوجة بالمُداراة. من دون الصراحة الصادقة، تبقى الصداقة غير ممكنة، ومن دون استهلاك الصراحة باعتدال في سياق الصراحة هي أيضًا غير ممكنة. الصداقة مرتبطة بصراحة من نوع خاص، تعتمد بشكل كلي على مقدار المعارفة بين الصديقين، وبمقدار دراية كل منهما بحالة الآخر النفسية من زاوية إلى أية درجة من سُلم الصراحة يستطيع أن يصعد بها الصديق نحو صديقه.

 يتدخل سلوك المُداراة بقوة في سياق الصداقة من منطلق أن الصراحة في الصداقة، هي كما هو معروف، ضرب من ضروب المجازفة. ولا أجمل وأدل من المثال الذي ساقه فوكو في معرض حديثه عن الصراحة وعلاقتها بالمجازفة عندما ذكر كيف أن الحكماء الصينيين عندما يرغبون في قول الحقيقة يأخذون معهم (نعشا) كإجراء احترازي.

مع أصدقائنا قول الحقيقة لا يتطلب في كل مرة أن يكون (النعش) حاضرًا، ولكن علينا ألا ننسى أيضا أنه في كل مرة نريد قول حقيقة (مُرَّة) أن نستحضره في أذهاننا. الصراحة غير المشيدة على المُداراة قد تهوي في كثير من الأوقات بالصداقة إلى (نعش) يأخذها إلى مكان يستحيل استعادتها منه. ولا بأس من المجازفة بالقول:

من دون الوعي بخطورة الصراحة (الباريسيا) على الصداقة، من الصعوبة بمكان أن تصمد الصداقة أمام طوفان الطبيعة المعقدة للنفس البشرية.

  • قانون التشييد: قد يكون من النادر أن نطلق على علاقة من العلاقات بأنها صداقة دون أن تخضع هذه العلاقة إلى الحد الأدنى من المدة الزمنية الكفيلة في اختبار قدرة أقطابها على تلبية شروطها وأحكامها والقيم التي تتموضع داخلها. الصداقة مرتبطة بالثقة، والثقة مرتبطة بشرط وجود مدة زمنية لتشييدها والحكم على صلابتها. الثقة تُشيَّد والصداقة تُشيَّد. العلاقة العابرة من الصعوبة بمكان أن تشيِّد الثقة، ولا أن تُفصح عن حجم إيمان الصديق بعلاقة الصداقة واستعداده لأن يضع هذه الصداقة في الجزء من القلب الذي يحتضن القيم المُبجَّلة.
  • قانون التضامن: ولا أجمل ولا أدق من هذه المقولة للخليفة الراشد علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): “لا يكون الصديق صديقًا حتى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته، وغيبته، ووفاته”. تختزل هذه المقولة جميع شروط التضامن في سياق الصداقة. تختزل ما يمكن أن نسميه بمثلث اللحظات الحرجة التي تقوم عليها فضيلة (التضامن) في سياق الصداقة وهي: اللحظة النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية. الصديق هو الذي يكون في المقدمة في هذه اللحظات الثلاث. اللحظة الاجتماعية تحيل على الحضور في الفرح والمعاناة. لحظة التضامن بعد الوفاة تعبر عن أصدق حالة تضامن قد تتجلى بها النفس البشرية لأنها وببساطة منزهة عن كل غرض وعن كل بُعد نفعي لا يليق بمنزلة الصداقة الحقَّة.
  • قانون الاختيار الخالص: على اختلاف أعراقنا وألواننا وهيئاتنا التي ليست من اختيارنا وإنما “قُذف بنا في هذا العالم” دون أن نُخيَّر في ذلك، من ثَم وجدنا أنفسنا معها وبها دون أن يكون لنا أي تصرف بها، تأتي الصداقة على النقيض من ذلك من حيث إنها اختيار فردي محض. نختار -كما قيل من قبل- أصدقاءنا، ولكن لا نختار أشقاءنا. الاختيار هنا يحيل على حق الفرد في اتخاذ قرار الصداقة من عدمه. ومن ثَم تمتعه بالإرادة الكاملة في اتخاذ هذا القرار يحيل على مسؤولية فردية محضة يتحمل الفرد تبعاته كاملةً بمفرده، يتعذَّر عليه من ثَم استحضار سبب (خارجي) يحيل إليه مآلاتها.

في نفس الوقت، فعل (الاختيار) في الصداقة يتطلب دقة ومهارة عالية، تشبه مهارة (رسام مونتين) الذي وصف طريقته في بداية حديثه عن الصداقة. وكيف أن هذا الرسام يمتلك براعة ملهمة في الرسم وفي اختيار منتصف الحائط لتثبيت لوحاته، وهو المكان الذي يرى الرسام ومونتين أنه الأجمل والأنسب والأكثر ملاءمة. يمكن لصورة منتصف الحائط المونتينية أن تشكل ما يجب أن تكون عليه الصداقة من الدقة والاتزان. الصداقة رسم وتوسط بين طرفين؛ تشبه لوحة فنان يشتغل عليها ويشيدها طرفان واعيان بجمالياتها وأهميتها في وجود وحياة كل البشر. يكاد يكون كل شيء مشتركًا ما بين عمل الفنان المُبدع والجماليات الكبرى التي يتضمنها عمل الفنان وفعل الصداقة بما تتضمنه هي من جماليات كبرى ما عدا فيما يتعلق بمسألة الحقيقة. الحقيقة تتجلَّى بأعلى صورها، كما رأينا عبر بروست، في الفن، وليس في سياق الصداقة والصديق، أو بالأحرى في سياق العلاقات الإنسانية.

  • قانون الحرية: وهي هنا تتماهَى مع تلك المقولة لـ جيم موريسون: “الصديق هو الذي يمنحك كامل الحرية بأن تكون أنت” إن لم تشعر بأنك أنت مع الصديق تتدخل (الحسابات) في كل اتجاه، وكلما تكاثرت الحسابات ابتعدت الذات بأن تكون نفسها.
  • قانون الامتناع عن محو الذوات: الصداقة الحقة المثمرة والمزدهرة تعتني باستقلال الذوات. بمعنى أنها لكي تكون حقيقية لا بد من أن تتمتع الذوات المشكلة للصداقة بشيء من مكوناتها الذاتية التي تُمايزها عن الآخر. الصداقة الحقيقة لا تُذيب الذوات أبدًا ولا يليق بها ذلك. هي التي تُشعرك بحضرة الصديق أنك أنت وأنه هو. انصهار الذوات يحيل على محو الاختلاف. ومحو الاختلاف في العلاقات الإنسانية يهوي بها إلى جحيم المَلل. الممل الذي يهدد مباشرة أية علاقة بينإنسانية. الاختلاف هو المحرك الأساس للصداقة، صمام وأمان ديمومتها. الذوبان يعني غياب مكونات الإثراء والتجديد وتوسيع الأفق. حضور الاختلاف يشيد حالة من “تواطؤ” بديع للذوات المتضادة. يُحلِّق بها، في كل مرة، إلى مناطق غير متوقعة في فضاء جماليات العلاقات الإنسانية. الاختلاف هو الذي يمنح المعنى لوجود الصداقة.

 الصداقة هي في نفس الوقت: قيمة وضرورة وفن: قيمة انطلاقًا من أنها تدخل في إطار ما هو مرغوب به؛ أي بما يرغب الفرد والمجتمعات في وجوده ورواجه وتَفشِّيه داخل المجتمعات، والمجتمع الإنساني بشكل عام.  وهي ضرورة من حيث إن الحياة السوية، تتطلب غالبًا أن يتخللها وجود أصدقاء، أو صديق حميم؛ ضرورة الصداقة تكمن في أنها واحد من أشد وأجمل المصدات التي بإمكانها أن تُعيننا على التجديف بسلام في (محيط) الحياة الهائل؛ ضرورة في كونها أحد محركات السلام الداخلي والخارجي للمجتمعات الإنسانية، مما حدا بأرسطو -كما رأينا- أن يحيِّيَ المشرعين العظام الذي اهتموا بالصداقة أكثر من العدل؛ لأنها إن تفشَّت في المجتمعات تفشَّى العدل في هذه المجتمعات. وهي فن من حيث إنها تتموضع ضمن الجمال وفلسفة الجماليات، ومن حيث إنها –لكي تتحقق– تتطلب التمتع برغبة وذوق ومهارة عالية لرسم جمالياتها والانغماس بحتميتها للنفس الإنسانية.

مراجع المقالة :

([1]) TODOROV T, 1995, La vie commune (essai d’anthropologie générale), édition électronique, Seuil, Paris,96 pages.

([2]) نفسه صـ 13.

([3]) نفسه صـ 14.

([4]) نفسه صـ 14.

([5]) عسكر (مادونا)، “الحب بين المعنى الملتبس والحقيقة الإنسانية”:

https://www.diwanalarab.com

([6]) دريدا (جاك)، “ما هي الصداقة؟”، مؤمنون بلا حدود، مارس 2019، ترجمة: فتحي المسكيني، صـ 3.

([7]) ورد في كتب الحديث هذا الحديث (المُختلَف على صحته)، مع الإشارة إلى أن لفظ صديق هنا ورد على لسان النبي (صلى الله عليه وسلم) باعتباره خطابا يُحيل على استعمال الغير للفظٍ وليس استعمالًا يُحيل على تبنِّي لفظ (الصديق) من قِبَل النبي.  يقول الحديث: «إن الرجل ليقول في الجنة ما فعل صديقي فلان، وصديقه في الجحيم، فيقول الله تعالى: أخرجوا له صديقه إلى الجنة، فيقول من بقي: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}» قال الحسن: استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعةً يوم القيامة .

([8]) لا يتسع المقام هنا لذكرها مما لا ينفي أن تكون موضعًا للنقاش في مقاربات لاحقة.

([9]) أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، ترجمة: أحمد لطفي السيد، الجزء الثاني، دار الكتب المصرية بالقاهرة، 1924، صـ 219.

([10]) المرجع نفسه صـ 221.

([11]) المرجع نفسه، 221.

([12]) نستعمل هنا لفظ (تخطيب) بمعنى تحول مضامين ودلالات الصداقة إلى خطاب بما تعنيه هذا الكلمة في مجال تحليل الخطاب من معنى وفي نفس المعنى باللغة الفرنسية la mise en discours .

([13]) التوحيدي، في الصداقة والصديق، تحقيق: الشربيني شريدة، صـ 26.

([14]) المرجع نفسه، صـ 26.

([15]) مونتين، المقالات، الكتاب الأول، ترجمة: فريد الزاهي، دار معنى للنشر والتوزيع، صـ 342.

([16]) المرجع نفسه صـ 341.

([17]) المرجع نفسه صـ 341.

([18]) المرجع نفسه، صـ 347.

([19]) المرجع نفسه صـ 350.

([20]) المرجع نفسه صـ 551.

([21]) المرجع نفسه صـ 356.

([22]) المرجع نفسه، 356.

([23]) EL MURR D, 2001, L’amitié (textes réunis et présentés par Dimitri EL MURR, Flammarion, Paris, 248 pages .

([24])Derrida, 1994, Politiques de l’amitié suivi de l’oreille de Heidegger, Ed. Galilée, Paris.

([25]) حسين (خالد)،  نوفمبر 2021، “عن الصداقة في فلسفة دريدا”:

https://www.raminanews.com/research/aan-alsdak-fy-flsf-dryda.

([26]) المرجع نفسه.

([27]) المرجع نفسه.

([28]) المرجع نفسه.

([29])  فوكو (ميشيل)، تأويل الذات، ترجمة: الزواوي بغورة، دار صوفيا، الكويت، صـ 406.

([30]) المرجع نفسه صـ 407.

([31]) للمزيد، مقال لـروضة المبادرة، إتيقيا الصراحة عند ميشيل فوكو، مجلة (الكلمة)، مجلة إلكترونية، العدد: 174، أكتوبر 2021.

([32]) . EL MURR D., 2001, L’amitié (textes réunis et présentés par Dimitri EL MURR, Flammarion.

مقالات أخرى

ماجد الغرباوي : سلطة الفقيه والتشريع وفق منهج مقتضيات الحكمة

بيداغوجيا البرهان في فضاء الثورة الرقمية

ثوابت العدوان في العقيدة الصهيونية

1 تعليق

علي أسعد وطفة 30 يناير، 2023 - 6:29 ص
رائعة
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد