أنطولوجيا الارتجال الموسيقي

أنطولوجيا الارتجال الموسيقي

الملخص:

الارتجال، ممارسة الموسيقية تتمثل في إبداع الموسيقى تلقائيًا وإنتاجها صوتيا. هنا تطرح عدة أسئلة ذات أهمية منها: ألا يعتبر الارتجال من الحالات التي يجب أن يُفرض فيها على عالم الموسيقى بحث أنطولوجيّ كشرط مسبق؟ ألا ينتج عن سوء الفهم الجمالي في تقييم وتقدير الارتجال أو سوء الفهم المنهجي في تحليل الارتجال بالتحديد، خلق نوع من الارتباك أنطولوجي حول هذا الموضوع؟

ومع ذلك، يبدو على وجه التحديد أن فهمنا للارتجال، وكذلك الطريقة التي نقدره بها، يعتمد بالفعل على الافتراضات الأنطولوجية التي نضعها بشأنه. لذلك يبدو من الضروري معرفة نوع الارتجال قبل التمكن من تطوير معرفة موسيقية مناسبة له، لهذا الشرط الأساسي سيخصص هذا المقال.

الكلمات المفتاحية: الأنطولوجية، الارتجال؛ السيرورة، والنوع والمثال.

Abstract:

Improvisation, a musical practice which consists of spontaneously inventing music at the very time of its sound production. The question posed is then the following: is improvisation not one of those cases where the ontological inquiry imposes itself on the musicologist as a prerequisite? Do not aesthetic in the evaluation and appreciation of improvisation or methodological (in the analysis of improvisation) misunderstandings result precisely from the confusion of our ontological intuitions on the subject?

Yet it seems precisely that our understanding of improvisation, but also the way in which we appreciate it, do indeed depend on the ontological presuppositions that we maintain about it. It therefore seems necessary to know what kind of thing improvisation is before being able to develop an adequate musicological knowledge of it. It is to this prerequisite that this essay will be devoted.

Keywords: Ontology, Improvisation; Process, type and token.


1- المقدّمة:

تعتبر أنطولوجيا الموسيقي ميدانا خصبا للدراسات والأبحاث الموسيقية، إلا أن الجزء الأكبر منها قد ركز على الأعمال الموسيقية الكلاسيكية الغربية حيث انصب التركيز على الأعمال القابلة للنسخ المتعدد. لم تعط لدراسات الأنطولوجية للارتجال الموسيقي أهمية كبرى، وهذا الأمر يفرض نوعا من البحث وعملا أنطولوجيا إضافيا منفصلا كشرط مسبق لتحديد ما هو الارتجال. سنركز في هذه الدراسة على الارتجال كممارسة موسيقية للإبداع التلقائيً الحر، أي كاختزال لجزء من التأليف المسبق إلى الحد الأدنى الصارم أو إلى لا شيء لمنح المؤدي حرية أكبر أثناء الإنجاز. بالنسبة لأندرو كانيا Andrew Kania ، يجب أن تكون الأنطولوجيا الموسيقية فوق كل شيء وصفية، بدلاً من التنقيحية: يجب أن تصف على وجه الدقة قدر الإمكان، كيف نفكر في الظواهر الموسيقية، بدلاً من ذكر كيف تكون هذه الظواهر الموسيقية، بشكل مستقل عن أفكارنا [1].

يبدو أن الارتجال مثال جيد لإثبات اهتمام البحث الأنطولوجي بالأعمال الموسيقية، فبالنسبة لأندرو كانيا Andrew Kania “إذا لم يدرك أحد أن إنجازا معينًا مرتجلا معتقدا أنه أداء لعمل مؤلف، فإنه يميل إلى التقليل من شأن الإنجاز”[2]. تبدو هذه الملاحظة صحيحة لحد ما، ولكن هل بالفعل هذا التقييم الخاطئ للارتجال هو مشكل أنطولوجي؟ وهذا يعني أن خطأ التصنيف الأنطولوجي يمكن أن يؤدي إلى تقدير جمالي غير مناسب. يبدو على وجه التحديد أن فهمنا للارتجال، يجب أن يعتمد على افتراضات أنطولوجية مسبقة، لذلك يبدو من الضروري معرفة الارتجال باعتباره نوعا ومثالا والكشف عن عملية إبداعه وخصائصه وهذا سيمكننا من تطوير معرفة موسيقية كافية عنه سواء كان فرديا أو جماعيا.

تتبع منهجية الأنطولوجيا الوصفية قيودًا براغماتية كما أوضحه ديفيد ديفيز “الفن كإنجاز”[3]، Art as Performance. يعيد كانيا Kania صياغة هذا القيد على النحو التالي: “يجب أن تكون الأعمال الفنية كيانات قادرة على امتلاك نوع من الخصائص التي ننسبها إلى الأعمال الموسيقية التي نتحدث عنها في ممارستنا النقدية والتقديرية، والتي لها خصائص مشروطة تُنسب بشكل معقول إلى الأعمال في هذه الممارسة.”[4] وبالتالي، فإن الأمر يتعلق هنا بمطابقة البحث الأنطولوجي مع التأملات العقلانية التي تأسست عليها. في حالة الارتجال تقوم المنهجية المتبعة على الخطوات التالية: مقدمة إبستمولوجية تتضمن التفكير في الممارسة الفنية للارتجال تقودنا إلى نسب بعض الخصائص المعينة، ثم القيد البراغماتي أو الوصفي، يجب أن يكون الارتجال كائنات قادرة على أن تكون لها خصائص محددة، وأخيرًا الاستنتاج الأنطولوجي، الارتجال يجب أن يكون نوعا أو شيئا من هذا القبيل، لذلك علينا أن نبدأ بالنظر إلى الخصائص التي ننسبها إلى الارتجال في ممارستنا الموسيقية.

ولكن إذا أردنا أن نفهم الارتجال كسيرورة وليس كمنتوج لهذه السيرورة، فنحن بحاجة إلى طرائق تحليلية أخرى غير تلك التي تطبق على الموسيقى المكتوبة ذلك لتحديد النماذج الأساسية أو الضمنية التي تعمل كأساس للأداء المرتجل. “إن المنتوج هو هدف التحليل وسيرورة الإنتاج هي جانب واحد فقط. الخصائص التركيبة على وجه الخصوص كأحد عناصر التحليل المتميزة، موجودة بالكامل في المنتوج ويمكن ملاحظتها على هذا المستوى.”[5] من الواضح أن سند المحلل هو منتوج الارتجال، على سبيل المثال كما تم تسجيله، لكن هذا لا يمنع من فهم هذا المنتوج كسيرورة، ستكون العملية التحليلية بالضرورة استقرائية من خلال العودة من المنتوج إلى العملية الإبداعية ككل، مع كل ما يمكن أن تنطوي عليه من أخطاء وتقديرات للمحللين الذين يجدون أنفسهم عالقين في هذا الواقع الموسيقي، الأمر الذي يدفعهم مع ذلك للتحرك، وبطريقة حيوية بشكل خاص في حالة الارتجال، نحو علم الموسيقى المتعلق بالسيرورات الإبداعية.

وبالتالي، فإن الصعوبة تكمن بالضبط في تحليل الارتجال كما هو في حد ذاته كسيرورة إبداعية تؤدي إلى إظهار بنية صوتية معينة. لذا فإن تحليل الارتجال هو تحليل العلاقة بين بنية صوتية معينة والاختيار الذي يتبناه موسيقي واحد أو أكثر لتحقيق هذه البنية الصوتية. يستند التحليل الإجرائي للارتجال إلى مبدأين:

فمجرد أن يتم فحص التسلسل الصوتي الذي تم إنتاجه بالفعل، يجب ألا نتردد في استخدام التحليل الخطي بشكل منهجي، والذي قد يبدو وصفيًا للغاية في سياقات أخرى. إنه، على وجه التحديد، الارتجال هو كائن خاص، حيث يكون وقت التأليف قابلاً للعكس (يمكننا أن ننتقل إلى المدونة الموسيقية في كلا الاتجاهين)، فإن الارتجال في الأساس لا رجعة فيه، يسود فيه التوالي. فهم طبيعة السيرورة البارزة لهذه الموسيقى لا يمكن القيام بها إلا من خلال محاولة تتبع تطورها لحظة بلحظة، فقط من خلال استيعاب الطريقة التي يتألف بها أي بديناميكية زمنية محددة للغاية. ينطوي هذا المنظور على رؤية سببية للعملية الموسيقية، وبالتالي إلى تحليل من حيث الأسباب والآثار.

بعد ذلك، التعرف على القصدية الموجودة في الارتجال، في حالة الارتجال المنفرد تكون هناك هوة بين النية أو القصد والإنجاز التي تعطي لمفهوم العرض خصوبته الكاملة. من الواضح أن هذا الأمر أكثر أهمية في حالة الارتجال الجماعي، حيث لا يمكن للمرء أن يقتصر على مراعاة المحتوى الصوتي بل يجب أن نأخذ في الاعتبار أيضًا محتواها القصدي، والمعلومات المرسلة. في هذا المحتوى المعرفي أيضًا تنزلق جميع المفاوضات الضمنية، وانسجام التمثيلات، وتجانس التفضيلات، والعمليات التنظيمية التي يمكن أن يكون الارتجال الجماعي مسرحًا لها. على أي حال، فإن الإبستمولوجية الارتجالية كعملية ستلقي الضوء بلا شك على الطريقة عمل السيرورات الإبداعية في الموسيقى التي يجب أن يقودها التحليل الأنطولوجي منطقياً.

2- الارتجال بين النوع والمثال:

قبل الشروع في دراسة أنطولوجيا الارتجال الموسيقي، سنبدأ بالتعريف المعجمي المقصود بالارتجال الموسيقي من خلال قاموس غروف للموسيقىGrove Dictionary of Music   فهو إبداع عمل موسيقي أو الشكل النهائي للعمل الموسيقي كما تم إنجازه وهذا قد يعني التأليف الفوري للعمل الموسيقي من قبل فناني الأداء أو تطوير أو تعديل إطار موجود أو أي شيء بينهما أي تمثيل يتضمن، إلى حد ما، عناصر الارتجال على الرغم من أن درجته تختلف باختلاف الفترة والمكان وفقًا للمواضعات أو القواعد الضمنية. يستخدم مصطلح “extemporisation” بشكل أو بآخر بمعنى “الارتجال”، فبحكم طبيعته الزائلة بالأساس، يعتبر واحدا من أقل المواضيع عرضة للبحث التاريخي.

يقدم هذا التعريف وصفا عاما لعدة عناصر مهمة لتحديد مفهوم الارتجال ويقدم تصورات حول تأليفه وتنفيذه. الارتجال طريقة إبداع عمل موسيقي، خصوصيته أنه متزامن مع أدائه، وأن هذا الإبداع لا يتم بالضرورة من قبل. يظهر هذا التعريف مفهوم النموذج وهو ما يسميه علماء الموسيقى والإثنوموسيقولوجيا بالبنية الموسيقية الموجودة قبليا والتي توجه الارتجال مثل الجاز، تكون النماذج أعمالًا موسيقية يمكن مضاعفتها على الفور، وقد يحدث أحيانًا أن الارتجال هو في نفس الوقت تأليف عمل موسيقي أو عناصر معينة من هذا العمل. يقدم Grove   أيضًا وجود سلسلة متصلة من الحالات بين عدم وجود نموذج مسبق وتطوير أو تعديل النموذج، وأن أي أداء موسيقي ينطوي إلى حد ما على عناصر الارتجال. في النهاية، يؤكدGrove   على الطبيعة المتلاشية أساساً للارتجال. يجب أن يُفهم التلاشي هنا على أن حقيقة الارتجال هي أنه لا يبقى قائماً بعد تنفيذه، فهو ليس قابلا للتكاثر الفوري مثل أعمال التقليد الكلاسيكي.

ومن بين عناصر التوصيف الأكثر إثارة للجدل هو أنه ليس من الواضح على الإطلاق أن الارتجال يولد أعمالًا موسيقية أي كيانات من نفس النوع مثل الأعمال الموسيقية المحددة مسبقا والتي يمكن مضاعفتها فوريًا، كما أن عناصر الارتجال في أي أداء موسيقي ينطوي على ملامح ليست بديهية تمامًا.  يبدو أن هناك حالات واضحة نسبيًا حيث لا يقوم الفنانون بارتجال الموسيقى التي يؤدونها، ولكنهم يتبعون فقط ما هو محدد في المدونة الموسيقية، هذه الأطروحة تستحق أيضا الفحص النقدي. يمكن كذلك التشكيك في أطروحة أن الارتجال في أساسه المتلاشي ذلك نظرا للدور الذي يمكن أن تلعبه التسجيلات والتي تسمح للارتجال أن يعيش حياة ثانية بعد انقراضه الأصلي. إذا تمكنا من الاتفاق على حقيقة أن الارتجال يتميز بتلاشي معين، فمن المشروع أن نتساءل عما إذا كان هذا التلاشي ضروريًا أو مشروطًا فقط، أو مرتبطا بغياب تقنيات التسجيل. على الرغم من ذلك وإذا أردنا أن نحدد أنطولوجيا كاملة للارتجال، فمن الممكن أن نحدد التوصيف في أربعة عناصر مستقرة نسبيًا والتي يجب أن تلبييها الأنطولوجية الارتجالية: يجب أن يكون الارتجال مبدعا، وأن ما تم إبداعه يجب أداؤه في نفس الوقت، وأنه يمكن أن ينسخ عناصر الأعمال الموجودة مسبقا، أو أن الارتجال ليس موضوع نسخ متعددة.

تكمن الصعوبة في حقيقة أن هناك توترات بين بعض هذه المتطلبات. أولاً، هناك تضارب بين متطلبات الإبداع التي عبر عنها الشرطان الأولان ومتطلبات التلاشي التي عبر عنها العنصر الأخير. في الواقع، لمراعاة مفهوم الإبداع، يبدو من الضروري إدخال أنواع من التسلسلات الصوتية. من الواضح أن التسبب في حدوث تسلسل صوتي لنوع معين لا يعني إبداعه. لذا إذا أردنا أن تكون الارتجاليات إبداعات وليس عمليات تنفيذ بسيطة للأعمال الموسيقية التي تم إبداعها سابقًا، فعلينا أن نقول أن الارتجال أنواع، ولكن إذا كان أنواعًا، فهو قابل للتكاثر الفوري، ومع ذلك، إذا كانت عمليات الارتجال سريعة التلاشي بشكل أساسي، فلا يمكن مضاعفتها بشكل فوري، وبالتالي لا يمكن أن تكون أنواعًا[6].

وبالمثل يبدو أن هناك صراعا بين الشرطين الأول والثاني. كيف يمكن أن يكون الارتجال إبداعا لشيء وتنفيذا لعمل موسيقي موجود مسبقًا؟ بقدر ما كان الارتجال مبدعًا، فهو أكثر من مجرد تنفيذ لشيء موجود مسبقًا وبقدر ما هو تنفيذ عمل موجود مسبقًا، فإن الارتجال ليس مبدعًا. لذا فإن مهمتنا ستتكون أولاً في اقتراح الأنطولوجيا التي تجعل هذه الاتجاهات المتناقضة متوافقة مع بعضها بعضا ولكن قبل ذلك، من المستحسن تبديد بعض الغموض المتعلق باسم “الارتجال”.

يبدو أن الارتجال مصطلح غامض بشكل خاص، وهو ما أظهره فيليب ألبيرسون Philip Alperson  جيداً في إحدى المقالات الأولى المكرسة لمسألة الارتجال في التقليد الفلسفي التحليلي.[7] بشكل أكثر تحديدًا، فخلف مصطلح “الارتجال”، يختفي غموض يتعلق بالسيرورة/المنتوج، العمل/النتيجة. إن مصطلح الارتجال لا يعين نشاطًا فحسب، بل يعين أيضًا منتوجا ونشاطا أي “فعل الارتجال” و “ما هو مرتجل” وطريقة للعمل. ومع ذلك، فإنه ليس غموضا معجميا بسيطا. نتحدث عن الارتجال من ناحية كفعل، أو كسلسلة من الأفعال العفوية ومن ناحية أخرى كمجموعة من الأصوات، وتتابع صوتي، نتيجة سلسلة هذه الأعمال. إذا كان لدينا حدس أن هناك شيئًا ما ينتج عن الارتجال وهو منتوج يمكننا تكراره، إما من خلال التسجيل، أو من خلال وساطة البث، فلدينا أيضا في نفس الوقت فكرة تلاشي الارتجال أي أن هذا الشيء لا يدوم بمجرد الانتهاء من الأداء، وأن الارتجال مرتبط بشكل لا يمكن علاجه بحدث عابر، مفهرس في نقطة محددة في المكان والزمان[8].

لمراعاة هذا الموقف، فالحل المقترح لهذا الوضع هو استخدام الزوج الأنطولوجي النوع/المثال (couple ontologique type/token)    والذي يسمح لكليهما بحل مشكلة التعدد الفوري للأعمال الموسيقية والتمييز بوضوح بين العمل الموسيقي من ناحية كبنية صوتية مجردة، تلك البنية التي يمكن تحديدها بفئة أنطولوجية أي النوع، ومن ناحية أخرى المظهر الصوتي الملموس لهذه البنية من خلال إنجاز المؤدي، والذي يمكن تحديده بحدوث مثال من هذا النوع. لذلك يمكننا أن نتساءل ما إذا كان من الممكن إرجاع الزوجين الموضوع/الإنجاز أو السيرورة/المنتوج، إلى نموذج النوع/الحدوث-المثال، لذلك، سيكون من الضروري أن نكون قادرين على فهم العلاقة التي توحد النوع والحدوث في حالة الارتجال. يبدو أن هناك ثلاث طرق لفهم هذه العلاقة في هذه الحالة والتي تتوافق مع ثلاث استراتيجيات محتملة لحد الارتجال في نوع/مثال أي حدوث النموذج الأنطولوجي، ما يسميه ديفيد ديفيز “النموذج الكلاسيكي”[9].

تكمن الاستراتيجية الأولى في اعتبار الارتجال كحالة تنفيذ مثل أي حالة أخرى، أي أن فعل الارتجال هو مثال لنوع موجود مسبقًا. أما الاستراتيجية الثانية فتقوم على تصور الارتجال كتركيبة مثل أي تأليف آخر يتم إنتاجه ببساطة بطريقة خاصة إلى حد ما بشكل تلقائي لكنه يرتبط بشكل جيد بنوع التأليف، وعلى هذا النحو يجب التفكير فيه تحت فئة النوع أي أن الارتجال مثل التأليف، سيكون عندئذ إبداعا أو إشارة من نوع. تتمثل الاستراتيجية الثالثة في اعتبار أن تطور الإنجاز المرتجل ليس ضروريًا، ولكنه مشروط في الجوهر لا توجد فروق جمالية بين الإنجاز والتسجيل المثالي له. وبالتالي، فإنّ أيّ إنجاز هو مطابق لهذا الكائن القابل للتكاثر. لا توجد اختلافات ضرورية ميتافيزيقيًا بين الإنجاز وتسجيله، وهذا يعني أن أي إنجاز هو في الواقع نوع يمكن تحقيقه من خلال الإنجاز المباشر وبث تسجيله. فمن الضروري فحص هذه المواقف الثلاثة على التوالي من أجل إبراز الصعوبات التي تثيرها.

تعتبر الاستراتيجية الأولى أن الارتجال كمثال لنوع، وهذا محل خلاف قوي بالفعل عندما يتعلق الأمر بتوصيف عمل موسيقي تم ارتجاله جزئيًا فقط، مثل موسيقى الجاز. هل يجب أن نفكر في ارتجال موسيقى الجاز، استنادًا إلى معيار المثال كحدوث من نوع، وبالتالي لا يمكن اختزاله في حركة الاستنساخ. إن الإنجاز ليس سوى عنصر واحد من الأداء المرتجل، والذي يتبع بالفعل أهدافًا أخرى غير الإنجاز الحقيقي للنوع، ولا تعزى معظم خصائصه الجمالية إلى النوع. بالفعل في حالة موسيقى الجاز، ليس من السهل التفكير في الارتجال على أساس مثال أو حدوث بسيط للنوع.

إذا نظرنا الآن إلى حالة الارتجال الخالص وهو ما يُسمى عادةً بالارتجال الحر، فإن هذه الاستراتيجية تبدو محكوما عليها بالفشل لعدم قدرتها على تحديد نوع الارتجال ليكون واضحًا كمثال، ومن هنا ليس كل الارتجال يعتمد بالضرورة على نوع. كل إنجاز يتم توظيفه هو حدوث النوع l’occurrence d’un type. ولكن عندما نقول عن ارتجال أنه يمثل نوعًا ما، فإننا لا نعني فقط أننا يمكن رؤيته على أنه سلسلة من الأحداث وأن كل حدث يشير إلى نوع صوت معين؛ على العكس من ذلك، إنه يجسد نوعًا بنيويا، يوضح ما يسميها جيرولد ليفينسون بالبنية الصوتية أي نوع بنيوي تكون أجزائه من أنواع صوتية[10]. ومع ذلك إذا كان الارتجال قائمًا بالفعل على عناصر أساسية معينة، فإنه لا يعتمد على ترتيب تجريدي سابق على هذه العناصر نفسها، بل هو سمة من سماته، يجعل هذا الترتيب مع مرور الوقت جزءا من الأداء أي من الإنجاز.

هناك احتمال آخر يتمثل في تبني توصيف براغماتي للنوع، وهو ما اقترحه ريتشارد كوشران Richard Cochrane على سبيل المثال.[11] على أن النوع في النهاية ليس سوى مجموعة من القواعد تنص على أشياء معينة وتحظر أخرى وتترك عددًا معينًا من المعلمات حرة، ومع ذلك، فإن الارتجال دائمًا ما يكون جزءًا من سياق موسيقي واجتماعي تاريخي معين. في هذا الصدد، حتى إذا لم تكن هناك شروط على وجه التحديد، يمكن أن يكون هناك عدد كبير من المحظورات تعتمد على المواضعات الأسلوبية أو المنطق المؤسسي. لذلك يمكن أن يكون هناك العديد من الثوابت بين الأداءات المختلفة للارتجال نفسه. ومن هنا الاستنتاج الذي توصل إليه كوشران، “إن مجموعة من الموسيقيين في الارتجال الحر الذين يؤدون ثلاث قطع مختلفة، طالما لم يكن هناك شيء موصوف أو محظور للتفريق بينهما، فهم يحققون ثلاث إنجازات مختلفة من نفس النوع”[12].

ومع ذلك، فإن هذه الرؤية المبنية على مجموعة من القواعد كشيء ثابت والتي يتم تقديمها ككل قبل الأداء لا يمكنها أن تفسر الظاهرة الديناميكية للارتجال، ذلك أنه لا يمكن التمييز بين ما هو مصرح به وما هو محظور، وهكذا يتم إعادة تعريفه بدقة مع تقدم الأداء اعتمادًا على ما تم أداءه بالفعل أو ما يتم إنجازه حاليًا. إذا نظرنا إلى الارتجال على أنه مثال لنوع موجود مسبقًا يتميز بكونه مجموعة من القواعد، فإن المجموعة التي يمكن بالتالي استنساخها في الأداء المرتجل تعتبر عبثية، لأنه إذا كانت هناك بالطبع قواعد في الأداء والمتمثلة بالتحديد في حرية المرتجل، فيجب إعادة تعريفها وفقًا للسياق الدقيق للأداء، والطريقة التي تطورت بها.

إذا كان الارتجال لا يمكن اعتباره حدثًا، فمن المحتمل أن يكون نوعا أي شكلاً من أشكال أخرى للتأليف، على سبيل المثال: “إبداع عمل موسيقي أثناء أدائه”[13] وفقًا لهذا التعريف، يجب أن يرتبط الارتجال في نهاية المطاف وبمعنى قوي بنوع التأليف. ليس المعنى الضعيف للتأليف هو الهدف أي ترتيب زمني أو تنظيم الأصوات، والذي ربما يكون سمة مميزة لجميع أشكال الإبداع الموسيقي، ولكن المعنى القوي للمصطلح: الارتجال هو إبداع عمل موسيقي أي إبداع نوع، أي اختراع بنية صوتية مجردة يمكن أن تتضاعف على الفور من خلال المظاهر الملموسة التي هي أداء هذا التأليف، أو إلى حد ما تسجيل البث لهذه العروض نفسها. يمكننا أن نرى بوضوح الحدس الكامن وراء هذه الفكرة، هناك شيء متبقٍ من الأداء الموسيقي المرتجل أي بنية صوتية يمكننا الرجوع إليها والتي يمكننا تحليلها وتعيين عدد من خصائصها الجمالية، هنا يمكن أن نطرح ثلاثة أسئلة جوهرية: أولاً، إذا كان النوع موجودًا، فهل هو من نفس طبيعة أنواع الأعمال الموسيقية؟ ثم ما هي العلاقة بين الإبداع والتعبير عن النوع في حالة الارتجال؟ وأخيرًا، هل يمكن إعادة بناء هذه البنية الصوتية للارتجال أي النسخ الفوري المتعدد الذي هو الخاصية الأساسية للأنواع مع الاحتفاظ بطبيعة الارتجال؟

إن تأليف نوع العمل الموسيقي يعني وصف مجموعة من الخصائص التي يجب أن تكون حاضرة في الأداء الصحيح للعمل الموسيقي أو في نسخه المصاغة. من هذا المنظور، لا يوجد شيء يسمح لنا بالانتقال من الأداء المرتجل إلى التأليف الفوري للعمل الموسيقي، طالما أن المرتجل لا يحدد خصائص الأداء التي تشكل العمل الموسيقي. التأليف يعني اختيار أي مجال معين لبعض الخصائص المحتملة التي تصبح معيارية. عندما يختار الملحن ما هو ضروري، يجب كذلك على المرتجل أن يحدد باختياره ما يجب عليه أن يختاره. في سيرورة الارتجال لا تحمل الإيماءات الموسيقية بعدا معياريا إلزاميا، مما يجعله محور اهتمام بالنسبة للموسيقيين أنفسهم.

فيما يتعلق بالسؤال الثاني، يبدو أنه من الواضح تمامًا أن تكون هناك صلة معينة في الارتجال بين نشاط الإبداع ونشاط التنفيذ، بين البنية الصوتية والمظهر الأولي لهذا البنية. لذا يقترح بيير سان جيرميي Pierre Saint-Germier أن يوصف الارتجال بأنه “اختراع نوع من خلال التجسيد الأولي لهذا النوع[14] أو حتى “بدء أو مبادرة نوع من خلال استنساخه”[15]. من هذا المنظور، هناك بالفعل إجراء رئيسي: اختراع/مبادرة نوع؛ وعمل ثانوي يتم من خلاله تنفيذ الإجراء الرئيسي لتمثيل هذا النوع. يستخدم سان جيرميي Saint-Germier هنا مفهوم ليفينسوني levinsonien “النوع المبادر”،  Type initié أي النوع الذي تم إنشاؤه. في الواقع، هناك صعوبة معروفة في التوفيق بين أنطولوجيا الموسيقى من النوع الأفلاطوني، حيث تكون الأعمال الموسيقية كائنات مجردة موجودة أبديا في فضاء الممكنات والاحتمالات مثل الكائنات الرياضية، فهي من حدس الإبداع الذي يتم إبداعه بالفعل من طرف الملحنين، وبالتالي فهي غير موجودة مسبقًا. بالنسبة لليفينسون، فإن الأعمال الموسيقية ليست مجرد بنيات صوتية مجردة، أي أنواع صافية فحسب، بل هي أيضًا تراكيب صوتية غير خالصة، فهي النوع الذي تم مبادرته. لذا، فإن فكرة ليفينسون هي أن نقول أن ما يبدعه المؤلف ليس بنية صوتية مجردة، وإنما نوع مشتق من هذه البنية، وهي بنية صوتية محددة، كما هي موضحة من قبل الملحن في السياق الموسيقي التاريخي، هذه هي فكرة الإشارة l’indication   التي تجعل من الممكن التعرف على مبادرة نوع ما. كيف التفكير في مفهوم الإشارة التي دافع عنها ليفينسون في حالة الارتجال؟

وفقًا لليفينسون Levinson، فإن الإشارة إلى بنية صوتية هو خلق تفاعل بين بنية صوتية مجردة من ناحية، وبين شخص موسيقي من ناحية أخرى[16]، لذلك يبدو أن حركة الإشارة l’indication تفترض فعلًا انعكاسيًا بالعودة إلى إنتاجها، مما يجعل من الممكن الدخول في علاقة مع البنية الصوتية الشاملة والكامل، في لحظة معينة، وليس فقط مع التجاور الخطي لأجزائها. ومع ذلك، فهذا هو بالضبط ما لا يمكن أن يصل إليه المرتجل، فهو محكوم عليه بعدم الوصول مطلقًا إلى النظرة الكلية، إذا انتهى الارتجال بشكل جيد في الوقت المناسب فإنه على الرغم من ذلك لم يكتمل بعد، فهو ليس هدف لفتة معينة والتي من خلالها يعانق الموسيقي وبشكل قاطع بنية صوتية للسماح بها إلى حد ما[17].

وينطبق هذا بشكل أكبر في حالة الارتجال الجماعي حيث تكون البنية الصوتية العامة نتيجة للتفاعلات بين القرارات المختلفة الفردية وبالتالي لا يمكن ربطه بأي حركة إشارة، لا يوجد تفاعل بين شخص وبنية صوتية معينة، ولكن هناك عديد من التفاعلات بين عدة أشخاص وأجزاء من هذه البنية الصوتية، دون أن تكون هناك بالضرورة حركة تكامل بين مختلف الإرادات المستقلة. يجب التفكير في عملية التنظيم الشكلي في شكل علاقة طارئة فيما يتعلق بالقرارات الفردية، على عكس التأليف التقليدي حيث يمكن الإخبار بعملية التنظيم الشكلي هذه مباشرةً لصنع القرار.

أخيرًا، ما يحدث في لفتة الإشارة هذه هو بطريقة خارجية عن طريق تدوين كائن قصدي: لتوضيح الأمر بطريقة أخرى، الملحن الذي يشير إلى بنية صوتية يقرن جسمًا مقصودًا معينًا لهذا البنية الصوتية، وبالتالي هي مبادرة بدء نوع جديد. ومع ذلك، لا توجد شفافية في النية والقصد في حالة الارتجال، من الممكن دائمًا تمييز القصد عند الإدراك لأن التمثيل لا يستنفد القصد. المرتجلون ليسوا خارقين: وفقًا لقيود اللارجعة والاختراع في الوقت الفعلي، يمكنهم فقط تحقيق الهدف المقصود الذي يهدفون إليه. لذلك يمكننا أن نشك بجدية في أننا يجب أن نعتبر التمثيل الصوتي الذي يحدث أثناء الارتجال بمثابة فعل إشارة على عكس ما يحدث في عملية التسجيل، والذي يسمح بدقة لمطابقة الكائن المقصود أي أن الملحن يهدف إلى بنية صوتية معينة.

الحل الذي يجعل الارتجال شكلاً من المبادرة بنوع يشير إلى بنية معينة، ربما لا يكون مناسبًا جدًا، لأن بدء نوع يفترض أكثر من مجرد تمثيل بسيط، فالأداء وحده ليس كافيا ليكون إشارة إلى بنية صوتية. أما بالنسبة للسؤال الثالث المتعلق بإعادة بناء البنية الصوتية للارتجال، فيبدو أنه يتعارض مع طبيعة الظاهرة الارتجالية، إذا كان الارتجال نوعًا، فهو نوع خاص جدًا، إنه نوع يمكن استنساخه مرة واحدة فقط، ولديه نوع واحد فقط هو الحدوث المقابل لأول نسخه وهذا يتعارض مع فكرة النوع [18].

3- سيرورة الارتجال:

عندما نتحدث عن الارتجال الموسيقي، يمكننا التحدث عنه إما كسيرورة أو كمنتوج يتشكل في كيان موسيقي. هنا يجب أن نتساءل أين يقع العمل الموسيقي؟ هل هو السيرورة الإبداعية أم المنتوج؟ يمكن تصور العمل الفني من جهة كتعيين منتوج لسيرورة إبداعية ومن جهة أخرى كموضوع للتقييم والتقدير الجمالي. إذا اتبعنا هذا التصور، فعندئذ يبدو أن القول بأن الأنطولوجيا التي نحاول القيام بها هي أنطولوجيا المنتوج أي العمل الفني المعني، وهو كيان موسيقي معين ينتج عن سيرورة الارتجال. لذلك يجب ألا نجعل سيرورة الإنتاج تختفي وراء التسلسل الصوتي الواضح، بل على العكس يجب وضعها في مركز النظرة التحليلية أي تقدير سيرورة الارتجال بدلاً من المنتوج. عندما نركز كل جهودنا على المنتوج الناتج عن الإنجاز المرتجل، فإننا لا نهتم حقًا بما هو في حد ذاته الارتجال، ولكن فقط في أحد مكوناته، في مركز تقديره. يضاف إلى ذلك خطر النظر في البنية الصوتية الناتجة عن الارتجال بالأدوات التقليدية للتحليل الموسيقي، أدوات تصلح لتحليل البنيات وليس السيرورات les processus، على العكس، إنها مسألة فهم الارتجال كنشاط وسيرورة تؤدي إلى إنتاج تسلسل صوتي معين مستنفدا في سيرورة الإنتاج نفسها.

من الواضح أننا نفهم المحاولات التي يمكن أن تساهم في تحديد الارتجال بالنسبة لفئة العمل الموسيقي، إذ غالبًا ما يكون هناك رابط ضمنيّ بين الأنطولوجيا والإبستمولوجبا ، ويشترط أن تكون هذه هي الأولى أحيانًا. إن وجود أساليب معينة للتحليل هو ما يؤدي إلى التفكير في الارتجال تحت فئة الأنطولوجيا حول نمط وجود العمل الموسيقي. في هذا المنظور، نسعى إلى مطابقة موضوعنا التحليلي مع الأشياء الموسيقية كما نلتقي بها عادةً في الإبداعات، أي الأنواع المجردة الخاضعة لمعايير التكرار و/أو إعادة التحديد، والتي من أجلها تم تطوير الأدوات التحليلية لعلم الموسيقى بدقة. وبالطبع فإن التسجيل هو الذي يجعل من الممكن الوصول إلى فكرة العمل المرتجل، كتثبيت شفاف لسيرورة إنجازية. إذا كان التحليل يعني بالضرورة تحليل المنتجات، فلا بد من اعتبار الارتجال، حتى يخضع للتحليل، كمنتوج وليس كسيرورة.

اعتبر فيليب ألبرسون Philip Alperson في مقاله “حول الارتجال الموسيقي” (1984) أنه من الخطإ اعتبار الارتجال كمنتوج، كان الغرض هو الدفاع عن الارتجال ضد النقد المتكرر، لاسيما من طرف الشكلانية الهانسليكية Formalisme hanslickien. تألفت هذه الانتقادات بسبب القصور الشكلاني للارتجال والمكانة المفرطة التي تشغلها العاطفة. كان رد ألبرسون Alperson على هذه الانتقادات هو أننا نخطئ في العمل الفني عندما نعتبر الارتجال كمنتوج نهائي، يجب أن يكون هدف تقديره عند الاستماع إليه من منظور أنه سيرورة وليس منتوجا. لا يتعلق التقدير الجمالي بمنتوج النشاط الإنساني للمبدع، ولكن بسيرورة الإبداع نفسها[19].ومع ذلك يمكن حل التوتر الناتج عن هذا الانفصال من خلال استدعاء فكرة الفئة الأنطولوجية المشتركة في جميع الأعمال الفنية التي هي فئة الفعل أو أنواع الأفعال والإجراءات، هي الأنطولوجية الموحدة للفنون التي دافع عنها على وجه الخصوص غريغوري كوري Gregory Currie (1989) ثم ديفيد ديفيز في كتابه “الفن كإنجاز”Art as Performance” (2004)[20].

هذه طريقة ممكنة للنظر في أنطولوجيا الارتجال، من إحدى نتائجها هي أنه لا يوجد فرق أنطولوجي بين الارتجال وعمل من التقليد الكلاسيكي، كلاهما في الأساس أنواع من الأفعال والإجراءات. سيكون من الخطإ أن تنسب المحمولات الفنية والجمالية للعملية الإبداعية بدلاً من المنتوج، ومع ذلك، فمراعاة ملاحظات ألبرسون Alperson، الذي أدرك أن هناك طريقتين لتقدير هذا الكيان الموسيقي من خلال النظر إليه ككيان مستقل أو كمنتوج لعملية معينة وهذا ما تقترحه ملاحظات ألبرسون Alperson.

إن المنتوج يمكن أن يكون إما نوعًا أو مثالا من هذا النوع وأنه نتيجة سيرورة ارتجال معينة. هذه الاعتبارات تجلبنا إلى عالم الأنطولوجيا السببية بدلاً من الأنطولوجية البنيوية. يجب أن يكون للارتجال سبب أي أنه يحدث بطريقة معينة ويعبر عن حالات مقصودة، الارتجال الموسيقي يجب أن يكون له سبب انطولوجي وليس بنيوي. هذا هو المنطق الذي يؤدي إلى استنتاج أن الارتجال لا يرجع إلى خصائصه الجوهرية وبالتالي خصائصه البنيوية، ولكن إلى الخاصية السببية، أي حقيقة سببها عملية معينة، وهي سيرورة الارتجال. يمكن للمرء أن يتصوره بالفعل عملًا موسيقيًا بحيث لا يمكن تمييز الأداء غير المرتجل لهذا العمل عن الارتجال.

تنظر الانطولوجيا إلى العمل الفني على أنه ليس كيانًا بسيطًا يوجد بشكل مستقل عن السيرورة التي أنتجته، بل هو كيان موسيقي نتاج عملية ارتجالية، ويترتب على ذلك أن التقدير الكافي للارتجال يجب أن يأخذ في الاعتبار حقيقة أن الكيان الموسيقي المعني تم تأليفه من خلال هذه العملية. وبالتالي، فإن الإشارة إلى سيرورة الارتجال هي التي تشكل الجزء المهم من العمل الأنطولوجي. لهذا السبب، نحتاج إلى تحليل سيرورة الارتجال بشكل أكثر عمقًا، فخلال هذه السيرورة الإبداعية تحدث عدة أشياء، هناك من جهة تأليف لكيان موسيقي، ومن جهة أخرى الأداء المتزامن له، وهنا يطرح السؤال حول الصلة بين هذين الأمرين.

يعتبر التأليف الموسيقي نشاطا إنسانيا حدث ضمن نوع معين، لذا فالسيرورة الإبداعية في العمل الارتجالي هي التسبب في ظهور نوع، لكن هذه الفكرة تثير صعوبات كثيرة. أولاً، إذا كان النوع كيانًا مجردًا، فلا يمكن أن يحدث بشكل صحيح، الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحدث هو مثال النوع. ثم إذا كانت الأنواع المعنية هي تراكيب صوتية خالصة، فإنها موجودة بشكل أبدي. لذلك من المستحيل الإصرار على أنه يمكن تأليفها. الحل الذي اقترحه جيرولد ليفنسون، هو أن نهاية السيرورة الإبداعية ليست بنية صوتية خالصة، ولكن بنية صوتية أنتجها شخص معين في وقت معين. من الناحية الأنطولوجية، فإن التركيبات الصوتية المشار إليها هي أنواع تبدأ على عكس الأنواع الخالصة الموجودة. تنتج مبادرة النوع عن فعل بشري مقصود من فعل إشارة، مرتبطة بنوع خالص. لذا، من خلال الإشارة إلى بنية صوتية موجودة بشكلي أبدي، يقوم الملحن بتأليف قطعة موسيقية [21].

هناك عدة طرق للإشارة إلى بنية صوتية خالصة، واحدة من أكثر الوسائل المستخدمة هي كتابة المدونة الموسيقية، لكن هذه ليست الطريقة الوحيدة. تقدم حالة الارتجال على وجه التحديد مثالًا لنوع لا يعتمد على الكتابة، تتم السيرورة الإبداعية مباشرة بواسطة مثيل النوع، لذلك، فعملية الارتجال هي “مبادرة نوع” من خلال انطلاقه. إن المرتجل يبدع الموسيقى تمامًا مثل الملحن، ولكن مع قيود القدرة على الإشارة إلى نوع فقط من خلال التعبير عنه. وهكذا تم توضيح العلاقة بين الإبداع والتنفيذ. إنها صلة يسميها ألفين غولدمان Alvin Goldman بعلاقة توليد المستوى أو ببساطة أكثر بالتوليد. في نظرية غولدمان، هذه الإجراءات ليست هي نفسها لأن الإجراءات يتم تخصيصها من خلال الخصائص التي تستنسخها. لذا يمكننا توضيح العلاقة بين بدء النوع والاستنساخ من ذلك النوع في الارتجال بالقول أن الاستنساخ يولد مبادرة نوع. إن اقتراح الارتجال كاستنساخ نوع من خلال التعبير عنه، أمر يثير صعوبة. إذا اعترفنا بأنه يمكننا “مبادرة نوع” من خلال تأليف بنية صوتية خالصة، فإننا نتساءل عما إذا كان أي نسخ من نوع لا يمكن أن يلعب دور انطلاقة هذا النوع. في هذه الحالة، سيكون هناك العديد من الأنواع التي تم المبادرة بها وجميع عمليات تأليف الأنواع كتتابعات وبنيات صوتية ستكون ارتجالات.

لمنع هذه النتيجة غير المرغوب فيها، من الضروري استدعاء عنصر سببي قصدي. لمبادرة نوع ما، يجب أن تشير هذه المبادرة إلى بنية صوتية دون اتباع عن قصد إشارة مسبقة. إذا قام شخص ما عن قصد بنسخ علامة موسيقية بعد علامة موسيقية لمدونة من عمل موسيقي موجود مسبقًا، فإنه لا يبدأ نوعًا جديدًا. و لنفس السبب، لا يبدأ المؤدي الذي يمثل نوعًا من التسلسل الصوتي عن طريق اتّباع المدونة عن قصد نوعًا جديدًا لأنه يتبع قصديا إشارة مسبقة فقط. من خلال تطبيق هذا المعيار السببي القصدي، طالما أن المرتجل لا يتبع قصديا إشارة أولية، فيمكن اعتباره أنه يبادر نوعًا، فليس من الضروري ألا يتم ذكر بنية صوتية المشار إليها في الماضي. إذا اتبع موسيقي أثناء عرض قصدي بنية صوتية تم الإشارة إليها سابقًا، على سبيل المثال إذا كان يكرر ارتجالًا من الذاكرة، فإنه لا يبدأ نوعًا جديدًا، وبالتالي لا يمكن اعتباره مرتجلًا. لذلك نصل إلى النتيجة التالية هي أن سيرورة الارتجال هي مبادرة نوع من خلال تمثيله، مع دقة سببية مقصودة حيث أن الإشارة التي تبدأ النوع لا تتبع قصديا إشارة مسبقة. لقد طورنا حتى الآن تحليلاً لسيرورة الارتجال، ويمكننا بسهولة استخلاصها من الأنطولوجية السببية للارتجال أو بعبارات أكثر إيجازًا، أن الارتجال هو المبادرة في نوع[22].

لقد طورنا الخطوط الرئيسية للأنطولوجية السببية للارتجال، يبدو أن الارتجال يجب أن يكون أنواعًا قادرة على إبداعها، ولكن لا يمكن أن تكون أنواعًا لفقدان مبدأ التلاشي. ومع ذلك، يتم حل هذه المشكلة عن طريق الأنطولوجيا السببية. ماذا عن التلاشي؟ يتم ضمان التلاشي بقدر ما يكون بدء نوع ما حدثًا فريدًا سيتكرر أكثر. يختلف المثال الذي يبادر بالنوع عن جميع الأمثلة المحتملة الأخرى. إن حقيقة أن النوع قابل للتكاثر بشكل أساسي لا يعرض للخطر تلاشي الارتجال، لأن الارتجال لا يتألف إلا من المثال الافتتاحي للنوع الذي تمت مبادرته. لذا فإن الأنطولوجيا قادرة على التوفيق بين المتطلبات.

في الواقع، لقد ركزنا حتى الآن على الجانب الإبداعي للارتجال دون الإشارة إلى إمكانية أن الارتجال يتكون أيضًا من تأليف عمل أو عناصر من عمل موجود مسبقًا، يمكننا أن نقدر أن ما قلناه حتى الآن ينطبق فقط على جزء هامشي إلى حد ما من الارتجال، أي ذلك الذي يبدأ من لا شيء موجود مسبقًا، هذا يتوافق مع ممارسة الحفلات الفردية وبشكل عام مع تيار الارتجال الحر. ولكن سيكون من التعسفي اختزال الارتجال الموسيقي في الحالة الوحيدة للارتجال الحر. هناك ممارسات أخرى، والتي تبدأ من شيء موجود مسبقًا، على سبيل المثال، يعزف موسيقي الجاز الذي يرتجل بناء على نموذج، فهو يستنسخ على الأقل التقدم الهارموني لهذا النموذج، فمن الضروري مراعاة هذا النوع من الحالات. لتوضيح حقيقة أن الارتجال يمكن أن يتألف في نفس الوقت من شيء جديد مع استنساخ القديم، فمن الضروري التركيز على أنطولوجية الأعمال الموسيقية التي تتضاعف بشكل فوري. يجب أن يتم تقديم فكرة السماكة الأنطولوجية كما حددها ستيفن ديفيز:

يمكن أن تكون عروض الإنجاز في خصائصها المكونة مضبوطة “سميكة” أو أقل دقة “نحيفة”. إذا كانت أقل دقة، فإن الخصائص المحددة للعمل قليلة نسبيًا، ومعظم صفات التمثيل هي جوانب تعود إلى أداء الفنان، وليست من العمل الموسيقي كما هو. كلما كان العمل نحيفا، كلما كان المؤدي أكثر حرية في التحكم في جوانب الإنجاز. المقطوعات المحددة كلحن وتسلسل توافقي هي أكثر دقة […] وكلما كان العمل أكثر سمكًا، كلما كان الملحن يتحكم في التفاصيل الصوتية لحالاته الدقيقة. […] الأداء غني جدًا بالمعلومات الصوتية (كما يتضح من حجم الملفات الصوتية المخزنة رقميًا على أجهزة الكمبيوتر). العمل الموسيقي من حيث إنجازه، مهما كان سميكًا، فهو دائمًا ما يكون أدق في الخصائص حيث أن أي أداء يكون مضبوطا.

يتوافق معيار الجاز مع العمل الأقل دقة، يتم تحديد فقط الخط اللحني والتسلسل التوافقي. هذا يترك موقفا معينا للفنان الذي يجب أن يضيف أشياء إلى المعطيات الواردة في العمل الموسيقي. العمل الفني في الجاز هو كيان موسيقي فائق النحافة ultramince وهو عنصر من معايير موسيقى الجاز الذي يقوم على التدرج التوافقي، أي تسلسل لحني يعد بمثابة نسخ فوري لهذا التدرج. أي أن الارتجال يمكن أن يشير إلى نوع من التسلسلات الصوتية التي تحفز التدرج التوافقي، دون اتباع عن قصد إشارة مسبقة لهذا التسلسل الصوتي. في هذه الحالة، يكون النوع الذي يبادر به الارتجال نوعًا سميكا يعمل مثاله أيضًا على استنساخ نوع نحيف أو أقل دقة ويمكن أن يوجد مسبقًا. لكن حقيقة أن النوع النحيف موجود مسبقًا لا يتعارض مع حقيقة أن الموسيقي يرتجل النوع الأكثر سمكًا. في الواقع، على الرغم من أنه يتبع، ربما عن قصد، إشارة أولية للنوع النحيف، فإنه يبدأ حقًا بالنوع السميك. وهذا كل ما نحتاجه للحصول على ارتجال[23].

حقيقة أن العمل الموسيقي الأقل دقة من أدائه يضمن بالضرورة نظريًا إمكانية تأليف أي عمل موسيقي عن طريق الارتجال. لكن هل الأعمال الارتجالية أعمال موسيقية كالأعمال الأخرى التي تنتمي للتقاليد الكلاسيكية؟ يتعلق الأمر هنا بتحديد الارتجال في الأعمال الموسيقية. من الضروري التمييز بين الجوانب الاصطلاحية لهذه المسألة والجوانب الجوهرية، يمكننا، إذا أردنا، أن نسمي “العمل الموسيقي” كل كيان موسيقي ناتج عن سيرورة الإبداع الموسيقي، فبهذا المعنى، يمكننا القول أن الارتجالات أعمال موسيقيةـ لكن هذا شأنه أن يحجب اختلافًا مهمًا بين الارتجال والأعمال من التقاليد الكلاسيكية. الفرق الكبير بينهما هو أن عناصر الفئة الثانية يمكن مضاعفتها في حين أن أعضاء الفئة الأولى ليسوا كذلك. يحتفظ ستيفن ديفيز بمصطلح العمل الموسيقي فقط للكيانات القابلة للتكاثر الفوري، لأسباب مصطلحية وجوهرية. لكن ألا يحمل أي أداء موسيقي عناصر الارتجال؟

يتعلق السؤال هنا بتوسيع مفهوم الارتجال. هل ينطبق على أي عرض موسيقي؟ لقد رأينا أن المعيار السببي المتعمد الذي قدمناه لتوضيح فكرة بدء الاستنساخ لنوع ما يسمح لنا بالإجابة على هذا السؤال بالنفي. إذا كان المؤدي يتبع قصديا توجيها قبليّا صارما فلا يمكن القول أنه يرتجل. المؤدي الذي يثبت في تعلمه أداء معينًا للعمل الموسيقي ويسعى إلى إعادة إنتاجه من حفلة موسيقية إلى أخرى فهو لا يرتجل، شريطة أن يتبع قصديا توجيه نوع صارم مع قراءته الخاصة للعمل، التي ربما حدثت عندما كان يشتغل على العمل المعني.

هل الارتجال يتلاشى بشكل أساسيّ، أو يتلاشى فقط بشكل طارئ؟ يتعلق الأمر هنا بعلاقة التسجيل بتلاشي الارتجال évanescences، يبدو أنه إذا قمنا بتسجيل ارتجال على قرص وقمنا بإعادة تشغيله، فإن الارتجال يعرف حياة جديدة، بنفس الطريقة التي يعرف بها العمل الموسيقي حياة متجددة بلا توقف من تنفيذ لآخر. إذا قبلنا أن التسجيلات تعطي حياة جديدة للارتجال، ألا يجب أن نعيد النظر في شرط التلاشي؟ أو بالأحرى ألا نأخذ في الاعتبار أن تطور الارتجال ليس ضروريًا، ولكنه مشروط فقط بسبب غياب تقنيات التسجيل. في الواقع، كما يشير[24] لي براون Lee B. Brown، فإن الارتجال مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالظروف المحددة لإنتاجه، هذا ما يسميه حضور الارتجال. إن امتلاك الخبرة الكافية في الارتجال وكما يجري تحقيقه، فهو تجربة توليد العمل الموسيقي في الوقت المناسب لأدائه.

أما التسجيل كالتقاط للارتجال لا يضعنا في علاقة تجريبية صحيحة معه، أي فهمه بالضبط كما تم إبداعه في الوقت المناسب لأدائه. من خلال السماح بفصل وقت التلقي عن وقت الإنتاج، فإنه في الواقع يغير بشكل كبير طبيعة الكائن الذي من المفترض أن يحفظه. يمنحنا التسجيل وهم الاكتمال والعكس والتكرار – كل الأشياء غائبة بشكل واضح عن الارتجال – ويمنح المستمع القدرة على توقع إمكانية الوصول إلى رؤية شاملة. إن الاستماع إلى الارتجال هو، على العكس من ذلك، فهم عفويته وعدم رجوعه وعدم تحديده. من هذا المنطلق، دعا عازف الجيتار ديريك بيلي Derek Bailey إلى تسجيل يختفي أثناء الاستماع إليه، لتجنب إعادة الارتجال إلى منتوج موضوعي. لذلك يبدو أنه في حالة الارتجال، هناك اختلاف في الطبيعة بين الأداء المرتجل وتسجيل هذا الأداء: “بمجرد تسجيلها، قد تكون للموسيقى المرتجلة ظواهر مختلفة تمامًا عن الارتجال الحي؛ ويختتم [25] Lee B. Brown أنه، بل وأكثر من ذلك، قد تكتسب أنطولوجيا جديدة. فإن حقيقة أن التسجيلات قادرة على إعطاء حياة ارتجالية ثانية لا تتعارض مع التلاشي الأساسي للارتجال، بل تجعل الارتجال بنية صوتية قابلة للتكاثر.

ما توضحه مشكلة تسجيل الارتجال بوضوح هو أن هناك شيئين يختبئان خلف الارتجال، فهو إنجاز ونوع قابل للتكرار وإعادة الاستنساخ، والذي يتم التقاطه عادةً بواسطة تسجيل الأداء، مما يؤدي إلى معضلة كبير، إما نعتبر أن الارتجال هو في الواقع حدوث ارتجال من نوع، ولكن في هذه الحالة يجب أن يكون الهدف الأساسي من انتباهنا الجمالي هو نوع الارتجال، وليس الإنجاز المرتجل نفسه، والذي يبدو بناءً، أو نعتبر أن الارتجال في حد ذاته هو نوع يضع الإنجاز في صميم التقدير الجمالي، وهو حدث فريد من نوعه وغير قابل للتكرار. إذا أردنا أن نكون قادرين على التعرف على نوع الحدس المذكور أعلاه، يجب علينا على العكس من ذلك، الاستمرار في الحفاظ على التمييز بين هذين الشيئين: هناك بالفعل شيئان مرشحان شرعيًا للتقدير الجمالي في حالة الارتجال: الإنجاز، ونوع الصوت الذي يتجلى في الأداء، ولكن والذي يمكن أن يتم أيضًا من خلال توزيع التسجيل الذي يوثق هذا الإنجاز. السؤال هو إلى أي مدى يشير مصطلح “الارتجال” إلى هذين الكيانين، وإلى أنماط التمايز الشديد؟

سنحاول إثبات، قبل كل شيء، أن أبعاد الإنجاز أو الأداء هي المستهدفة، ونوع الصوت الذي يسمى “الارتجال” لا يتم الحديث عنه إلا بمعنى الثانوي، مشتق، لأنه لا يشكل في الواقع أحد مكونات الارتجال. لذلك يجب أن نقلب التسلسل الهرمي ونقول أن الارتجال هو أولاً عمل إنجازي يحدث لإظهار نوع ويجب أن نتحدث عن النوع حيث أن هناك بنية صوتية قابلة لإعادة الاستنساخ خاصة عن طريق التسجيل.

4- خصوبة الارتجال الجماعي الحر:

ولكن عن أي ارتجال نتحدّث؟ إنه بالفعل العديد من الظواهر الموسيقية، لذلك سيكون من العبث اعتماد نهج كوني للاستسلام لوهم الثبات أو العالمية، حيث أن الافتراضات المسبقة وطرق الارتجال تختلف من سياق ثقافي إلى آخر. إذا كانت فئة “الارتجال” مثل فئة “التأليف” تلعب بالتأكيد دورًا تنظيميًا في تشكيل ممارساتنا الموسيقية، تبقى الحقيقة أنها لا توجد في أصفى حالاتها، فالكثير من الأعمال التي تملأ بيئتنا الموسيقية غالبًا ما تكون نتيجة سيرورات إنتاج مختلطة تستعير بدرجات متفاوتة مختلف الفئات. على وجه الخصوص، يدور الارتجال في الغالب حول مجموعة من المعطيات الموسيقية المحددة مسبقًا في بعض الأحيان كحد أدنى كالأنماط، والخطاطة الشاملة، والشبكة التوافقية كموضوع معيار نموذج الجاز مثلا، وهكذا لا يثبت الارتجال هويته مما يمنحه معايير لإعادة تحديده[26].

إذا أردنا الاعتماد على الارتجال لإذكاء تفكيرنا حول مسألة سيرورات الإبداع الموسيقي، فيجب إذن أن ننظر إلى الأشكال الأكثر تطرفًا للارتجال، تلك التي تراهن على وجه التحديد التخلص من أي نص مسبق، بشكل أكثر شيوعًا ما يسمى بالارتجال الحر، تجعلنا ممارسات الارتجال هذه أقرب ما يمكن إلى فئة الارتجال في أصفى صورها، وبالتالي أقرب ما يمكن إلى فهم الارتجال كسيرورة. من المسلم به أن هناك العديد من تسجيلات الارتجال الحر، لذلك يمكن أن يلعب دور المختبر للدراسة، مرآة مكبرة حقيقية تسمح لنا بإدراك جوانب معينة من العمليات التأليفية. إذا كان من الممكن اعتبار الارتجال الحر سيرورة إبداعية، غالبًا ما يسعى المرتجلون عن عمد إلى اتخاذ عدد معين من المخاطر (الإيقاع السريع، وتعقيد الأشكال، وهشاشة الإيماءات الآلية، وما إلى ذلك). وبالتحديد في هذا الصدد، يمكن لحالة الارتجال الجماعي أن تفرض نفسها على التفكير، لأن الموسيقى التي يتم إنتاجها بعد ذلك هي نتيجة تفاعل بين عدة مصادر ومواقف موسيقية مستقلة. قبل محاولة فهم كيفية حدوث سيرورة الإبداع في الارتجال الجماعي الحر، فإن نظرة سريعة على التنوع الجمالي للممارسات التي يغطيها هذا المصطلح (أو المصطلحات المماثلة للموسيقى الحرة، الارتجال التوليدي، الموسيقى المفتوحة، الارتجال الخالص، الموسيقى المعاصرة المرتجلة) تظهر بوضوح صعوبة تقديم شيء مثل كيان موحد من حيث الأسلوب.

يعد ديريك بيلي D. Bailey، أحد الرواد المروجين للموسيقى الحرة، فقد لخص المشكلة جيدًا في أن التنوع هي السمة الأكثر وضوحا لهذه الموسيقى، حيث لا تلتزم بأي أسلوب أو لغة معينة لا تتوافق مع صوت معين ولا تتحدد هويتها إلا بهوية الأشخاص الذين يمارسونها . وبالتالي، فإن ما يسمى هنا بالارتجال الجماعي الحر ليس جنسا يجد وحدته في مجموعة من النماذج الشكلية و/ أو الأسلوبية، ولكنه طريقة معينة لإنتاج الموسيقى وهذا لا يعني أنه استرجاعي وأن هذه الطريقة الخاصة في إنتاج الموسيقى لا تترجم إلى عدد معين من السمات التي تشترك فيها المظاهر الصوتية المختلفة، ولكن نعني بهذه الطريقة مجموعة من الظواهر الموسيقية من خلفيات موسيقية متنوعة لها سمات تشترك في عملية إنتاجها (موسيقى الجاز، موسيقى الضجيج، موسيقى الروك التجريبية، الموسيقى المعاصرة …). إذا أصررنا على تنوع الأوساط الموسيقية التي تمارس هذا الشكل من الارتجال، فمن المؤكد أن نسلط الضوء على حقيقة أن وحدة “الارتجال الجماعي” لا ينبغي البحث عنها في الوصف التحليلي التقليدي للموسيقي التي تم إنتاجها، ولكن في طبيعة العمليات المعرفية التي يشارك فيها هؤلاء المرتجلون.

في هذا الصدد، يبقى السؤال الأساسي هو فهم كيفية ممارسة الموسيقيين للارتجال الجماعي الحر خاصة فيما يخص خياراتهم لحظة الإنجاز، وإدراك القيود الخاصة التي يمكن أن تحدد هذه الخيارات. عندما نتحدث عن الارتجال الحر، علينا أن نميز بين مستويين من الزمان. من الواضح أن الارتجال الحر لا يخلو من الأوتوماتيكية التي هي أصل الإشارة الموسيقية المرتجلة على نطاق زمني صغير. إن الإيماءات المكتسبة والمتكررة والأنماط المدمجة وكل ما يتعلق بذاكرة الجسد أي الإيماءات الموجودة في نوع آخر من الارتجال تجعلنا نميز بين الارتجال الحر والارتجال الخالص الذي يعود إلى خيال الإبداع الفوري. من منظور أوسع للارتجال الحر، لا يجب إنكار مسألة أهمية الخلفيات الثقافية أو المعرفة الموسيقية التي يمتلكها الموسيقيون خاصة إذا كانت مشتركة.

ومع ذلك، فإن ما يميز المرتجل الحر هو أنه لا يقدم أي التزام مسبق تجاه لغة معينة قبل البدء في الارتجال سواء تعلق الأمر بالأداء ضمن مجموعة أو بشكل منفرد، إلا أنه وبالرغم من ذلك فإنتاجه السليم لا يزال محددًا بوضوح من خلال مجموعة كاملة من القيود المفروضة ذاتيًا، ولكنها قابلة للمراجعة حسب الرغبة أثناء الأداء. هذا لا يمنع المرتجل الحر من أن يكون قادرًا على تعبئة التعابير أو العناصر الأسلوبية جيدًا كأدوات لإنتاج الخطاب، أو مواجهتها كأشياء تم العثور عليها أثناء ارتجاله. ومع ذلك، يجب أن نخفف من هذا الانفتاح للارتجال الحر لتنوع التعابير الموسيقية وكما يشير توماس نان Thomas Nunn “فإن المرتجل الحر يتلقى في الواقع تفويض التفكيك (على الأقل بعد وقت معين) أو إعادة صياغة الخصائص الموسيقية المعروفة أو المألوفة، بحيث لا يركز انتباه المستمع على قضية التعرف على الأسلوب”[27].

من ناحية أخرى، يمكن تعريف الارتجال الحر بأنه ارتجال بدون مرجع. وفقًا لـجيف بريسينغ Jeff Pressing فإن المرجع هو خطاطة شكلية أو صورة موجهة إرشادية خاصة بقطعة معينة، يستخدمها المرتجل لتسهيل توليد الخطاب الموسيقي على نطاق زمني غير محدد ومفتوح وتعديل السلوكيات المرتجلة على المستوى الزمني الوسيط. بالتالي ففهم سيرورة الإبداع في الارتجال الحر، يقتضي فهم كيفية قيام المرتجلين بتنظيم عملية صنع القرارات الموسيقية الخاصة بهم في الوقت الحقيقي، في غياب أي بنية أو خطاطة تجريدية موجودة مسبقًا توجه عملية صنع القرار.

إن مسألة هيكلة صنع القرار تكون أكثر أهمية إذا نظرنا إلى حالة الارتجال الجماعي الحر على حد تعبير ميكائيل شيرمان[28] Michael Pelz-Sherman. يمكن النظر إلى الارتجال الجماعي الحر كشكل من الأشكال المختلطة الأصول، فالقرارات التي تشكل هذه الموسيقى تنتج عن العلاقات والتفاعلات في الوقت الحقيقي نظرا لتعدد الفاعلين، لذلك فهي حالة مختلفة اختلافًا جوهريًا عن الموسيقى الأحادية المصدر التي تنتج قرارات تم اتخاذها مسبقًا أو في الوقت الحقيقي من قبل فرد واحد. بعبارة أخرى، إن خصوصية السيرورة الإبداعية في الارتجال الجماعي الحر تتدفق بشكل جيد من اقتران الصفتين “جماعي” و “حر”، أي أن الموسيقى مبنية من طرف كثير من الوسطاء وأن بناءها يتم بدون مرجع ثابت مسبقًا ذلك أن الآليات المتحكمة في تطورها تختلف بشكل جذري عن تلك السائدة في الموسيقى التي ينتجها شخص واحد، سواء كان ذلك الشخص يقوم بالتأليف أو الارتجال بحرية.

يشرح ديريك بيلي بوضوح خصوصية الارتجال الجماعي الحر، حين اعتبر أن الارتجال الحر الأكثر إثارة للاهتمام هو حقيقة التأليفات السريعة الزوال نسبيًا. ففي هذا النوع من الموسيقى، تكون فيها بدايات المجموعة هي الفترة الأكثر إرضاءً وإثارة. عندما تكتسب الموسيقى هوية قوية بما يكفي لتحليلها ووصفها واستنساخها بالطبع، فإن الكل يتغير. بعد بلوغ المجموعة نضجًا معينًا واكتشافها لموسيقى تعرف بها وتستمر في تطوير عوامل الجذب التي لا تقاوم لتصبح أكثر تجارية، تتوقف الموسيقى هنا عن كونها ارتجال خالص. إن هذه الرغبة في البحث عن الارتجال الخالص، دون محاولة إخفاء الصعوبات والإخفاقات التي تواجهها، هي ذات أهمية كبيرة حيث تظهر مشكلة الارتجال الجماعي الحر في ضوئها أكثر جذرية. كيف لهؤلاء المرتجلين الذين لا يعرفون بعضهم بعضا ولا ينطلقون من مرجع مشترك يتمكنون جميعا من صنع موسيقى؟ إذا كان الارتجال الحر فضاء للتلاقي بين المشتركين في الارتجال، فماذا يعني أن المشاركة هي طريقة في التعبير وإنتاج الموسيقى وضامنة لإمكانية وجود تواصل حقيقي بين الموسيقيين؟

بالنسبة لديريك بيلي، ليست المشاركة هي المشكلة حقًا وليس فقط أن الموسيقيين لا يعرفون بعضهم بعضا، ولكن الفكرة وراء المزيج من العائلات المرتجلة هي ضمان راديكالية الارتجال الحر، ولكن لا يمكنهم الاعتماد على رموز ومواضعات ضمنية متأصلة في بيئتهم الموسيقية، لذا فإن الأمر يتعلق بوضعية أصعب ومسبقة في كل إبداع وفي سيرورة الارتجال الجماعي الحر. لتسليط الضوء على الإشكالية العميقة لحالات الارتجال الجماعي الحر، يبدو أن مشكلة التنسيق تجعله في وضع محفوف بالمخاطر. في هذا النوع من الحالات، على عكس الارتجال كما يمارس كثيرا في موسيقى الجاز، لا يوجد فعل مؤسس يعطي الكل ويمنح للمعطيات الموسيقية وضع المعرفة المشتركة في المجموعة، مما يجعل مراقبتها والسيطرة عليها أكثر حساسية من حالة الارتجال بمرجع، تجعل التفاعلات غير ثابتة وتزيد من تعقيد الأمور. وبعبارة أخرى، فإن مسألة الإدارة الجماعية للشكل، ولاسيما مشاكل الارتباط بين مختلف السلاسل المكونة للارتجال (التنظيم الأفقي) وترتيب مختلف التفاعلات (التنظيم العمودي)، تصبح في قلب الارتجال الجماعي الحر.

بالإضافة إلى ذلك ولحل هذه الصعوبة، يجب على الموسيقيين أن ينسقوا إلى حد ما تفضيلات الأسلوب أو الجمالية على نطاق أوسع. هذا لا يعني أن هذه الموسيقى تنفلت من ظهور سمات مميزة، تأخذ في بعض الأحيان شكل نموذج، بل هو بالأحرى أن الموسيقيين غالبًا ما يرون أن الارتجال الحر كنوع من المختبر يسمح لهم بالاستكشاف ثم تطوير علاقتهم مع الآلة والصوت الخاص بها. وهذا التفتت في الارتجال يجعل من الصعب بناء لغة مشتركة. بشكل أكثر تحديدًا، عندما يتعلق الأمر بالارتجال بحرية مع الموسيقيين الآخرين، فإن كل موسيقي لديه في جميع الأوقات مجموعة من التفضيلات ومجموعة من التمثيلات، وهنا تكمن الصعوبة في وجود اختلافات بين هذه المجموعات من التفضيلات/التمثيلات. من الواضح أن هذا لا يعني أن معيار نجاح الارتجال الحر هو وحدة جماليات الإنتاج. في بعض الأحيان يستخدم الموسيقيون آثار التلصيق/التركيب الجمالي أو الانقطاع المفاجئ عن قصد، وغالباً ما يتم تقديره.

إن فهم كيفية صنع الموسيقى وكيفية إبداعها بشكل جماعي عندما يرتجل العديد من الموسيقيين معًا وبحرية، هو فهم هيكلة سلوك المرتجلين وقت الإنجاز. هذه في الواقع مسألة منحدرة بشكل مزدوج من مشكلة التنسيق، لذلك يجب علينا أن نفهم الاستراتيجيات التي وضعوها لتجاوز هذه المشكلة، ذلك أن التنسيق هو أكثر بكثير من التعاون، إنه ليس فقط مسألة العمل نحو تحقيق الإنجاز المشترك لمهمة، ولكن أيضًا تنفيذ هذه المهمة بطريقة مترابطة، من خلال إبراز عفويًا ترتيبًا معينا، وحتى جدولة سلسة متناغمة لأفعال كل شخص بهدف تحقيق الهدف المشترك.

إن أداء الارتجال الجماعي الحر، هو بالدرجة الأولى تنسيقي يشارك فيه الموسيقيون الذين يمارسونه. ولإلقاء الضوء على أدائه، علينا أن نحلل مشكلة التنسيق للكشف عن منطق الإنتاج والسلوكيات الإبداعية الكامنة في حالة هذا النوع من الارتجال. إن السؤال الذي يواجه الموسيقيين هو في الواقع هو ماذا نؤدي معًا وما الذي ننجزه جميعا بشكل يرضي بطريقة مماثلة مشاركة الموسيقيين المختلفين؟ في سياق ممارسات الارتجال الحر، فإن الإجابات الممكنة على هذا السؤال، هي بشكل مسبق لا تعد ولا تحصى خاصة عندما يتعلق الأمر على وجه التحديد أن يتخذ الموسيقيون الخيارات التي تسير في نفس الاتجاه. تحدث هذه الاختيارات أيضًا على نطاقات مختلفة، من الاختيارات الجمالية العالمية إلى الاختيارات التي تحكم سلوك الموسيقى لحظة تلوى الأخرى. كل هذه الخيارات تعتبر ديناميكية لأنها محددة فقط فيما يتعلق ببعضها بعض، ويمكن مراجعتها باستمرار وفقًا للنتيجة الموسيقية المنتجة بالفعل. هذا هو المنطق الذي تحكمه الخيارات المختلفة والتفضيلات الجمالية الفردية لخلق فضاء موسيقي مشترك.

يتضمن الارتجال الجماعي الحر بحكم تعريفه، العديد من الموسيقيين المشاركين في عمل موسيقي مشترك. لكل من هؤلاء الموسيقيين تفضيلات فردية، والتي يمكن تصنيفها إلى فئتين رئيسيتين: التفضيلات الجمالية، التي تشير إلى التصورات العامة التي تتعلق بنوع الموسيقى التي يرغبون في صنعها (الموسيقى الآلات الملموسة، اللامقامية، المينمالية، الضجيجية، الجاز …) والتفضيلات المحلية، التي تتعلق بالارتجال كما يجري وإخبار الموسيقيين مباشرة بالتصورات العقلية عن الارتجال الذي هو في طور التقدم[29].

من الممكن، تماشيًا مع عمل جون إلستر J. Elster حول العقلانية الفنية، النظر إلى المرتجل كعامل عقلاني، أي كشخص يسعى إلى إعطاء قيمة كبرى للمنفعة الجمالية والعمل على تحقيقها من خلال خياراته، وهي الحالات التي يفضلها بشكل مطلق أو نسبي لجعل مسار الارتجال أقرب ما يمكن إلى تحيزاته الشكلية والجمالية. ومع ذلك، فإن فكرة التنسيق ذاتها، أي التقارب نحو حل يرضي جميع الموسيقيين، تفترض مسبقا وجود أرضية مشتركة أو حد أدنى للتوافق. لا يوجد تنسيق محتمل للوسطاء الذين لديهم تفضيلات متعارضة تمامًا، ولكن يبدو من الواضح أن الارتجال الجماعي الحر، مثل معظم الظواهر الاجتماعية، مسرح مفاوضات ضمنية تؤدي إلى حل وسط، أو إلى فرض تفضيلات فاعل واحد أو أكثر. يمكننا أن نفترض بشكل معقول أن الموسيقيين المشاركين سيسعون في المقام الأول إلى النجاح الجماعي الذي يفرض جودة واتساق الموسيقى التي تنتجها المجموعة كهدف تنظيمي وكمرتبة أعلى مما قد يضر برضا التفضيلات الفردية الصارمة.

يمكن للمساهمات الفردية دائمًا أن يتم تقييمها بشكل مختلف من قبل الجمهور، ولكن في نهاية المطاف، ستكون الموسيقى ككل هي موضوع التقدير الرئيسي. هذا ليس مفاجئًا إذا تذكرنا موسيقى الجاز كارتجال جماعي حر، وهو الشكل الذي تكون فيه أفكار التعاون والإبداع والمسؤولية الجماعية بمثابة قيم تأسيسية. هناك عاملان في أصل هذه الرؤية الجماعية والتعاونية للارتجال: نهاية الأدوار المرتبطة تقليديًا بالأدوات (العازفون المنفردون والمرافقون، اللحن التوافقي والإيقاعي …) وتحدي الشكل المركزي ويتعلق الأمر بالملحن والمدون والقائد باعتباره المسؤول المتحكم في الإنجاز في الوقت حقيقي. الإبداع في هذه الحالة جماعي في الأساس، فهو مسؤولية متساوية لكل من يشارك في مثل هذا الفعل.

لا شك أن حقيقة الارتجال الجماعي الحر تبقى هي مشكلة التنسيق. يفترض أن الموسيقيين يفعلون ما يلزم، على الأقل الاتفاق على مجموعات من الأعمال الموسيقية القابلة للإنجاز والتي لا تقبل ذلك. ومع ذلك، قد تختلف وجهات نظرهم بعد ذلك على طريقة لتصنيف هذه التأليفات. ليس لدى الموسيقيين نفس الطريقة لتصنيف التفضيلات الجماعية، لذلك يمكن أن يصبح الارتجال مسرحًا للعديد من المفاوضات الضمنية، التي تهدف إلى جذب الارتجال نحو المواقف الموحدة.

5- خاتمة:

يجب أن يُفهم أن ما يميز الارتجال قبل كل شيء كسيرورة إنتاج معينة، هو إضفاء الطابع الشخصي والخصائص الشكلية، فإن تاريخ إنتاجه، والطريقة التي تم بها إنتاجه هو جزء جوهري من هويته. إذا كان الارتجال محددًا بشكل جيد عن طريق الارتباط بين بنية صوتية معينة وتمثيل البنية الصوتية هذه، فإن الارتجال لا يرتبط بعد ذلك فقط بشكل جوهري بتاريخ إنتاجه ولكن أيضًا بالحدث ضمن حركة نموذجية. ينتج عن ذلك، على وجه الخصوص، أن الارتجال لا ينفصل عن توطين مكاني زماني معين، إذا كان لدينا ارتجالان متطابقان تمامًا من وجهة نظر البنية الصوتية ولكن تم إنتاجهما من قبل أشخاص مختلفين وفي أوقات مختلفة فهما بالفعل ارتجالان مختلفان.

يمكن للمرء أن يتحدث فقط عن الارتجال من خلال مراعاة مقاصد الموسيقي، في هذه الحالة فإن الموسيقي يقرر بوعي توظيف كل الخيارات الموسيقية في لحظة من الأداء. لذلك فالارتجال يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقصد، طالما أننا نريد ربطه بسلسلة من الحالات المتعمدة والتي هي حالة الموسيقي في وقت الارتجال. إن التركيب الصوتي الذي يتجلى في العمل الموسيقي، لا ينتج عن قرارات عفوية ولكن عن قصدية معينة تقع ضمن معايير تحديد الارتجال، هنا يُطرح سؤال جديد: أين يجب أن نتوقف؟ ما هي المقاصد المرتبطة بتحديد الارتجال؟ ما هي المعايير التي يجب تبنيها لفرز المقاصد الفردية؟ إحدى الإجابات المحتملة هي القول أنه من الضروري أن نأخذ في الاعتبار جميع المقاصد التي تشارك في ما يسميه غريغوري كوري Gregory Currie «المسار الإرشادي”[30]، الذي يساعد على الكشف عن البنية الصوتية للارتجال أو استنساخها بطريقة أو بأخرى. سيكون من الضروري عندئذٍ أن نأخذ في الاعتبار، عند إضفاء الطابع الشخصي على الارتجال، جميع الحالات القصدية كالمعتقدات والرغبات التي يمكن ربطها بمختلف القرارات المتخذة.

لذا يبدو أن المقاصد الكامنة وراء الإنتاج المرتجل يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار الطريقة التي نضع بها شروط هوية الارتجال. وبالتالي، فإن الارتجال يتم في نهاية المطاف بشكل فردي ليس فقط من خلال بنيته الصوتية، ولكن أيضًا من خلال مؤلفه ومن خلال توطينه الزماني المكاني، ومن خلال الطريقة التي يحقق بها مؤلفه البنية الصوتية هذه من خلال المقاصد والحالات العقلية التي يمكن ربطها بالقرارات المختلفة التي اتخذها بالفعل أثناء الارتجال. يمكن للمرء أن يتحدث حتى عن الصلابة المفرطة للسياق الارتجالي، وظروف التفرد التي تعتمد بشكل غير مرن على سياق إنتاجه. نجد صعوبة في تخيل الارتجال نفسه خارج سياق إنتاجه والتاريخ الدقيق لإنتاجه.


[1]– Andrew Kania, «The Methodology of Musical Ontology: Descriptivism and its Implications», British Journal of Aesthetics, Vol. 48, n°4, 2008, Pp.426-444.

[2]– Andrew Kania, « Piece for the End of Time : in Defense of Musical Ontology », British Journal of Aesthetics, Vol. 48, n°1, 2008, Pp.65-79.

[3]– David Davies, Art as Performance, Oxford, Wiley-Blackwell, 2004.

[4]– Andrew Kania, « Piece for the End of Time : in Defense of Musical Ontology », Op. Cit., p.18.

[5]– Andrew Kania, «The Methodology of Musical Ontology: Descriptivism and its Implications», Op. Cit., p.363.

[6]– Clement Canonne, Sur l’ontologie de l’improvisation, https://www.academia.edu/3376288/Sur_lontologie_de_limprovisation

[7]– Philip Alperson, On Musical Improvisation, Journal of Aesthetics and Art Criticism, Vol. 43, n°1, 1984, Pp.17-29.

[8]– Clement Canonne, Sur l’ontologie de l’improvisation, op.cit.

[9]– David Davies, Philosophy of Perfoming Arts, Oxford, Wiley-Blackwell, 2011.

[10]– Jerrold Levinson, «What a Musical Work is», Music, Art and Metaphysics, Oxford, Oxford University Press, Pp. 63-88.

[11]– Richard Cochrane, «Paying by the Rules: A Pragmatic Characterization of Musical Performances», The Journal of Aesthetics and Art Criticism, Vol. 58, n°2, 2000, Pp.135-142.

[12]– Richard Cochrane Op.Cit., P.141.

[13]– Bruno Nettl et al., «Improvisation», Grove Music Online,

http://www.oxfordmusiconline.com/subscriber/article/grove/music/13738?q=improvisation&search=quick&pos=1&_start=1#firsthit.

[14]– Pierre Saint-Germier, «Ce qu’est une improvisation musicale», 2011, http://www.academia.edu/913747/Ce_quest_une_improvisation_musicale.

[15]– Jerrold Levinson, «Indication Abstraction, and Individuation», in Christy Mag Uidhir (éd.), Art and Abstract Objects, Oxford, Oxford University Press, 2013, Pp. 49-61.

[16]– Jerrold Levinson, «Indication Abstraction, and Individuation», in Christy Mag Uidhir (éd.), Art and Abstract Objects, Oxford, Oxford University Press, 2013, Pp. 49-61.

[17]– Clement Canonne, Sur l’ontologie de l’improvisation, Op., cit.

[18]– Ibid.

[19]– Ibid.

[20]– Ibid.

[21]– Ibid.

[22]– Ibid.

[23]– Ibid.

[24]– Lee B. Brown, «Musical Works, Improvisation and the Principle of Continuity», The Journal of Aesthetics and Art Criticism, Vol. 54, n°4, 1996, Pp.353-369.

[25]– Ibid., p. 366.

[26]– Clement Canonne, Sur l’ontologie de l’improvisation, Op. Cit.

[27]– Thomas Nunn, Wisdom of the Impulse : On the Nature of Musical Improvisation, 1998, http://www20.brinkster.com/improarchive/tn_wisdom_part1.pdf, p.57.

[28]– Michael Pelz-Sherman, A Framework for the Analysis of Performer Interactions in Western Improvised Contemporary Art Music (PhD dissertation, université de Californie, 1998).

[29]– Clement Canonne, Sur l’ontologie de l’improvisation, Op. Cit.

[30]– Gregory Currie, An Ontology of Art, Basingstoke, Macmillan, 1989.

مقالات أخرى

تعدّد الطّرق الصّوفيّة

جماليّة التّناصّ في الشّعر الصّوفيّ

“زيارة” الضّريح بإفريقيّة مطلع العصور الوسطى

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد