التّشكيل اللّغويّ في شعر أحمد المعداوي

أحمد المعداوي المجاطي

 

الملخص:

يهدف هذا العمل إلى دراسة التشكيل اللغوي في شعر الحداثة عند أحمد المعداوي من خلال تجربته الشّعرية المتمثلة في ديوان الفروسية، محاولين تلمس العلاقة الجدلية القائمة بين جماليّة الرؤيا الشّعرية الحداثية، وبين التشكيل اللغويّ، وذلك باعتبار التشكيل اللّغوي يكمن في جمالية التعبير اللغوي وصياغته الفنيّة، في حين أنّ جمالية الرؤيا الشّعرية الحداثية تتحدّد في مضمون الرّسالة الشّعرية. ولفهم هذه العلاقة، سيكون من الضّروريّ اقتباس بعض خصائص المنهج الوصفي ومفاهيم الأسلوبية، والبلاغة العربية. ومن اللازم كذلك الوقوف على التّصوّرات النظرية النقدية للمعداوي قبل الولوج إلى عالم تجربته الإبداعية الشّعرية.

الكلمات المفتاحية: التشكيل الأسلوبي، شعر الحداثة، الرؤيا الشّعرية.

Abstract:

This research aims to study the language formulation in the modernist poetry of Ahmed Almaedawi through his poetic experience represented in his poetry collection “ALFOROSIA”, trying to touch the dialectical relationship between the aesthetic of the modernist poetic vision, and the language formulation, considering the language formulation lies in the aesthetics of linguistic expression and its formulation. Artistic, while the aesthetic of the modernist poetic vision is determined in the content of the poetic message. To understand this relationship, it will be necessary to quote some characteristics of the descriptive approach, stylistic concepts, and Arabic rhetoric. It is also necessary to identify Almaedawi critical theoretical perceptions before entering the world of his poetic creative experience.

Key words: language formulation, modernist poetry, poetic vision.


1- مقدمة:

قبل الشّروع في استكشاف خصائص التشكيل الأسلوبي  للحداثة الشّعرية عند المعداوي المجاطي، لابد من التأكيد، على أنّه رغم الكم الهائل من الدراسات الأدبية والنقدية التي صاحبت الخطاب الشّعري الحداثي المعاصر، منذ نشأته في العالم العربي، فإنّ الخصائص الأسلوبية لهذا الخطاب الشّعريّ ما زالت في تشكل مستمرّ، نظرا لطبيعة هذا الخطاب نفسه الذي يتبنّى مبدأ الهدم والبناء المستمرّ، والكتابة خارج النّموذج، وما إلى ذلك، دون أن يعني ذلك السّقوط في الفوضى والابتذال، لأنّ تحرّر الحداثة الشّعرية من سلطة عمود الشّعر العربي القديم، قد جعلها تتّجه صوب مفهوم جديد للشّعر، يتشكل في أسلوب جديد، وبلغة جديدة، ويعكس حالة نفسية خاصّة، لها إيقاعها الخاصّ، وتحوّلاتها التي تميّزها عن غيرها. فالحداثة الشّعرية تكمن في التعبير عن حالات التصدّع والانهيار الحضاري والاجتماعيّ، على خلاف الشّعر التقليدي الذي هو تعبير عن حالات التّكامل والاتّحاد.

فالحداثة الشّعريّة تقتضي استناد الشّعر إلى “رؤيا والرؤيا بطبيعتها قفزة خارج المفهومات السائدة، هي إذن تغيّر في نظام الأشياء وخصائص النّظر إليها، هكذا يبدو الشّعر الجديد، أول ما يبدو تمردا على الأشكال والطرق الشّعرية القديمة، فهو تجاوز وتخطّ يسايران تخطّي عصرنا الحاضر وتجاوزه للعصور الماضية، إنّه بهذا المعنى، حقيقته الخاصة، حقيقة العالم الذي لا يعرف الذهن التقليدي أن يراه”[1].

أما الحداثة الشّعرية عند المعداوي المجاطي فهي: “حركة واجهت الوجود العربي التّقليدي بعد أن انهار، وزالت صبغة القداسة عنه، وكان التّجديد بالنسبة إليها قويا عنيفا، يجمع بين فضيلة التفتّح على المفاهيم الشّعرية في الغرب، وبين الثّورة على الأشكال الشّعرية العتيقة، بقصد التّعبير عن مضامين تمخضت عنها معاناة الشّاعر لواقعه، وهو واقع شكلته الهزيمة، ورسمت ملامحه الغربة في عالم بدون أخلاق”[2].

لكن للمعداوي المجاطي رأي آخر يقضي بـ “أن وحدة التجربة تفترض وحدة الوسائل المستخدمة للتعبير عنها، مهما تعددت القصائد ومهما طال أمد التجربة”[3]. فهو يميل في تصوراته النظرية إلى أن “الشكل في الشّعر الحديث، شكل ينمو وليس شكلا بلغ ذروة النمو، وأن نمو الشكل مرتبط بنمو التجربة وتطورها ارتباطا وثيقا، وأن مثل هذا النمو لا يمكن أن يتم في الزمن المحدود الذي يلزم لكتابة قصيدة واحدة، بل يحتاج إلى مثل الزمن اللازم لكتابة ديوان كامل أو قصيدة طويلة بحجم ديوان”[4]. ومن ثمّ، فبناء القصيدة الشّعرية الحداثيّة يحتاج إلى التجريب المستمر. ومراكمة الإنتاج الشّعري هو وحده الكفيل بأن يرسم ملامح التجربة الشّعرية الحداثية.

2- التشكيل اللّغوي للشّعر الحداثي:

لقد بنى المعداوي المجاطي رؤيته حول التشكيل اللّغوي للحداثة الشّعرية من خلال دراسته النقدية الكرونولوجية الواصفة للغة الشّعر الحداثي، ذلك أن “لغة الشّعر الحديث خلال السنوات العشر التي تلت 1947 لم تكن قد أخذت طريقها إلى التطور ولا أقول التثوير، فقد ظلت في أحسن أحوالها متأرجحة بين نفس رومانسي باهت يؤثر الحقيقة على المجاز ويفضل البناء بالنعوت على البناء بالصور، وبين بناء متشنج يترصد الغرابة بالرسم وإنصاف الجمل … وبتدريج الفصحى لتلائم لهجة الرفاق والمناضلين في الريف المصري … وواضح أن هذه المزايا المعزولة لا ترتفع إلى ما أسميناه بالشّعرية والتي لا حداثة بدونها”[5].

والحداثة من ناحية توظيفها للّغة: “هي الحداثة التي تتأتى عن طريق توظيف كل الطاقات الإبداعية من أجل نقل التجربة الشّعرية إلى متلقيها نقلا مؤطرا بحدود الإمكانات البشرية، التي تقنع بالتميز والاختلاف، ولكنّها لا تطمح إلى الخارق واللاّمرئي والمجهول”[6].

ويرى المعداوي المجاطي أنّ توظيف التراث لغة وإيقاعا لنقل تجربة (رسالة) معاصرة قد ينتج في حالة موهبة فذّة، كموهبة السياب، أسلوبا متميزا، ولكنه لن يخترق جسد الحداثة كما يفهمها المتطرفون من نقاد وشعراء، حين ينطلقون من ديالكتيك إبداعي قائم على الهدم والبناء بهدف رجّ اللغة الموروثة وكسر توازنها وهدوئها وادعاءاتها التّجديدية[7].

يبدو أن المعداوي المجاطي وهو شاعر حداثيّ وناقد منظر للحداثة الشّعرية، قد تمكّن من دراسة التّجربة الشّعرية الحداثية من داخلها، وحاول أن يضعها في مسارها الصّحيح، فهو لا يعتبر الحداثة الشّعرية مجرّد تجاوز وتخطّ للنموذج الشّعري التقليدي، بل يرى أن للنموذج الشّعري التقليدي فضل كبير على الشّعر الحديث لأن “الشّعرية ليست من النوع الخارق ولا المتصل بالمجهول، كما تزعم تنظيرات غلاة الحداثة، وإنما هي متصلة اتصالا وثيقا بحدود المجاز والحقيقة كما هي موسومة في البلاغة العربية”[8] ويقول يوسف الخال في هذا السّياق: “يصطدم الشّاعر في عملية الخلق الشّعري بتحدّيين: الأوّل حدود اللّغة: قواعدها وأصولها التي لا يمكن تجاهلها إذا شاء أن يكون عمله ذا معنى لقراء هذه اللغة، وذا وجود في تراثها الأدبي، والثاني أساليب التعبير الشّعري المتوارث، والمتبع في التراث الأدبي، وهي أساليب راسخة في الأذهان وفي الذوق العام، بحيث يؤدي الخروج عليها بغير أناة ومهارة وفهم إلى إفراغ القصيدة من حضورها، بانقطاعها عن الآخر (المتلقي) إذ ما نفع القصيدة لولا حاجة الشّاعر الجوهرية إلى التواصل مع الآخر”[9].

3- حول ديوان الفروسية:

وسم المعداوي المجاطي ديوانه الشّعري بـ”الفروسية”[10] وهو عنوان للقصيدة الرابعة من الديوان[11]، ويحيلنا هذا العنوان، في ارتباطه بمجال الإبداع الشّعري العربي، إلى اتّجاه شعري عربي قائم الذات، له مميّزاته الفنيّة وخصائصه الجمالية، ظهر منذ العصر الجاهلي وتطوّر بتطوّر الشّعر العربي القديم، حتى أنّ أبا تمام انتقى مقطوعات شعرية من أشعار العرب القدامى ضمن ديوان وسمه بـ”ديوان الحماسة”[12]، حيث خصّص الباب الأول منه لمقطوعات شعريّة يفتخر فيها الشّعراء بفروسيتهم وشجاعتهم ويصفون فيها المعارك ويشيدون فيها بالأبطال ويتوعّدون الأعداء.

فالشّعراء الفرسان هم “الذين تدربوا على ركوب الخيل والقفز عليها، وشهر سيوفهم والتلويح برماحهم، وتسديد الضربات إلى أعدائهم، وذلك كالمهلهل التغلبي: فارس حرب البسوس، وعامر بن طفيل: فارس بني عامر بن صعصعة، وعنترة بن شداد: فارس حرب داحس والغبراء”[13]، وفروسية الشّاعر تقتضي المزاوجة بين الموهبة والقوة والإجادة في القول الشّعري، ثمّ القوة والشّجاعة والإقدام في اقتحام الوغى والذود عن حمى القبيلة. يقول علي الجندي في هذا الصدد: “فلم يكن لشاعر القبيلة المنهزمة أن يقف مكتوف اليد، معقود اللسان، فكان عليه أن يثأر لها بأشعار كلها قوة ترفع من شأن قومه وتحط من هيبة الشامخين المتطاولين، وتكسر حدتهم، وتطيح بغرورهم، فيعظم مفاخر قومه، ويعدّد انتصاراتهم السابقة، ويحاول التخفيف من أثر الهزيمة، ويتوعد أعداءه بالويل و الثبور وغير ذلك مما يخيف الأعداء ويرهبهم ويرفع روح قومه، ويثير فيهم العزة والقوة والأمل”[14].

وبالعودة إلى تطور مفهوم الفروسيّة في الثقافة العربية، نجد أنّ دائرته قد اتّسعت بشكل كبير لتشمل معاني مختلفة وصلت إلى درجة التضادّ، بحيث نجد أنّ الفروسية تدلّ قديما على الحرب، والشّجاعة، والقوة، والشدّة، وغيرها، أمّا دلالاتها الحديثة فتحيل إلى من الرياضة، والعدو بالفرس للترفيه، والاحتفال على ظهر الفرس بطلقات البارود وغيرها.

وبالنّظر في ديوان الفروسية للمجاطي، نجد أن جلّ قصائده تعكس مواقف الشّاعر النضالية حول قضايا إنسانية وحضارية، بغضّ النظر عن كل التأويلات التي تحاول الهروب بدلالة عنوان، “الفروسية”[15]، بعيدا عن الحقيقة، بدل تحديده في سياقه العام ضمن تاريخ الشّعر العربي. ويتضمّن ديوان الفروسية ثماني عشرة قصيدة هي: “الخوف”، و”عودة المرجفين”، و”كبوة الريح”، و”الفروسية”، و”دار لقمان عام 1965″، و”قراءة في مرآة النهر المتجمد”، و”ملصقات على ظهر المهراز”، و”القدس”، و”السقوط”، و”كتابة على شاطئ طنجة”، و”سبتة”، و”الدار البيضاء”، و”وراء أسوار دمشق”، و”سقوط الحكمة في دار لقمان”، و”الخمارة”، و “من كلام الأموات”، و “خف حنين”، و”الحروف”.

وقصيدة الفروسية التي أخذ منها عنوان الديوان ككلّ، تعكس قلق الشّاعر وهو أمام مشهد كرنفالي بتعبير ميخائيل بختين (Mikhail Bakhtin)، أقلّ ما يمكن القول عنه أنّه مشهد حربيّ هزليّ يحاكي أمجادا غابرة، بينما الحاجة ماسّة عند الشّاعر إلى معارك جدّية حقيقية، في ظل ما تعيشه الأمة العربيّة من نكبات ونكسات متتالية.

4- بناء النص الشّعري:

إن بناء القصيدة  في ديوان “الفروسية”، من النّاحية الشكلية، عبارة عن فسيفساء في غاية التّشكيل، حيث يلفت انتباه القارئ من أوّل نظرة، البناء المخالف كلّيا لبناء القصائد التقليدية ذات نظام الشّطرين، فالمجاطي على غرار سائر شعراء الحداثة بنى كلّ قصائد ديوان الفروسية وفق شكل الشّعر الحر ، أو ما يصطلح عليه بشعر التّفعيلة الذي يعتمد نظام الأسطر الشّعرية المتفاوتة الطول بدل نظام البيت الشّعري المتناظر الأشطر، فقد “تحرر من سلطان الوزن والقافية الموحدة كرد فعل للملل الذي انتاب الشّعراء من الرتابة التي طبعت الشّعر العربي على المدى الطويل وبعامل الانفتاح على المضامين والأشكال الجديدة عند الغرب وتطلع الشّعراء إلى تكسير الحدود بين الأجناس الأدبية، أي محاولة خلق القصة والملحمة والمسرحية في الشّعر كما هو الشأن في النثر، ونظرا لكون الأشكال القديمة لا تستوعب المضامين الجديدة تمّ تجاوزه لها إلى أشكال مختلفة أخرى”[16]

فالقصيدة في ديوان الفروسية عبارة عن سلسلة متتابعة من الأسطر الشّعرية غير الخاضعة لنظام محدّد، وهي موزّعة على مقاطع تفصلها عن بعضها مساحات فارغة أو إشارات خطية، أو لوحات مرقّمة أو حاملة لعناوين ثانوية.

وبالنظر إلى بناء القصيدة من ناحية النّمط الأسلوبي، فإنّ جلّ قصائد ديوان الفروسية يصعب الفصل فيها بين حدود السّرد وحدود الشّعر، حيث يحضر الزمان والمكان والشّخصيات والتبئير، ويغيب الاستعمال الشّعري للغة أحيانا. فالأسلوب القصصي السردي يكاد يكون خاصية مميزة لشعرية المجاطي، حيث يتم توظيف السّرد وفق نسق خطي أفقي، يتمّ فيه الانفتاح على مشاهد وصفية، وحوارات داخلية أو خارجيّة، ويستحضر أساليب للتّصوير كالتشبيه والاستعارة والمثل والتضاد والمقارنة، تدعم الخاصية الوصفية للقصيدة بدل خلق صور جمالية ذات وظيفة شعريّة خالصة.

5- الوظيفة الإخبارية:

يمثل الإخبار في شعر المجاطي مساحة واسعة، تكاد تهيمن على قصائد بكاملها، ذلك أنّ جلّ القصائد الشّعرية في ديوان الفروسية، تُفتتح بالأسلوب الخبري، ويتجلّى هذا الأسلوب في نقل أحداث ووقائع إلى المتلقّي، بالاستناد إلى جملة من الآليات وطرق تبليغ الخبر. ومعلوم أن “الوظيفة البارزة في الإسناد الخبري تتّجه للتواصل بين المتكلم والمتلقي”[17]، وبهذا تتقلص الوظيفة الأدبية الجماليّة، وتهيمن الوظيفة النّفعيّة للتواصل بين المتكلّم والسامع. ومع ذلك فالأسلوب الخبريّ في شعر المجاطي يؤدّي وظائف أسلوبية جمالية، تتغير بتغير السّياقات المختلفة، وتفاعل الوظيفة الشّعرية مع الوظائف اللّغوية الأخرى. ولنأخذ على سبيل المثال المقطع الأول من قصيدة “الخوف” التي افتتح بها ديوان الفروسيّة، إذ يقول المجاطي[18]:

الكِلْمة الصغيرهْ

تقالُ

أو تُخطُّ

فوقَ الماءْ

تَمشي بها الرٍّياحُ

وتبثُّها الرٍّمالُ

في الصحراءْ

تولدُ

أو تكونُ

أو تصوغُها

مصادفاتُ الصخبِ والضَّوضاءْ

فالإخبار هنا مرتكز على دلالة الكلمة بمعناها الواسع، ولكنّ نموّ دلالة الكلمة عبر جسد القصيدة، يدلّ على أن المقصود بالكلمة مهما قلّ حجمها، هي القول الشّعري الذي يكون تأثيره ممتدّا في الزمان والمكان، متجاوزا كلّ الحدود، خاصّة إذا كان قولا شعريّا صادقا نابعا من أعماق الذّات، ومنفتحا على حقيقة الواقع. وقد استطاع المجاطي أن يرتقي بهذا التّعبير الخبريّ من المستوى التقريريّ المباشر إلى المستوى الجماليّ عبر الانزياح التركيبيّ والدلاليّ الذي يمكن أن نلمسه في قوله “الكلمة الصغيرة تخط فوق الماء” ” تمشي بها الرياح في الصحراء” تولد أو تكون أو تصوغُها مصادفاتُ الصخبِ والضَّوضاءْ”. هذا وبالوقوف أيضا على المقطع الأول من قصيدة “عودة المرجفين” حيث يقول المجاطي[19]:

في اللَّيلِ

لا جبلٌ يصولُ إذا مَشَوْا

لا غيمةٌ تَدنو

لِتَنفُثَ رعبَها الثَّلجِيَّ

عبرَ المُرتَقَى

كانوا هُنالِكَ

تشردُ الأحلامُ في خُطُواتِهِمْ

تَتَعذَّبُ الأوتارُ

في لَحنٍ يكفٍّنُ صولةَ الْماضي

فالمشهد هنا كئيب، يستحضر فيه الشّاعر اللّيل دلالة على السّكون المطبق الذي يعكس حالة الإحباط التي يشعر بها الشّاعر في زمن لا أحد يستطيع فيه تحريك السّكون وجمود الواقع الحضاري، ويصول صولة تأتي لتنفث الرّعب وتحيي أمجاد الماضي. وتمكّن جمالية الإخبار عن الكآبة والإحباط هنا، من خلال بنية اللغة الشّعرية الموشحة بالانزياح في قوله: “لا جبلٌ يصولُ إذا مَشَوْا” و “لا غيمةٌ تَدنو لِتَنفُثَ رعبَها الثَّلجِيَّ عبرَ المُرتَقَى” و “تشردُ الأحلامُ في خُطُواتِهِمْ” و “تَتَعذَّبُ الأوتارُ في لَحنٍ يكفٍّنُ صولةَ الْماضي”.

6- أسلوبية السؤال الشّعري:

بعد تتبّعنا لطبيعة الأسلوب من خلال قراءة إحصائية خطّية لديوان الفروسية، تبيّن في الحصيلة أنّ الاستفهام يتردّد بصيغته التركيبية الظّاهرة في ثلاثة وثلاثين موضعا من القصائد الثمانية عشر ة التي يضمّها الديوان، ويحتلّ النّداء والأمر المرتبة الثّانية في هرم التّشكيل الأسلوبيّ الطلبيّ لشعر المجاطي، من خلال توظيفهما مقترنين في سبع عشرة موضعا، ولعلّ من دلالات هذه الحصيلة أنّ السّؤال يكتسي أهميّة كبيرة في التّشكيل الأسلوبيّ  للمجاطي، بل هو بنية أساسيّة من البناء العامّ للقصيدة الشّعرية لديه، إذ نجده يخصّص مقاطع شعرية بكاملها لاختتام القصيدة الشّعرية، من أجل طرح السّؤال الشّعري الذي يتجاوز الحدود الجماليّة المعهودة للاستفهام، ليصبح السّؤال سؤالا فلسفيّا وجوديّا عن ماهية الزمان أو المكان، أو الذّوات أو الأحوال. فتصبح بذلك وظيفة الاستفهام هي الاكتشاف، والبحث عن الحقيقة، لأن الهدف الأساسيّ من الإبداع الشّعري لا يقف عند حدود محاكاة الواقع الخارجيّ، بل يمتدّ إلى خلق عالم جديد يكشف علاقات جوهريّة بين الأشياء والقوى الفاعلة والمحرّكة للحياة. يقول المجاطي على سبيل المثال في المقطع الأخير من قصيدته “الخوف”[20]:

ما بالُها تكبرُ

في الهواءْ

تحجُب وجهَ الشمسِ؟

تُلقي ظلّها؟

تَغمُرني

بالرَّجعٍ والأصداءْ؟

ما بالُها؟

مَملكتي مملكةُ الصمتْ

اخسأوا

أمقتُها كلْمةً

قيلتْ لغيرِ المدحِ

والهجاءْ

في سياق تعبيره هنا، عن ماهية الكلمة الشّعرية، يطرح المجاطي سؤاله الشّعري، حول الأسباب التي تجعل من كلمة الشّعرية، في أحيان كثيرة، تحجب الحقيقة السّاطعة، سؤال ليس له جواب قطعيّ، لأنه سؤال منفتح على تاريخ طويل من الإبداع الشّعري، كان الشّاعر فيه يذكر في الممدوح الصّفات الحميدة، وهو يعلم أنّ له صفات أخرى ذميمة بشعة. وقد تمّ تكرار صيغة الاستفهام “ما بالها؟” تأكيدا على أنّ الكلمة الشّعرية لا قيمة لها، وهي تعبر عن الحقيقة المزيّفة، كما يعكس تكرار صيغة السّؤال هنا قلق الشّاعر وألمه من حالة التردّي التي يعرفها الخطاب الشّعري العربي، من خلال انكفائه على تمجيد ما لا يستحق التّمجيد، وتشويه معالم الحقيقة.

