“وليس في الأرض أعجبُ من طرفة بن العبد وعبد يغوث، وذلك أنّا إذا قسنا جودة أشعارهما في وقت إحاطة الموت بهما لم تكن دون سائر أشعارهما في حال الأمن والرفاهية”
الجاحظ، البيان والتبيين، 2/268.
“ فلما رآه (عبيد بن الأبرص) النعمان قال: هلا كان هذا لغيرك يا عبيد! أنشدني فربما أعجبني شعرك! فقال له عبيد: حال الجريض دون القريض”
ابن قتيبة، الشعر والشعراء، 1/268.
الملخص:
تسعى هذه الدّراسة الى الاقتراب من خطاب الموت، من خلال الاقتراب من مشاعر الإنسان المتقلّبة على مشارف الموت. وذلك عبر مقاربة تحليلية لرؤى ابداعيّة تنتصر للتّعبير عن الألم، وتسعى الى احتواء قلق العدم، عبر الاستمساك بفعل الكتابة باعتبارها الوسيلة الوحيدة التي تُضفي على الألم والافتقاد صيغ الأمان والاطمئنان. حيث نعمل على تفكيك خطاب شعري عربي استطاع أن ينتصر للشّعر على مشارف الموت ويعبّر عن مشاعر الإنسان المضطربة في النزع الأخير؛ فجاء نابضا بالتساؤل مفعما بالحياة موغلا في العمق… ورغم غياب دراسات ناتانولوجية عربية فإن أهم ما انتهيت إليه من خلال هذا البحث أن التّراث العربي قد اهتم بخطاب الموت والاحتضار من زوايا متعددة، وفي بؤرتها الممارسة الشعرية. وهو ما يفتح المجال للبحث في هذا الموضوع أمام الدراسات في المستقبل.
الكلمات المفتاحية: خطاب الموت، مشارف الموت، الناتانولوجيا، الألم، قلق العدم.
Abstract:
This study seeks to approach the discourse of death, by approaching the volatile feelings of man on the verge of death. And that is through an approach of creative visions that triumph over the expression of pain, and seeks to contain the anxiety of nothingness, by sticking to the act of writing as the only means that bestows upon pain and lack forms of safety and reassurance. Where we are working on dismantling an Arab poetic discourse that was able to triumph over poetry on the verge of death and express the feelings of man in the last strife, so it came pulsating with question, full of life and deep in depth… Despite the absence of Arab Natological studies, the Arab heritage has been concerned with the discourse of death and dying from multiple angles, He has not been noticed by many studies.
Key words: discourse of death; Natological studies; the pain; death approaching.
1- مقدمة:
الموت مجال خصب للتّفكير والتّعبير، وهو موضوع ثقافي غامر، فضلا عن أنه حدث بيولوجي مُؤثّر؛ يختلف النظر إليه باختلاف النّاظر فيه، وموقعه منه قربا أو بعدا، وشعوره نحوه خوفا أو قلقا. وذلك لأن خطاب الموت خطاب كونيٌّ عميق، يخترق الثقافات والحضارات، ويمتدّ في التاريخ والجغرافيات؛ لأنه الحقيقة الوحيدة “العارية” التي لا اختلاف حول حدوثها، وإن اختُلف في أحداثها والدلالات المحيطة بها. ومن أشدّ اللحظات اقترابا من “لحظة الموت” هي لحظة الاحتضار أو الاستعداد للفقدان وقلق الانتظار.
حيث يعيش الإنسان تحت ضغط “النّزع الأخير” قلقه الممتد وتقلُّباته النفسيّة العميقة، ويقاوم آلام جسد أنهكه المرض، أو نفس أتعبها الخوفُ والقلقُ بالفعل تارة وبالتّعبير أخرى، بالمواجهة والصمود أحيانا وبالتَّواري والسقوط أحيانا أخرى. فيقدِّم الأطباء وصفاتِهم لموت لطيف وحياة هادئة في آخر المطاف، ويقدّم الفقهاء ورجال الدين روايتهم لموت هنيء ونفس آمنة في اللحظات الأخيرة، ويصف الفلاسفة والشعراء والكُتّاب حقيقة الموت المرعِبة أو المبتذلة بانفعالية عميقة أو بمشاعر باردة… لكن وحدهم من يموتون يعْلمون حقيقة الاحتضار العارية وآلام النفس والجسد في لحظات التناهي؛ وللأسف لا يعيشون ليتمّوا لنا بقية الحكاية، وليصفوا لنا حقيقةَ مشاعرهم حين يدنون من أجلهم المحتوم، وذلك لأن علاقة الإنسان بالموت غريبة الأطوار؛ لأنه “طالما كنّا موجودين فإنّه غير موجود، ولكنه حينما يحلّ فإننا لا نكون موجودين…”[1]؛ كما تدّعي الحجّة الأبيقورية الضّاربة في القدم.
غير أن بعض المبدعين والمفكرين اختصروا الحكاية وهُم على مشارف الموت، فانتصروا للتّعبير عن الألم في “النزع الأخير”، وسعوا إلى احتواء “قلق العدم” وهم على مشارف الموت، وقصدوا إلى تدبير نهايات العمر الوشيكة جزعا وفرقا أو اطمئنانا وأمانا؛ ذلك لأن الكتابة هي الأمل الذي يُبقي الحياة مفتوحةً على الخلود حين تعمّ مشاعر الموت والانقضاء، وهي الوسيلة الوحيدة التي تضفي على الألم والافتقاد صيغ الأمان ورمزية الاطمئنان. لأن تواتر الكتابة عن الموت وأحواله، والاحتضار ومآلاته، وعن الاستعداد النفسي له، واضطرابات الاقتراب منه؛ يدرجه ضمن خطاب نصطلح عليه بــــــ “خطاب النزع الأخير”؛ ويجعله موضوعا ديناميا للإبداع والمكوث وليس فقط دافعا دائما للخوف والقلق. إن الفزع إلى الكتابة/القول أثناء الاحتضار أو حين يكون الموت وشيكا، هو فزع إلى الحياة المهدّدة بالافتقاد، وتعلُّق بالعيش الآمن في مساحات البقاء؛ هو نزوع إلى الخلود المأمول للارتواء من معين الحياة الصافي على ضفاف الموت الآتي.
2- حين يكون الموت وشيكا:
حين يقترب الموت من الإنسان تخور قواه بسبب الأمراض، أو يضعف جسده بفعل الشيخوخة، أو تضطرب نفسيّته حين ينتظر عقابا يتخذ الموت وسيلةً للرّدع والزّجر. وتضيق مساحات الاحتضار حين يكون الموت عنيفا أو قدرا غير متوقع في غمرة مشاغل الحياة اليومية، بينما تتّسع حين يكون الموت نهايةً منتظرة وقدرا متوقعا. وكلما امتدّت فترةُ الاحتضار، واتّسع أمد الانتظار انفتح المجال للتعبير عن مشاعرَ إنسانيّة فريدة نحو موت محقّق، وسنحت الظروف باكتشاف إبداع إنسانيٍّ غامر وفعل إبداعيٍّ مؤثر، ونظرة متميزة للإنسان والوجود، وللحياة والموت، وللقلق والاطمئنان، وللألم والارتياح.
2-1- الاحتضار في الثقافة العربية:
“حُضر المريض واحتضر بمعنى حضره الموت… ومنه قولهم: حُضر فلان واحتضر إذا دنا موته”[2]، واعتبر بعض اللغويّين الاحتضارَ من المجاز[3]، وجعلوا دلالته تنصرف إلى كل ما يدل عن الدنو من الموت والإشراف عليه وبروز علاماته. فيقال: “احتُضر فلان، وحضرته الوفاة، ودخل في النزع، وبلغ الوصية، وقد شارفه حمامه، وأظله حمامه…”[4]. ثم انصرف معناه مؤخرا إلى كل ما هو على وشك الانتهاء تماما، وإلى ما هو في حالة سيئة للغاية؛ فهو يحتضر؛ سواء أكان حيّاً أو مؤسسة أو عملا أو صناعة…
وقد امتد الخطاب حول “الاحتضار” في سائر أنحاء الثقافة العربية، وتناوله كل حقل معرفي من منظوره الخاص وأثره الخالص خلاله… فقد تحدثت عنه كتب الآداب والرّقائق، وكتب الأنساب والطبقات، وكتب الفقه والقانون، وكتب التفسير والحديث، وكتب السيرة والشمائل، وكتب العقيدة والإفتاء، وكتب الأدب وطبقات الأدباء، وكتب اللّغة وطبقات اللغويّين. وتحدثوا عن أحوال الناس عند الاحتضار، ولحظات المحتضرين، وأقوالهم ووصاياهم، وما يرونه عند احتضارهم، وما يقرؤونه وما يُقرأ عليهم، وأحكام الاحتضار والمحتضر، والأحاديث والآثار في الاحتضار، ووصفوا مشاهد الاحتضار، ووقفوا عند سننه وبدعه، ومشاهده وعلاماته…
وكما غابت دراسات ناتانولوجية عن الموت في الفكر العربي، فإن الحديث عن الإبداع في حال الاحتضار، وما يعتور نفوس المبدعين وما يصدر عنهم خلاله؛ في الشعر والنثر وسائر الفنون لم ينل كذلك ما يستحقه من البحث والدراسة قديما أو حديثا، وخصوصا وأنه حين يكون الموت مؤكدا وساعته محددة؛ يصير تيمة مركزية مهيمنة في الإبداع، ووسيلة أساسية لاستغوار دواخل النفوس وآلامها وآمالها، وأداة وحيدة للتشبث بالحياة والتعلق بالوجود وضمان الاستمرار والخلود. لكن رغم ذلك فإننا لا نعدم إشارات عميقة في التّراث العربي عن أحوال المحتضرين، تُنبئ عن مواقفَ من الحياة والموت استطاعت نباهة المتقدمين الوقوف عندها وأدركوا أهمية إيرادها وتوثيقها.
فقد ظلّ الحديث عن الاحتضار و “دنوّ الأجل” متخصصا، له غايات فقهية أو قانونية أو تأديبية أو تفسيرية؛ تنحو إلى الاعتبار والتوجيه، وتسعى إلى البحث في الأثر أكثر من البحث في الفعل ذاته أو صيغه الفنية المعبرة عنه. ولذلك ظل الشخص المحتضر، والذي يدنو أجله عموما، هو الحلقة الأضعف في حكاية موته الوشيك؛ يصوغ الآخرون نهايته كما يشاؤون، ويوجّهون أحداثها أنّى يريدون. فيغيب صوتُ الفرد الآيل للزوال أمام الصوت المهيمن للجماعة، والتي راكمت مجموعة من التقاليد والأعراف في صياغة حدث الموت ونهايات الأفراد، ثم في صياغة آليات للاقتدار على تجاوز هذا الحدث والاستمرار في الحياة رغم الغياب الأبدي للشخص المفتقد. لأن الموت في سائر المجتمعات، ومنها المجتمعات العربية عبر تاريخها المديد، لم يكون حالة فردية، بل حدثا جماعيا مؤطَّرا اجتماعيا وثقافيا بعناية فائقة. ولذلك ظلّت مشاعر المحتضر وأحاسيسه، ورغباته وآلامه آخر ما يفكر فيه الناس حوله، لأن تركيزهم ينصرف إلى معاناتهم بعد افتقاده، وآمالهم المفتقدة في استرجاع حياته، وسيناريوهات استمرار الحياة بدونه؛ إنهم في الحقيقة يفكرون في أنفسهم حُيال حدث الافتقاد الذي أضحى مؤكَّدا.
ولذلك ظل خطاب الاحتضار ينصرف إلى ما يُحدثه من أثر في نفوس الآخرين لا إلى ما يحدُث في نفس المحتضر ورؤاه لنهايته الوشيكة، وظلت كلمات النزع الأخير تُوظَّف في دوائر الفقه والقانون والأخلاق والسياسة؛ أكثر مما توظف في مجالات الإبداع والأدب وخفايا النفس الإنسانية في مرحلة من أخطر المراحل الزمنية التي تمر منها.
2-2- مرض الموت:
في اللغة “المرض نقيض الصحة، وكل ما ضعف فقد مرض، والمرض والمرْض الشك، والمرض الظلمة وأَمْرَضَ الرجلُ إِذا وقَع في ماله العاهةُ[5]” وعند اللغويين أيضا المرضُ: كلُّ شيءٍ خرَجَ به الإنسان عن حدِّ الصحَّة.. ومن المُشكل عندهم: وأمْرَضَ الرجلُ، أي قارب الإصابة في الرأي[6]، أو قارب إصابة الحاجة[7]. حيث ينتقل المرض من مظهر الضعف الجسدي إلى ما يخامر النفس والقلب من شك وظلمة، وكل ضعف يصيب الأحياء والأشياء. وأشكل عندهم إطلاقُ بعض العرب المرض على الإصابة في الرأي وبلوغ الحاجة؛ ولا وجه له إلا أنه حديث عن مرض الهرم والشيخوخة حيث يتّزن الإنسان ويرجح عقله ويستوي فكره؛ كما في قول الشاعر، الذي يوردونه:
ولكنْ تحت ذاكَ الشَّيبِ حزمٌ *** إذا ما ظَنَّ أمْرَضَ أو أصابا[8]
وهو مسار متداخل بين مرض الجسد والنفس والضعف والشك والظلمة، مع رجاحة رأي أحيانا؛ تنبّه إليه اللغويون، بينما ظل البيولوجيون والأطباء يحرصون على “أن المريض ليس مجرد جسر ينبغي إصلاحه”[9]، أو جسد منهك، قد يُفقد الأمل في إعادته إلى الحياة. لكن في هذه الأحوال جميعها حين يتمكن المرض من الجسد، فغالبا ما يكون سببا من أهم الأسباب التي تسلم النفس إلى الموت؛ وكثيرا ما يحتفظ الإنسان برجاحة الرأي وعمق الإحساس إلى آخر رمق. لكن في واقع الأمر فقد جُعلتْ للمرض امتداداتٌ ثقافية تنتج مجموعةً من الممارسات الاجتماعية، وتراكمت حوله مظاهر دينية وسلوكية ونفسية، “فوسائل الطب تغدو عاجزة أمامه، والموارد الثقافية والشخصية تغدو غير ملائمة، وقيم المجاهدة والصبر تتحطم شيئا فشيئا أمام عذاب أليم، يفشل الأطباء في وقفه، بالرغم من فحوصهم ومؤهلاتهم، يحس المريض نفسه معزولا لأنه يجد نفسه وحيدا أمام تجربة تفكيكه، ولا يملك أحدٌ نصائح أو مساندة إزاءها”[10].
يعرف المرض امتداده الحقيقيّ وعمقه المؤذي حين يعيش المريض آلامه وحيدا وينخرط في معاناته منفردا؛ رغم الحشود التي تبادله عبارات التضامن والمواساة، ورغم الأقارب الذين يحاولون جعل مرضه هينا وموته هنيئا.. لكن حين يعجز الأطباء عن إيقاف آلام الجسد المريض، ويفشل المجتمع والثقافة في تحقيق التّوازن النفسي والاطمئنان العاطفي يصير الألم الجسدي والنفسي والثقافي طريقا مُعبّدا نحو الموت والافتقاد والتلاشي. وفي هذه الصيرورة ترتسمُ العديد من الظواهر والحيثيات، وتتوَلّد مشاعر القلق والخوف غالبا وأحاسيسُ الأمان والاطمئنان أحيانا؛ مما لا يبعثه هاجس الموت المتربص فقط، ولا ألم المرض المتمكن وحده؛ بل تساهم فيه مختلف الظروف التي يحيا الشخص تفاصيلها بأمل مريح حينا وبآلام مُعذبة أحيانا أخرى… ولعل العنوان الأكبر لهذه المعاناة هو الانتظار؛ انتظار الموت؛ ذلك المجهولُ المعلوم، والأقسى الأرحمُ، والأصعبُ الأيسر…
يستبدّ الألم والقسوة، ويتّسع الخوف والقلق، وتتعاظم الصّعوبات واللايقينيات حين يفقد الشّخص القدرة على صياغة مآلاته، وتغيب كلمتُه وسط كلام الحُشود، وتتوارى رؤياه خلْف رؤى الثّقافة والمجتمع المتمكنة… وفي الثّقافة العربيّة تتدخّل الثقافة القانونيّة والفقهيّة لتبحث في أحكام “مرض الموت”، وتتدخل المقاربة الحديثيّة لمقاربة إشكاليّة الذّاكرة أو التّثَبّت والخلط في الأيّام الأخيرة. وتتدخل المقاربة التوجيهيّة لاستكناه المبشّرات والمنذرات، ومعالم الجزع أو اليقين، كما تستدعى المقاربات الطّبّية والنفسيّة والاجتماعيّة في أحيان غيرِ كثيرة. وتتّسع الثّقة في القوْل وقد تتوارى، وتشتدّ المراقبة والقرب وأحيانا الإهمال والبعْد… بينما في كل ذلك، يظلّ الشخص الذي يرزح تحت وطأة المرض الذي يسير به نحو حتفه، هو الغائب الأكبر في هذه المقاربات المختلفة التي تجعل من المريض موضوعا للمراقبَة أو المعاقبَة، في شعوره وأحاسيسه وفي رأيه وتفكيره، وفي منظوره للحياة والموت.
وهم يتحدّثون عن الاحتضار لا عن المحتضِر، وعن مرض الموت لا عن المريض الآيِل للموت. وعن الآثار القانونية والفقهية لا عن الآثار النفسية والجسدية على المريض في ذاته. وفي أحيان قليلة يُستدعى قول المحتضر ليصير أيقونة للاستشهاد والاعتبار لا مقولة للتحليل والاختبار؛ فتتناقل الأقوال والوصايا على مشارف الموت لتوجيه الأحياء والتّأثير السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الديني في مواقفهم، لا لمعرفة مشاعر قائليها وتحليل رؤاهم للحياة والوجود، واختبار أمانهم أو قلقهم في لحظة البوح الأكبر والتّعبير الأصدق…
فليست إلا “الكتابة الإبداعيّة” تجعل هذا المرض الأليم شعورا جميلا يستحق الإنصات إليه، وإحساسا متميّزا يجدر تأمله والاقتراب منه. بالكتابة يحسّ المريض أنه آيل للمكوث والبقاء لا للفناء والزوال. بالكتابة يقوى التفكير في الحياة من خلال حياة أخرى تضمنها القراءة، ويتوارى التفكير في الموت، لأنه مبعث الألم والقلق، أو يصير منبعا للتفكير والتعبير. وهو تأمل يقوم على التفكير “في الانتقال من النظر إلى الموت من على قمة الحياة إلى النظر إلى الحياة من عمق الموت عبر وسيط فعل الحداد وتمثل تجربة الاحتضار بوصفها تجربة فينومينولوجية تجلي الأسى في المنابع العميقة للحياة”[11].
فتصير ثنائية الموت والحياة مغرقة في النسبية، وتصير تناقضاتها وتقابلاتها مفعمة بالتلاشي؛ ويصير كل سير نحو الموت هو سير نحو الأمان والاطمئنان؛ فالموت هو الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة الملأى بالشك واللايقين في منظور أبي العلاء المعري؛ وهو يقول: “سوى أنني أموت بغير شك”. والمرض والألم المتولد عنه هو تجربة إنسانية ضرورية للعبور إلى تجربة الموت المفعمة بالأمل والارتياح؛ في تصور أبي القاسم الشابي؛ وهو يئنّ: “فهيّا نجرب الموت هيا”.
فحين يكون الإبداع عميقا يمسي الشّوق للموت، سبيلا لمحاربة الخوف منه ومواجهة القلق الذي تحيطه به الثقافة والمجتمع، وتصير تجربة الموت جديرة بالارتياد، حَريّة بالتجريب والتأمل.
2-3- الشيخوخة والهرم:
في اللغة العربية “الهَرَم: أقْصى الكِبَر، هَرِمَ، بالكسر، يَهْرَمُ هَرَماً ومَهْرَماً وقد أَهْرَمَه اللهُ فهو هَرِمٌ، من رجال هَرِمينَ وهَرْمَى، كُسِّر على فَعْلى لأَنه من الأَسماء التي يُصابُون بها وهم لها كارهون”[12]. وعموما فمع تقدم السن، وتمكن الهرم، يفقد الإنسان القدرة على العناية بنفسه، وفعالية في أداء وظائف محددة؛ فتصبح لحظاته قاسية نفسيا واجتماعيا، فضلا عن وضعه الصحي الذي يسوء بشكل سريع. وعادة ما تكون مرحلة الهرم “محملة بالضعف والقلق والخوف أحيانا، ومع أن المصطلح غير دقيق وغامض، وحقيقته يصعب تحديدها”[13]، ومع أن بدايات الهرم غير محددة بوضوح؛ فإننا بدون شك ندرك نهايته الأكيدة، كما ندرك أنه مع الهرم والشيخوخة تضيق احتماليات الحياة وتتسع احتمالية الموت؛ لأن “عمل التقدم في السن هو المذكر بموت يتقدم في سيره عبر صمت الخلايا ومن دون أن تكون هناك إمكانية لإيقافه. فالشخص المسن يتقدم نحو الموت ويجسّد في نفسه الأمَرَّيْن الَّلذَيْن لا يُسَمّيان في العصر الحديث: التقدم في السن والموت”[14].
وحين يستبد الهرم بالشخص يصبح الموت الحقيقة الأكثر سيطرة على فكره ونفسه والأكثر تأثيرا في جسده؛ ويصبح كلّ “خبر موت” جديدٍ مروعا بشكل كبير، ومؤثّرا بقدر كافٍ؛ حيث تسبغ عليه الذات إسقاطاتها الخاصة وتنظر فيه تجسيدا لموتها القادم. فتموت الذات لمرات كثيرة، وهي تتأمل في فتك الموت بمن تحب، بمن كانوا في الأمس القريب يشاركونها الحياة والأمل، ليصير كل ذلك بصيغة الماضي، بينما الموت هو الحاضر والمستقبل القريب القادم. وهو ما يجعل المُسن يبتعد عن المستقبل لأن فيه خلاصه وتواريه، ويعيش على الذكرى لمواجهة الحاضر القاسي والمستقبل المجهول؛ “هناك أزمنة ثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، والحال أن حاضر الماضي هو الذاكرة، وحاضر الحاضر هو الرؤية، أما حاضر المستقبل فهو التوقع والانتظار”[15]. وفي أثناء الانتظار القاسي يكون محظوظا إذا استمتع برفقة طيّبة تقضي معه سنواته/أيامه الأخيرة، أو تمسك بمعتقدات دينية تجنبه آلام المجهول وقسوة الافتقاد.
وقد اعتنت الثقافة العربية كثيرا بهذه المرحلة العمرية، من منظورات مختلفة؛ فاهتموا بحكمة المعمرين وخلطهم، ونقلوا أقوالهم ووصاياهم، واطمئنانهم وقلقهم. ومن أهم ما كتب في هذا الموضوع كتاب: “المعمرون والوصايا” لأبي حاتم سهل بن عثمان السجستاني؛ والذي نقل وصايا المعمرين من العلماء والشعراء والكتاب، وأهل السياسة والدين؛ حين يحيط الهرم بهم، ويحسون دنو أجلهم. وبين الحكمة والمثل والنثر والشعر، ينقل الكاتب مظاهر تلك المشاعر المضطربة في النفوس والآثار البادية في الأبدان، ويجادل على مدى أهمية ما يورده، في التنبيه إلى خطاب متميز في المراحل المتقدمة من العمر على مشارف الموت أبدع فيه العرب شعرا ونثرا. كما أورد الكاتب عادات العرب في التعامل مع المعمرين؛ فقد حجب حارثة بن عبيد الكلبي دهرا طويلا، “وكذا كانت العرب تفعل بالكبير منهم تحجبه”، لمنعهم من التواصل مع الناس إما لخلطهم، أو لعدم تدبيرهم لأقوالهم وأفعالهم، كما قد يحولون “بينه وبين ماله” لعدم القدرة على التمييز في وجوه صرفه وعدم الأهلية للمحافظة عليه وتدبيره. وفي المقابل كان ديدنهم الإنصات إلى حكمته ورجاحة رأيه وعمق نظره، حتى كان منهم من يوصف بأنه “من دعاميص العرب؛ أي يهتدي للأمور الخفية الدقيقة ويحتال لها”؛ فأكثر ما يرجعون إلى المعمرين منهم للإفادة من تجربتهم وطول باعهم في مقارعة خطوب الحياة والأحياء. وهو من سبل الإنصات لحكمة المعمرين وحصافة رأيهم في مقابل حجب آخرين ومنعهم وتقييد حريتهم.
كما عقد أبو منصور الثعالبي في كتابه “سحر البلاغة سر البراعة”[16] بابا لهذا الموضوع بعنوان: “في الهرم ومشارف الفناء”، بعد باب قبله في “استحكام الشيب وبلوغ الشيخوخة “وقد تحدث على ما يلحق الإنسان في هرمه من ضعف ووهن، وبالغ في وصف ما يعتري الجسد والنفس من ضعف وعجز وتخاذل؛ يقول: “وقد أخذ الزمان من عقله، لما أخذ من عمره… ثقلت عليه الحركة، واختلفت إليه رسل المنية… أركانه قد وهت، ومدته قد تناهت، هل بعد الغاية منزلة؟ أم بعد الشيب سوى الموت؟… أبعد دقة العظم ورقة الجلد، وضعف الجسم، وتخاذل الأعضاء، وتفاوت الاعتدال، والقرب من الزوال”[17]. ويضيف في قسوة كبيرة على من بلغ هذه المرحلة الصعبة من العمر: “إن الذي بقي منه ذماء ترقبه المنون بمرصد، وشلشة هي هامة اليوم أو غد. قد خلق عمره، وانطوى عيشه، وبلغ ساحل الحياة، ووقف على ثنية الوداع، وأشرف على دار المقام”[18].
وفي كتاب “تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر”[19] يخصص ابن الجوزي (ت 597هــ) الباب الخامس للموسم الخامس وهو حال الهرم، بعد الباب الرابع في الموسم الرابع وهو الشيخوخة. وقد حدد زمن الشيخوخة بين الخمسين والسبعين، وزمن الهرم ما بعد السبعين إلى آخر العمر. ويفتتح هذا الباب بقوله: “لم يبق في زمان الهرم إلا تدارك ما مضى، والاستغفار والدعاء، وعمل ما يمكن من الخير، اغتناما للساعات والتأهب للرحيل”[20]. ثم تحدث عن أقوال العباد والصالحين وأعمالهم في هذه المرحلة من مراحل عمر الإنسان، والمتميزة بالانتظار والاغتنام والتأهب للرحيل.
وقد كان الزمان “العدو الأول للشاعر العربي”، وهو كذلك عدو كل إنسان؛ تتربص به سطوته حين تستعل نار الشيب في دلجة رأسه، وتحفر أخاديد الشيخوخة في نضارة وجهه، ويعتمل اضطراب الهرم في أتون نفسه وشعوره، ويطبع علاقاته ومستويات النظر إليه. فيدنو من الموت، وتأفل أنواره، وتهن عظامه، وتتبدل النظرات إليه. فينتزع الشاعر من شقوق هذا الواقع الصعب أسئلته الوجودية، ويستمد من تضاريسه الموحشة قيمه الأخلاقية وغاياته الجمالية. فيسكب سائر ذلك في حوارات ماتعة بين حياته الآنية ووفاته الآتية، وبين ماضيه الخصب وحاضره الجدب، وبين ربيع شبابه وخريف هرمه… لما في كل ذلك من ترميم للذاكرة وفزع إليها من المجرد المجهول، واستشفاف لحقائق الوجود، واستكناه لدقائق النفوس، واستلهام جوانب الإبداع المُحْيية لنفس آيلة للزوال. ومن أجمل تعبيراتهم الشعرية عن هذه المرحلة:
وَلَقَدْ بَكَيْتُ على الشَّبَابِ وَلمّتِي مُسْوَدّةٌ وَلِمَاءِ وَجْهِي رَوْنَقُ (أبو الطيب المتنبي)
مَن لَم يَمُت عَبطَةً يَمُت هَرِماً لِـلمَوتِ كَأسٌ وَالمَرءُ ذَائِقُهَا (ابن أبي الصلت)
تَعَاورَهُنّ صرْفُ الدهْرِ، حتَّى عَفَوْنَ، وكلُّ مُنْهَمِرٍ مُرنّ (النابغة الذبياني)
لا تَعْجَبِي يا سَلْمُ مِنْ رَجُلٍ ضَحكَ المَشِيبُ برأْسِهِ فَبَكَى (دعبل الخزاعي)
فقد أفعم الشعراء نصوصهم بأسئلة الوجود والعدم، والحياة والفناء، والشباب والهرم؛ أسئلة حول المطلق، هذا الدهر الذي يلقي بظلاله على الشاعر/ الإنسان في مكان مطلق/الصحراء الفلاة، في زمان مطلق/الظلام الدامس، وأمام عدو مجهول مطلق/الموت. فاستلذوا البكاء فرقا وقد غربت شمس شبابهم، وأبلت الأسقام أجسادهم، يفكرون في المجهول الآتي ويندمون على المعلوم الفائت، وهم يرون تقلّب الأحوال وتغيّر المآلات متجسّدة في أوضاع المنازل والمآثر والأطلال والدّمن، حيث تقلب الزمان المروع، وتغير المكان المقذع… فيكتفي الشاعر بإحصاء خساراته، وتضميد جراحاته، والاستسلام لمجهول ظل متجاهلا.
إنها أسئلة الثقافة والشعر تُصاغ من خلالها أسئلة الجماعة وتعكس أنينها، وهي تجربة إنسانية متفشية في مجتمع لا يحسن التعبير إلا باللغة، ومخاوف مضطرمة في مخيال جماعي خصب يحسن تجسيد مخاوفه وآلامه، ويتقن، عبر الإبداع، تجاوز هواجسه وخيباته.
2-4- الموت العنيف:
تختلف سبل الموت العنيف وتتعدد أسبابه، لكن أشد أنواعه تأثيرا هو موت يعقب انتظارا قاسيا، قد يطول أو يقصر. وآنذاك يعيش الشخص في قلق دائم، وخوف متواصل، واضطراب نفسي يرتفع منسوبه يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة؛ يحصي الأيام والساعات، يفكر في الموت الآتي، وتسيطر عليه مخاوفه وهواجسه. والعقاب بالموت، عقوبة جسدية راسخة في الممارسة الإنسانية، يرجعها المؤرخون إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، يتم خلالها الحكم بوضع الحد لحياة الإنسان المعاقَب. وقد استحدثت لها الجماعات البشرية المبررات والآليات القانونية أو العرفية، كما استحدثت وسائل التنفيذ وطرق تحقيق الردع العام في المجتمع… وتتغير “عقوبة الإعدام” بتغير الزمان والمكان، والأفكار والمعتقدات، والقوانين والتمثّلات؛ لكن يظل الموت العنيف الذي تنتجه، والانتظار المرعب الذي تنطوي عليه؛ هما الأقسى أثرا في النفس البشرية. وهي اليوم من أكثر المواضيع التي تثير نقاشا قانونيا وأخلاقيا على المستوى الكوني، بين الدعوة إلىى إلغائها والحث على تثبيتها. ولكن سواء استمرت في الحاضر أم أضحت من الماضي فإن الذاكرة الإنسانية تحتفظ بأحداثها القاسية وصورها المرعبة وآثارها المثيرة. كما أن كتابات كثيرة تختصر كلمات الإنسان وهو يرى الموت نصب عينيه؛ وتحتضن إبداعاته التي يصب فيها آهاته على مشارف التلاشي والغياب، ويعبر من خلالها عن قلقه أو اطمئنانه وهو على وشك استلاب صعب وافتقاد مرّ.
وفيي الثقافة العربية قبل الإسلام، كان “القتل العمد يقاصّ بالقتل، وهو أن يطلب أهل القتيل من أهل القاتل تسليمه إليهم لقتله؛ ويقال لذلك “القوَد” وبذلك يغسل دم القتيل. والقاعدة القانونية عند الجاهليين أن “الدم لا يغسل إلا بالدم”، فهو تطبيق قاعدة القصاص”. وقد كان العقاب بالموت حاضرا بقوة في أمثالهم وأدبهم وفي وقائعهم وأيامهم. وقد اشتهر من أمثالهم “ليس بعد الإسار إلا القتل”؛ حيث نطق بالمثل بنو تميم لما رأوا أن مساحات العفو تضيق أمامهم، والقتل يحيط بهم من كل جانب. فقد جاء في قصة هذا المثل “هذا المثل لبعض بنى تميم، قَاله يوم المُشَقَّر، وهو قصر بناحية البحرين، وكان كسرى كَتَبَ إلى عامله أن يُدْخلهم الحصنَ فيقتلهم، وذلك لجناية كانوا جَنَوْهَا عليه، فأرسل إليهم فأظهر لهم أنه يريد أن يقسم فيهم مالاً وطعاماً، فجعل يُدْخلُ واحداً واحداً فيقتله، فلما رأوا أنه ليس يخرج أحد ممن يدخل علموا أن الدخول إليه إنما هو أسر ثم قتل، فعندها قَال قائلهم: ليس بعد الإسار إلا القتل، فامتنعوا حينئذ من الدخول.” “مجمع الأمثال” واشتهر كذلك قولهم: “حال الجريض دون القريض”، حيث كان هذا جوابا بليغا لشاعر طلب منه قول الشعر والسيف فوق عنقه؛ “وَهَذَا الْمَثَلُ لعَبيد بْنِ الأَبرص قَالَهُ للمُنْذِر حِينَ أَراد قَتْلَهُ فَقَالَ لَهُ: أَنشدني مِنْ قَوْلِكَ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: حَالَ الْجَرِيضُ دُونَ الْقَرِيضِ” لسان العرب” وغيرهما كثير. فقد “عرف العرب قبل الإسلام للقتل جزاءات معينة، كما عرفوا ظروفا من شأنها إباحة القتل أو إسقاط الجزاء عليه وأخرى من شأنها تخفيف الجزاء عليه أو تشديده”. وبعد مجيئا إَسلام كان القرآن فاصلا في قوله تعالى: “ولكم في القصاص حياة[21]“؛ فعبر القرآن الكريم عن القصاص بالحياة؛ “وذلك أن المراد بها أن الإنسان إذا علم أنه متى قتل قتل كان ذلك داعيا له قويا إلى أن لا يقدم على القتل فارتفع بالقتل الذي هو قصاص كثير من قتل بعضهم لبعض؛ فكان ارتفاع القتل حياة لهم”.
فاستمرت العقوبة للقصاص أو لتصفية الحسابات السياسية والاختلافات الإيديولوجية، وأحيانا لأسباب واهية، ليظل الموت وانتظاره حاضرين بقوة في الثقافة العربية حضورهما في الثقافة الإنسانية عموما. وقد كانت “ألف ليلة وليلة” أحد الأعمال الإنسانية الخالدة التي أفرزها الموت وانتظاره. فقد دأب شهريار على قتل “خلال ثلاث سنوات ما يربو على ألف امرأة… لكن نجحت شهرزاد بنت الوزير في تخليص الملك من جنونه وذلك بروايتها لحكايات ذات قوة علاجية لا جدال فيها. وهكذا تتمكن من خلال وضعه في حالة تنبه طيلة ثلاث سنوات تقريبا من شفاء ضغينته وحقده، وبالتالي تتمكن من إنقاذ البشرية”. لكن إذا كان السرد طريقا لإيقاف القتل والشفاء منه في ألف ليلة وليلة؛ فقد كان الشعر طريقا معبدا للقتل، ولم يستطع الشعراء بحيلهم اللغوية والجمالية أن يتجنبوا شر عقاب الموت، حيث تطول قائمة الشعراء الذين قتلهم شعرهم، ونذكر منهم قديما: وضاح اليمن، امرؤ القيس، طرفة بن العبد، عبد يغوث، أعشى همدان، السليك بن السلكة، عبيد بن الأبرص، المنخل اليشكري، هدبة بن خشرم، دعبل الخزاعي، أبو الطيب المتنبي، بشار بن برد… والقائمة طويلة، وستستمر ما بقي الشعر مدافعا عن حق الإنسان في الحياة والحرية.
وهكذا، فحين يكون الموت عقابا يصير الانتظار قاسيا والغياب وشيكا؛ ويضيق الأمل في الحياة ويتسع الألم بالموت. فيفتح المجال أمام الكتابة للتعبير عن فترة زمنية ملأى بالتقلبات الفكرية والاضطرابات النفسية؛ طلبا لنجاة مستحيلة، أو فرقا من موت وشيك، أو أملا في خلود صعب. والأهم بالنسبة إلينا هو استكشاف مظاهر شعور إنساني فريد، واستخلاص معالم إبداع شاعري صادق ومتميز، والقبض على لحظة إنسانية لا يستطيع إلا المبدع التعبير عنها، وعلى لحظة إبداعية أفقها خلود إبداعي لما افتقد أي أمل في مكوث ذاتي.
3- الموت الوشيك بين الخوف والاطمئنان:
حين ينتظر الإنسان الموت أو حين يعيش حالة الاحتضار الصعبة تضطرب مشاعره بين الخوف والأمان، وبين القلق والاطمئنان؛ هناك من يواجه الموت بالقسوة والقوة، وهناك من ينتظره وجلان ترتعد فرائصه، وذلك بحسب الوضع الثقافي والاجتماعي والصحي الذي يعيشه وبحسب الأجواء النفسية والروحية التي تحيط به. وتأتي التعبيرات الإبداعية محملة بكل تعقيدات هذه المرحلة وعتمتها، وبكل حيثيات قلقها وأمانها. حيث يضفي الإنسان على حدث الاحتضار ألما وقلقا ينتقل منه إلى نفسه، وفي حال الخوف يسبغ عليه أملا واطمئنانا يتأثر به حين يحس بالأمان نحوه. وهي الأجواء التي تنبض بها نصوصهم الشعرية وتتجلى بوضوح أثناءها.
3-1- القلق حيالَ الموت:
هو شعور إنساني راسخ في نفس الإنسان، يعبر عنه وهو يعالج الأمراض التي تعتور جسده، ويطور منظومته البيولوجية والطبية لمواجهتها من أجل إبعاد الموت شهورا أو سنوات أو عقودا. كما يعبر عنه في مواجهة الظواهر الطبيعية الخطيرة، وأمام الحيوانات المفترسة، وفي سلوكاته اليومية في مواجهة كل خطر محدق؛ “فالنظر يمينا وشمالا قبل عبور الطريق سلوك هدفه تجنب الموت، وعدم الكلام عن الموت هو أيضا طريق للهروب منه”[22]. كما يعبر عنه بما يسميه بيكر “مشروع الخلود”[23]، الذي يسعى من خلاله إلى المكوث والبقاء عبر الفن والموسيقى والأدب مما يعطي معنى لحياته وتنمية الجانب الرمزي فيها والذي قد لا يمتد إليه الفناء… حيث يصير الإبداع آلية للبقاء وأداة للإبقاء على الشعور والإحساس وعلى الفكر والوجدان، وعلى الماضي والذاكرة، وعلى المستقبل والأمل. ورغم أن الإنسان مقتنع في لاوعيه بخلوده حسب فرويد؛ “أن الموت أمر طبيعي، لا يمكن إنكاره ولا مفر منه. لكن في الواقع اعتدنا أن نتصرف كما لو كان الأمر بخلاف ذلك. نظهر ميلا واضحا إلى تنحية الموت جانبا وإزالته من الحياة… إننا في الواقع نستمر في التفرج على موتنا. هذا هو السبب في أننا في مدرسة التحليل النفسي نخاطر بالتأكيد أن لا أحد يؤمن حقا بموته، او الأمر الذي يرقى إلى الشيء نفسه: في لاوعينا كل منا مقتنع بخلوده”[24]. ويسجل الكثير من الباحثين في هذا الموضوع “أنه ليس من المتوقع إلا في حالات نادرة جدا أن يندرج الموت في طائفة المثيرات التي تنجم عنها حالة السكينة. بل إن الأكثر توقعا أن ينتمي إلى فئة المثيرات التي تترتب عليها حالة القلق؛ فليس كالموت سبب للقلق”[25]. وحين يغدو الموت قريبا تتسع مساحات القلق ويرتفع منسوبه، ويصعب إفراغ النفوس منه، وآنذاك يتخذ حسب المحلل النفسي مارسيل روش ثلاثة مظاهر: “الشعور بخطر وشيك قادم، تصاحبه تخيلات تكثف الصور وتضخمها، وموقف الانتظار في مواجهة الخطر، مع حالة التأهب الحقيقية التي توجّه الموضوع إلى الشعور بالكارثة، والشعور بالعجز التام والفناء في مواجهة الخطر”[26]. وهي كلها مظاهر تدفع المحتضر إلى السعي إلى إيقاف عجلة الزمن، وإلى التخلص من كل نشاط غير التفكير في الموت القادم…
وفي الثقافة العربية تتداول الكثير من الوقائع الثقافية التي تبرز خوفا شديدا وقلقا كبيرا لمن تحضرهم الوفاة، وتنقل المصادر بكاء خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم بكاء شديدا. وتنقل كتب التاريخ والتراجم والسير، وكتب التصوف والرقائق والآداب خوفا ممتدا وقلقا متمكنا، لرجال من الخلفاء و الصالحين ومن غيرهم، ممن أرهقهم ألم الموت وأقلقهم الخوف منه. وقد نقل المبرد في “أخبار من جزعوا عند الموت” جواب حجر بن عدي لما سئل وهو يحضر للقتل: أتجزع؟ فقال: “وكيف لا أجزع؟ سيف مشهور، وكفن منشور، وقبر محفور، ولست أدري إلى جنة أم إلى نار”[27]. كما نقل ابن أبي الدنيا في “كتاب المحتضرين”[28] أخبار من جزعوا عند الموت مخافة سوء الرد، وكانوا رجالا من الصالحين، وفي مقدمتهم معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وأبو الدرداء وأبو هريرة…
وفي الشعر العربي كانت خشية الموت من مظاهر الجبن في الحرب، فسعى الشعراء إلى نفيها عنهم:
فلست بمبتاع الحياة بذلة ولا مرتق من خشية الموت سلما (الحصين بن الحمام)
فلا السجن أبكاني ولا القيد شفني ولا أنني من خشية الموت أجزع (ادّراج الضبابي)
لكن خارج هذا السياق الحربي الذي يكون فيه الإقبال على الموت نفي للموت والجزع منه وقوع فيه؛ كانت شكوى الدهر وبكاء آلام الشيب وانصرام زمن الشباب قلقا ظاهرا من موت قريب قادم؛ كما أن الخوف من الموت هو الذي دفع المتلمس إلى فك صحيفته، ودفعها إلى غلام كان يلعب بنهر الحيرة ليقرأها له، فلما علم أن فيها حتفه ألقاها في الماء وفر هاربا[29]. والخوف من الموت هو الذي دفع عبيد الأبرص لما سأله النعمان بن المنذر، وقد التقاه في يوم بؤسه: أي قتلة تختار؟ ليقول: اسقني من الراح حتى أثمل، ثم افصدني الأكحل، فعل ذلك ولطخ بدمه الغريين[30].
ومع ذلك فقد ظل الإنسان يحارب خوفه إزاء الموت وجزعه حياله، وأبدى سقراط شجاعة فريدة في مواجهته للموت، تناقلتها أجيال من المثقفين والمهددين بالفقدان؛ وهو يرْكز في الأذهان أن الموت “كنوم لا تتخلله الأحلام، سيغدو الموت سببا لا نقاش فيه، وأنه كرحلة إلى موضع آخر، فأي شيء يمكن أن يكون أعظم من هذا؟”[31]، بينما أفلاطون يمنح الموت طابعا تجريديا، يتعلق بإلهية النفس “ويرى أن الموت عملية لا تؤثر إلا في الجهاز العضوي الجسمي وأن النفس لا تموت”[32].
وفي الثقافة العربية يبدي الأبطال في الحروب شجاعة فريدة في مواجهة الموت، وتتناقل الثقافة العربية قصص أبطالها الذين ماتوا مرفوعي الهامات؛ فكان موتهم خلودا لهم ولموقفهم. فقد آمن طرفة وهو الذي مات في سن الأربعين “أن تلك سبيل ليس فيها بأوحد”، ويسائل من يلومه على كثرة المشاركة في الحروب: “هل أنت مخلدي؟”، وعبر عبد يغوث بن صلاءة عن “شهامة عظيمة وشدة”[33] وهو على مشارف الموت، وكان المعري يصر دائما على أن “الموت حظ لمن تأمله”؛ وهو الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة الملأى بالشك واللايقين، وليس عنده المرض والألم سوى جسر للعبور إلى موت “يستراح به” و”كفن يرتاح إليه” ورمس يعاد إليه. ومثله ما نقل عن هدبة بن خشرم ومرة بن محكان السعدي وأفنون التغلبي. وقد عقد المبرد في كتابه “الكامل” بابا لمن ظهرت عليهم القسوة عند الموت، ونقل قول حلحلة الفزازي للمقتص منه: “أجد الضربة، فإني والله ضربت أباك ضربة أسلحته فعددت النجوم في سلحته”[34]. وقول هدبة بن خشرم لقاتله: “أثبت قدميك، وأجد الضربة، فإني أيتمتك صغيرا وأرملت أمك شابة”[35]. كما نقل عبارة وكيع بن الأسود وهو على مشارف الموت: “والله لو كانت في شدقي للكتها إلى العصر”[36]، ومقالة إبراهيم النخعي: “والله لوددت أنها تلجلج في حلقي إلى يوم القيامة”[37].
في الشعر المعاصر تعقد نازك الملائكة فصلا خاصا للشعر والموت تتبع فيه تجربة الموت لدى أبي القاسم الشابي والهمشري…. حيث عبرت لفت نظرها موقف الشابي الذي “بخالف الموقف المعتاد للمحتضرين، فهو بدلا من أن يعرض استسلام الشاعر لهذا الفناء الذي لا بد منه، يصوره لنا وكأنه يقبل عليه باختياره في لهفة وشوق”[38].
وفي سياق هذا الموت الآمن عقد ابن أبي الدنيا في كتاب “المحتضرين” بابا لحسن الظن بالله عند نزول الموت” أورد فيه أحاديث تبرز اطمئنان رجال من الصالحين وأمانهم وهم يحتضرون. وقد كان هذا الأمان والاطمئنان على مشارف الموت باعثا للاستمرار في العبادات والأعمال الصالحات؛ فعن محمد بن ثابت البناني أن أباه كان “يقرأ ونفسه تخرج”[39]، ومن الفقهاء من يموت وهو يناقش مسألة فقهية، ومن المحدثين من تخرج روحه وهو يروّي أو يبلغ حديثا، ومن القراء من لا يفارق القرآن فمه وهو في سكرات الموت، ومن المفسرين من يفسر آية في حين موته.[40] فحين يتحلى الإنسان بالأمان، ويعيش الاطمئنان وهو على مشارف الموت، فإنه لا يتوقف عن الإنتاج والعطاء، والامتداد بالنفس عبر فعل الخير والحرص على خلود العمل بالكتابة فقد ذكر ابن سعيد المغربي في ترجمته للْكَاتِب أَبي بكر بن أبي الْعَلَاء المعروف بابن الجنان الشاطبي، أنه “كَانَ من الجِلَّة ببلدة وجَرَت عَلَيْهِ محنةٌ سُجِن فِيهَا وقُيِّد فَكتب على الْحَائِط بالفَحْم وَقد أَيقَن بِالْمَوْتِ:
أَلا دَرى الصِّيدُ مِن قَومِي الصَّناديدُ أَنِّي أَسير بِدارِ الذُّلِّ مَصفودُ
لا أَبسُطُ الخَطوَ إِلا ظَلَّ يَقبِضُهُ كِبلٌ كَما اِلتَفَّتِ الحَيّاتُ مَعقودُ
وَقَد تَأَلَّبَ أَقوامٌ لِسَفكِ دَمي لا يَعرِفُ الفَضلُ مَأواهُم وَلا الجودُ”[41]
فيقين الموت لم يمنع أبا بكر من المكوث على الكتابة وترك أثره على حائط السجن، حتى يأتي من ينقله إلى الناس. أما ابن الزيات الوزير (ت233هــ) فقد كتب أبياتا بفحمة على جدار التنور الحديدي الذي أدخله فيه المتوكل.[42] وفي السياق ذاته كان الموت في الفكر الصوفي لابن عربي أسمى المقاصد وأرقى المطالب. فالموت عنده موتان موت اضطراري وهو المشهور، وموت اختياري وهو موت في حياة دنيوية؛ “ولا يموت الإنسان في حياته إلا إذا صحت له هذه النيابة”[43] فالموت خلاص من سلطة الجسد، ومن كل سلطة، وسبيل للكشف واتساع الرؤيا والعبور إلى البرزخ؛ “فإنه بالموت تنكشف الأغطية ويتبين الحق لكل أحد”[44].
وقد اهتمت الفلسفة الإسلامية كذلك كثيرا بسبل مواجهة الخوف من الموت فعالج الكندي هذا الموضوع في رسالة له بعنوان: “الحيلة لدفع الأحزان”، وبدأ بتعريف الحزن بأنه “ألم نفساني يعرض لفقد المحبوبات وفوت المطلوبات”[45]، وأنهى رسالته بالنص على أنه قد “تبين إذن كيف غلطت الأنفس الضعيفة التمييز المائلة إلى الحس في الموت، وظنته مكروها”[46]. ويخصص الرازي (ت313هـ) للموضوع نفسه رسالة من رسائله الفلسفية، ويرى أن “إن هذا العارض ليس يمكن دفعه عن النفس كَمَلاً إلا بأن تُقنَع أنها تصير من بعد الموت إلى ما هو أصلح لها كانت فيه.”[47] ثم يضيف في الأخير “إني قد بينت أنه ليس للخوف من الموت على رأى من لم يجعل للإنسان حالة وعاقبة يصير إليها بعد موته وجه. وأقول إنه يجب أيضا في الرأي الآخر – وهو الرأي الذي يجعل لمن مات حالة وعاقبة يصير إليها بعد الموت – أن لا يخاف من الموت الإنسان الخير الفاضل المكمل لأداء ما فرضت عليه الشريعة المحقة، لأنها قد وعدته الفوز والراحة والوصول إلى النعيم الدائم.”[48] كما خصص ابن مسكويه 421)هــ) في كتابه تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق” بابا لعلاج الخوف من الموت. وقد ابتدأه بعرض ما يعتبره أسبابا دافعة للخوف من الموت؛ “إن الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن لا يدري ما الموت على الحقيقة أولا يعلم إلى أين تصير نفسه”[49] ثم يعمد إلى رد هذه الشبه وتفنيد هذه الاسباب للإقناع بأن الحزن على الموت لا طائل منه وهو “ألم مكروه” لا يجدي صاحبه شيئا.
4- خطاب النزع الأخير في الشعر العربي:
وإذ يبدي الكثير من الشعراء، مثل سائر الخلْق، جزعا من الموت وفَرَقا من سكراته لحظة دنوّه؛ فإن شعراء آخرين يسعون إلى تجريده من كل خوف وقلق يحيط به. فعلى مشارف الموت أضحى الموتُ منبع إلهامهم ومدار إبداعهم، وفي انتظاره جعلوا يبدعون كما يبدعون في وقت أمنهم ودَعَتهم، يتذكرون أيام بطولاتهم الماضية لمواجهة لحظات ضعفهم الآتية. فتمخّضت مواقفهم عن أحاسيس إنسانية فريدة ومضطربة، وأفرزت أشعارهم مشاعر بشرية ظلت خفية ومغمورة… ففي انتظار الموت عادة ما يُبَحّ صوت الفرد، وتُكتم مشاعر الذات، وتُكبت أحاسيس الشخص؛ وفي تراثنا الشعري العربي كما في كل إبداع إنساني عميق، هناك دائما شعراء متفرّدون كسروا قواعد القلق الممتد على مشارف الموت المحقق، فثأروا لآلام الموت بآمال الشعر، وحرموا أعداءهم لذة رؤية الجزع من الموت في أعينهم وفي شعرهم، وواجهوا حقيقته المرة القاسية بعيون متفتحة وأذهان متوقّدة وأشعار مؤثّرة…
يقول الجاحظ في إحدى ملاحظاته النبيهة: “وليس في الأرض أعجب من طرفة بن العبد وعبد يغوث، وذلك أنا إذا قسنا جودة أشعارهما في وقت إحاطة الموت بهما لم تكن دون سائر أشعارهما في حال الأمن والرفاهية”[50]. ثم يضيف في نص آخر هدبة بن خشرم العذري إلى طرفة وعبد يغوث، وينبه من جديد إلى أهمية هذا المذهب في القول: “وما قرأت ـ في الشعر كشعر عبد يغوث بن صلاءة الحارثي، وطرفة بن العبد، وهدبة هذا؛ فإن شعرهم في الخوف لا يُقَصّر عن شعرهم في الأمن، وهذا قليل جدا”[51]. ففضلا على أن الجاحظ يصف أشعارهم بالعجب والجودة وعدم التقصير فنيا، فإن مدار الإعجاب فيها ومرجعه هو استمرار حالة التجويد في حال الجزع وإحاطة الموت كما كان في حال الأمن والرفاهية، وهو “قليل جدا”؛ لأن ديدن الإنسان الجزع في وقت إحاطة الموت به، والخوف من كل سوء ينتظره. لكن هؤلاء الشعراء أبدعوا بعمق وأجادوا بفنية عالية على مشارف الموت.
وهو ما يدرجه ابن رشيق ضمن حديثه عن الشعر بين الرّويّة والبديهة؛ فتنبه مثل الجاحظ إلى شدة هؤلاء الشعراء وسكون جأشهم وقوة غريزتهم؛ وهم يواجهون الموت ويقولون الشعر إخلاصا لفعل الشعر ونكاية في آلام الموت؛ “ومن الشعراء مَن شعره في رويته وبديهته سواء عند الأمن والخوف، لقدرته وسكون جأشه وقوة غريزته؛ كهدبة بن خشرم العذري، وطرفة بن العبد البكري، ومرة بن محكان السعدي”[52]. وبعد أن أورد أبياتا لمُرّة هذا يقول: “وهذا شعر لو روّي فيه صاحبه حولا كاملا على أمن ودعة وفرط شهوة أو شدة حمية لما أتى فوق هذا”[53]. ثم يلحق بهم بعدُ عبد يغوث بن صلاءة، ويصفه ابن رشيق بالشدة والشهامة العظيمة، ثم ينهي حديثه عن هؤلاء الشعراء بمقارنتهم بعبيد بن الأبرص؛ “وهو شيخ الصناعة ومقدم في السن على الجماعة”؛ وقد أوجز خوفه في قوله الذي صار مثلا فيما بعد، مما يدل على قوته ومبلغ تأثيره: “حال الجريض دون القريض”. فأي جودة في الشعر وعمق في الإحساس جعلا الجاحظ وبعده ابن رشيق، ومثلهما المبرّد والششتري وغيرهم، يقفون عند شعر هؤلاء الشعراء باعتباره نموذجا للتجويد الفنّي على مشارف الموت؟! وأي قوة في النفس وإيمان بفاعلية الإبداع جعلا هؤلاء الشعراء يُعرّون الموت من حقيقته المرعبة، ويفكون النفس من أسر خوفها الجِبِلّي المطلق؛ ليعوض الأمنُ والاطمئنانُ والسكينةُ الخوفَ والقلقَ والجزعَ؟!
4-1- نشيد الرّعاء (ة):
من الوقائع الثقافية والشعرية المتفشية بشكل واسع في الثقافة العربية وقْعة “يوم الكُلاب الثاني”[54]، والتي شهدت أسر عبد يغوث بن صلاءة الحارثي شاعر بني الحارث وفارسهم وقائدهم في هذا اليوم، كما تمَخّضت عن قصيدته المشهورة التي أسميناها “نشيد الرعاء (ة)”، والتي يذمّ خلالها أصحابه وينوح فيها على نفسه. وتذكر الروايات أن عبد يغوث بن صلاءة الحارثي كان سيدا شريفا في قومه، وكان من رؤساء الحلف الخمسة الذين أغاروا على تميم في يوم الكُلاب الثاني، فلما ولّوا الأدبار اقتفى أثره “عصمة بن أبير” فأسره وخبّأه عند الأهتم “فوضعه الأهتم عند امرأته العبشمية (من بني عبد شمس)، فأعجبها جماله وكمال خلقه، وكان عصمة الذي أسره غلاما نحيفا، فقالت لعبد يغوث: من أنت؟ قال: أنا سيد القوم! فضحكت، وقالت: قبّحك الله سيّد قوم حين أسرك مثلُ هذا. ولذلك يقول عبد يغوث:
وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم تر قبلي أسيرا يمانيا”[55]
فلما صار أمرُه إلى تميم “فخشوا أن يهجوَهم، فشدوا على لسانه بنسعة؛ فقال إنكم قاتليّ ولا بد، فدعوني أذمّ أصحابي وأنوح على نفسي! فقالوا: إنك شاعر ونخاف أن تهجونا! فعقد لهم أن لا يفعل، فأطلقوا لسانه وأمهلوه حتى قال قصيدته…”[56].
وقد اختفت الروايات في طريقة قتله، لكن اشتهر من بينها أن عبد يغوث قد اختار طريقة موته؛ فقال: “يا بني تميم، اقتلوني قتلة كريمة، فقال له عصمة: وما تلك القبلة؟ قال: اسقوني الخمر، ودعوني أَنُحْ على نفسي، فقال له عصمة: نعم، فسقاه الخمر، ثم قطع له عرقا يقال له الأكحل، وتركه ينزف، ومضى عنه عصمة، وترك معه ابنين له، فقالا: جمعت أهل اليمن وجئت لتظلمنا، فكيف رأيت الله صنع بك؟ فقال عبد يغوث في ذلك:
ألا لا تلوماني كفى اللوم ما يا فما لكما في اللوم نفع ولا ليا”[57]
لقد أجمعت كل المصادر التي تحدثت عن الأمن والخوف والروية والبديهة في الشعر على أن عبد يغوث واحد من أولئك الشعراء القلائل الذين واجهوا الأسر ثم الموت بقوة نفس ورباطة جأش. وشاءت رواياتهم أن تقدم أسْره مغرقا في الذّلّة؛ فقد أسره عصمة وكان نحيفا أهوج، وترك معه ابنين له في موته، ثم سخرت منه امرأة من نساء عبد شمس؛ فسعى إلى “الخلود” بشعره الجميل وبطريقة موته الفريدة، لعله يمحو تلك الصورة المذلة التي التصقت به وبطريقة أسره، وبقومه في حرب غير عادلة وغير شريفة[58]، والتي أحاطه بها أعداؤه بعد أسره. فالفارس إنما تقاس شجاعته بشجاعة من يقاتلهم ويقابلهم، لكن بني تميم أذلوا عبد يغوث وقد تركوه عرضة لسخرية غلمانهم ونسائهم، لما لم يكن مقاتلا شريفا يخوض حربا شريفة. فهرع إلى الشعر والخمر والموت عساه يسترد شيئا من بطولاته المفتقدة وكرامته المُمتهنة، وينخرط في مشروع الخلود الذي يسعى إليه كل إنسان، وخصوصا الشاعر العربي الذي يرى في الشعر وسيلته للمكوث، وفي الخمر أداته لمواجهة الخطوب، وفي الموت الآلية الوحيدة لانبعاث حياة جديدة.
فناضل الشاعر من أجل حقه في القول الشعري قبل الموت، بعد أن شدوا لسانه بنسعة وفيه قولان: الأول “أن هذا مثل… لأن اللسان لا يشد بنسعة، وإنما أراد: افعلوا بي خيرا لينطق لساني بشكركم وإنكم ما لم تفعلوا فلساني مشدود لا أقدر على مدحكم”[59]. والثاني أنهم شدوه بنسعة حقيقية”، وهو مذهب الجاحظ الذي استدل به على شدة خوف العرب من الهجاء؛ في حديثه عن قدْر الشعر وموقعه فيا لنفع والضر، قال: “ويبلغ من خوفهم من الهجاء ومن شدة السب عليهم، وتخوفهم من أن يبقى ذكر ذلك في الأعقاب، ويسبّ به الأحياء والأموات، إنهم إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق، وربما شدوا لسانه بنسعة، كما صنعوا بعبد يغوث بن وقاص الحارثي حين أسرته بنو تميم يوم الكلاب…”[60].
وسواء أكان الشد بالنسعة حقيقة جرت مجرى العادة عند العرب، أم مجازا جرى مجرى المثل لديهم، وسواء أأَطلق بنو تميم لسان عبد يغوث بإزالة النسعة، أي السير المنسوج، أم أطلقوه بإسباغ الخيرات؛ فإن الشاعر استطاع أن ينتزع حقه في القول الشعري في الأسر وعلى مشارف الموت، وقال قصيدته التي ضمنت له خلودا في مساحات الشعر والثقافة، في كتب الأدب والنقد واللغة، كما في كتب التاريخ والتراجم وأيام العرب ومآثرهم.
ولاستكمال رحلة الخلود وتعويض البطولة المفتقدة سعى الشاعر إلى انتزاع طريقة متميزة في موته، أبدع الرواة في إضفاء طابع الغرابة عليها، مما يضاف إلى غرابة الأسر وفنية القول الشعري وعجائبية أحداث يوم الكلاب الثاني. ومن أشد الأقوال عجائبية في مقتل عبد يغوث ما ذكرناه من أنه سُقي الخمر ثم قطع له الأكحل، فجعل ينزف وهو يقول الشعر، نزيف دم يؤدي إلى الموت، ونزيف شعر يسلم إلى الحياة، وبين نزيف الموت ونزيف الحياة تضطرم مشاعر القبول والرفض، والذات والجماعة، والانعتاق والتقيّد، واللوم والندم، والكرّ والفرّ، والسكر والصحو…. في رحلة من أشهر رحلات الخلود التي تناقلتها الثقافة العربية وشكلت جزءا مهيبا من تاريخها الثقافي والشعري منذ العصر الجاهلي إلى اليوم.
وفي ثنايا القصيدة جعل الرواة الشاعر يخاطب، وهو ينزف شعرا ودما، ابني عصمة آسره وقاتله، ويدعوهما إلى الكف عن لومه، لأن اللوم ليس من أخلاقه وشيمه، ونفعه قليل له ولهما، وأن واقع ذل الأسر وجهد الموت أكبر من اللوم. ليتحلّل من الحاضر الأليم الذي يحيط به فيه الإحساس بالذنب والشعور بالندم، وهو ضحية أسْر وقتل مذلين في حرب غير عادلة. فيستنجد بالذاكرة ليسترجع لحظات البطولة في أتون الهزيمة، ولحظات الحياة على مشارف الموت، ولحظات الإباء والأمانة على مهاوي الذل والخيانة.
فتتشابك الذاكرة مع اللوم والألم، ومع الغواية والندم، لتنتج حياة شعرية تمتد في الماضي وأيامه وبطولاته، وتستدعي منه ما ترمم به انكسارات الحاضر ونكوصاته، عساه يُموّه على نفسه وآسريه ومتلقيه “بالخلط بين إعادة التذكر وبين الخيال الناتج عن الصيرورة”[61]. فتمتد الذ اكرة بعيدا إلى رمزية اليومي والهامشي تستدعي منه ما ينم عن البطولة والندى، وما ينبئ عن لحظات مفتقدة مع “الندامى” في نجران، ومع رفاق الحرب والسلم في حضرموت. لقد كان طبيعيا هذا التركيز على لحظات الشرب والمنادمة من الشاعر وهو على مشارف الموت، فهي الحياة الحقيقية التي يعيشها الشاعر بكيانه ومشاعره. وهي اللحظات الممتعة المنتزعة من صيرورة الصمت الآتي في “نجران” ملتقى طرق التجارة والمحبة، وفي “حضرموت” ملتقى التاريخ والحضارة. يسمي الشاعر أصحابه من سادة القوم وأبطالهم الذين يشرف بهم ويشرفون به؛ “أبا كرب” و”بشر بن علقمة بن الحارث”، و”الأبهمين” الأسود بن علقمة بن الحارث، والعاقب المسيح بن الأبيض، وقيس بن معد يكرب. وفي ذكرهم بأسمائهم سعي إلى مقاومة النسيان، واختبار للذاكرة في حميميتها الخالصة وجزئياتها المتشظية، ذاكرة طرية وطوية نقية على مشارف الموت القاسي.
ثم تتواشج الذكرى مع الندم واللوم من جديد، ولكن هذه المرة تتوجه “الملامة” إلى قومه ومن حالفهم في “وقعة” غير شريفة ومعركة غير عادلة؛ وهو يهاجمون قوما أو هنتهم الحرب وكسرت شوكتهم الهزيمة وأفسدت أحوالهم ضراوة المعركة. “تلكم تميم ألِقاء مطروحون بقدّة”[62]… فعلى مشارف الموت تنطق الذات بالحقيقة على مرارتها ويختلط الندم بالملامة والألم….
لكن هذا لم يثنِ الشاعر عن إظهار البطولة واسترجاع لحظاتها الحاسمة، دون أن يشير إلى مقاتلة الأعداء/ الآسرين ومقارعتهم، لأن ذلك مما لن يشرُف بذكره، ولا يحسن إيراده في سياق أسره هذا… فيسترد لحظات عصيبة في المعركة، كان فيها الفرار من القتال قرارا سهلا على متن فرس من الخيل “نهدة” هي الأسرع تولي خلفها “الخيل الحوَّ” الصابرة الخفيفة السريعة، لكنه اختار القرار الأصعب وهو “المواجهة” و”حماية الذمار” في أوج الصراع. لأن المقاتل، سواء أكان من الرؤساء أو المرؤوسين، لا يسأل عن صواب قرار الحرب من عدمه في أرض المعركة؛ بل يقاتل دفاعا عن قيم قومه وثوابت أهله. وهي قيمة كونية معلومة لدى سائر المحاربين في كل زمان ومكان، وهو مما يستحق أن يفخر به الشاعر في هذا المضمار.
ثم يعود الشاعر إلى مخاطبة آسريه/قاتليه، ويشغّل ذاكرته على محور آخر أقرب إلى لحظاته التي يحياها بكل حواسه ومشاعره بتفاصيلها المؤلمة، فإن فعل المنع من القول كان واقعا قاسيا على الشاعر، ناضل من أجل استرداده بكل ما يمتلك من لباقة في القول ولياقة في الفعل، لاستدرار طاقته الشاعرية في هذه اللحظة الأساسية والخطيرة من حياته التي أضحت ضيّقة جدا، حتى يستكمل الثالوث الدرامي المؤثر: سقي الخمر، ونزيف الدم، ونظم القريض.
وها هو الشاعر يتودد إلى آسريه المتوارين في شخوصهم الحاضرين بقوة في ممارساتهم العقابية المحيطة؛ ويتقرب إليهم “أمعشر تيم”، بإنكار اغتيال شريفهم “فهو ليس له بواء”، والسعي إلى نيل رحمتهم في الأسر وإحسانهم في القتل… إنه اختيار دقيق للكلمات، وتعبير صادق عن المشاعر والأحاسيس الحقيقية غير المدرّنة بالعصبية القبلية أو الحمية العشائرية؛ إذ لم يكن الشاعر ليواري ندمه وينكر قتل غريمه، ويستدر عطف آسريه قتلا أو عفوا، لولا أنه يعلم ازوراره وقومه عن الحق في هذه الحرب، واغتنامهم من أهل تميم لحظات ضعفهم وانكسارهم وهوانهم؛ إنه الإنسان حين يمتلك شجاعة الاعتراف في نهاية المطاف.
“ينتهي مع الموت زمن الامتيازات” حسب ريكور؛ فتضحي الحياة اليومية البسيطة ذكريات مؤلمة دونها الموت المحيط. وتنشط ذاكرة الحواس لتقتلع من الماضي الآمن لحظات السكون والصفاء، فيتساءل الشاعر تساؤل الجزع من الآتي، فاقد الأمل في الحياة، المتيقن من موته القادم؛ “أحقا عباد الله؟!”. ثم يظهر حنينا إلى تلك الأناشيد التي يرفع بها الرعاة أصواتهم، وهم معزبون بإبلهم بعيدا عن الديار؛ هو حنين إلى الرعاة وأصواتهم النّدية، وإلى الإبل وأعطانها….، حنين إلى الحياة في الصحراء المديدة، العارية من كل تصنع. واستدعاء للمشهد كاملا بمناظره وأصواته من الذات المعذبة؛ حيث صوت النشيد “حين يطلق بشكل جماعي يمكن من إحساس قوي بالانتماء، يتمثل في الكلام بصوت واحد… السمع يجعل الإنسان متعاضدا مع العالم، ثم حيث تتركه الحياة بعيدا كما لو كان في ركح مسرح”[63].
ومن مظاهر الهزيمة الأليمة، التي يتذكرها الشاعر بقلق كبير، تلك السخرية المذلة التي تعرض لها سيد القوم من قبل امرأة من نساء آسريه. فبعد أن أُسر على يد “الفتى الأهوج”، ها هو بين يدي “شيخة عبشمية” تسخر منه وتضحك من أسره. فلا يلبث ان ينتصر لنفسه وقومه، إذ الأسر من قيم المحاربين التي يفتخر بها كل عربي. ثم يقارن بين الأمس واليوم، بالأمس حين كان نساء الحي يركضن حوله، ويراودنه عن نفسه، وهو يجأر إلى العفة والوفاء، أما اليوم فهو بين يدي فتى أهوج وشيخة ساخرة ينتظر موته العنيف في أسره المذل… إنه الشرخ الممتد بين ماضي السيادة وحاضر الهوان، بين ماضي الحركة/الركض وحاضر السكون/ الأسر، بين ماضي الحياة الممتدة وحاضر الموت العنيف المترصد.
في حاضر الأمل والندم وانتظار الموت القريب، وفي السعي إلى صياغة مشروع الخلود على حافة الموت، تنتعش الذاكرة باسترجاع مقاطع البطولة والكرم، وبما سطرته من ملاحم؛ حيث الشجاعة المستعارة من الليث، وحيث المقاتل في عدو دائم؛ فلا يهم عاديا أو معدوا عليه بل الأهم أن تظل الشجاعة قيمة متعالية في الكر والفر، في الحرية والأسر، وفي الحياة والموت… ولا يعادل الشجاعة قيمة في ظروف الحرب إلا قيمة الكرم في ظروف السلم والاستقرار؛ فيفخر الشاعر بأنه كان “نحار الجزور” و”معمل المطي”؛ مقدم غير مدبر في لحظات النصر والهزيمة، كريم غير مقتر في لحظات الشدة والفرح؛ ينحر لندمائه “مطيته” من أجود المطايا ويشق رداءه طربا… هي لحظات أضحت من الماضي؛ لحظات التفاخر بالعفة والوفاء، والتغني بالشجاعة والإباء، والفرح بالكرم والعطاء، والتأثر بالطرب والغناء.
ومثل كل من يحس بدنو أجله، ينتقل الشاعر من مقاومة الموت إلى تقبله. ومن الخوف منه إلى استباقه، ومن ادعاء البطولة إلى استدرار التعاطف ومن الافتخار بالأيام الخوالي إلى التأسف عليها، ومن جلبة القوة إلى سكون الضعف. يستقصر مدة كل بطولة، ويختصر قيمها الرمزية بقوله “كأن لم”؛ فكأن “ركوب الجياد” و”نجدة الرجال” و”الكرم بالشراب والطعام” لم يكن غير لحظات قصيرة تذروها رياح الموت القادم.
من خلال قصيدة عبد يغوث هذه نكتشف أنه حين يكون الموت وشيكا فإن نبض الإبداع يستجيب لنبض الذات المضطربة نفسيا الواهنة جسديا، وبين بناء مشروع الخلود والبكاء على الذات المتردية في جحيم الموت القاسي، نلتمس فرادة في القول واضطرابا في النفس وفرحا بالماضي وخوفا من المستقبل. نجد نضالا بالشعر من أجل الخلود، ونزيفا للذات من أجل الموت، وتفشيا لمشاعر اللوم والألم والندم من أجل المداواة، واستمساكا بالذاكرة لمواجهة نكوصات الحاضر والمستقبل، وتعلقا بالندم الفردي واللوم الجماعي للتطهير من جريرة حرب غير مشرّفة.
فلما لم تكن الحرب عادلة، ولم يكن الأسر شرفا، ولم يكن القتل بطولة، كانت المواجهة خطأ، والحرية مذلة، والاغتيال قدرا… فكانت كلمات اللحظات الأخيرة ألصق بالأذهان وأعلق بالجنان وأدعى للاطمئنان. حين يضحي الموت حقيقة قريبة تتساوى اللحظات العظيمة المفعمة بالبطولة والكرم والإباء، واللحظات البسيطة العابقة بالأنس والمحبة والذكرى؛ فالانتصار في معركة، أو الكرم بالجزور والمطايا، يصبح مثله مثل الطرب لغناء قينة أو الاستمتاع بنشيد راع؛ لأن أهمية اللحظات تقاس بما تثيره في النفس من الحنين والذكرى، وما تبعثه في الفؤاد من الرأفة والاطمئنان ساعة الشدة واليأس… وفضلا عن ذلك ففي انتظار الموت تتقوى الحكمة وتتمدد البصيرة؛ ويسترجع الماضي أيضا للتكفير عن خطايا الحاضر، وتقديم صورة في غاية الصفاء والنقاء؛ ترضى عنها الذات والآخرون؛ أعداء وأصدقاء… لأن ألم الموت المحيط يدفع الذات إلى أن تواجهه وهي عارية من ذنوبها موارية لخطاياها؛ وذلك ما سعى إليه عبد يغوث بن صلاءة الحارثي في نشيد الرعاء…
4-2- وصايا على مشارف الهلاك:
هدبة بن خشرم، “شاعر مفلق كثير الأمثال في شعره، وهو قاتل ابن عمه زيادة بن زيد العذري في أيام معاوية، فحبسه سعيد بن العاص، وهو على المدينة، خمس سنين أو ستا إلى أن بلغ المسوّر بن زيادة -وكان صغيرا- فقتله بأبيه”[64]. وهدبة من بيت أصيل في الشعر و “من أسرة تفشى فيها الشعر، فإخوته شعراء، وأمه شاعرة، وهو شاعر له مكانته بين الشعراء، من فصحائهم المتقدمين المجيدين”[65]. وقد أجمع على شاعريته الرواة والنقاد؛ فذكر صاحب الأغاني أن “هدبة شاعر فصيح متقدم من بادية الحجاز”[66]. وفضلا عن بيت الشعر الذي نشأ فيه، فقد كان كذلك “شاعرا راوية”؛ وهو من أعمدة مدرسة عبيد الشعر العريقة في الشعرية العربية. ففي خزانة الأدب أن هدبة “شاعر فصيح متقدم من بادية الحجاز، وكان شاعرا راوية. وكان يروي للحطيئة، والحطيئة يروي لكعب بن زهير، وكان جميل راوية هدبة، وكثيّر راوية جميل”[67]. فحين كان كل المجتمع العربي يبعد الحطيئة ويتنكر له، لما يحمله من صفات تلتصق بالجاهلية سلوكا وثقافة وشعرا لزمه هدبة وروى له وأخذ عنه، فضمن لمدرسة عبيد الشعر امتدادا بعيد المدى في الشعرية العربية عبر مراحلها المختلفة.
غير أن صاحب الأغاني تنبّه إلى أن هدبة “أشعر الناس منذ يوم دخل السجن إلى أن أُقيد منه”[68]، بل إن “أكثر ما بقي من شعره ما قاله في أواخر حياته بعد أن قتل رجلا من بني رقاش من سعد هذيم اسمه زيادة بن زيد”[69]. فقد تجردت قريحته الشعرية بعد أن تيقن موته، وأقبل على الشعر على مشارف هلاكه، فكان شعره نابضا بحساسية شعرية خاصة، ودالا على صمود غريب في مواجهة الموت، وتعلق كبير بالقيم العربية والأعراف الشعرية الراسخة. وبالإضافة إلى أن الجاحظ قد ألمع إلى هدبة في حديثه على من كان شعرهم في الأمن والخوف سواء، فقد أعاد التأكيد على مكانة هدبة الشعرية ومكانته الشعرية بعد الأمر بضرب عنقه؛ “وكان هدبة هذا من شياطين عذرة، وهذا شعره كما ترى، وقد أمر بضرب عنقه وشد خناقه. وقليلا ما ترى مثل هذا الشعر عند مثل هذه الحال؛ وإن امرأ مجتمع القلب، صحيح الفكر، كثير الرين، عضب اللسان في مثل هذه الحال لناهيك به مطلقا غير موثق، وادعا غير خائف، ونعوذ بالله من امتحان الأخيار”[70].
وقد سجل اسم هدبة بن خشرم باعتباره “أول مصبور بالمدينة بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم”[71]، ووُصف بأنه كان “قاسيا لا يخاف الموت”[72]، وهو “من الجفاة عند الموت”. فقد اتسع باب التعبير أمامه في فترة سجنه وفي طريقه إلى تنفيذ حكم الموت، وقد حبس ست سنوات، بعد أن ضن به معاوية عن القتل “وكان ابن زيادة صغيرا، فاقترح أن يحبس إلى أن يبلغ ابن زيادة. فلما بلغ أبى ما عرض عليه من الديات واختار “القود”. فلما أخرج هدبة “ليُقاد بالحرة جعل ينشد الأشعار”[73]، وتتناسل الروايات وتتعاظم حول ثباته وقسوته وعدم خوفه، وقصصه مع زوجته وأبويه وقاتله المسور بن زيادة ومن حضر قتله من عامة الناس. غير أننا نختار من بين كل ما تناقلته المصادر من روايات وقصص وأشعار حول هدبة؛ ذلك النص الذي قيل إنه من آخر ما صدر عنه؛ “لما مضي به من السجن للقتل والتفت رأى امرأته وكانت من أجمل النساء”[74] فقال هذه الأبيات، التي مطلعها:
أَقِلّي عَليَّ اللَومَ يا أُمَّ بَوزَعا ***وَلا تَجزَعي مِمّا أَصابَ فأَوجَعا
حيث يتطلع الشاعر في مطلع هذا النص، وفي تقاطع واضح مع قصيدة عبد يغوث السابقة، إلى ألا تبالغ زوجته، أم ابنته، في لومها وعذلها له، وفي جزعها عليه. فرغم كمية الوجع والألم اللذين سيخلفهما افتقاده، فإن الانصرام سنة الزمان واللوم غير مُرجع ما كان. والموت محيط بكل “إنسان” في سائر أحواله ومآلاته، “مصعدا أو مفرّعا”. وخير ما يتسلح به المرء هو “التقى”، فهو خير المتاع في الآخرة. وخير المتاع في الدنيا ما تمتع به من ماله. حيث يقابل الشاعر بين اللوم غير المُرجع والجزع الموجع، ويعادل بين الإنسان الهالك والزمان المنقضي، وبين صعود الإنسان وانحداره في أمكنة لا يهدأ ضجيجها، وبين التقى متاع الآخرة والمال متاع الدنيا. هي المجالات الأساسية التي تشكل مدار أسئلة الإنسان على حافة الموت، وهو يسعى إلى حسم كل جدل وتردد في إشكالات الإنسان والزمان والمكان….
ومثل كل من أحس بدنو أجله يتوجه الشاعر بوصيته الشعرية إلى “أم عامر”، أم ابنه، ويستحضر خصوصية اللحظة، حيث الفراق؛ الذي تصير معه الوصايا نافذة. فيتوجه هدبة إلى زوجته وينهاها أن تنكح بعده من غطى شعره قفاه، وسال على جبهته. وقد كانت العرب “تتيمن بالأنزع وتذم الغمم وتتشاءم بالأغم. وتزعم أن أغم القفا والجبين لا يكون إلا لئيما”. كما نهاها عن المنافق المرائي، ضيق الصدر واسع البطن، الجبان الضعيف، كثير الأكل، سريع الارتياع والخوف… البخيل عن المكارم والخصال الحميدة، القصير وسط الرجال، كثير الكلام بلا نفع… ونصحها بلزوم الكريم الشجاع، الذكي، الصبور، الوَصول، ذو الحمية، وصاحب المروءة.
والشاعر في عمق هذه الوصية يحدد صفات الرجل العربي الراسخة في الذاكرة الشعرية العربية، وهو ما لا يُبرّز عادة إلا قليلا. حيث ينصرف اهتمام الشعراء عادة إلى تفصيل الصفات الجسدية للمرأة بينما يركزون في وصف الرجل على الصفات النفسية. وهنا في وصية هدبة تجميع لهذه الأوصاف جميعها. حيث تحتفي الثقافة العربية بالنزع وتذم الغمم في الرجال؛ وتتيمن العرب بالأنزع وتتشاءم بالأغم. كما تحتفي بالحلم والخفة، وتنكر على الرجال “البطنة” و”كثرة الأكل”؛ فقد قال متمم بن نويرة في أخيه مالك “فتى غير مبطان العشيات أروعا”. ثم يسترسل الشاعر في إنكار ما تنكره الثقافة على الرجال من خوف وعدم إقدام وتحذلق وكثرة كلام، ثم الدعوة إلى الشجاعة والكرم وحماية الديار. ففي ثنايا هذه الوصية ابتعاث للصفات الأصيلة في الرجل العربي، ودعوة للرجال إلى لزومها، وللنساء إلى لزوم من يلتزم بها. وهي وصية يضمن لها موقف الشاعر على مشارف الموت قوة وصدقا، كما تضمن لها صياغتها الشعرية فنية وجمالية. وتمنحها الثقافة قوة رمزية، حيث تورد لنا الروايات أن زوجته بعد سماعها الأبيات مالت “إلى جزار وأخذت شفرته فجدعت بها أنفها، وجاءته تدمي مجدوعة، فقالت: أتخاف أن يكون بعد هذا نكاح؟ فرسف في قيوده، وقال: الآن طاب الموت”[75].
ثم يختم الشاعر هذا النص بالتذكير بشيمه الفاضلة وأخلاقه الكريمة ومجده القديم المؤثل الذي ورثه فحماه ورفعه، كاويا لدوائه قاطعا لأخدعه، مما يعبر عن قوة نفس وصلابة وجلد. كما أنه يخلي مسؤوليته من إشعال نار الحرب بين قومه وغيرهم، لكنه حين يجد الشر أمامه فلا يتراجع ولا يتورع، يواجه أعداءه بكل قوة، فيهابونه ويتجنبون مواجهته. فعلى مشارف الموت تترسخ قيم البطولة والوفاء، ويتغنى الشاعر بالمجد والشدة والشجاعة والعفو. هو نموذج الرجل العربي في علاقته بزوجه وقومه، وفي علاقته بأعدائه ومبغضيه. عاش بطلا مهابا، وها هو يموت في أوج بطولته قويا شديدا وفيا أصيلا، وهي الحالة التي يرنو كل حي إلى أن يموت عليها.
ويورد الرواة حكايات كثيرة في قسوة هدبة حيال الموت وهو في الطريق إليه، ودائما ما يكون الشعر عنصرا أساسيا في كل رواية، بما هو عنصر محوري في أي حدث ثقافي عربي يكون الشاعر أحد أبطاله. فقد جاء في “الشعر والشعراء “أن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت اعترضه وهو يدخل وهو يرفل في الموت، فقال: ما هذا يا هدب؟ قال: لا آتي الموت إلا شدا! قال أنشدني، قال: على هذا من الحال؟! قال: نعم، فأنشده:
ولا أتمنى الشر والشر تاركي ولكن متى أحمل على الشر أركب
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ولا جازع من صرفه المتقلب
وحرّبني مولاي حتى غشيته متى ما يحرّبك ابن عمك تحرب
أخذه من تأبط شرا:
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ولا جازع من صرفه المتحول”[76]
فهدبة لا يفتأ في كل مناسبة يبرز أنه أقوى من الموت، فلما طلب منه عبد الرحمان بن حسان أن يقول شعرا ليختبر شاعريته وهو يساق إلى الموت، وعبد الرحمن هذا هو عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الشاعر بن الشاعر. نراه يؤكد على مجموعة من الصفات النفسية المستوحاة من الثقافة الشعرية العربية الأصيلة. فهو لا يتمنى الشر إذا تركه، لكن إذا ألزم عليه فإنه يركبه، وهو لا يثق في الدهر فلا يفرح كثيرا بما يثيره لديه من سرور كما لا يجزع إذا واجهته صروفه. ومهما كان الإنسان حليما فإنه إذا أثير يغضب، وإذا جُرّب يحرب؛ وإذا غضب الحليم فإنه لا شك يغلب. كما نرى أن ابن قتيبة قد تنبه إلى أن البيت الثاني أخذه هدبة من “تأبط شرا”، وهو أخذ مقصود من الشاعر استحضارا لقوة شاعرية “تأبط شرا”، وشدته في القتال، وهو أحد فُتّاك العرب المعروفين، وأحد الشعراء الصعاليك المشهورين.
لقد كان هدبة بن خشرم معلما أساسيا في تاريخ الثقافة العربية في تعاملها مع الموت في أحلك ظروف إحاطته بالإنسان، وقد نسجت حكايات كثيرة حول قسوته وشدته وعدم خوفه، فهو “أول مصبور بالمدينة بعد عهد الرسول صلى الله عليه وسلم” كما أسلفنا، وهو “أول من سن ركعتين عند القتل”[77]. كما نقلت أشعار وأقوال تدل على شاعريته وحكمته وبلاغته؛ فإن “لغته فصيحة عالية، وعبارته جيدة وأسلوبه حسن جميل، ولذلك وجد فيه النحويون واللغويون مادة لدراساتهم وشواهد لقواعدهم، وقد حفظت كتب النحو واللغة والمعاجم والبلدان شعر هدبة، وأفادت منه، إضافة إلى كتب الأدب والنقد والتاريخ”[78]. حتى إنه من الأخبار المنقولة عن العرب قولهم: “كنا بالمدينة أهل البيوتات، إذا لم يكن عند أحدنا خبرُ هدبة وزيادة وأشعارهما ازدريناه، وكنا نرفع من قدر أخبارهما وأشعارهما، ونُعجب بها”[79].
فقد اخترقت أخبار هدبة وأشعاره كل مناحي الثقافة العربية، ونجد صداها في كتب الأدب والنقد والتاريخ والتراجم، وفي كتب النحو واللغة والمعاجم والبلدان، وفي كتب الحديث والفقه والتفسير… فشكلت جزءا مهما من متخيل الثقافة العربية في مواجهة الموت بالقسوة والشعر، وفي تمسك الثقافة بالشعر من أجل صياغة مشروع الخلود على مشارف الموت… فهدبة مات قودا كما مات غيره بسبب أو بدونه، لكن أخبار هدبة وأشعاره هي فقط من ظلت خالدة تكشف عن قوة الإنسان في مواجهة النسيان، ومشاعره العميقة والدقيقة في مواجهة الشعور بالافتقاد، وقوته وقسوته في اللحظات الأخيرة، والتي استطاع من خلالها أن يُبلغ ما لم يبلغه طيلة حياته وهو حر طليق غير آبه بالموت..
لقد استطاع هدبة أن يجعل من لحظة قتله مهرجانا كرنفاليا هو بطله الأوحد، تتفاخر العرب بتناقله والإحاطة بتفاصيل أحداثه، كما استطاع أن ينزع البطولة من قاتليه وهم يتفاخرون بعدم قبول الدية وتنفيذ القتل فيمن قتل أباهم. كما استطاع بما أضفاه من مشاهد إنسانية على حدث موته في علاقته بزوجته وأبويه وكل من لاقاه أن ينتزع من قاتليه التعاطف، في كل المراحل التاريخية التي تداولت فيها أحداث مقتله بدءا من سعيد بن العاص ومعاوية وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وسائر القوم من قريش؛ الذين ضاعفوا الدية لابن زيادة وأهله حتى يتنازل عن حقه في قتل قاتل أبيه، وخلال كل المراحل التي أثنت فيها الكتابات المختلفة على شاعرية هدبة وقوته في مواجهة حتفه.
5- خاتمة:
ننتهي من خلال ما سبق إلى أن “خطاب النزع الأخير” لا تنتهي أسراره ولا تنقضي آثاره، وحين يكون الموت وشيكا يتسع المجال لاستكشاف شعور الإنسان ونظرته للحياة والوجود والكون. وفي أثناء إنصاتنا لهذه المرحلة الإنسانية الفريدة في الثقافة العربية عموما وفي الثقافة الشعرية خصوصا، ألفينا مشاعر فريدة تستحق الإنصات إليها وأحاسيس متميّزة يجدر الاقتراب منها؛ كما كشفنا عن رغبة في المكوث والبقاء، وسعيٍ إلى تشييد “مشروع الخلود” المأمول، من مزيج من الألم والقلق ومن التّفكير والتّعبير.
ممّا اشتغل في “مرض الموت” فأفعمه بالتلاشي وأثقله بالشّك والّلايقين أو بالأمان والارتياح، وفي تجربة “الشّيخوخة والهرم” حيث جعل الشعراء يحصون خساراتهم ويعيشون هواجسهم وخيباتهم في انتظار مجهول ظلّ متجاهلا، وفي “الموت العنيف” حيث الانتظار القاسي والإبداع الصّادق الخالد.
وفي هذه الأحوال جميعها اكتشفنا، أنه رغم التّناقض بين الموت وحالة السّكينة غالبا؛ فإن الإنسان حُيال الموت يتردّد بين القلق والأمان، قلق يتدفّق بكاء وجزعا وهربا وتواريا، وأمانٌ يتمخّض من خلال قيمة الشّجاعة ودعوى الخلود وادّعاء القسوة والشدة في مواجهة موت يُلجلج في الأحلاق والصدور، فيصير تجربة جديرة بالارتياد ملأى بالحقّ واليقين.
ثم حملنا هذه المشاعر المضطربة إلى فضاءات الشّعر الملتهبة واقتصرنا من التّجارب على ما برز انزياحها على المعتاد وبدا اتّجاهها إلى التّعجيب والإغراب؛ فألفينا في “نشيد الرّعاء” لعبد يغوث الحارثي تجربة شعرية متميّزة تُنبئ عن مواقف إنسانية متناقضة، شهدت أوجها في عبارات يضفي عليها الاحتضار إيقاعا خاصا، فكأنّنا نسمعها لأول مرة في هذه القصيدة: ألا، لا تلوماني…، ألم تعلما…، ولو شئت…، ولكنني…، أحقا عباد الله…، وقد كنت….، وكنت…، كأني لم… في نضال مرير من أجل الخلود ونزيف حادّ من أجل الموت، وتعلّق بالنّدم والّلوم والألم وتشبّث بالحكمة والبصيرة والصّفاء؛ في مواجهة خاطئة، وحرب مذلّة، وقتل لا مفر منه؛ مما يجعل الذات تعرى من جرائرها، وتدفن خطاياها وهي تسير نحو موت محقق.
وفي وصايا هدبة بن خشرم على مشارف الموت نكتشف إنسانا مجتمع القلب صحيح الفكر كثير الدّين، وشاعرا ألهب السجنُ شاعريّته، وجرّد القَوَدُ قريحته، فاستطاع أن يكسب تعاطف أعدائه ومُواليه. فاحتفظ بإنشاد الأشعار وهو يساق إلى حتفه، وبالرغبة في النصح والوصية على شفا هلاكه. فلما اختبر من خلال السجن والموت حقيقة الحياة وتحدّياتها، كان معلما ثقافيا مهما في تاريخ الثقافة العربية في تعاملها مع حدث الموت. وهو أوّل مصبور في الإسلام وأوّل من سنّ ركعتين عند القتل، وأبرزُ من واجه الموت بقوّة أسطوريّة غريبة جعلته يخْلد حين أراد له قاتلوه الزّوال. فاستطاع أن يخلق من لحظة “قتل” عادية حدثا كرنفاليا تنسج حوله الحكايات وتروى فيه الأشعار.
إن ما يجمع بين كل هذه الرّؤى التي عرضناها في هذا البحث هو أنها صيغت في/حول النزع الأخير، وأفلحت في جعله خطابا متميّزا ينبض بالتّساؤل والحياة والعمق، وهو ما لم تنتبه إليه الدّراسات العربية إلا على نطاق محدود جدّا.
الملحق 1: قصيدة عبد يغوث الحارثي[80]
أَلاَ لا تَلُومَانِي كَفى اللَّوْمَ ما بِيَا *** وما لَكُما في اللَّوْم خَيْرٌ ولا لِيَا
أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّ المَلاَمَةَ نَفْعُها *** قليلٌ، وما لَوْمِي أَخِي مِن شِمَالِيَا
فَيَا راكِباً إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ *** نَدامَايَ مِن نَجْرَانَ أَنْ لا تَلاَقِيَا
جَزَى اللهُ قَوْمِي بالكُلاَبِ مَلاَمَةً *** صَرِيحَهُمُ والآخَرِينَ المَوَاليَا
أَبَا كَرِبٍ والأْيْهَمَيْنِ كِلَيْهِمَا *** وقَيْساً بِأَعْلَى حَضْرَمَوْتَ اليمَانِيَا
ولو شِئْتُ نَجَّتْنِي مِن الْخَيْلِ نَهْدَة *** تَرَى خَلْفَها الحُوَّ الْجِيَادَ تَوَالِيَا
ولكِنَّنِي أَحْمِي ذِمارَ أَبِيكُمُ ***وكانَ الرِّماحُ يَخْتَطِفْنَ المُحَامِيَا
أَقُولُ وقد شَدُّوا لسانِي بِنِسْعَةٍ*** أَمَعْشَرَ تَيْمٍ أَطْلِقُوا عن لِسَانِيَا
أَمَعْشَرَ تَيْمٍ قَدْ مَلَكْتُهُمْ فأَسْجِحُوا *** فإِنَّ أَخاكمْ لم يَكُنْ مِن بَوَائِيَا
فإِنْ تَقْتُلُونِي تَقْتُلُوني سَيِّدا *** وإِنْ تُطْلِقُونِي تَحْرُبُونِي بِمَالِيَا
أَحَقًّا عِبَادَ اللهِ أَنْ لَسْتُ سامِعاً *** نَشِيدَ الرِّعَاءِ المُعْزِبينَ المَتَاليَا
وتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عبْشَمِيَّةٌ *** كأَنْ لَمْ تَرَيْ قبْلِي أَسِيراً يمَانِيَا
وظَلَّ نِساءُ الحَيِّ حَوْلِيَ رُكَّداً ***يُرَاوِدْنَ مِنِّي ما تُرِيدُ نِسَائِيَا
وقد عَلِمَتْ عِرْسِي مُلَيْكَةُ أَنَّنِي *** أَنَا اللَّيْثُ مَعْدُوًّا عليه وعادِيا
وقد كُنْتُ نَحَّارَ الجَزُورِ ومُعْمِلَ الْـ ***مَطِيِّ وأَمْضِي حَيْثُ لا حَيَّ مَاضِيَا
وأَنْحَرُ لِلشَّرْبِ الكِرَامِ مَطِيَّتِي *** وأَصْدَعُ بَيْن القَيْنَتَيْنِ رِدَائِيَا
وكنْتُ إِذا ما الْخَيْلُ شَمَّصَهَا القَنَا *** لَبِيقاً بتَصْرِيفِ القَنَاةِ بَنَانِيَا
وعادِيَةٍ سَوْمَ الجَرَادِ وَزَعْتُها *** ِكَفِّي وقد أَنْحَوْا إِليَّ العَوَالِيَا
كأَنِّيَ لم أَرْكَبْ جَوَاداً ولم أَقُلْ *** لِخَيْلِيَ كُرِّي نَفِّسِي عن رِجَالِيَا
ولم أَسْبَأِ الزِّقَّ الرَّوِيَّ ولم أَقُلْ ***لأِيْسَارِ صِدْقٍ: أَعْظِمُوا ضَوْءَ نَارِيَا
الملحق 2: قصيدة هدبة بن خشرم[81]
أَقِلّي عَليَّ اللَومَ يا أُمَّ بَوزَعا *** وَلا تَجزَعي مِمّا أَصابَ فأَوجَعا
فَلا تَعذُليني لا أَرى الدَهرَ مُعتِباً***إِذا ما مَضى يَومٌ وَلا اللَومَ مُرجِعا
وَلَكِن اَرى أَنَّ الفَتى عُرضَةُ الرَدى***وَلاقي المَنايا مُصعِداً وَمُفَرِّعا
وأَنَّ التُقى خَيرُ المَتاعِ وإِنَّما *** نَصيبُ الفَتى مِن مالِهِ ما تَمتَّعا
فأوصيكِ إِن فارقتِني اُمُّ عامِرٍ*** وَبَعضُ الوَصايا في أَماكِنَ تَنفَعا
وَلا تَنكَحي إِن فَرَّقَ الدَهرُ بَينَنا***أَغَمَّ القَفا والوَجه لَيسَ بأَنزَعا
مِنَ القَومِ ذا لَونَينِ وَسَّعَ بَطنَهُ*** وَلَكِن أَذَّياً حِلمُهُ ما تَوَسَّعا
كَليلاً سِوى ما كانَ من حَدِّ ضِرسِهِ***أُكَيبِدَ مِبطانَ العَشيّاتِ أَروَعا
ضَروباً بِلَحَييهِ عَلى عَظمِ زَورِهِ*** إِذا القَومُ هَشّوا لِلفَعالِ تَقَنَّعا
وَلا قُرزُلاً وَسطَ الرِجالِ جُنادِفاً*** إِذا ما مَشى أَو قالَ قَولاً تَبَلتَعا
وَكوني حَبيباً أَو لأَروَعَ ماجِدٍ***إِذا ظَنَّ أَوباشُ الرِجالِ تَبرَّعا
وَصولٍ وَذي أَكرومَةٍ وَحَميَّة*** وَصبراً إِذا ما الدَهرُ عَضَّ فأَوجَعا
وَأُخرى إِذا ما زارَ بَيتَكِ زائِرٌ*** زيالَكِ يَوماً كانَ كالدَهرِ أَجمَعا
سأَذكُرُ مِن نَفسي خَلائِقَ جَمَّةً*** وَمَجداً قَديماً طالَما قَد تَرفَّعا
فَلَم أَرَ مِثلي كاوياً لِدَوائِهِ*** وَلا قاطِعاً عِرقاً سَنوناً وأَخدَعا
وَما كُنتُ مِمَّن أَرَّثَ الشَرَّ بَينَهُم*** وَلا حينَ جَدَّ الشَرُّ مِمَّن تَخَشَّعا
وَكُنتُ أَرى ذا الضِغنِ مِمَّن يَكيدُني*** إِذا ما رآني فاتِرَ الطَرفِ أَخشَعا
قائمة المصادر والمراجع:
- ابن أبي الدنيا (أبو بكر)، كتاب المحتضرين، تحقيق: محمد رمضان يوسف، دار ابن حزم، ط1، 1995.
- ابن الجوزي (أبو الفرج)، تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر، تحقيق: محمد بن ناصر العجمي، دار البشائر الإسلامية، ط1، 2004.
- ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، د.ت.
- ابن سعيد المغربي، المغرب في حُلى المغرب، ابن سعيد المغربي، تحقيق: د. شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، ط4.
- ابن عبد ربه الأندلسي، العقد الفريد، تحقيق: مفيد محمد قميحة، مكتبة المعارف الرياض، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1983.
- ابن عربي (محيي الدين)، الفتوحات المكية، ضبطه وصححه ووضع فهارسه: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت،
- ابن عزوز (محمد)، غاية الاعتبار في أخبار من تعلم العلم أو علم ولو في ساعة الاحتضار، مركز التراث الثقافي المغربي، دار ابن حزم، ط1، 2009،
- ابن فارس (أحمد)، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، بيروت، 1979.
- ابن قتيبة الدينوري، الشعر والشعراء، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار المعارف، ط1، 1982.
- ابن منظور (جمال الدين)، لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط3، 1414هـ .
- أحمد محمد عبد الخالق، قلق الموت، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يناير 1970.
- الأصفهاني (أبو الفرج)، الأغاني، تحقيق: إحسان عباس، ابراهيم السعافين، بكر عباس، دار صادر بيروت، ط3، 2008.
- الألوسي (محمود شكري)، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، د.ت.
- البغدادي (عبد القادر)، خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط3، 1996.
- البكري (أبو عبيد الله)، سمط اللآلئ في شرح أمالي القالي، تحقيق: عبد العزيز الميمني، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت أبو عبيد البكري.
- البهلول (عبد الله)، الوصايا الأدبية: إلى القرن الرابع هجريا مقاربة أسلوبية حجاجية، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ط1، 2011.
- الثعالبي (أبو منصور)، سحر البلاغة وسر البراعة، دار الكتب العلمية، بيروت، ب.ت.
- الجاحظ (أبو عمرو عثمان)، البيان والتبيين، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط7، 1998.
- الجاحظ (أبو عمرو عثمان)، الحيوان، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، مصطفى البابي الحلبي، ط1965،4.
- الجبوري (يحيى)، شعر هدبة بن الخشرم العذري، دار القلم، بيروت، ط2، 1986.
- جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ساعدت جامعة بغداد في نشره، ط2، 1993.
- الجوهري (أبو نصر )، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1987.
- الخفاجي (ابن سنان)، سر الفصاحة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1982.
- الرازي (أبو بكر)، رسائل فلسفية، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط3، 1982.
- ريكور (بول)، الذاكرة التاريخ والنسيان، ترجمة وتقديم: جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2009.
- ريكور (بول)، حي حتى الموت، ترجمة وتقديم: عمارة الناصر، منضورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2016،
- الزبيدي (مرتضى)، تاج العروس، دار الفكر، بير وت، ط1، 1414هـ.
- الزركلي (خير الدين)، الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، ط15، 2002.
- شورون (جاك)، الموت في الفكر الغربي، ترجمة: كامل يوسف حسين، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت 76، أبريل 1984.
- الكندي (ابن إسحاق)، رسالة في الحيلة لدفع الأحزان، ضمن: رسائل فلسفية، تحقيق: عبد الرحمان بدوي، دار الأندلس، بيروت، 1997.
- كيليطو (عبد الفتاح)، العين والإبرة: دراسة في ألف ليلة وليلة، ترجمة: مصطفى النحال، نشر الفنك، الدار البيضاء، 1996.
- لوبروطون (دافيد)، أنثربولوجيا الحواس: العالم بمذاقات حسية، ترجمة: فريد الزاهي، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، ط1، 2020.
- لوبروطون (دافيد)، أنثروبولوجيا الجسد والحداثة، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 2017.
- المبرد (أبو العباس)، الكامل في اللغة والأدب ، مكتبة المعارف، بيروت، د.ت.
- المرزباني (أبو عبيد الله)، معجم الشعراء، تحقيق: فاروق أسليم، دار صادر بيروت، ط1، 2005.
- مسكويه (أبو علي)، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، تحقيق: ابن الخطيب، مكتبة الثقافة الدينية، ط1.
- الميداني (أبو الفضل)، مجمع الأمثال، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت.
- نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، منشورات مكتبة النهضة، ط3، 1967.
- ولسون (كولن)، التاريخ الإجرامي للجنس البشري، ترجمة: رفعت السيد علي، جماعة حور الثقافية، ط1، 2001.
- اليازجي (إبراهيم)، نجعة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد، مكتبة لبنان، بيروت، ط3، 1985.
- يشوتني (محمد)، خطاب الموت، مجلة علامات (المغربية)، العدد 15، يناير 2001.
- Diligent Marie-Bernard, Les approches de la mort, Académie nationale de Metz, 1990: http://documents.irevues.inist.fr/bitstream/handle/2042/34490/ANM_1989_197.pdf?sequence=1
- Georges Minois, Histoire de la vieillesse, De l’Antiquité à la renaissance, Edition Fayard, paris, 1987.
- Sigmund Freud, Essais de psychanalyse; Edité par Petite Bibliothèque Payot, paris, 1981.
[1]– جاك شورون، الموت في الفكر الغربي، ترجمة: كامل يوسف حسين، سلسلة عالم المعرفة، 76، أبريل 1984، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص67.
[2]– جمال الدين ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط3، 1414هـ، مادة “حضر”.
[3]– مرتضى الزبيدي، تاج العروس، دار الفكر، بيروت، ط1، 1414هـ، مادة “حضر”.
[4]– إبراهيم اليازجي، نجعة الرائد، شرعة الوارد في المترادف والمتوارد، 1/186.
[5]– لسان العرب، مادة “مرض”.
[6]– أبو نصر الجوهري، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1987، مادة “مرض”.
[7]– ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، بيروت، 1979، مادة “مرض”.
[8]– المصدر نفسه، مادة “مرض”.
[9]– دافيد لوبروطون، أنثروبولوجيا الجسد والحداثة، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 2017، ص183.
[10]– المرجع نفسه، ص31.
[11]– بول ريكور، حي حتى الموت، ترجمة وتقديم: عمارة الناصر، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2016،ص12.
[12]– لسان العرب، مرجع سابق، مادة “هرم”
[13]– Georges Minois, Histoire de la vieillesse, De l’Antiquité à la renaissance, Edition Fayard, paris, 1987, P 14.
[14]– دافيد لوبروطون، أنثروبولوجيا الجسد والحداثة، مرجع سابق، ص141.
[15]– بول ريكور، الذاكرة التاريخ والنسيان، ترجمة وتقديم: جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2009، ص519.
[16]– أبو منصور الثعالبي، سحر البلاغة وسر البراعة، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ.
[17]– المصدر نفسه، ص35.
[18]– المصدر نفسه، ص36.
[19]– أبو الفرج ابن الجوزي، تحقيق: محمد بن ناصر العجمي، دار البشائر الإسلامية، ط1، 2004، ص36.
[20]– المصدر نفسه، ص59.
[21] سورة البقرة، آية 179.
[22]– محمد يشوتني، خطاب الموت، مجلة علامات (المغربية)، العدد 15، يناير 2001، ص43.
[23]– ينظر: كولن ولسون، التاريخ الإجرامي للجنس البشري، ترجمة: رفعت السيد علي، جماعة حور الثقافية، ط1، 2001، ص23.
[24]– Sigmund Freud, Essais de psychanalyse; Edité par Petite Bibliotheque Payot, Paris, 1981, P 26.
[25]– أحمد محمد عبد الخالق، قلق الموت، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1970، ص12.
[26]– Diligent, Marie-Bernard, Les approches de la mort, Académie nationale de Metz, 1990, P.205.
[27]– أبو العباس المبرد، الكامل في اللغة والأدب، مكتبة المعارف، بيروت، د.ت، 2/ 361.
[28]– ابن أبي الدنيا، كتاب المحتضرين، تحقيق: محمد رمضان يوسف، دار ابن حزم، ط1، 1995.
[29]– ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار المعارف، ط1، 1982، 1/179.
[30]– المرجع نفسه، 1/268. والغريان: بناء عال كان النعمان بن المنذر يلطخه بدماء من يقتلهم يوم بؤسه.
[31]– جاك شورون، الموت في الفكر الغربي، مرجع سابق، ص49.
[32]– المرجع نفسه، ص55.
[33]– ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد،الرياض، د.ت.، 1/194.
[34]– الكامل في اللغة والأدب، مرجع سابق، 1/361.
[35]– المرجع نفسه، 2/365.
[36]– المرجع نفسه، 2/362.
[37]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[38]– نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، منشورات مكتبة النهضة، ط3، 1967،ص304.
[39]– ابن أبي الدنيا، كتاب المحتضرين، مرجع سابق، ص128.
[40]– ينظر في هذا: محمد بن عزوز، غاية الاعتبار في أخبار من تعلم العلم أو علم ولو في ساعة الاحتضار، مركز التراث الثقافي المغربي، دار ابن حزم، ط1، 2009، في مواقع مختلفة من الكتاب.
[41]– ابن سعيد المغربي، المغرب في حُلى المغرب، ابن سعيد المغربي، تحقيق: د. شوقي ضيف، القاهرة، ط4، 2/372-373.
[42]– يُنظر ما جرى بين ابن الزيات والمتوكل في: خزانة الأدب للبغدادي، تحقيق: عبد السلام هارون، القاهرة، 1/450-451.
[43]– ابن عربي، الفتوحات المكية، ضبطه وصححه ووضع فهارسه: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، 5/ 426.
[44]– المرجع نفسه، 5/424.
[45]– الكندي، رسالة في الحيلة لدفع الأحزان، ضمن: رسائل فلسفية، تحقيق: عبد الرحمان بدوي، بيروت، 1997، ص6.
[46]– المرجع نفسه، ص30.
[47]– ضمن: رسائل فلسفية، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط3، 1982، ص: 92.
[48]– المرجع نفسه، ص95-96.
[49]– أبو علي أحمد مسكويه، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، تحقيق: ابن الخطيب، مكتبة الثقافة الدينية، ط1، ص217.
[50]– الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط7، 1998، 2/268.
[51]– الجاحظ، الحيوان، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، مصطفى البابي الحلبي، ط1965،4، 7/157.
[52]– ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، مرجع سابق، 1/193.
[53]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[54]– ينظر في يوم الكُلاب الثاني: كتاب أيام العرب في الجاهلية، تأليف: محمد جاد المولى، علي محمد البجاوي، محمد ابو الفضل ابراهيم، المكتبة العصرية، ص124-131.
[55]– ابن عبد ربه الأندلسي، العقد الفريد، تحقيق: مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1983، 6/83.
[56]– المرجع نفسه، 6/84.
[57]– أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، تحقيق: إحسان عباس، ابراهيم السعافين، بكر عباس، ط3، 2008، 16/227-228.
[58]– لما اغتنم بنو الحارث (قوم عبد يغوث) الفرصة من بني تميم، بعد أن هزمهم كسرى فوهنوا وفروا إلى مكان بعيد مخافة أن تطمع فيهم العرب…
[59]– محمود شكري الألوسي، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، د.ت، 3/18.
[60]– الجاحظ، البيان والتبيين، مرجع سابق، 3/276.
[61]– بول ريكور، الذاكرة التاريخ والنسيان، مرجع سابق، ص35.
[62]– ابن عبدربه، العقد الفريد، مرجع سابق، 6/80.
[63]– دافيد لوبروطون، أنثربولوجيا الحواس: العالم بمذاقات حسية، ترجمة: فريد الزاهي،الدار البيضاء، ط1، 2020، ص125.
[64]– أبو عبيد الله المرزباني، معجم الشعراء، تحقيق: فاروق أسليم، دار صادر بيروت، ط1، 2005، 1/532.
[65]– يحيى الجبوري، شعر هدبة بن الخشرم العذري، دار القلم، بيروت، ط2، 1986، ص25.
[66]– أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، مرجع سابق، 21/179.
[67]– عبد القادر البغدادي، خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون،القاهرة، ط3، 1996، 9/334.
[68]– أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، مرجع سابق، 21/191.
[69]– خير الدين الزركلي، الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، ط15، 2002، 8/78.
[70]– الجاحظ، الحيوان، مرجع سابق، 7/93.
[71]– أبو عبيد البكري، سمط اللآلئ في شرح أمالي القالي، تحقيق: عبد العزيز الميمني، بيروت، د.ت أبو عبيد البكري، 1/249.
[72]– محمد بن أيدمر، الدر الفريد وبيت القصيد، ، مرجع سابق، 9/109.
[73]– المرجع نفسه، 2/325.
[74]– عبد القادر البغدادي، خزانة الأدب، مرجع سابق، 9/338.
[75]– عبد القادر البغدادي، خزانة الأدب، مرجع سابق، 9/339.
[76]– ابن قتيبة، الشعر والشعراء، مرجع سابق، 2/684.
[77]– عبد القادر البغدادي، خزانة الأدب، مرجع سابق، 9/340.
[78]– يحيى الجبوري، شعر هدبة بن الخشرم، مرجع سابق، ص43.
[79]– أبو الفرج الأصفهاني،الأغاني، مرجع سابق، 21/296.
[80]– الخطيب التبريزي، شرح اختيارات المفضل، تحقيق: د. فخر الدين قباوة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1987، ص766-773.
[81]– يحيى الجبوري، شعر هدبة بن الخشرم العذري، دار القلم، بيروت، ط2، 1986، ص113-117.