الملخص:
تسعى هذه المساهمة الى رصد أهمّ المنعطفات الابستمولوجيّة والمنهجيّة لإشكاليّة التّربية بالنّوع الاجتماعيّ. وهذا لا يعني تعقّب الإشكالية من منظور كرونولوجيّ – رغم أهميته- إنّما سنعتَمِدُ السّياق الموضوعاتيّ أساسًا، مع التّركيز الحصريّ على التّفاوتات الاجتماعيّة، والاختلافات بين الجنسين من المنظور الفرونكوفونيّ، أو في سياق المجتمع الفرنسيّ.
الكلمات المفاتيح: الثقافة المدرسية – التفاوت بين الجنسين – النوع الاجتماعي- المنهاج الدراسي – المنظور الفرونكوفونيّ.
Abstract:
This contribution seeks to monitor the most important epistemological and methodological turns of the problematic of gender education, and this does not mean tracing the problem from a chronological perspective, despite its importance, but we will rely mainly on the thematic context, with an exclusive focus on social disparities, and differences between the sexes from the Francophone perspective or in the context of French society.
Keywords : School culture – Gender disparity – Gender – Curriculum – Francophone perspective.
1- المقدّمة:
شكّل سؤال المساواة بين الجنسين في المدرسة موضوعا مركزيّا للجدالات التي فتحت في سنوات التّسعينيات بين السّوسيولوجيين والباحثين في علوم التّربية. والكلّ يتوافق على الإقرار بأنّ الأمر يتعلّق بديناميّة غير مكتملة. ظلّ تحقيقها فعليّا مشروطا بالتّقسيم الطّبقيّ والجنسيّ للمعرفة. وظلّ تقليص اللاّمساواة بين الجنسين في الوظائف، وفي الرّواتب، وفي تقاسم العمل المنزليّ (الأشغال المنزليّة) والمسؤوليّة الأبويّة بعيدا عن مستوى تطلّع الفتيات وطموحاتهنّ المدرسيّة[1].
وعلى ضوء ذلك، تحاول هذه المساهمة رصد أهمّ المنعطفات الإبستمولوجيّة والمنهجيّة لإشكاليّة التّربية بالنّوع الاجتماعيّ. وهذا لا يعني تعقّب هذه الإشكاليّة من منظور كرونولوجيّ-على أهمّيته- إنّما سنعتمد السّياق الموضوعاتيّ أساسا، مع التّركيز الحصريّ على التّفاوتات الاجتماعية، والاختلافات بين الجنسين[2] .
2- الخلفيّة المعرفيّة:
ركّز الباحثون في الحقل الفرنسيّ منذ الستّينيات اهتمامهم على مسألة اللاّمساواة الاجتماعية داخل المدرسة. لكنّ الدّارسين لقضايا النّوع الاجتماعيّ، والمهتمين بسياقاتها يلاحظون أنّ المنظور الفونكوفونيّ أهمل التّفاوتات بين الجنسين، خاصّة تلك المتعلّقة بالنّجاح وبالمسارات الدّراسية. لكن “قلّما تمّ البحث والتّحليل لتفسير هذه التفاوتات”[3]. وفي مقابل ذلك، حاول علماء الاجتماع المعاصرون استدراك هذا النّقص، وتصدّوا لكلّ التّفسيرات التي تمتح من الحسّ المشترك، وذلك عبر وضع فروق دقيقة للتّمييز بين مفهوميْ الجنس والنّوع الاجتماعيّ: فإن كان الأوّل معطى طبيعيّا، فإنّ الثّاني بناء اجتماعيّ. والرّهان الأساسيّ من وراء هذا التّمييز هو دحض الاعتقاد السّائد بأنّ الأدوار الاجتماعيّة والخصائص السّيكولوجيّة الجنسانيّة “sexués” للأفراد هي الطبيعيّة حصرًا. والتّأكيد على أهميّة البناء الاجتماعيّ لمفهوم النّوع. ذاك الذي لا ينحصر في خلق التّمايزات في الأدوار الاجتماعيّة والمميّزات النّفسية بين الرّجال والنّساء. بل في خلق تراتبيّة بينهما، باعتبارها “الطّريقة الأوليّة نحو الدّلالة على علاقات القوّة والهيمنة”[4].
عموما، إنّ من نواتج هذا التّفاعل، ظهور حقلين معرفيين، الأوّل، يحاول تفسير مفارقة التّفوّق الدّراسيّ للفتيات وتوجّههنّ بالمقابل نحو تخصّصات حِرَفيّة أو مسارات مهنيّة. بل ومواقع في سوق الشّغل أقلّ أهمّية وقيمة من تلك التي يوجَّه إليها الفتيان، وهم الأدنى منهنّ على مستوى الأداء المدرسيّ. والثّاني خاصّ بالتّنشئة الاجتماعيّة المتمايزة و غير المتكافئة بين الأولاد والبنات داخل المدرسة، وذلك عبر ملاحظة الحياة المدرسيّة اليوميّة وممارسات الأساتذة في إطارها[5].
بيدَ أنّا لو رُمْنَا بيان رؤية تفصيليّة حول هذين التصوّرين، سنقول: تتمايز أبحاث سوسيولوجيا التّربية التي تقارب موضوع التربية في علاقتها بإشكالية التّفاوتات بين الجنسين، تبعا لمعطيين أساسيين: تركيزها على حجم التّغيّرات التّربويّة الجارية من حيث المدى والعمق، من جهة، ودرجة إعادة إنتاج التّفاوت بين الجنسين، من جهة ثانية. فأعمال الاتّجاه الأوّل تشير إلى المنعطف التّاريخيّ في تحوّل مسار التّفاوتات بين الجنسين داخل المدرسة عقب تحسّن الأداء الدراسيّ للفتيات. بل وبداية تفوّقهنّ دراسيّا على أقرانهن الذّكور[6]. واهتمت كذلك بالمسارات غير المحتملة للفتيات اللّواتي اتّبعن دراسات، اعتبرت ذكوريّة لزمن طويل مثل الدّراسات الميكانيكيّة والمعلوميات الصّناعيّة، أو مدارس المهندسين[7].
وأعمال الاتّجاه الثّاني تفكّك سيرورة تراكم التّفاوتات على مستوى التّوجيه طوال المسار الدّراسيّ، والتي تعمل آليات التّمييز والإقصاء القائم على الجنس في سوق العمل على مضاعفتها باستمرار[8]. أو تعمل على إبراز بناء هذه التّفاوتات في الحياة المدرسيّة اليوميّة أي في خضم التّفاعلات التي تجرى بين التلاميذ، وبين الأساتذة والتّلاميذ. وهذا ما سنعمل على استجلاء طبيعته في المحاور الآتية.
3- الوعي الجمعيّ والمدرسة:
تخبرنا السّيكولوجيا الاجتماعيّة الإدراكيّة، أنّه لا يمكن تمثّل العالم وإدراكه إلاّ عبر التّصنيفات وإن كانت أوّليّة، من مِثلِ تصنيف: امرأة/رجل. وفي الحقيقة، يبقى هذا الأخير هو الأقوى استجابة للتّصورات النّمطية داخل وضعيات الاختلاط. وللإشارة يقصد بالأفكار أو التّصورات النّمطيّة حسب M-F Pichevin: مجموعة من الاعتقادات الجامدة، وأحيانا السّاخرة، من الخصائص المحتمل أن تتحلّى بها جماعة اجتماعيّة، داخل وضعيات تتّسم بالتّفاوت والتّراتبيّة بين جماعات اجتماعيّة غير متكافئة[9]. وتضيف الباحثة “أنّ الأفكار النّمطيّة حول الجنس توجّه نظرتنا إلى الآخر وتُشوّهُها، وتشمل مجمل الأحكام والتّأويلات والتّوقعات والسّلوكيات التي تنتج تأثيراتها دون أن تملك الذّات وعيا بها.
حسب المهتمين بالحقل التّربويّ، تؤثّر هذه التّصوّرات النّمطيّة على توزيع الجنسين داخل الفضاء المدرسيّ، حيث يُلاحظ هيمنة الذّكور على فضاء المدرسة وساحتها، خاصّة في السّلك الابتدائيّ والإعداديّ، كما يحتلّون المركز بألعاب ديناميّة ضمن جماعات كبرى تستوجب كثرة التّنقّلات، بينما تكتفي الفتيات بالانزواء في الجوانب بألعاب أكثر ثباتا [10]. ويلاحظ الشّيء نفسه في العلاقات التي يقيمها التّلاميذ فيما بينهم، فالذّكور داخل الفصل يحتلون الفضاء السّمعيّ “L’espace sonore”، ويمتلّكون الوسائل التي تتيح لهم الظّهور واكتساح المجال بواسطة شغبهم[11]. بالإضافة الى ذلك، -لاسيّما فترة المراهقة- يمارس بعض الذّكور الهيمنة على جماعة البنات، وذلك بطرق عديدة، سواء تعلّق الأمر: بحرمانهنّ من أخذ الكلمة، أو حرمانهنّ من أدوار قياديّة داخل الفصل، أو اللّجوء الى السّخرية من شكلهنّ أحيانا، أو الاستخفاف بتدخلاتهنّ أحيانا أخرى، وقد يصل الأمر الى استعمال إيحاءات جنسيّة جارحة[12]. وفي نفس الأفق، يؤكّد علماء الاجتماع الذين درسوا هذه الإشكاليّة، على أنّ التّصوّرات والأفكار النّمطيّة توجّه كذلك ممارسات الأساتذة دون أن يدركوا ذلك، حيث وضّحت العديد من الأبحاث في ميدان “المعرفة الاجتماعيّة الضّمنيّة” “Cognition sociale implicite ” أنّ تفاعل الأساتذة مع الذّكور أكثر من تفاعلهم مع الإناث(قانون 3/2 -3/1) إذْ يسألون الذّكور في الغالب أكثر. ويقدّمون لهم ملاحظات ذات طبيعة معرفيّة، ويوجّهون لهم أسئلة مركّبة ومعقّدة، ويتقبّلون تدخّلاتهم التّلقائيّة. ويتركون لهم الوقت الكافي للإجابة أو لتصحيح الإجابة. والأكيد أنّه لفهم هذه الفروقات كاملة لابدّ من وَصْلِها بالأصل الاجتماعيّ، وبالوضعيّة المدرسيّة للتّلاميذ.
ووَجَب التّنبيه في هذا السّياق إلى أنّ أبْيَنَ مجال تظهر فيه الفروقات هو المواد الموصوفة بالذّكوريّة، التّفوّق فيها حكرٌ على الذّكور[13]. بل أكثر من ذلك، حتى “إن أراد الأساتذة تأسيس تفاعلات أكثر توازنا يشتكي الذّكور حينها من الإهمال. ويبدو على الأساتذة التّقصيرُ، وهو ما يبرهن على أنّ معيار الضمنيّة في اعتماد معاملة متساوية بين التّلاميذ والتّلميذات، يخفي في الواقع معيارا يروم تفضيل جماعة الذّكور. والأمر بحسب الدّارسين لا يقف هنا. بل يتجاوزه الى درجة أنّ الأفكار النّمطيّة قادرة على التّحكّم في نوايا الأساتذة وأحكامهم، وهم الذين يتوقّعون أن تحبّ الفتيات المدرسة أكثر من الفتيان، وأن يكون الذّكور أقلّ انضباطا من الفتيات “الخاضعات”. الشّيء الذي ينتج ازدواجية في الأحكام. فيظهر عدم انضباط الذكور كما لو أنه أمر طبيعيّ، رغم كونه يعتبرُ سلوكا مُغضِبًا الفاعلينَ. في سياقٍ مُوازٍ، يبدو ذلك مرفوضًا بشدة من قبل الفتيات. ويوصف التّلميذ كثير الحركة والشغب بأنه حيويّ، بينما إذا تعلّق الأمر بالفتاة فإنّه يتمّ التّعامل معها داخل الفصل بما هي عنصر مشوّش. وعلى غير المتوقّع، كشفت الدّراسات عن الازدواجيّة في الحكم أثناء تقويم النّتائج المدرسيّة: فالأساتذة يمنحون للذّكور تقديرات تفوّق إمكاناتهم كعبارة “يمكنهم فعل أكثر” أو “Ils pouvaient mieux faire”، بينما الفتيات، ليس من المتوقّع أن يحصلن على تقديرات تتجاوز إمكاناتهنّ الفعليّة، هذا ما توضّحه عبارة “Tout ce qu’elles peuvent” هذا كلّ ما يمكنهنّ فعله. فتكون نتيجتهنّ محصّلة لعملهنّ الرّاهن، لا لإمكانياتهنّ وقدراتهنّ[14]. ونتيجة لذلك، يتعلّم الذّكور في المدرسة طرق التّعبير وإبراز الذّات، وممارسة سلطة الرّاشدين، بينما تظلّ علاقات التّبادل مع الرّاشدين لدى الإناث محصورة ومحدودة: فيتعلّمن كيف يأخذن مكانة أقلّ فيزيولوجيّا وثقافيّا، يتأهبن لتقبّل تقدير أقلّ من قبل الرّاشدين. واستتباعا لخضوعهنّ للسّلطة الذّكوريّة يَقِلُّ تعبيرهنّ. بل ويتعلّمن كذلك التّحمّل والخضوع دون احتجاج على الهيمنة. وهكذا يتمّ مأسسة “الهيمنة الذّكوريّة”. فعوض أن تكون المدرسة أداة لمناهضة هذه الهيمنة تصبح آلية لترسيخها. والشّواهد على ذلك، التّجارب المساقة آنفا، تلك التي يتعلّم فيها الذّكور أنّ لهم مكانة مهمّة داخل المدرسة يُعترف لهم بها، ويهيمنون بفضلها. في المقابل تظلّ للفتيات مكانة ثانويّة. وهذه الفكرة تتأكّد بوضوح من خلال المعارف المدرسيّة التي يتمّ تصريفها عبر البرامج. وهذا ما سنبرزه في المحور اللاّحق.
4- المناهج المدرسيّة والتّفاوت بين الجنسين:
يلاحظ علماء الاجتماع الفرنسيين في سياق مجتمعهم، هيمنة الفكر الذّكوري داخل البرامج والمعارف المدرسيّة؛ كما لو أنّ العلوم أعدّت من أجل الذّكور، فالشّخصيات الحاضرة بقوّة داخل الثّقافة المدرسيّة، هي شخصيات ذكوريّة، في مقابل ذلك قليلا ما تمّت الإشارة الى فئة النّساء النّشيطات المبدعات اللاّئي قمن بأعمال وازنة وإيجابيّة داخل المجتمع، حيث غُيّبت المرأة داخل الحقل السّياسيّ، وداخل جميع المجالات الثّقافيّة، في حين يشار للشّخصيات الذّكوريّة في مختلف حقول المعرفة سواء ما تعلّق منها بالأدب على وجه التّخصيص، أو العلوم الإنسانيّة على وجه التّعميم . بل إنّه لا وجود لأيّ حديث حول المرأة، أو حول النّوع داخل البرامج المدرسيّة. إنّ الثّقافة المدرسيّة حسب المصطلح الذي أطلقته ” Michèle le Doeuff“[15] ذات طابع ذكوريّ، masculine بامتيازٍ، مطبوعة بهذه الخصوصيّة التي لا تكتفي بتجسيد المسار التّاريخيّ والاجتماعيّ للرّجال، بل إنّها تعمل بشكل ازدواجيّ: من جهة تتصدّى لأيّ بروز للنّوع الاجتماعيّ، وتؤكّد على أن ” لا أهمّيةَ إلاّ لهم ولأرائهم”. وهكذا يتمّ تغييبُ المرأة في التّاريخ وفي الحياة الاجتماعيّة، وفي العلوم والثّقافة. تسعى هذه البرامج المدرسيّة إلى إقناع الذّكور والإناث أن ليس للمرأة قيمة حقيقيّة، وأنّ القيام بالإنجازات الكبرى ليس من مهامّها، وتنضاف هذه المحتويات الخفيّة إلى الواقع اليوميّ المعيش في الحياة المدرسيّة من أجل إقناع الذّكور بعظمتهم وإقناع الإناث باستكانتهن. وفي نفس الصّدد يؤكّد علماء الاجتماع الفرنسيين، أنّ مضامين المحتويات، لاسيّما المضمرة، ما هي إلا انعكاس مباشر للثّقافة السّائدة، تلك التي تنبني على الإعلاء من قيمة الذّكر على الأنثى. بلغة أخرى، يُمَرِّرُ المنهاجُ الخفيّ”: curriculum caché[16]– أي ما يتمُّ اكتسابُهُ في المدرسة (من معارف، وكفاءات، وتمثلات، وأدوار، وقيم…)- دون أن تظهر داخل البرامج الرسميّة. تمرّر كذلك تعلّمات اجتماعيّة، وتنقل نماذج، وتمثّلات، وسلوكات، وأدوارا، وقيما… تساهم جميعها في اكتساب التّلاميذ صورة معيّنة لأنفسهم. صورة مطابقة للنّظام الاجتماعيّ للجنسين.
ممّا لا شكّ فيه في نظر هؤلاء العلماء أنّ المدرسة ليست الهيئة الوحيدة المسؤولة عن هذا الأمر. فالأسرة كذلك معنية بهذا التّطبيع، ومسؤولة عن التنشئة ودورها في تشكيل الهويّة الجنسيّة إلى جانب (جماعة الأقران، الإعلام، التلفزة، الإشهار، الألعاب، ألعاب الفيديو، المجالات….). وباقي الهويّات كذلك، كما هو الشّأن بالنّسبة إلى الهويّة الاجتماعيّة. ولكن يشدّد الباحثون على أنّه من الخطأ إغفال دور المدرسة داخل هذا الحقل، حيث يُمضي التلاميذ سنوات طويلة. ويرون أنّ المدخل الأساسيّ لفهم هذه التراتبيّة، هو القيام بحفر أركيولوجيّ في جذور الثّقافة المدرسيّة، انطلاقا من المفارقة التّالية كيف يمكن تبريرُ وُلُوج الفتيات مسالك أقلّ حُضوة وتألّقًا، والحال أنّهنّ تفوّقنَ دراسيّا على الفتيان؟[17].
عموما، عرف المجتمع الفرنسيّ في السّنوات الأخيرة ارتفاعًا في نسبة الفتيات الحائزات على البكالوريا وتجاوزت نسبتهنّ نسبة الذّكور. هذا الإقلاع الثّقافيّ في صفوف الإناث جعل المختصّين في سوسيولوجيا التّربية بفرنسا ينتبهون إلى ما أطلق عليه الباحثان “كريستيان بودلو و روجي استابلي”Christia Boudelot،Roger Establet الواقعة الاجتماعيّة الأساسيّة” والمتمثّلة في :الدّيناميّة التّاريخيّة للتّفوّق الدّراسيّ للفتيات[18].
غنيّ عن البيان، أن الفتيات في المجتمع الفرنسيّ كنّ ممنوعات زمنًا طويلا من متابعة الدّراسات العليا طويلة الأمد، تلك التي تفضي إلى المهن العليا ذات القيمة، بينما في العصر الرّاهن أصبحت لهنّ حظوظ أكثر للولوج إلى كلّ المدارس، وإتمام مسارهنّ المدرسيّ والتّكوينيّ، الذي يخوّل لهنّ تسلّق المصعد الاجتماعي. ورغم أنّ هذا الانفتاح في نظر السوسيولوجيين كان بطيئا وتدريجيّا، إذ بدأ بالتّعليم الابتدائيّ مع بداية القرن العشرين، وانتهى بالتّعليم العالي، وبالمدارس الكبرى في سنوات السّبعينيات والثمانينيات[19]، فإنّ هذا لا يعني أنّ الفتيات الفرنسيات لم يسبق لهنّ تحقيق إنجازات مهمّة، سواء على المستوى المدرسيّ أو المهنيّ، وإنما كانت هناك حالات كل نماذج في عصرها، وهذا ما تؤكده أبحاث تاريخيّة – طالها النّسيان – كشفت عن الرّائدات اللّواتي دشنّ ولوج الجامعة والمدارس العليا نهايةَ القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين[20] وعن نساء عديدات قبعن في الظلّ، منهن من تلقّين تكوينات في التّسيير الإداريّ للمدارس الابتدائيّة والمدارس العليا بالقطاعين العامّ والخاصّ، وتكوينات من أجل الاشتغال بمهن القطاع الثّالث، الذي عرف تأنيثا مضاعفا مع نهاية القرن العشرين (كالكتابة والمحاسبة)، وبعض المهارات التّقنية كالخياطة، والرّسم الصّناعيّ[21].حقيقةً، هذه النّماذج لم تكن سوى الاستثناء الذي لا ينفي القاعدة. لكن مع بداية الستّينيات من القرن الماضي بدأ نوع من الانقلاب، حيث أصبح الاستثناء يميل الى القاعدة، والشّواهد على ذلك المعطيات الإحصائيّة التّالية:
- سنةَ 1960عندما تفوّقت الفتيات مدرسيّا، إذْ كان رسوبهنّ أقلّ من الذّكور في المرحلة الابتدائيّة. وتنامى هذا التّميّز[22] وامتدّ إلى المرحلة الإعداديّة، الشّيء الذي جعلهنّ بمنأى عن التّوجيه المسبق نحو المسالك المهنيّة. وبلغت نسبة الحاصلات على شهادة البكالوريا بميزة مشرّف 46,2% سنةَ 2003 في الشّعب العلميّة، وهي نسبة توشك على التّساوي مع الذّكور.
- سنةَ 2001، إثر دراسة ستّ سنوات بعد المستوى السّادس ولجت نسبة 71% من الإناث مستوى البكالوريا العامّة والتّقنيّة مقابل 56% فقط من الذّكور.
- وقد شكّلت الفتيات أغلبيّة كذلك في الجامعات بنسبة 56,5 % سنة 2003 . ووصلن في سنّ أصغر، وكنّ حاضرات في جميع التّخصّصات، وقاومن ذاك الإجراء الإقصائيّ خلال السّنتين الأوّليتين من الجامعة. وكانت لهنّ مشاريع مهنيّة أكثر طموحا مقارنة بالذّكور.
- تجاوزن مهنًا من قبيل أستاذة، أو أخصائيّة تقنيّة. بل تطلّعن إلى مهنة المحاماة، والقضاء، والصّحافة والطبّ. أي جميع المهن التي ظلّت لعقود من الزّمن حكرا على الرّجال[23].
إنْ كان من الطّبيعيّ أن ينعكس التّفوّق الدّراسيّ والمهنيّ إيجابيّا على مكانة المرأة في المجتمع، أي أنّ المجتمع الفرنسيّ حاول أن يواكب هذه التّحوّلات بنوع من الانفتاح الاجتماعيّ -خاصّة في الجامعة-فإنّها لم تُلغ تحكّم اللاّمساواة الاجتماعيّة في ولوج التّربية: حيث تبقى تمثيليّة أبناء الأطر العليا قويّة داخل المسارات المخصّصة للتّميز، من قبيل الشّعب العلميّة الكبرى[24]. حيث يتوافق التّسلسل الهرميّ للإنجاز الأكاديميّ خاصّة في مادّة الرّياضيات، التي يُفترض أن تكون المادّة الأقلّ تأثّرا بالطّبقة الاجتماعيّة مقارنة باللّغة الفرنسيّة، مع تراتبيّة الفئات السّوسيومهنيّة. وقد أكّدَ كلٌّ من كريستيان بوديلو/ Chrestia Baudelotوروجي استابليت Roger Establet ، أنّ البروز القويّ للفتيات في المدرسة لم ينجح بعد في إلغاء، ولا حتّى زحزحة تأثير الطّبقة الاجتماعيّة على الأداء المدرسيّ. كل التقدّم المسجّل تمّ في احترام تامّ للتّفاوتات المدرسيّة والاجتماعيّة[25]. يبقى أنّ تفوّق الفتيات سُجّل في كلّ الطّبقات الاجتماعيّة، وأنّ تأثير الأصل الاجتماعيّ على التّمدرس هو أقلّ بكثير لدى الفتيات منه لدى الفتيان.
والجدير بالذّكر أنّ آليتي الانتقاء: الطبقيّة والجنسيّة، حسب الباحثين في سوسيولوجيا التّربية بفرنسا، لم تعد تحتلّ الصّدارة بالنّسبة للأجيال التي ولجت مرحلة التّعليم الإعداديّ مع نهاية سنوات الستّينيات. فالإصلاحات النّوعيّة التي عرفتها الإعداديّات والطّرق الجديدة في التّوجّه إلى التّعليم المهنيّ – في نفس الفترة – دعّمت الانتقائيّة في صفوف ذكور الأوساط الشعبيّة. وأنّ فتيات الأوساط الشعبيّة ذات المسارات الناجعة، استطعن البقاء في الثّانويّة بأعداد كبيرة نظرا لمحدوديّة العروض المهنيّة المقدّمة لهن في المرحلة الإعداديّة، ناهيك أنّ ديبلومات القطاعات الثانويّة أو التكميليّة، التي تعرض عليهن لا قيمة لها مجتمعيّا، مقارنة بديبلومات المسالك الذكوريّة. فالفتيات الحاصلات على [ديبلوم الدّراسات المهنيّة] (Brevet d’étude professionnelle)، يتعرّضن إلى منافسة قويّة من قبل الشّباب الحاصلين على “BTS” diplôme technique supérieur/ ديبلوم تقنيّ متخصّص. وتنتشر البطالة في صفوفهنّ رغم توفّرهنّ على التّجربة. وفي نظر المهتمّين بالحقل التربويّ، إنّ الحلول المهمّة لدعم الفتيات في مساراتهنّ المدرسيّة تكمن -بلا شك- في استباقيّة المشاكل داخل سوق العمل من أجل إنجاح مخارج الدّراسة المهنيّة، لأنّ المشكل مطروح لديهنّ بحدّة أكثر من الفتيان، لأنّهنّ يجدن أنفسهنّ سجينات عدد محدود من المسالك التي تؤدّي في الغالب إلى مهن هي في الواقع عبارة عن أشكال ممأسسة اجتماعيّا للوظائف التّقليديّة المسندة إلى المرأة داخل الأسرة، مثل مهن الخدمات والتّجارة والتّربية والصحّة، بينما يتمّ الحفاظ على التّفاوتات في الولوج إلى التخصّصات العلميّة والتّقنيّة، حيث أصبح الدّبلوم مهمّا بشكل كبير، باعتباره مسلكا نحو الحريّة المهنيّة بالنّسبة إلى بنات الفلاّحين والحرفيين اللّواتي لم يرثن عن ابائهن رؤوس أموال ، خاصّة أنّ التّفاوتات بين الجنسين تزداد حدّتها داخل الأوساط سالفة الذّكر[26].
ولقد أقرّ خبراء الحقل التّربويّ الفرنسيّ أنّ نجاح الفتيات أصيلات الأوساط الشّعبيّة، أو المنحدرات من أصول مهاجرة تحديدًا مرتهنٌ بمردوديّة التّوجيه ونجاعته، خاصّة مع استمراره في إحداث تفرقة قويّة للمعرفة القائمة على الاختلاف الجنسيّ. والحقيقة أنّ، التّقدّم الدّراسيّ للفتيات لم يلغ إعادة إنتاج التّقسيم الجنسيّ للمعرفة، إذْ يوجد تناقض داخل جلّ بلدان العالم: نجاح كبير للفتيات مقابل تقسيم جنسيّ قويّ في المجالات الدّراسيّة. وتظهر هاتان الظّاهرتان بقوة بقدر غنى البلد[27].
ما يودّ علماء الاجتماع الفرنسيون التّأكيد عليه، استنادًا إلى الإشارات السّابقة، هو أنّ التّقدّم الاقتصاديّ وتطوّر النّشاط النسائيّ لا يقودان بطريقة حتميّة نحو تقليص التّمايز الجنسانيّ في الدّراسة وفي المهن. فالتّخصّصات المختلطة في فرنسا تبقى قليلة على العموم: (العلوم الإنسانيّة، المحاسبات، التّجارة…)، بينما نجد حضور الفتيات في عدد محصور من المجالات (التّعليم، الكتابة، الصحّة، الفنون، والآداب)، في حين يتوزّع الذّكور بطريقة أكثر تنوّعا على المسالك العلميّة والتقنيّة والصناعيّة من جهة، والقانون والاقتصاد، التّسيير والعلوم الإنسانيّة من جهة ثانية. وإذا تفحّصنا المعطيات الفرنسيّة، نلاحظ أنّ التّمييز يكون قويّا في ثانويّات التّأهيل المهنيّ، وفي مراكز التّكوين -حيث يُعَدُّ الاختلاط استثناءً[28]– نجد الذّكور بنسب كبيرة في المسالك الصناعيّة والحرفيّة، والإناث في مسالك القطاع التكميليّ بأعداد كبيرة: (مساعدة في الكتابة، كاتبة، قطاع الصحّة، الخدمات)، وهذا ما تؤكّده المعطيات الإحصائيّة التّالية:
- شعب تكنولوجيّة ذكوريّة في معظمها، 7,4% فقط من الحاصلات على البكالوريا شعبة “العلوم التّقنية والصناعيّة”. و65.5% شعبة العلوم والتّقنيات التّكميليّة. و95,5% في شعبة “العلوم الطبّية الاجتماعيّة”.
- خلال سنة 1962 شكّلت الفتيات نسبة 63% في البكالوريا الأدبيّة(أ)، و%56 في العلوم الاقتصاديّة (ب)، و54% في العلوم التجريبيّة (ج)، و23% في العلوم الرّياضيّة (د). وغابت حصتهنّ في شعبة الرّياضيات وعلوم المهندس (ت).
- عرفت هذه النّسب ارتفاعا كالتّالي (أ)83% ،(ب) %64، % (ج)58.7% ،(د) 41.2%. أمّا حضورهنّ في شعبة الرّياضيات وعلوم المهندس فقد بقي هزيلا، بنسبة 8,5 %. وهو رقم مقلق يعلن عن استمراريّة التّوجيه الجنسانيّ لفترات طويلة[29].
- رغم النّّجاح الذي حقّّقته الإناث، ورغم الاهتمام الذي أبدينه تُجاه الموادّ العلميّة خلال التّعليم الابتدائيّ والثّانويّ، يتّضح جليّا أنّ الفتيات يُوَجَّهن نحو المسالك العلميّة بنسبةٍ أقلّ، مقارنة بالفتيان. إنّ طلباتهنّ من أجل ولوج السّنة الأولى ثانوي علمي منخفضة بنسبة27,6% فقط، مقابل 49% للذّكور. ولا تتعدّى النّسبة 20% عندما يكون الأب عاملا غير مؤهّل، بينما معدّل الذّكور الذين قدّموا طلباتهم بلغ40%[30].
- ويتواصلُ اختفاء الفتاة داخل المسارات العلميّة ذات التّميّز. فخلال اختيارات ما بعد البكالوريا لسنة “2002” نسبة 29,9% من الفتيات ولجن الأقسام التحضيريّة للمدارس العليا، بينما بلغت نسبة الفتيان 38,8% من بين الحائزين على البكالوريا العلميّة[31].
إنّ تراكم التّفاوتات على مستوى التّوجيه طوال المسار الدراسيّ -وِفْقَ ما أشارت إليه الأرقام سابقا- كان نتاجًا حتميّا لتنشئة اجتماعيّة متمايزة، وسلوكات تكرّسها الصّور النّمطيّة الجنسيّة التي تمّت معاينتها لدى مختلف الفاعلين، والتي تؤثّر بدورها على التمثّلات حول المسالك الدّراسيّة. وهي حاضرة لدى الأساتذة والأستاذات والتّلاميذ. إنّها تعتمد تصنيفا ثنائيّا للمسالك عِمادُهُ الاختلاف الجنسيّ: فمنذ المرحلة الابتدائيّة على الذّكور أن يحبّوا الرّياضيات، وعلى الفتيات أن يحببن الآداب. وترى الباحثة كلود زيدمان/ Claude zaidman أنّ هناك من الباحثين من يعتبر هذا الانتقاص من القيمة المدرسيّة للفتيات dévaluation scolaire des filles لحظة التّوجيه، نتيجة للتنشئة الاجتماعيّة الأوليّة للفتيان والفتيات، معزّزة بالتّقييم المتمايز للأساتذة تبعا لجنس التّلاميذ[32]. ففي المدرسة إذن نتعلّم استثمار المجالات والشّعب تبعا للجنس المصرّح به في الحالة المدنيّة. فاللّواتي يخترن التّوجّه نحو المسالك التي تعتبر عادة ذكوريّة يتولّد لديهنّ شعور الخوف من أن يجدن أنفسهنّ مبعدات من طرف زملائهنّ الذّكور. وتضيف الباحثة ماري ديري بلا / Marie Duru- bellatأنّ مقاومة الفتيات لوضع مماثل تكون على حساب تكلفة نفسيّة -مسكوت عنها- عندما يجدن أنفسهنّ أقليّة داخل جماعة، تروم أغلبيتها التّشكيك في شرعيّة تواجدهنّ والاحتجاج عليه[33].
والجدير بالملاحظة أنّ اختيار المسالك لا يُبينُ عن القدرات والكفاءات المعرفيّة والإدراكيّة فحسبُ، بل عن سؤال الهويّة أيضًا لاسيّما أن المناهج والمسالك الدّراسية تفتح المجال أمام مهن معيّنة. وتضطلع بدورٍ كبيرٍ في بناء الهويّة الجنسيّة. ويتدخّل عنصر آخر لا يقلّ أهميّة في اختيار مسالك الدّراسة ألا وهو تمثّل المستقبل المهنيّ المحتمل، لأنّ هذا الأخير ينبني في توافق مع عالم الرّاشدين ومع سوق العمل، الذي نعلم مسبقا أنّه يتميّز بتقسيم جنسيّ قويّ للوظائف أفقيّا وعموديّا. [34] وإذا كان معدّل النّساء النّاشطات قد عرف نموّا (80% من النّساء ما بين 25 و49 سنة كنّ نشيطات خلال سنة 2000). فإنّ سوق العمل لازال يشتغل وفق توظيف جنسانيّ، ولازالت هناك مجالات ووظائف لم يشملها الاختلاط بعد.
تنحصر الوظائف التي تشغلها النّساء بشكل أساسيّ مقارنة مع تلك التي يشغلها الرّجال. وتبلغ نسبة الوظائف التي تشغلها النّساء 56% داخل التّصنيفات الخمس الأكثر تأنيثا لسنة 2006 (مقابل54% سنة 1990)، بينما التّصنيفات الخمس الأكثر ذكوريّة تمثّل 25% من الوظائف الذكوريّة. تحتلّ معظم النّساء وظائف القطاع التّكميليّ (الثالث)le secteur tertiaire ب 67 % ومن القطاعات الأكثر تأنيثا نجد التّربية والعمل الاجتماعيّ ب 72% والقطاع الخدماتيّ ب 63%، ويضم هذين القطاعين 40% من النّساء الموظّفات. يزداد عدد النّساء اللّواتي يتقلّدن وظائف لا تتطلّب التّأهيل، ولا تتطلّب دواما كاملا، بشكل مستمرّ بغضّ النّظر عن مستواهنّ الدّراسيّ، وعن مجال تكوينهنّ. ولازالت الفتيات الشابّات في اصطدام مع المشاكل الكبرى التي يطرحها اندماجهنّ خاصّة مع تعميق الفوارق الحاصلة في المرتّبات الشهريّة بينهنّ وبين الرّجال أصدقاء الدّراسة بالأمس، زملاء العمل وأزواج اليوم، فوارق قد تصل إلى 20% في المعدّل عند توفرهنّ على نفس الدّبلوم وإلى نسبة 15%عند حيازتهنّ لنفس الدّيبلوم ونفس المسار المهنيّ.
إنّ اشتغال سوق العمل وفق منطق التّفاوتات بين الجنسين يتقاطع إلى حدّ كبير مع طريقة اشتغال الأسر، حيث غالبيّة الأشغال المنزليّة والتّربويّة، مسندة إلى المرأة 70% من الأعمال المنزليّة و60% من العمل التربويّ حسب آخر تقرير صادر عن المركز الفرنسيّ للإحصاء والدّراسات الاقتصاديّة INSEE[35]. كلّ هذه المكوّنات تستحضرنها الفتيات مسبقا أثناء التّحضير لمشروعهنّ المهنيّ، وأثناء اختياراتهنّ للمسار (عندما يتملّكن الاختيار بالطّبع).
كشفت الأبحاث أنّ مسألة التّوفيق بين العمل المهنيّ والحياة الأسريّة تطرح نفسها بقوّة منذ المراهقة عندما يفكّرن في مستقبلهنّ المهنيّ، في حين أنّ الأمر لا يشغل فكر الفتيان على الإطلاق. يفرز هذا الاستباق جزءا من التّوجيه الفارقيّ. يبني الإناث والذّكور اختياراتهم المدرسيّة، والمهنيّة، والشّخصيّة باعتماد عامل الواقع الاجتماعيّ. والمقصود هنا التّقسيم الجنسيّ للوظائف، والتّقسيم الجنسيّ للأدوار داخل الأسرة، كما لو أنّ هذه التّقسيمات ثابتة وغير قابلة للتّغيير. واللّواتي قاومن ونشدن التغيير، وتطلّعن إلى التّخصّصات الذّكوريّة هنّ اللّواتي استفدن من تربية أساسها مبدأ المساواة بين الجنسين: هنّ من حظين بدعم الآباء بشكل متكافئ مع ذاك المقدّم لإخوانهنّ الذّكور إن وجدوا، وذلك من أجل متابعة دراستهنّ داخل مجال “ذكوري”، وإنّ حصيلة هاته الاختيارات غير الاعتياديّة والمختلطة في البكالوريا، وفي الدّراسات العليا، هي التي قادت إلى ظروف إدماجيّه موفّقة، مقارنة بتلك التي صادفتها الفتيات اللّواتي قمن باختيارات أكثر تواضعا. أمّا اللّواتي غادرن مقاعد الدراسة مبكّرا، فتكون بداياتهنّ المهنيّة كارثيّة والوظائف المسندة إليهنّ بعيدة عن مجال تكوينهنّ، ناهيك عن تدنّي الأجور[36]. إنّ “ثمن العصيان” “Coût de la transgression” تدفعه بالتّأكيد الفتيات اللّواتي قرّرن مواجهة العالم الذكوريّ، الشعبيّ، الجامد. ثمن تكون تكلفته منخفضة بالنّسبة إلى الذّكور الذين قرّروا خوض غمار العالم النّسائيّ والاستثمار في مجالات نسائيّة (الكتابة، النّسيج، علم النّفس، اللّغات، الآداب). وإن كانت بداية اندماجهم صعبة لكن سرعان ما يسعون إلى الأحسن بجانب الفتيات[37].
5- الخاتمة:
وِفق تصوّر علماء الاجتماع، لا تنحصر وظيفة النّظام التّعليميّ في نقل المعارف إلى الأجيال الصّاعدة، إنّما تتجاوز ذلك إلى انتقاء نوعيّة المعارف المقدّمة بحسب طبيعة الجماهير المدرسيّة المتمايزة جنسيّا واجتماعيّا. فمن قلب النظام التّعليميّ تتفرّع شعب ومسالك تراتبيّة يتمّ انتقاؤها وفق آليتي الجنس والطّبقة. ولفهم التّفاوتات على مستوى التّوجيه القائمة على الجنس يجب مساءلة التّنشئة المتمايزة و غير المتكافئة بين الأولاد والبنات داخل الأسر، وداخل المدرسة. لكن ما لا يجب إغفاله حسب المهتمين بسوسيولوجيا التّربية هو أنّ التّقسيم السّوسيوجنسانيّ للمعرفة يفضي إلى تقسيم سوسيوجنسانيّ للمهامّ وللأدوار.
يؤثّر عالم المدرسة بشكل عميق في المجتمع وفي التّغيرات التي تنتج داخله، وهي على ضآلتها، تفضي إلى تحوّلات عميقة في مجموع النّسيج الاجتماعيّ،[38] وتظلّ مُخرجات المدرسة أساسيّة للتّغيير والإصلاح، رغم ما يروج داخل سوق العمل، و رغم صعوبة تحويل التّميّز المدرسيّ لدى الإناث إلى تمييز في المسارات. صحيح أنّ التّقدّم الدّراسيّ يعزّز نسبيّا موقعهنّ في المجتمع، ويسمح لهنّ بإعادة النّظر في أدوارهنّ الأسريّة وفي مشاركتهنّ في الحياة الاقتصاديّة، غير أنّه لا يفضي بشكل آليّ إلى تغيير جذريّ في وضعيتهنّ. فحتّى في المجال الدراسيّ نفسه، حيث التقدّم بارز وغير مشكوك فيه نظلّ بعيدين عن بلوغ مساواة فعليّة. مساواة في المسارات الدّراسيّة للفتيان والفتيات، وفي مآلاتها. وبهذا يبقى للرّجال هيمنة قويّة على المسالك التي تقود إلى أشكال مختلفة للسّلطة (الاقتصاديّة، والسّياسيّة، والقضائيّة، والرّمزيّة). حيث تظلّ النّساء متمركزات بقوّة في المهن الخدماتيّة (التّربية، الصحّة).
وفي أيّامنا هذه قد يتقاسم الرّجال مع النّساء بعض الكفاءات التي تمكّنهنّ من اكتساب المعارف ونقلها. غير أنّهم يحتفظون لأنفسهم بحقّ تقرير نماذج جديدة من المعرفة بشكل أحاديّ، وحقّ الهيمنة على الإنتاج الثقافيّ[39]. فلا أحد ينفي اليوم الضّرورة الملحّة إلى اجتهادات نظريّة حول موضوع التّربية والنّوع الاجتماعيّ. اجتهادات تستند إلى أبحاث ميدانيّة سوسيولوجيّة، وتنصبّ على كلّ مستويات المنظومة التعليميّة[40]. وذلك من أجل تحليل دعامات التّحوّل والمقاومة من جهة، وتطوير الحجج الكفيلة بتعزيز انخراط الأساتذة والتّلاميذ والآباء في الجهود التي تروم وضع حدّ للتّفاوتات بين الجنسين في مجال التّربية من جهة ثانية. إنّه لن يتسنّى لأيّ إصلاح أن ينجَحَ ما لم تتمّ تعبئة كلّ الفاعلين التّربويين، وفي مقدّمتهم الباحثون في مجال سوسيولوجيا التّربية[41].
وفي هذا الصدد، تقترح دبي وماري ديري بلا Marie Duru- Bellatعلى الدّولة أولويّة دعم التّربية على الاختيار. وبتعبير آخر، تقترح توعية التّلاميذ والآباء دون فرض رؤية استبداديّة للنّماذج، أو تبديد تامّ للأنموذج المذكر أو المؤنث. وبالتّالي يكون للتّلاميذ الحقّ في الاختيار والمساواة. إنّ التّفاوتات بين الرّجال والنّساء غير قابلة للذّوبان في التّربية. غير أنّ التّربية كفيلة بجعل الشّباب واعين بدواليب تلك التّفاوتات والقيود القويّة التي تفرضها عليهم اليوم وغدا. هذا الوعي شرط أساسي بالنسبة إليهم لكي يصيروا مسلّحين لأجل القضاء عليها[42].
المراجع:
- Anne Barriere et Nicolas Sembel «Sociologie de l’éducation» éd Nathan université -2002.
- Calude Zaidman, éducation et socialisation, Ouvrage collectif , Dictionnaire critique du féminisme , Dir Helena Hirata et autres, éd Puf , 2000.
- Catherine Marry et Nicole Mosconi, « genre et éducation »in ouvrage collectif, Traité des sciences et des pratiques de l’éducation sous la direction de Jack Beillerot et Nicole Mosconi, éd Dunod, paris 2006.
- Catherine Marry, Serge Schweitzer (2005), « Scolarité », M. Maruani (dir), Femme genre et société : l’état des savoirs, Paris, la découverte.
- Chrétien Baudelot et Roger Establet (1991), Allez les filles ! Paris, le seuil (rééd. En 1992 dans la coll. «Points textuels» .(
- D’après les données de la DEP”la Déduction pour épargne de précaution” Cf S.Lemaire (2004) que devient les bacheliers après leur Baccalauréat. Note d’information du ministère de l’éducation national, 4-14 juin.
- D’après les données secondaires des enquêtes formation qualification professionnelle de l’INSEE , réalisée au Masmas (CNRS).
- Delphine-Gardey dir 1994 « Histoire de pionnières » dossier de la revue travail genre et société nº4.
- François Dubet et Marie Duru-Bellat, 10 propositions pour changer l’école, éd seuil, 2015
- Françoise Lelièvre. Claude Lelièvre (1991), Histoire de la scolarisation des filles, Nathan et Rogers r. (dir), (2004), La mixité dans l’éducation. Enjeux passés au présent, Pairs, ENS éditions.
- Gerard Mareau (1994) : fille au garçon au lycée professionnel, Paris, éditions de l’atelier
- Jean -Claude Forquin (1980), L’approche sociologique des contenus et programmes d’enseignement », Perspective documentaire de l’éducation, n° 5,
- Jean-Pierre Terrail (1992), « Destins scolaire de sexe une perspective historique et quelques arguments », populations, n°3.
- Joan Scott (1988), Genre : une catégorie utile de l’analyse historique », Les cahiers du GRIF, n° 37-38, Le genre de l’histoire.
- Margaret Maruani Pour un bilan des savoirs sur les inégalités sexuées en tout genre, Df. (dir) (2005), femme genre et société : l’état des savoirs, Paris, la découverte.
- Marie Duru-Bellat (1990). L’Ecole des filles, Paris, L’Harmattan, 2004.
- Marie Duru-Bellat: Kieffer Annic .Catherine Marry (2001) : La dynamique des scolarités des filles, le double handicap questionné ». Revue française sociologie, vol 42-2 avril-Juin.
- Marie-France Pichevin (1995), De la discrimination sociale entre les sexes automatiques psychologiques : serions-nous tous sexistes ? in La Place Des Femmes . les enjeux de l’identité et de l’égalité au regard des sciences sociales, Paris, Ephésia-La Découverte.
- Marlaine Cacouault et Françoise Oeuvrard « Sociologie de l’éducation » éd la découverte, paris, 2001.
- Michele Le doeuff (1989), L’étude et le rouet, Paris, le seuil.
- Michle Ferrand, Françoise Imbert, Catherine Marry (1999), L’excellence scolaire » : une affaire de famille, le cas des normaliennes et normaliens scientifique, Paris L’Harmattan, C. Marry (2004), les femmes ingénieurs une révolution respectueuse, Paris, Belin.
- Nicole Mosconi. R. Dahl- Lanotte (2003): «C’est technique, est-ce pour elles ? Les filles dans les sections techniques industrielles des lycées. Travail ; genre et société ; n°9 ; avril
- Régine Sirota (1988), L’école primaire au quotidien, Paris, PUF.
- Roger Establet (2003) «Filles et garçons à l’école: un changement social à suivre» jaqueline Laufer . M Maruani (dir) : le travail du genre, les sciences sociales à l’épreuve des différences de sexe, Paris, éditions la Découverte.
- Serge Schweitzer (2002), les femmes ont toujours travaillé, une histoire de leur métier, XIXe-XXe siècle, Paris .
- Thomas couppie, Dominique Epiphane (2001) : « Que sont les filles et les garçons devenus? orientation scolaire atypique et entrée dans la vie active ». Céreq Bref, n° 178, sept.
[1]– Pour un bilan des savoirs sur les inégalités sexuées en tout genre, Df. M Marwani (dir) (2005), femme genre et société: l’état des savoirs, Paris, la découverte et M. Ferrand (2004), Féminin.. Masculin.
[2] – Anne Barriere et Nicolas sembel, « Sociologie de l’éducation » éd Nathan université, paris, 2002, P.10
[3]– Traité des sciences et des pratiques de l’éducation « genre et éducation », par Catherine Marry et Nicole Masconi, p. 443.
[4]– J. Scott (1988), Genre : une catégorie utile de l’analyse historique », Les cahiers du GRIF, n° 37-38, Le genre de l’histoire, p. 127-153.
[5] – Ibid. P. 444
[6]– J-P. Terrail (1992), « Destins scolaire de sexe une perspective historique et quelques arguments », op. cit.
[7]– M. Ferrand, F Imbett, C. Marry (1999), L’excellence scolaire » : une affaire de famille, le cas des normaliennes et normaliens scientifique, Paris L’Harmattan, C. Marry (2004), les femmes ingénieurs une révolution respectueuse, Paris, Belin.
[8]– Marie Duru-Bellat (1990) .L’Ecole des filles, Paris, L’Harmattan, 2004 , P.15
[9]– M-F Pichevin (1995), De la discrimination sociale entre les sexes automatiques psychologiques : serions-nous tous sexistes ? in La Place Des Femmes . Les enjeux de l’identité et de l’égalité au regard des sciences sociales, Paris, Ephésia-La Découverte.
[10]– Cf-C Ziadman (1996), La mixité à l’école primaire, Paris, L’Hamattan.
[11]– R. Siroto (1988), L’école primaire au quotidien, Paris, PUF.
[12]– Traité des sciences et des pratiques de l’éducation « genre et éducation », par Catherine Marry et Nicole Masconi, p. 445.
[13]– Ibid., p. 446
[14] – Ibid., p. 445-446.
[15]– M. Le doeuff (1989), L’étude et le rouet, Paris, le seuil, p. 55.
[16]– Jc. Forquin (1980), L’approche sociologique des contenus et programmes d’enseignement », Perspective documentaire de l’éducation, n° 5, p. 31-70.
[17] – Ibid, p :447
[18]– C Baudellot, Restablet (1991), Allez les filles ! Paris, le seuil (rééd. En 1992 dans la coll. « Points textuels » .(
[19]– Df. F-Le Lievre (1991), Histoire de la scolarisation des filles, Nathan et Rogers r. (dir), (2004), La mixité dans l’éducation. Enjeux passés au présent, Pairs, ENS éditoions.
[20]– D. Gardey (dir) 2000), «Histoire de péonnière», dossier de la revue travail, genre et sociétés, n° 4, p. 35-50.
[21]– S. Schweitzer (2002), les femmes ont toujours travaillé, une histoire de leur métier, XIXe-XXe siècle, Paris.
[22]– J-P. Terrail (1992), « Destins scolaire de sexe une perspective historique et quelques arguments », populations, n° 3, p. 645-676.
[23]– C. Marry, S. Schweitzer (2005), « Scolarité », M. Maruani (dir), Femme genre et société : l’état des savoirs, Paris, la découverte, p. 211-218.
[24] – Ibid., P :449
[25]– MDURU Bellat (1990) : L’école des filles.
[26]– M. Duru-Bellat: Akreffer C. Marry (2001) : La dynamique des scolarité des filles, le double handicap questionné ». Revue française sociologie, vol 42-2 Avril-Juin, p. 251-280.
[27]– D’après R. Establet (2003) « Filles et garçons à l’école : un changement social à suivre » un Laufer C. M Marconi (dir) : le travail du genre, les sciences sociales à l’épreuve des différences de sexe, Paris, éditions la Découverte.
[28]– Cf ; G. Mareau (1994) : fille au garçon au lycée professionnel, Paris, éditions de l’atelier.
[29] – D’après les données secondaires des enquêtes formation qualification professionnelle de l’INSEE , réalisée au Masmas (CNRS).
[30]– M. Duru-Bellat (2004), op. cit., p. 57.
[31]– D’après les données de la DEP Cf S. Lemaire (2004) que devient les bacheliers après leur Baccalauréat. Note d’information du ministère de l’éducation national, 4-14 juin.
[32] -Calude Zaidman, éducation et socialisation, Ouvrage collectif, Dictionnaire critique du féminisme, Dir Helena Hirata et autres, éd Puf , 2000. Pp. 49-54
[33]– CF. N MOSCONI R. DAHL- Lanotte (2003): «C’est technique, est-ce pour elles ? Les filles dans les sections techniques industrielles des lycées. Travail; genre et société ; n°9 ; avril ; Pp. 67-86.
[34] -Claude Zaidman;op; cit .Pp 49-54
[35] – Ibid., Pp. 451 – 453
[36] – Ibid., P. 453
[37]– Tcouppie, D. Epiphane (2001) : « Que sont les filles et les garçons devenus? orientation scolaire atypique et entrée dans la vie active ». Céreq Bref, n° 178, sept.
[38] – Christian Baudelot et Roger Establet, Allez les Filles! éd Du Seuil, Paris, 1992
[39] – Ibid, P. 454
[40] – François Dubet et Marie Duru-bellat, op, cit. P. 18
[41] -François Dubet et Marie Duru-Bellat, 10 propositions pour changer l’école, éd seuil, 2015
[42] – François Dubet et Marie Duru-bellat, op, cit .p109