ويستمر المجاطي في شعره على هذا النحو، فيطرح السّؤال الشّعري، ويترك الإجابة معلقة، ومشرعة على احتمالات عدّة تتناسل منها تساؤلات جديدة، ومن النّادر جدّا ما يحاول أن يجيب، فيخلق بذلك حوارا داخليّا يعكس حجم الألم الذي يستشعره بسبب غربته وضياعه بين الماضي العربي المجيد والحاضر البائس والأفق الصّعب، كما هو الحال في مثال آخر من قصيدة “خفّ حنين” حيث يقول متسائلا:[21]

وكيفَ تُسامرونَ النَّجم بعدَ غِيابِهِ؟

كُنَّا نُلفِّقُ أَحرفاً

ونَبيعُ أشْعارا

فلم نُفلِحْ

فقُلتُ أَشُقُّ لِلمرقَى طريقاً

في العذابِ

إنّ تساؤلات المجاطي الشّعرية من خلال استقراء ديوان الفروسية، تكاد تكون خاصية أسلوبيّة مميزة تتّخذ موقعا أساسيّا في التّشكيل الأسلوبيّ للقصيدة، وتعبّر عن رؤيته الشّعرية الحداثيّة وعن حجم الألم والغربة والضياع في عالم يستمتع بالفرجة على الانهيار الحضاري العربي. فيتساءل في قصيدة “عودة المرجفين”[22]: “كيفَ فاضَ الماءُ في التَّنُّورِ”، وفي قصيدة “كبوة الريح”[23] يتساءل: “من يُشعلُ الفرحةَ في مَدامِعي” و “أيُّ غيمةٍ رقيقهْ تحومُ حول كبوةِ الخيولْ؟”[24]، وفي قصيدة “الفروسية”[25] يتساءل: “كيفَ ارتَمتْ حَوافرُ الجَوادِ. دونَ أن أرى التُّفاحَهْ. في ضَحكةِ الثُعبانْ” وفي قصيدة “دار لقمان عام 1965”:[26] يتساءل: “كيفَ لا يورقُ بين هذِهِ/ الأسوارْ/ صوْتٌ وينمو في الدُّجى/برقٌ/ ويرتدُّ الصَّدَى/في الحِبرِ والأحْجارْ” كما يتساءل “متى يَفيض التَّمرُ والحَليبُ/ في الشِّفاهِ”[27] وفي قصيدة “قراءة في مرآة النهر المتجمد” يسأل: “منْ يقولُ إنَّ هذا الْقَيدَ/ لا يخرجُ من أسمائه/ ندىً/ وصَهباءً/ ومن يقولُ إنَّ ذَاكَ الأطلسَ العاشِقَ/ حينَ رقْرقَ الْماءَا/ بكى دماً/ وشقَّ في الصَّحراءِ/ صَحراءا”[28] وفي نهاية الملصقة الأولى من قصيدة “ملصقات على ظهر المهراز” يتساءل:ما تراهُ إذنْ يفعلُ الآن/ يَختُمُ بالشَّمعِ أحلامهُ،/يَتذكّرُ/ كيفَ تلُفُّ النِّساءُ العَباءاتِ/ في الْقصرِ،/ أمْ يقرأُ الآنَ ما يَتَيسَّرُ/ من سورةِ الْمائدهْ”[29]. ويتساءل في الملصقة الأخيرة من قصيدة “ملصقات على ظهر المهراز: “هلْ تعلمُ الطِّفلةُ الوَافِدهْ/ أنَّ عشراً مِنَ السَّنواتِ/ انْقَضينَ”[30].

وتعبيرا عن غربة الشّاعر في المدينة، وتأرجحه إحساسه بين الحياة والموت، يتساءل في قصيدة “القدس”:أين نموت يا عمّهْ؟”[31]، و”من أينَ آتيكِ/ وأنتِ الموتُ، أنتِ الموتُ/ أنتِ المبتغى/ الأصعبْ”[32]، و”أيّةُ عشوةٍ نبضتْ بقلبي/ في دم الصحراءْ/ وأيُّ رجاءْ/ تَفسَّخ في نقاء الموتِ “[33] وفي قصيدة ” كتابة على شاطئ طنجة ” يتساءل: “هل شربتَ الشَّايَ/ في أسواقِها السُّفلَى”[34] وفي قصيدة “سبتة” يسأل: “هل أنتِ واحدةٌ من نسائي/ العَذارى/ أمْ أنَّكِ عَينانِ/  غَرناطةٌ فِيهما طفلةٌ” [35] و”هل هَمستْ نسمةٌ،/ أنَّ تِطوانَ جارِيةٌ/ أنَّ مُراِكشاً تَنفُشُ العِهْنَ”[36]. وفي قصيدة ” الدار البيضاء ” يتساءل: “لِماذا تدورُ الحُروفُ التي تَلفُظُ اسْمكِ/ في قَبضةِ الرِّيحِ/ قُبَّعةً/.. هَلْ أنتِ سائحةٌ”[37] و”هل أنتِ عاشِقتي/ لِمَ لَمْ تَزرعِينيَ في رَحم الأبديةِ”[38] و”ماذا تقولُ الخناجرُ/ هل سقط الرأسُ؟ / أمْ سقطتْ في الدَّياجِيرِ/ أعمدةُ المِقصلهْ…؟”[39]. وفي قصيدة “وراء أسوار دمشق” يتساءل: “لماذا تَوارتْ عَنِ الْقلبِ/ حتَّى تفجَّرَ سِرُّ النَّواةِ”[40]، و “مَن يكتبُ اليومَ/ حتَّى على قَبضةٍ من دخان”[41].

ويؤكّد الشّاعر قلقه الشديد من انهيار الحضارة العربية بتساؤله في قصيدة “مشاهد من سقوط الحكمة في دار لقمان”: “أهذه دارُكَ يا لُقمانْ/… أما تَنفضُ عن كاهِلكَ الحِجارَهْ/ أما تعيدُ السَّيفَ واليَراعْ/ من غابةِ الشَّمسِ/ ومنْ جَزائِرِ الشُّعاعْ/ أما تُعيدُ اللهَ من غُربتهِ/ لوطنِ العِبارَهْ”[42]، وفي قصيدة “من كلام الأموات” يتساءل: “ما هديرُ المَوجِ/ ما الأَنهارْ/ وما الأَبدُ الذي يَنأَى/ وما الأَزلُ الذي يَجفُو/ ومعنى أنْ أَحِنَّ/ وأَن أَمدَّ يدي/ وأَن أختارْ/ وأَن أَمتَدَّ في حُلمٍ/ وأن أرتدَّ في تَذكارْ”[43]، ويعيد السؤال: “ما هديرُ المَوجِ/ ما الأنهارْ”[44]، وفي قصيدة “الحروف” يتساءل: “أَأَقول جِئتُ أمُدُّ جَسراً/ مِن جبالِ الرِّيفِ …/ أمْ أَتيتُ أعلِّمُ الفُرسانَ/ كيف تَغَصُّ بالدَّمعِ/ البَنَادِقْ”[45].

7- خاتمة:

نخلص من خلال هذه الدراسة إلى أنّ التّشكيل الأسلوبي في شعر المجاطي، ممثلا في ديوان “الفروسية” يعكس جمالية الرّؤيا الشّعرية الحداثية، ومواقفه النّضالية حول قضايا إنسانية وحضارية، ويمتاز التشكيل الأسلوبي في شعر المجاطي بخصائص نوعية يمكن إجمالها في النّقاط الآتية:

  • توظيف الأسلوب القصصيّ السردي، بحيث يتمّ توظيف السّرد وفق نسق خطيّ أفقي، يتمّ فيه الانفتاح على مشاهد وصفية، وحوارات داخلية أو خارجيّة، ويستحضر أساليب للتصوير كالتشبيه والاستعارة والمثل والتّضاد والمقارنة.
  • هيمنة الأسلوب الخبريّ وأدائه لوظائف أسلوبية جمالية، تتغير بتغير السّياقات المختلفة، وتفاعل الوظيفة الشّعرية مع الوظائف اللّغوية الأخرى.
  • طرح تساؤلات شعريّة في التّشكيل الأسلوبيّ للقصيدة، تعبّر عن رؤيته الشّعرية الحداثية وعن حجم الإحساس بالألم والغربة والضياع.

المصادر والمراجع:

المصادر:

  • أحمد المعداوي- المجاطي: الفروسية، ط1، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، الدار البيضاء، 1987.
  • أحمد المعداوي- المجاطي: الفروسية، ط 2، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، 2001.
  • أحمد المعداوي- المجاطي: أزمة الحداثة في الشّعر العربي الحديث، ط1، منشورات دار الآفاق الجديدة، 1993.
  • أحمد المعداوي- المجاطي: ظاهرة الشّعر الحديث، ط2، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، 2007.

المراجع:

  • أدونيس، زمن الشّعر، ط2، دار العودة، بيروت، 1978.
  • أسامة البحيري، تحولات البنية في البلاغة العربية، ط1، دار الحضارة للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، 2000.
  • الخطيب التبريزي، شرح ديوان الحماسة لأبي تمام: كتب حواشيه غريد الشيخ، ووضع فهارسه العامة أحمد شمس الدين، منشورات محمد علي بيضون، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، 2000.
  • علي الجندي، شعر الحرب في العصر الجاهلي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1958.
  • . مجدي وهبة وكامل المهندس: مصطلحات العربية في اللغة والأدب، مكتبة لبنان، 1984
  • نعمة أحمد فؤاد، خصائص الشّعر الحديث، مطبعة مخيمر، 1971.
  • يوسف الخال، مفهوم القصيدة مجلة شعر، ع 27، صيف 1963.

[1]– أدونيس، زمن الشّعر، ط2، دار العودة، بيروت، 1978، ص2.

[2]– أحمد المعداوي- المجاطي، ظاهرة الشّعر الحديث، ط2، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، 2007، ص8.

[3]-المصدر نفسه، ص198.

[4]– المصدر نفسه، ص200.

[5]– أحمد المعداوي- المجاطي، أزمة الحداثة في الشّعر العربي الحديث، ط1، منشورات دار الآفاق الجديدة، 1993، ص110.

[6]– المصدر نفسه، ص114.

[7]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[8]– المصدر نفسه، ص147.

[9]– يوسف الخال، مفهوم القصيدة مجلة شعر، ع 27، صيف 1963، ص 82، نقلا عن أحمد المعداوي: أزمة الحداثة في الشّعر العربي الحديث، ص 140.

[10]– أحمد المجاطي، الفروسية، ط1، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، الدار البيضاء، 1987.

[11]– المصدر نفسه، ص25.

[12]– الخطيب التبريزي: شرح ديوان الحماسة لأبي تمام: كتب حواشيه غريد الشيخ، ووضع فهاريسه العامة أحمد شمس الدين، منشورات محمد علي بيضون، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، 2000.

[13]– مجدي وهبة وكامل المهندس: مصطلحات العربية في اللغة والأدب، بيروت، مكتبة لبنان، 1984، ص217.

[14]– علي الجندي، شعر الحرب في العصر الجاهلي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1958، ج 1، ص64.

[15]– حاول نجيب العوفي تأويل عنوان الفروسية وذهب إلى أنه يدلّ على فروسية الحروف قائلا: “تلك هي السمة المميزة لشعر المجاطي. وفارس الحروف. تلك هي الصفة المطابقة الموافقة للشاعر المجاطي. وأعني بالفروسية الشّعرية هنا، شيئا قريبا مما عناه أسلافنا بمصطلح “الفحولة الشّعرية”. أعني بها هذه القوة الشّعرية الجزلة في صوغ القصيدة، حروف وكلمات وجملا ولحونا وفتونا، كما تصاغ سبائك الذهب. كما ينضد اللؤلؤ المنثور في عقد مضفور. كما أعني بها أيضا وعطفا، هذا العنفوان الدلالي والمجازي للقصيدة. وهذه الحرارة الشّعرية والشعورية السارية في شرايينها وأوردتها، سريان الدم، وسريان النار. هذه الفروسية الشّعرية، أو هذه الفحولة الشّعرية حسب العبارة العربية المأثورة، هي أهم ما يميز شعر المجاطي وحروفه الذهبية الباذخة، شكلا ومضمونا، قلبا وقالبا، وعبارة وإشارة” أحمد المجاطي، الفروسية، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، ط. 2، 2001.

[16]– نعمة أحمد فؤاد: خصائص الشّعر الحديث، مطبعة مخيمر، 1971، ص29.

[17]– أسامة البحيري، تحولات البنية في البلاغة العربية، ط 1، دار الحضارة للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، 2000، ص62.

[18]– أحمد المجاطي، الفروسية، مصدر سابق، ص9.

[19]– المصدر نفسه، ص13.

[20]– المصدر نفسه، ص10.

[21]– المصدر نفسه، ص113.

[22]– المصدر نفسه، ص18.

[23]– المصدر نفسه، ص21.

[24]– المصدر نفسه، ص23.

[25]– المصدر نفسه، ص28.

[26]– المصدر نفسه، ص31.

[27]– المصدر نفسه، ص37.

[28]– المصدر نفسه، ص42-43.

[29]– المصدر نفسه، ص47.

[30]– المصدر نفسه، ص51-52.

[31]– المصدر نفسه، ص55.

[32]– المصدر نفسه، ص56.

[33]– المصدر نفسه، ص57.

[34]– المصدر نفسه، ص67-68.

[35]– المصدر نفسه ص75.

[36]– المصدر نفسه، ص77.

[37]– المصدر نفسه، ص81.

[38]– المصدر نفسه، ص84.

[39]– المصدر نفسه، ص85.

[40]– المصدر نفسه، ص88.

[41]– المصدر نفسه، ص92.

[42]– المصدر نفسه، ص98.

[43]– المصدر نفسه، ص105.

[44]– المصدر نفسه، ص108.

[45]– المصدر نفسه، ص129.

مقالات أخرى

التّعليم عن بعد

إشكاليّة العدالة والدّيمقراطية

البيت

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد