تجييل الشّعر السّتّينيّ: بين عقدة الرّيادة وإشكاليّة التّجيير

تجييل الشّعر السّتّينيّ

الملخص:

تقوم فكرة هذا البحث على تفنيد مقولة التّجييل العقديّ التي شاعت في النّقد العراقيّ منذ ستّينيّات القرن العشرين، وتعني أنّ الأجيال الشّعرية تتوالد كلّ عشر سنوات. وقد ساعد في ترسيخ مقولة التّجييل العقديّ ما ألَّفه بعض شعراء عقد السّتينيات من كتب، فيها نظَّروا للعقدية، ودافعوا عن أنفسهم بوصفهم جيلاً شعريّاً. وسنقف عند أحد هذه الكتب وهو(الموجة الصّاخبة) للشاعر سامي مهدي، مبينين الدّوافع وراء هذه الرّغبة في التّجييل العقديّ ومحدّدين إشكاليّات تجيير التّجييل لأنفسهم.

الكلمات المفتاحية: التّجييل، الشّعر، الشّعراء، العقد، السّتينيات.

Abstract:

The idea of this research is based on rejecting the idea of the decadal generation that has been popular in Iraqi criticism since the sixties of the twentieth century, which means that poetic generations reproduce every ten years. The books written by some poets of the sixties contributed to the consolidation of the idea of the decadal generation, in which they looked at decadal and defended themselves as a poetic generation.

 We shill study one of these books, which is (The Loud Wave) by the poet Sami Mahdi, showing the motives behind this desire in the generation, also identify the problems of limiting the generation to themselves.

Keywords: Decade, Generation, Reflecting, Poetry, Poets, Sixties.


1- الانقطاع الجيليّ وعقدة الرّيادة:

كانت سنوات السّتينيات من 1960 إلى 1969 مفصليّة وتاريخيّة على مستوى العالم أجمع، لأنّ فيها تجسّدت أبعاد الحرب الباردة ما بين القطبين الرأسماليّ والاشتراكيّ. وشملت تأثيرات هذه الحرب مختلف الصّعد السّياسية والاقتصاديّة والاجتماعيّة، ومنها الصّعيد الأدبيّ داخل الغرب الأوربيّ بعامة والانكلو سكسونيّ بخاصّة، فتشكّلت حركات شبابيّة في انجلترا وفرنسا وأمريكا عكست خيبة الأمل بالنّظام العالميّ، وهو ما ترك آثارا كبيرة لا على القارّتين الأوربيّة والأمريكيّة حسب، بل على بلدان أمريكا اللاّتينة وأفريقيا والشرق الأوسط أيضا، فأصيب الشّباب في العراق ومصر والشّام وبقية الاقطار بعدوى الخيبة السّتينية العالميّة. وتمثّلت تلك الخيبة في هاجس التّمرد الذي وطّدته حركة متصاعدة في ترجمة الكتب الأدبيّة والفكريّة، فتأثّر أدباء السّتينيات بوجودية سارتر ولا انتمائية كولن ولسن وعبثيّة البيركامو وثوريّة جيفارا كممارسة ودوبريه كتنظير. وهو ما شجّع على الجنوح نحو الغموض وأدّى إلى سلوكيّات النّفور وموجات التمرّد والاغتراب عن المجتمع، ورفض الموروث والتّقاليد وقطع الصّلة بالأجيال السّابقة حتى” كاد تعبير صراع الأجيال في بعض الأدبيّات أن يكون نقيضا للصّراع الطبقي .. وكان الردّ المتطرّف على هذه الدّعوى هو أنه ليس هناك أجيال بل صراع طبقات”[1].

وهذا التطرّف في الصراع الجيلي لم يألفه الأدباء العراقيّون في الأربعينيات والخمسينيات، ربّما لأنّ أكثرهم كانوا متقاربين في انتمائهم إلى طبقات برجوازية أو وسطى بما فيهم الذين قدموا من الأرياف، فتأقلموا سريعا مع المدينة، وشكّلوا فئة كان لها دورها في تطوير القصيدة العربية. وأسّست تقاليدها الخاصة، ومنها ترجمة نصوص الشّعراء الكبار، ووضعها في شكل مختارات من الشّعر العالمي[2]، معبّرين أوّلا عن تواصلهم مع الجيل الذي سبقهم، ومؤكّدين روح المعاصرة ثانيا، والاعتداد بالتراث ثالثا. وعُدّ هذا التّطوير رياديّا بوصفه هو الحداثة الشّعرية الأولى التي حصلت من دون انقطاع عما أسّسه الأدباء العراقيّون والعرب في العشرينيّات والثلاثينيّات والاربعينيّات، لاسيما ما قامت به جماعتا أبولو والديوان ومعهما أدباء المهجر الأمريكيّ من تطوير في أوزان القصيدة العموديّة.

وما كان للأدب أن يتطوّر ويستمرّ لولا هذا الامتداد للأجيال بين القديم والجديد، فيأخذ اللاّحق من السّابق، ويضيف إليه أو يقلدّه أو يجرّب غيره. ولا يعني تأثّر الجيل بأدب أمّة أخرى، انقطاعه عن أدب أمّته، نافراً من الجيل الذي سبقه ومزدرياً تراثه، ممّا كان قد عكسه بعض شعراء السّتينيات، وأرادوا بذلك تأسيس حداثة شعريّة ثانية، لكنّ ذلك لم يكن على أيديهم، وإنّما على أيدي الذين كانوا واعين بالعلاقة الشّعرية بين التراث والحداثة والتي بها جدّدوا القصيدة العربية، وطوروها. وأعني الحداثة الشّعرية الشامية التي دشَّنها أنسي الحاج مطلع الخمسينيّات، ورافقه في بلورتها والتأسيس لها أدونيس ويوسف الخال وآخرون.

ولئن لم يرق لبعض شعراء السّتينيات التواصل مع التّراث الشّعري العربي، فإنّ انبهارهم بالتحديث الغربي كان كبيرا، فساروا باتّجاه تقليد الموضات الطارئة والصّرعات المستجدة في العالم، معلنين قطيعتهم مع جيل الروّاد، ومتمرّدين على بعضهم بعضا أيضا، منفردين مكابرة وادعاء، ينظرون بانتقاص إلى الماضي الشّعري القريب والبعيد بدعوى أنّه لم يمدّ الشّعر بالطاقة المطلوبة. ولذلك ثاروا بقصد تغيير حركة الشّعر وهو ما يحتجّ به الشّعراء المنظّرون للجيليّة العقديّة.

وراح شعراء ونقّاد يرسّخون في مقالاتهم فكرة التّجييل انفصالا عن شعراء الخمسينيات، ومنهم طراد الكبيسي الذي كتب عددا من المقالات في هذا الصّدد، الأمر الذي دفع ناقدا مجايلا له هو عبد الجبار عباس إلى أن يخصّ بالنقد واحدة من تلك المقالات المنشورة في مجلة الكلمة عام1970 وعنوانها (شعر الشباب العراقي المعاصر ) مؤشّرا على حماسة الكبيسي للجيلية ومحدّدا ما رافق تلك الحماسة من أخطاء تاريخيّة ونقديّة.

وإذا كان هذا حال الشّعراء في السّتينيات على مستوى كتابة المقالات، فإنّ الأمر على مستوى تأليف الكتب كان أكثر أهمّيّة. لأنّ فيه تجلّت نوايا التّجييل العقديّ بطريقة منهجيّة، وساهمت بشكل كبير في تصوير العقديّة وكأنّها ظاهرة أدبية، تنطوي على اصطلاحيّة نقديّة.

والكتب التي ألّفها شعراء منظّرون للعقديّة هي: (الموجة الصاخبة) لسامي مهدي، و(الروح الحيّة) لفاضل العزاوي و(تهافت السّتينيين) لفوزي كريم و(انفرادات الشّعر العراقي الجديد) لعبد القادر الجنابي، وسنأخذ واحدا من هذه الكتب وهو ( الموجة الصّاخبة) ليكون عيّنة بها ندلّل على ما في القول بالتّجييل العقديّ من عقدة البحث عن الرّيادة وإشكاليّة الإصرار على التّجيير.

واختيارنا لهذا الكتاب ينبني على جملة أسباب، أوّلها أنّ الكتاب سابق زمنياً لسائر الكتب الأخرى في التّأليف في موضوعة التّجييل وصدرت طبعته الأولى عام 1994، وثانيها أنّ المؤلّف قصد التّجييل موضوعاً ومنهجاً، وثالثها أنّ المؤلّف كان فيه متوسّعاً أكثر من غيره في معالجة موضوعة التّجييل السّتيني حتى ربت صفحات الكتاب على الأربعمئة صفحة.

وقبل أن نباشر التطرّق إلى المناحي التي تناولها كتاب (الموجة الصّاخبة)، فإنّنا نتساءل: ما الأهداف التي حملت شاعراً ذا تجربة شعريّة معروفة على خوض غمار موضوع تاريخيّ مثل موضوع التّجييل؟ ولماذا أثار المؤلّف هذا الموضوع بعد مرور ربع قرن تقريبا؟ أو بالأحرى، ما الأهمّية الكبيرة التي جعلت المؤلّف يكتب في موضوع هدأت ضجّته وانتهى زمنه؟

لعلّ الإجابة تبدو شكليّاً متيسّرة في مقدّمة الكتاب، وفيها عزم المؤلّف على ( رسم صورة لحركة شعريّة ذات أهمية جوهرية في تاريخ الشّعر العراقي الحديث أعني حركة السّتينيات، حركة الجيل الذي أحدث تحوّلا ملموسا في الشّعر العراقي ووضعه في إطار الحداثة الحقيقية)[3] ، غير أنّ المتمعّن في فصول الكتاب ومباحثه ومحصّلاته الختامية سيجد أنّ أمر الانقطاع، وليس التحول الحداثي في الاحتجاج للجيلية العقدية، هو الذي راهن عليه المؤلّف. 

ولئن كان قد نفى أمر العقديّة في المقدمة “تسمية جيل الستينات لا تقوم على أساس تقسيم الأجيال وفق العقود الزمنية، فليس شرطاً أبدا أن يظهر في كلّ عقد من الزمان جيل جديد لأنّ ظهور أيّ جيل رهين بحركة المجتمع وظروفه الموضوعية”[4]، فإنّ نفيه ذاك ظلّ مجرّد قول بعيد عن التّطبيق العمليّ، ناهيك عن تنصّل المؤلف ممّا تعهّد به في المقدّمة والخاتمة من ناحية عدم الانحياز للذّات، وتكريس الجهد للشّعراء الآخرين بصفتهم الجماعيّة، والبحث عن تحوّلات الشّعر العامّة لا الخاصّة، ممّا أوقعه في التّناقض واللاّموضوعية.

ولا مناص من القول إن الهدف من وراء تبنّي التّجييل العقديّ هو الرغبة في إضفاء الرّياديّة على شعراء السّتينيات ليكونوا كالشعراء الروّاد بحجّة أنّ ما قام به السّتينيون من تجريب على مستوى القصيدة أو على المستوى العمل الأدبيّ وما مارسوه من نشاطات، كتشكيل الجماعات وكتابة البيانات وإصدار المجلاّت قد أعطاهم حركيّة خاصة، عبَّر عنها المؤلّف بـالموجة الصّاخبة، بيد أنّ المتحصّل من هذه الموجة كان التّجييل العقديّ الذي كانت تبعاته في الكتاب موضع الرصد، سلبيّة وكثيرة، يدلّل عليها ما يأتي:

1) إهمال التّجارب الشّعرية التي وقعت وسطاً بين عقدين، أو حشر الكبيرة منها ــ كما حصل مع الشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر ــ لتكون ستينيّة قسراً.

2) اللاموضوعية في تقييم حركية الشّعر بالتحيّز إلى الشّعراء الذين يوافقون المؤلّف الرؤية والانتماء. وهذا ما أضرّ بكثير من التّجارب التي اختلفت في تحزّبها مع المؤلّف، أو كانت خارج الانتماءات.

3) القطع بحديّة السّنوات العشر جعل التّجارب مبتورة وغير متّصلة بما قبلها (الخمسينيّة) ولا متواصلة مع ما بعدها (السبعينيّة)، وهذا من حسن حظّ الشعراء السّتينيين الذين لا تجربة شعرية واضحة لديهم، فحُشروا مع أصحاب التّجارب الواضحة والكبيرة الذين أضرّهم هذا الحشر، لكنّ المؤلّف رآه أمراً طبيعياً، فقال: “في حركة الجيل نفسها لا يهمني ما آل إليه الشعراء في ما بعد أو ما بلغه منجز كل منهم وهذا ما يجعل ظل شاعر مبدع مهم كحسب الشيخ جعفر باهتا هنا برغم منجزه الشعري، بينما يبدو ظل مؤيد الراوي الذي قد لا يحسب في الشعراء كثيفاً واضحاً”[5].

4 ) التّعميم الزمنيّ جعل الشّعراء على درجة واحدة من الفنّيّة والنّماء بخلطة غير متجانسة وعشوائيّة لتجارب تتفاوت نوعيّاً في قدرتها على الصّمود أمام أتون الحركة الشّعرية والتّجريب فيها.

5 ) إنّ التّجييل العقديّ أعطى للمؤلّف صورتين؛ صورة المؤرّخ وصورة النّاقد، وبجمعه بين الصورتين تكون المفارقة واضحة في التّعبير عن المجموع الشعري بلغة “الأنا”، وليس الـ”نحن” كقوله:( بلورة أفكاري/ تقوية حجتي في المحاورة/ إذكاء إحساسي بأنّني انتمي إلى جيل جديد)

6 ) التّجييل جعل للمؤلف اليد الطولى، وهو يحكم ويقيّم مبالغةً أو انتقاصاً، وليس لأحد أن يعترض، وإن اعترض فهو ـ في نظر المؤلّف ـ واحد من ثلاثة: إما محسوب على جيل الروّاد، أو هو محسوب على الجيل الجديد نفسه، أو هو ضائع بين الجيلين.

6) الاستهانة بما قدّمه الجيل الشعريّ السّابق من منجزات، وبما أسّسه من بنيان في مقابل الاعتداد بمن هم ستّينييّون “إن الجيل الذي سبقهم لم يكن بمثل حيويتهم واندفاعهم وعنادهم ولا بمثل فهمهم للثقافة وحبهم للمغامرة. لقد كان كل منهم يضع يده على جرحه ويمضي غير عابئ بنزفه. كان جيلاً ذا قضية شعرية ..كان جيلاً خلاقاً شق طريقه بنفسه من دون أن يتكئ على متكأ”[6]. أما إذا قيل إنّ الروّاد ابتكروا تداخل البحور في شعرهم، فسيكون ردّ المؤلف هو أنّ هذا التّداخل لم يصل عند الرواد إلى مستوى الظّاهرة العامّة، بينما هو كذلك عند السّتينيين.

7 ) التّعميم أعفى المؤلّف من النّظر في كل اسم شعريّ على حدة وتحديد خصائص شاعريته. ومن ثمّ اقتصر، في تمثيلاته وتحليلاته، على أسماء لم تتعدّ أصابع اليدين، وأغلبها تشاطره الانتماء السياسيّ مثل خالد علي مصطفى وعبد الأمير معله وحميد سعيد. وعمّم أحكامه وآراءه فيهم على الشّعراء السّتينيين كافة “استطاع السّتينيّون خلال ثلاث أو أربع سنوات أن يفرضوا وجودهم في جميع الصحف”[7]. وما لا خلاف فيه أنّ الشعر فوق حسابات الزمن المعتادة، وله معاييره الجماليّة. ومن ثمّ لا تضيف الانتماءات أو عدمها أيّة قيمة إلى الشّعر.

8 ) تخصّصت تحليلات المؤلّف النّقدية في الجزء الثّاني من الكتّاب في أسماء ونصوص محدّدة من جانب، ومحصورة في جزء من سنوات السّتينيات وليس كلّها أي ما بين 1964و 1969 من جانب آخر[8]. واعتبر المؤلّف أنّ ما قبل عام 1964 غير مهمّ والسّبب برأيه أنّ فيه بدايات بسيطة لم تتوضّح فيها شخصيّة الجيل بعد، وفات المؤلّف أنّ قصائد حسب الشيخ جعفر وسعدي يوسف وفاضل العزاوي ومحمود البريكان وحسين مردان كانت في تلك السنوات قد سجّلت حضوراً عربياً لافتاً، كما أنّ شاعريّة السّياب في مطلع الستينيّات قد اتّخذت خطّاً تجريبيّاً جديداً ومهمّاً.

ولا تعني هذه السّلبيات في كتاب (الموجة الصّاخبة) أنّه يخلو من محطّات وثقّت وأشّرت على عهد مضطرب سياسيّا، وكان فيه المشهد الثقافيّ بالعموم والشّعريّ خاصة، متأثراً تأثّراً كبيراً بمتغيّرات العصر. وقد اتّخذ القسم الأول شكل شهادة سيريّة وثّقت مسيرة المؤلّف المهنيّة مع الصّحافة الثقافيّة ومكاسب انخراطه في حزب البعث أكثر ممّا وثقت تجربته الشّعريّة.

أما ما ذكره عن الشّعراء الشّباب وكيف كانت غرابة لغتهم وغموض شعرهم وعفويّة تشكله محلّ تنّدر الشعراء الكبار وملاطفتهم لهم، أمّا ما ذكره عن صعوبات الطّبع والنّشر وحقوق المؤلف المهدورة، فجميعها ليست خاصّة بجيل دون جيل، فهي ما زالت إلى يومنا هذا على حالها لم تتغيّر كثيراً.

يبدأ شهادته السّيرية من انتمائه إلى جمعيّة الكتّاب والمؤلّفين التي تأسّست عام 1959، ومرورا بعلاقاته بالأدباء الذين يشاركونه الانتماء والمسؤوليّات والمهامّ التي انيطت به. وساق بشكل عرضيّ مواقف ومشاهدات تكشف في التّاريخ الأدبي أسرارا، أو تضع النّقاط على الحروف حول علاقات الأدباء بعضهم ببعض، وأسباب التّصعلك وصور التّباري الذي وصل إلى حدّ التّشابك بالأيدي، ومظاهر الغيرة التي كانت حامية الوطيس حتى بين الأخ وأخيه، من ذلك ما ذكره المؤلف عن محسن جاسم الموسوي وتعانده في ما ينشر مع أخيه عزيز السيد جاسم وعلى الصّفحة الثقافية نفسها التي كان الأوّل يديرها في جريدة (أبناء النور) الأسبوعيّة التي استمرّت بالصّدور حتى العدد الثامن عشر ثمّ توقّفت عن الصدور.

والأمر المهمّ الملاحظ في هذا السّرد السيري التّسجيليّ أنّ المؤلّف يهمل ذكر شعراء مناوئين ينتمون إلى تجمّعات أخرى. ولا يمكن أن نعذر المؤلف بأنّه كان بصدد تقديم شهادة شخصيّة، إذ أنّ ذلك يناقض رغبته في أن يكون هو المدافع عن شعراء عقد الستينيات وهو المتحدّث بلسانهم.

2- التّجييل الشّعري وإشكاليّة التّجيير:

كان لصدور مجلة (شعر 96 ) شأن خاصّ، لأنّ من ساهم في تأسيسها واشترك في هيأة تحريرها كانوا من ذوي المكانة على الصّعيدين الشعريّ والصّحفيّ، هذا أولا، وثانيا لأنّها جاءت تعاضد مجلة (الكلمة) في اهتمامها بالحداثة الشّعرية والتّنظير للشّعر الجديد، وثالثا، بالبيان الشّعري الذي دشّن عددها الأوّل، وما أثاره من ردود أفعال قوية آنذاك استمرت إلى السّنوات اللاّحقة، وانتهت بالتّخاصم ــ ولا نستبعد أن تكون أسباب هذا التّخاصم سياسيّة بين اثنين من الموقّعين عليه هما فاضل العزاوي وسامي مهدي أولا، ثم فاضل العزاوي وفوزي كريم لاحقاً.

صدرت من مجلة (شعر 96 ) أربعة أعداد في بضعة أشهر قبل أن يتمّ منع صدورها، واختلفت الآراء حول أسباب المنع، فالعزاوي رأى أنّ السّبب سياسيّ، ورأى سامي مهدي أنّ السّبب مهنيّ، ولكنّ أيّاً من الرّأيين يظل غير مقنع بسبب ما جرى بين الشاعرين فيما بعد من اختلاف حول البيان الشعريّ، ممّا تجلى واضحاً في كتابيهما (الموجة الصاخبة) و(الروح الحيّة).

سرد سامي مهدي بحماسة كبيرة لحظات ولادة البيان، وسعيه الى إصدار مجلّة تعنى بالشّعر أسوة بالمجلات اللبنانية، وكيف أنّ الطارئيّة كانت سبباً في إعطاء افتتاحية العدد الأوّل اسم البيان.. وهو ما ينفيه فاضل العزاوي الذي أكّد أنه هو من كتب البيان. وأنّ هذا البيان لم يكن في الأصل مقالة.

ومهما كانت الحقيقة؛ فإنّ هذا التّركيز على البيان لا يعزّز رغبة الشاعرين في التّجييل، لكنّه يعزز مكانتهما كمنظرين لعقد من السنين أمده عشر سنوات، بدا في نظريهما حداثياً، لا يشق لحداثته غبار.

ولقد أثّر هذا التّنازع بين الشاعرين حول نسبة البيان الشعري في أن تكون النتائج كافية كي تشيع تسمية (الجيل الستيني)، حتى صار مفهوماً نقديّاً، ومنه اشتقّت مفاهيم وتسميات أخر لا لشيء سوى توكيد ما للسّتينيين من تميّز في عالم الشّعر.

هكذا تجيّرت التّجارب الشّعرية لصالح البيان الشّعري وليس العكس. وراح البيان يصبّ في صالح الشعراء الذين وقّعوا عليه، وهم أربعة لا غير. وهذه نسبة ضئيلة بالقياس إلى عدد الشّعراء آنذاك، فهل يحقّ، بعد ذلك، تجيير البيان وكأنّه تجسيد لفكر السّتينيين قاطبة مع أنّ القصديّة في كتابة هذا البيان مشكوك فيها، ومتنازع عليها إلى اليوم؟! وكيف يكون البيان عاكساً آراء أدباء السّتينيات جميعاً، وهم أنفسهم كانوا في حالة تشظٍّ وانقسامٍ وانهزامٍ وصعلكةٍ وعدم وئامٍ..وصور أخرى كثيرة تدلّل على أنّ السّتّينيين كانوا شيعاً متفرقّة يصعب معها جمعهم على أمر واحد؟!

أمّا ما قيل عن تمرّدهم فإنّه أيضا لم يكن عامّاً، فالشعراء الحزبيّون كانوا ملتزمين وخاضعين لأجندات أحزابهم بعكس غير الملتزمين سياسيّاً الذين كانوا في حلّ من أيّ التزام.

وبسبب هذا الاختلاف صنّف المفكّر عزيز السيد جاسم أدباء السّتينيات إلى ثلاث فئات: أدباء الحياة الذين يدخلون في خضمّ الصّراع لتنشيط قوى الحياة البازغة ولدحر القوى الهرمة الشّائخة والمحتضرة، وأدباء الموت الذين يريدون فرض سُنّة الموت على خُضرة الحياة، ويحاولون عبثاً أن يمدّوا في عمر ما تقرّر موته حتميّاً، والفئة الثّالثة هم الأدباء المختلطون الضائعون العابرون كلّ الحدود، وكادت هذه الفئة تطغى على الفئتين الأخريين حاملة معالم جديدة تجعلها شبه متوطّنة[9]..

هذا فضلا عن وجود شعراء ذوي تجارب لا يمكن خلطها مع الآخرين ولا تجيير تميّزها لصالح الكلّ، وأوضح مثال على ذلك تجربة الشاعر عبد الرحمن طهمازي الذي قال عنه سامي مهدي: “كان أهم شاعر في المجموعة وأكثرهم عناية بالكتابة حول الشعر وقضاياه وهو يشذّ عنهم باهتمامه بالتراث وحسن اطلاعه عليه”[10]. وقال في موضع آخر: “طهمازي أحد شعراء الستينات وكتّابها بل هو أبكرهم وعياً وأرصنهم رأياً وقد كان من أقربهم إلى من سُموا بجماعة كركوك أو ببعضهم في الأقل. له في النقد ونقد النقد إنتاج غزير أما في الشعر فهو شحيح مقل.. ولَفَتَ الأنظار إليه بما كتب من نقد وشعر ولكن كتاباته النقدية توصف بالعسر وكتاباته الشعرية باليباس”[11]. وهذا الوصف الأخير، على ما فيه من الانطباعية، يؤكّد أنّ تجربة الشاعر طهمازي فريدة لكونها اقترنت بمزج الشّعر بالفكر. 

والتجيير لم يقتصر على مصادرة التّجارب الكبيرة وتعميمها بتعسّف على عامّة الشّعراء بحجة التّجييل العقديّ، بل شمل أيضا تأكيد شاعرية المتواضع ونفي الشّاعرية عن المجيد. وهو ما وُضح في الجزء الثاني من كتاب (الموجة الصاخبة) وحمل عنوان (تحوّلات النصّ) من خلال:

1 ) مقارنة المؤلف سامي مهدي قصائد معينة لبدر شاكر السياب بقصائد شعراء معيّنيين يشاركونه الانتماء الحزبيّ مثل مالك المطلبي وخالد علي مصطفى وعلي جعفر العلاق، مجيراً الفضل لصالح الأخيرين، فقصيدة ( التيه) لمالك المطلبي مثلا رآها أفضل من قصيدة (قافلة الضياع)، وتذهب أبعد من (المسيح بعد الصلب) لبدر شاكر السياب لكونها مباشرة وتفصح عن رسالتها الايديولوجية[12]. بينما “تنغلق قصيدة السياب على ذاتها ولا تتراسل مع الخارج إلا لترتد بعكس قصيدة مالك التي تظل علاقاتها مفتوحة على الخارج فتستقبل عدة قراءات وعدة تأويلات”[13].

وغاية المؤلّف من وراء ذلك بالطّبع هي تجيير التّميّز لعموم الشّعراء المجايلين له، لعلمه أن “ليس ثمة جيل شعري جديد .. إلا إذا كانت له إبداعات جديدة تختلف عن إبداعات الاجيال التي سبقته”[14].

2 ) تجيير المؤلّف التّميّز لصالح الشعراء الذين يشاطرونه الرؤية السياسيّة جعله يسحب البساط من غريمه فاضل العزاوي سواء في هوامش الطبعة المنقّحة لكتاب (الموجة الصّاخبة) موضوع الرّصد، إمّا بالرد على ما أدّعاه فاضل العزاوي في كتابه (الروح الحيّة) من أقوال أو بما قام به من تحليلات نقديّة لشعر فاضل العزاوي.

فمثلا ذهب إلى القول إنّ قصائد العزاوي المؤرخة بالعامين 1960 و1961 كان أثر عبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف فيها واضحاً[15]، وأنّ قصيدة غينتربيرغ تنطبق حرفياً على قصيدة (أقنعة البوذي) للعزاوي وأنّ عيباً من عيوب الشّكل المفتوح الذي أدخله السّتينيون كان العزاوي نفسه أدخله إلى الشّعر العراقي. وفضّل عليه سركون بولص لأنّ تحولاً نموذجاً في لغته يختلف عن فاضل العزاوي الذي اصطنع الغرابة والطّرافة والمفارقة. وبعض نصوص العزاوي لم تكتب بلغة استعاريّة بل لغة شعرية بكماء لا تحتمل أيّ تأويل، ولذا لم يفلح في نسج شبكة حية من العلاقات الداخلية فكانت رسالته ايديولوجية صريحة وهو ما جعل “قصائده الميكانيكية” “محاولة عابثة وعقيمة إلى الحد الذي دفعت الشاعر إلى صرف النظر عن إعادة نشرها في دواوينه”[16].

وقارن تجربة فاضل العزاوي بتجربة مؤيد الراوي فوجد أن “قصيدة مؤيد الراوي تنتهي إلى ما انتهت إليه قصيدة فاضل العزاوي”[17] وفنَّد قول من يرى أنّ السياب أوّل شاعر عربي معاصر بدأ استعمال الأساطير، لأنّ الشّعراء الرومانسيّين العرب سبقوه، ولأن نازك سبقت السّيّاب في استعمال الأسطورة التي بدت عنده نابية، وليست وراءها ضرورة بل هي(مودة) وادّعاء وإعادة كنائيّة، مفضلاً عليه عبد الوهاب البياتي الذي رآه قد حقّق انجازات مهمّة في صنع شخصيات ومدن أسطورية.

وهو ما حصل أيضاً مع شاعر آخر كبير، هو حسب الشيخ جعفر، فعدَّه سامي مهدي متأثراً بعبد الوهاب البياتي في القناع والأساطير وفي البحث عن امرأة غائبة تشبه عائشة التي كانت أقوى رمزية عند البياتي[18]؛ وهنا نتساءل: هل هناك شاعر لم يبحث عن امرأة في شعره؟! وكيف لشاعر مثل حسب الشيخ جعفر أن يجد امرأته في صورة عائشة وهو الذي ما فارقت صورة لينا الروسية شعره ولا سرده على طول تجربته وعرضها؟! بيد أن مقصد سامي مهدي من وراء هذا كلّه هو التّجييل العقديّ الذي فيه تتجيّر التّجارب الشّعرية بعضها لصالح بعضها الآخر.

3 ) على الرّغم من أنّ المؤلّف لا ينكر أنّ لمجلة (شعر) اللبنانية تأثيراً في كتابة العراقيين قصيدة النثر تحرّراً من الوزن والقافية، فإنّ خضوعه للتّجييل أجبره على تجيير مشروع كتابة هذه القصيدة لصالح السّتّينيين وحدهم، متناسياً من كتبها من شعراء الخمسينيّات، وفي مقدّمتهم حسين مردان، وعاداً سركون بولص أول من وضع أساساً لقصيدة نثر عراقية حقيقيّة وجادة تنتمي إلى الشّعر بثقة وجدارة[19] .

4 ) ممارسة المؤلف التّحليل النقديّ على نصوص قصائده هو، جعله يجيّر أحكامه على نفسه لصالح الشّعراء المجايلين له في السّتينيات، فحلّل مثلا قصيدته (الغائب)، ثم أردف قائلا عن نفسه بضمير الغائب: (وسيفعل سامي مهدي شيئاً مقارباً ولكنه أكثر تعقيداً في قصيدتين متأخرتين هما “حين تعلمنا الأسماء” و”حاشية الأرض”) بينما أهمل تجارب شعراء مهمين مثل حسب الشيخ جعفر الذي وجده “يوازي سامي مهدي في عدد القصائد التي استعمل فيها الأساطير والرموز ولكن كلا منهما سلك طريقا مختلفا لا يتشابه مع الآخر إلا في حدود ضيقة”[20].

وإذا وجد نفسه غير قادر على تجاهل تجربة شعرية ما، فإنه يضطرّ إلى ذكرها مع ابتسار كبير يشوّه حقيقتها، فحين ذكر تداخل البحور، وتنوّع إيقاعاتها، لم يستطع أن يتجاهل حسب الشيخ جعفر، فقال عنه، وباختصار مخلّ (وسيقدم بعد سنوات نموذجاً ناضجاً ومكتملاً في تداخل البحور وتنوع إيقاعاتها ونعني بذلك قصيدته “هبوط أبي نؤاس” المنشورة في ديوانه الرابع (عبر الحائط في المرآة))[21]، وكذلك ذكر قصيدة (الرباعية الأولى)، ولكنه لم يعقبها بتحليل، بل قال: “ومهما يكن فان التدوير كليا كان أم جزئيا غدا ظاهرة شائعة في مطلع السبعينات .. حتى لاح لبعض الشعراء الستينيين أن القصيدة هي قصيدة المستقبل”[22].

واستعرض مقاطع من قصائد حميد سعيد ومالك المطلبي وعبد الأمير معله وياسين طه حافظ، وختمها بقصيدة له طويلة فيها وظّف أسلوبية التّدوير، مقلّلاً من أهمّية ريادة حسب الشيخ جعفر من ناحية ومعمّماً بشكل غير مباشر التدوير على المجموع الشعري من ناحية أخرى عبر القول: “تزايد استعماله ــ أي التدوير ــ في شعر الستينين باطراد”[23].

وبسبب التّجييل العقديّ تعمد المؤلّف التّعامل مع شعر حسب الشيخ جعفر بطريقة الكسر والجبر، فهو ما أن يشيد به حتى يؤاخذه، وما أن يؤيّد نهجه حتى يرفضه، مضيعاً على القارئ تفرّد تجربة هذا الشاعر الكبير. وذلك على شاكلة قوله مثلا: “إن أول من فتح باب التدوير في القصيدة العربية الحديثة هو الشاعر السوري خليل خوري فله في ذلك أربع قصائد مبكرة أقدمها قصيدته الشمس والنمل غير أن أنضج تجارب التدوير وأقربها إلى الكمال الفني في الشعر العراقي هي تلك القصائد التي كتبها حسب الشيخ جعفر ذلك أن حسبا تمسك بهذه التجربة وقدم فيها محاولات عدة”[24].

أو كقوله وهو بصدد الشاعر نفسه: “ينبغي الاعتراف بأن الشكل الذي اختاره هنا قد ضيق حركته وحد من حريته وارضخه بدرجة أو بأخرى لقوانين النظم ولكن يبقى للتجربة العقلية والروحية في هذه المحاولة معيار آخر. ويبقى أن الشاعر قدّم محاولة جديدة ومختلفة في استعمال الأساطير والرموز والحكايات وأنه صنع في النهاية حكاياته الخاصة”[25]، ولكنّه سرعان ما يستدرك أيضا بأن التدوير عند حسب الشيخ جعفر يقترب من ظاهرة أخرى سمّاها مشاكسة الشاعر الأوزان، وأنها عرفت عند صلاح عبد الصبور، وأن خالد يوسف رائد فيها وهي موجودة في شعر طراد الكبيسي ومالك المطلبي وحميد سعيد.

وبعد هذه المؤاخذات والاستدراكات التي فيها كان التّجيير واضحاً في الجزء الثاني من كتاب(الموجة الصّاخبة)، فإننا نتساءل أين التّجييل من ظاهرة أخرى شخّصها المفكّر عزيز السيد جاسم وسماها (الصرع الأدبي)؟! وهي على عكس الرّشد الأدبي، وتنطبق على أدب السّتينيين بوصفها ظاهرة ارتجاج أدبيّ وتعايش مزمن بين تناحرات سيكولوجية وبيولوجية. وهي حركة عامّة في أوربا وأمريكا. وتتضح في بودليرية كلودويل وفوكونرية أراجون. وتتّسم بالتّغاير؛ فمن استيقاظ إلى ركود، ومن تعقل إلى هوس بصيحات اللاجدوى والعبث والانسحاق والانزواء[26].

لقد ساهم تجيير فنيّة تجارب، عدّها المؤلف ستينية، في تغييب فنّية تجارب سابقة لجيل الروّاد ومن قبلهم، فالأسطورة وجدها السّتّينيون مستهلكة وأنّ الخمسينيّين استنفذوها، وبحثوا في بطون الكتب عن أساطير مغمورة حتى أدركوها، فلم يدعوا لمن بعدهم شيئا ذا بال.

وانطلاقا من هذا التّجيير علّل سامي مهدي الكيفيّة التي بها قرّ في أذهان الخمسينيّين استخدام الرّمز والأسطورة بأنّه كان شرطاً لازماً من شروط كتابتهم الشّعر الحديث. ولذلك اقبلوا عليها إقبالا مفرطا حتى حولوها إلى مودة[27]. وزعم المؤلّف أنّه أوّل شعراء السّتينيات الذين صنعوا أساطيرهم الخاصّة من دون الاتّكاء على مادّة أسطورية مستهلكة، قائلا بضمير الغائب: “ربما كان سامي مهدي من أوائل السّتينيين الذين تلمسوا هذا المفهوم إن لم يكن أولهم”[28]، و(إن سامي مهدي كان أحد الشعراء الستينيين الذين سعوا إلى خلق أساطيرهم الخاصة ورموزهم وقدّم محاولات متنوعة في ذلك بغض النظر عن قيمتها الفنية)[29]، خالطاً للأسف، الشخصية الأسطورية بالشخصية التاريخية، وهو يحلّل قصائد مالك المطلبي وخالد علي مصطفى.

إنّ ممارسة المؤلف دور الناقد والمنقود كان هو الآخر من سلبيّات التّجييل العقديّ، متّخذا تجربته الشعرية أنموذجا تطبيقيّا للشاعر السّتّينيّ. وهو بلعبه دور الشاعر ودور النّاقد قد جيَّر النّقد لصالحه، وجعل دور القارئ مصادَرا بميلان كفّة الدّورين السابقين عليه على النّحو الآتي:

أوّلا: أنّه ترك استعمال ضمير الأنا في التّحليل، وفضّل استعمال ضمير الغائب في النّصِّ على اسمه (سامي مهدي) كقوله مثلا إنّ (عوليس سامي مهدي جندي مقاتل عاد إلى مدينته وبيته وزوجته في إجازة .. هو غير عوليس الأوديسة.. )، وحلّل بواكير قصائد ديوانه الأول (رماد الفجيعة)، وشرح استعماله شخصيّات أبي ذرّ الغفاري والسّندباد وعنترة وليلة الأخيلية كأقنعة، ولكنّه أفرط في سرد التّفاصيل. ورافق هذا النّقد كثير من التّعميم من دون أيّ تدليل على الكيفيّة التي بها كانت الأقنعة مختلفة عن استعمال الشّعراء السّابقين لها، وقد كان حريا بالمؤلّف تحليل تجارب شعرية أخرى اشتغلت على الأسطورة كي يقنعنا أكثر بالمحصّلة التي انتهى إليها آنفا لا أن يقصرها على نصوصه هو لا غير.

ثانيا: أنّه فضّل قصائده في استعمال الأساطير “في وقت كان غيره من الشعراء الستينيين ما يزالون يتعاملون مع الأساطير والرموز في إطار النماذج التي صنعها بدر السياب وسواه من شعراء جيله”[30].

ثالثا: أنّه كان كثير الإطلاق في أحكامه من قبيل قوله إنّ الخمسينيين أفادوا من تجارب السّتينيين. كما أنّ بعض أقواله تقاطعت مع تطبيقاته، كقوله إنّ الجيل ليس بلا أساتذة أو هو ناتج عن أزمة نقد أو قطيعة أو عقدة قتل الأب.

ونحن إذ نشير إلى سلبيات تجييل الشّاعر لنفسه ونقده لقصيدته، فإنّنا لا ننكر ما يتمتّع به الشّاعر سامي مهدي من إمكانيات نقديّة وبحثيّة تدلّل على ذلك كتبُه التي ألّفها قبل كتاب (الموجة الصّاخبة)، وبعدها مثل (أفق الحداثة وحداثة النّمط) 1988، و(وعي التجديد والريادة الشعرية في العراق) و( الثقافة العربية من الشفاهية إلى الكتابة) 1993و( نهاد التكرلي رائد النقد الادبي الحديث في العراق) 2001 و( تجربة توفيق صايغ الشّعرية ومرجعياتها الفكرية والفنية) 2009، وغيرها من الكتب التي فيها تتضّح حدّة طبع سامي مهدي في التوجّه المنهجي نحو معالجة المادّة المنقودة.

فإذا كانت المادّة المنقودة هي المجلاّت العراقية الرّيادية، فإنّ النّاقد يوجّه منهجه بشكل واع نحو الدّور الذي لعبته في تحديث الأدب والفنّ بين الأعوام 1945-1954 كمجلة الفكر الحديث والثّقافة الجديدة والأسبوع والكاتب العربي والفصول الأربعة، مؤكّدا أنّ كتابه “محاولة أوليّة تدخل في نطاق تاريخ الأدب وتاريخ الأفكار وتشير إلى أدوار بعض الأدباء والفنانين العراقيين في نقل القيم الأدبية وإشاعتها في الوسط الثقافي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية ولعلها تدحض الادعاءات التي تنسب إلى آخرين من غير العراقيين من دور مزعوم في تحديث الأدب والفن في بلادنا”[31].

ولكنْ حين تكون المادة المنقودة عبارة عن شاعر مثل أدونيس، فإنّ التفنيد هو المنهج الذي يجعل النّاقد سامي مهدي يتصدّى لأهمّ سمة في شعر أدونيس وهي الحداثة، آخذا عليه عدم إشارته إلى المصادر التي يقتبس منها الحداثة الأوربية ويدّعيها لنفسه، عائبا عليه تقمّص أفكار الغربيّين في مشروعه حول قصيدة النثر، أو ما سمّاه جناية تسويق أفكار الكاتبة سوزان برنار والإساءة إلى مشروعها في قصيدة النثر وأن “أدونيس تبنى ما التقطه من كتاب برنار تبنّياً مطلقاً واعتمده أساساً لكتابة قصيدة نثر عربية”[32]، بينما احتفى بتجربة توفيق صايغ الشّعرية وعدّه رائدا من روّاد الحداثة الشّعرية وصاحب مشروع شعريّ خاص ومتميّز لأنه أوجد نظاماً إيقاعيّاً بديلاً، خالياً من الوزن والقافية، وكرّس له كلّ إمكانياته الثّقافيّة والفنيّة[33].

3- خاتمة:

مؤدّى القول إنّ التّخليد في التاريخ أيّاً كان رسميّاً أو شعبيّاً، أدبيّاً أو عامّاً، ليس رهناً بشخص واحد، حتى وإن كان هذا الشّخص متخصّصاً في القيام بهذا الأمر، وإنما هو عمل قد يكون إنجازه مؤسّساتيا وبعد زمن ليس بالقليل من الحقبة المراد التأريخ لها. وبما يضمن للتّوثيق النّزاهة والبعد عن الشّخصنة الذاتية والأهواء والمصالح النفعيّة.

ومثلما تفاوتت طرائق المؤرّخين في ما وصل إلينا من تاريخ أدبي وثّق للشّعر والشّعراء بدءاً من طبقات ابن سلّام ومروراً بمعاجم شعراء العصور الإسلامية والعصور المتأخّرة والعصر الحديث، فإن للشعر المعاصر تاريخه الأدبي وفيه تتباين أيضا طرائق المؤرّخين تبعا لطبيعة المتغيّرات الشّعرية وما لهؤلاء المؤرّخين أنفسهم من أهواء أو تنافس واحتراب. ولا مراء في أنّ التّخليد في سجلاّت التّاريخ الأدبي للشّعر ــ فيما ينبغي للتاريخ أن يذكره ويشير إليه بالبنان ــ لا يكون ثمرة رغبات عابرة وتخندقات ممنهجة وميول مصلحية وآنية، بل هو أسمى من ذلك تحصيلاً وأعم جدوى.

إنّ التّخليد في سجل الشّعر فعل تلقائيّ ويتأتى بفعل إنجاز فرديّ أو جماعي، يترك بصمة على المستويين الفنّيّ والموضوعيّ للشّعر خلال مرحلة زمنيّة ما. وهذه البصمة هي التي تعطي للاسم الشّعريّ حظّه من التّخليد الأدبيّ، فيشتهر عطاؤه، على نحو يضمن له مكانة على صفحات التّاريخ الأدبيّ للمرحلة التي عاصرها أو الحقبة التي عاش فيها. ولا تزول هذه البصمة بزوال تلك المرحلة، بل تستمر شاخصة وواضحة حتى تلقي بظلالها على مراحل أو حقب قادمة تأتي من بعدها، قد تكتفي بتقليد هذه البصمة، وقد تتمكّن من تطويرها أو تبني عليها، أو تتجاوزها إلى غيرها.


[1]– غالي شكري، العنقاء الجديدة صراع الأجيال في الأدب العربي المعاصر، دار الطليعة للطباعة، بيروت، ط3، 1993، ص6.

[2]– وضع السياب مختارات من الشّعر الانجليزي، ووضع حسب الشيخ جعفر مختارات من الشّعر الروسيّ، وترجم أدونيس لشعراء عالميّين مثل سان جون بيرس وكفافيس، فضلا عن مقدّمته لديوان الشّعر العربي، وللبياتي أيضا مختارات من هولدرلن وأركون وجلال الدين الرومي والسهروردي. وقدّم توفيق صايغ مختارات من الشّعر الأمريكي، ومثله فعل فؤاد رفقة وصلاح عبد الصبور وغيرهم.

[3]– سامي مهدي، الموجة الصاخبة: شعر الستينات في العراق، دار ميزوبوتاميا للنشر، بغداد ، طبعة مزيدة ومنقحة، 2014 ، ص7.

[4]– المصدر نفسه، ص27.

[5]– المصدر نفسه، ص10.

[6]– المصدر نفسه، ص24.

[7]– المصدر نفسه، ص47.

[8]–  قال المؤلف: إن الشعرية المشمولة بالتجييل هي بين 1964 إلى 1975 بوصفها (الفترة التي بها تكون الجيل وأعلن عن نفسه وانطلاقه نحو مستقبله الشعري) ولم يف المؤلف بقوله هذا على المستوى النقدي.

[9]– عزيز السيد جاسم، الصرع الأدبي، مجلة الأقلام، العدد الرابع، 1965، ص109-110.

[10]– سامي مهدي، الموجة الصّاخبة،  مصدر سابق، ص70.

[11]– المصدر نفسه، ص119.

[12]– المصدر نفسه، ص266-267.

[13]– المصدر نفسه، ص269.

[14]– المصدر نفسه، ص219.

[15]– المصدر نفسه، ص129.

[16]– المصدر نفسه، ص283. أورد فاضل العزاوي أنّ السّبب هو فقدانه للقصائد. ينظر: الروح الحية، جيل الستينات في العراق، فاضل العزاوي( بغداد: دار المدى، بغداد، ط2، 2003 ) ص274،279،286.

[17]– سامي مهدي، الموجة الصّاخبة، مصدر سابق، ص298.

[18]– المصدر نفسه، ص367.

[19]– المصدر نفسه، ص346.

[20]– المصدر نفسه، ص363.

[21]– المصدر نفسه، ص322.

[22]– المصدر نفسه، ص331.

[23]– المصدر نفسه، ص 325.

[24]– المصدر نفسه، ص327-328.

[25]– المصدر نفسه، ص372.

[26]– ينظر: عزيز السيد جاسم، الصرع الادبي، ، ص ص9،10. وممّا أكّده الكاتب هو أنّ الصرع الأدبي لا يختلف عن الاصطراع، كما أنّه ظاهرة لا تشمل أديبا بمفرده إنّما تشمل الأدب ككلّ، فأدب يمجّد الإنسان، وأدب ينظر للإنسان بتصغير واحتقار. وقد يكون عند الأديب نفسه، وهو سمة من سمات انهيار الإنسان في العصر الحديث.

[27]– ينظر: سامي مهدي، الموجة الصّاخبة، مصدر سابق، ص348.

[28]– المصدر نفسه، ص333.

[29]– المصدر نفسه، ص362-363.

[30]– المصدر نفسه، ص338.

[31]– سامي مهدي، المجلات العراقية الريادية ودورها في تحديث الأدب والفن، دار ميزوبوتاميا للنشر، بغداد، ط1 2014، ص13.

[32]– سامي مهدي، أفق الحداثة وحداثة النمط، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1988، ص141.

[33]– سامي مهدي، توفيق صايغ الشعرية ومرجعياته الفكرية والثقافية، دار ميزوبوتاميا للنشر، بغداد، ط1، 2005، ص161.

مقالات أخرى

تعدّد الطّرق الصّوفيّة

جماليّة التّناصّ في الشّعر الصّوفيّ

“زيارة” الضّريح بإفريقيّة مطلع العصور الوسطى

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد