هواجس فقدان الحريّة في الزّمن المعاصر

 

الملخص:

تقترح هذه الدراسة إبراز التّحوّلات العميقة الّتي طرأت على منظومة “الوجود الإنسانيّ” في شقّه المتعلّق بمحاولة فهم مظاهر سطوة حالة “فقدان الحريّة” الّتي اجتاحت الذّات الحديثة والمعاصرة، من خلال النّظر إلى هذا الفقدان، لا كمجرد مظهر عابر أو قلق جزئي، بل كجرح عميق ومشهد فيه الكثير من مظاهر “القسوة” و “البؤس” و “الضّياع”. فمن فقدان الإنسان لسلامة منظومته الكونيّة بسبب الأزمة البيئيّة، مرورا بفقدان خصوصيّة الجسد مع الطّفرة البيولوجيّة، وما تبعها من فقدان للخصوصيّة والحميميّة بسبب الثّورة الرّقميّة…، وصل الإنسان إلى لحظات فقدان الإنسانيّة بسبب التّعرّي والتّكشّف والزّيادة الرّقميّة، مفتتحا بذلك عالم الفقدان الكلّي للحرّيّة؛ أو بمعنى أدقّ، عالم “ما بعد الإنسان”. ما يستدعي إعادة طرح “سؤال الإنسان”، ومعه أسئلة “الذّات” و “الوجود” ، أو بمعنى أدقّ إعادة طرح سؤال “الكوجيتو”، بسبب ضياع المركزيّات التّقليديّة، أو على الأقلّ عدم وثوقنا الكلّي من صدق وجودها، إذ لم يعد الإنسان وحده “مفكّرا” ولا “فاعلا” ولا “متحكّما” ولا “متحرّرا” ولا “راغبا بوعي”…، فماذا تبقى إذا كإجابات محتملة عن سؤال “ما الإنسان؟”. وأيّ تعويل ممكن على “البدائل الإيتيقيّة” الممكنة لكشف “الآفاق الإنسانيّة” للزّمن المعاصر باعتباره أيضا عالم “الاعتراف” و”تعميم الخيرات” وتكريس “إيتيقا العناية” و “ديمقراطيّة التّداول”…؟

الكلمات المفاتيح: الحرّية الحداثة- ما بعد الإنسان كوجيتو – الاعتراف.

Abstract:

This article suggests to highlight the profound transformations that have occurred in the system of “human existence.” Especially, the “freedomless” phenomenon from which modern and contemporary self-suffers. This anxiety is not partial or transient, but it is a deep wound and a scene in which there are many manifestations of “cruelty”, “misery” and “lost”. From man’s loss of the integrity of his cosmic system due to the environmental crisis, through the loss of the privacy of the body with the biological mutation, and the subsequent loss of privacy and intimacy due to the digital revolution…, man has reached moments of human loss due to nakedness, disclosure and digital increase, thus opening the world of total loss of freedom, Or, more precisely, the “Posthuman” world.   This requires re-asking “What is a human? that followed by ” Self and “existence” Questions. Or, rather, re-asking the « cogito meaning », because of the loss of the traditional centralities, or at least our total lack of confidence in the sincerity of their existence, since the human is not the only “thinker”, actor, ‘controller’ “, “liberal”, and not “consciously willing” “What is left as possible answers to the Question of: What is a human? And what possible reliance on the “ethical alternatives” to reveal the “human horizons” of the contemporary era as well as the world of “recognition” “generalization of fortunes”, the spread the “ethics of care” and “deliberative democracy”?

The Keywords:  Freedom – modernity – Post human – the cogito – recognition.


1- المقدّمة:

أصبحت الكتابات المعاصرة موسومة بسمات التّوجّس والتّخوّف من التّحولات العامّة الّتي تشهدها الأزمنة الرّاهنة؛ خاصّة في الجوانب المتعلّقة بكم الفقدان الّذي أصاب الأطر المركزيّة، كما في الإحساس بفقدان الإنسان للسّيطرة على عالمه، وما يستتبع هذا الأمر من إحساس بفقدان الإنسان لحرّيّة التّصرّف وفق قناعاته الأخلاقيّة والإنسانيّة؛ بسبب الهيمنة الرقميّة والتّكنولوجيّة، الّتي أفضت إلى قلق بيولوجيّ وطبّيّ وبيئيّ ورقميّ، تمّ التّعبير عنه في عدد من المشاريع المهتمة بهذه الموضوعات، والّتي  اشتركت في نبرة واحدة؛ هي القلق والإحساس بضياع الحرّيّة الإنسانيّة من خلال تأكيد تحكم قوى خارجيّة في المقدرة الإنسانيّة، وتهديدها للمبادئ المؤسّسة للحداثة، ولنبرات “التّعقّل” و “التّقدّم” و “التّحرّر” و “التّحكّم” و”السيادة” و”الكرامة” و “الحقّ” و”العدالة”… ولعلّها المخاوف الّتي ربّما ترى فيها بعض الفلسفات المعاصرة، مدخلا لإعادة تقييم الحداثة في أسسها وتتويجاتها.

على أساس أنّ الفلسفات المعاصرة، ومعها باقي التخصّصات المجاورة، لا يمكنها نكران هذه المخاوف المطروحة في الزّمن الحاليّ. لوضوحها أوّلا؛ ولوجود مبرّرات تدعمها ثانيا؛ ولِتَجَسُّدِها في عدد من المظاهر والصّور ثالثا؛ خذ مثلا أطروحة نقديّة ما، ولتكن أطروحة “تشارلز تايلور Charles Taylor”، من أجل معاينة كيف أدّى قلق الفردانيّة وصور العالم التّقنيّ المحكوم بهواجس العقلانيّة الأداتيّة، الرّاغبة في زيادة الإنتاج “إلى الكثير من الأمثلة التي تُؤكّد هذا القلق: توظيف مؤشّرات النّموّ  الاقتصاديّ من أجل تبرير هذا التّقسيم غير العادل للخيرات، ودفعنا إلى عدم إيلاء أي  اهتمام بالقضايا البيئيّة، لدرجة أصبحنا نتّجه نحو كارثة…، إلى جانب تسليع الحياة البشريّة بسبب ترجيح لغة المصالح والأرقام”[1]؛ وربما مؤشّرات هذا التّخوّف تتجاوز هذه المستويات المختصرة لتخترق أغلب الأطروحات المعاصرة.

ما يعني أنّ هناك تداخل غريب يحدث بين كلّ أشكال القلق في الزّمن المعاصر، ويتمّ مشاهدة مظاهره بوضوح شديد، في كلّ التّفاصيل الإنسانيّة، ومن شواهد هذا الضّمور والقلق بالنّسبة إلى تايلور مثلا، “تلك الصّعوبات الكبيرة الّتي أصبح العالم يواجهها نتيجة التّهديدات الإيكولوجيّة، والّتي تفرض إيقاعها على حياتنا، كما في أزمة ثقب الأوزون.. وبالمجمل فعالم شبيه بعالمنا، والمبني على هيمنة العقل الأداتي، يمكنه حتما أن يهدّد حرّياتنا الجماعيّة والفرديّة، ليس لأنّه يتدخّل في قراراتنا وحسب، بل الأخطر من ذلك أنّه يُصَعِّب علينا مهام الحفاظ على تميّز حياتنا وأصالتها”[2]؛ وهذا هو شكل الزّمن المعاصر، حيث يفقد فيه الإنسان كلّ أشكال الخصوصيّة والحميميّة والتّميّز .

ولأنّ هذه النّبرات هي بهذا القدر من التّهديد والخطر، كما في التّأكيدات النّقديّة لتايلور، ومعه أغلب الأطروحات الفلسفيّة المعاصرة، فإنّه من المفيد جدّا إثارة أغلب هذه المخاوف الّتي طرحت في القرنين الأخيرين على الأقل. والّتي تُفيد تنبيه الذّات الحديثة، من خطر المنزلقات والتّحدّيّات الكبرى الّتي تواجهها؛ وفي مقدّمتها التّهديدات الّتي تطال خصوصيّة هذه الذّات وحرّيّتها وإنسانيّتها، وبالأساس وجودها، الّذي أصبح بالفعل محلّ نقاش جدّي.

والغاية هي وضع النّقد الفلسفيّ المعاصر، لهذه المخاوف الموجودة، وإبراز كيفيّة تعبيره عن ما يوجد فعليّا، على أساس أنّه نقد مبنيّ على رؤية موضوعيّة لما هو موجود فعليّا. ومن باب الاختصار سنشير إلى أربع مظاهر، هي في الأصل “مبرّرات” تفيد واقعيّة هذه المخاوف: أوّلها؛ يتعلّق بالتّحوّلات البيولوجيّة، وترتبط بفقدان الجسد لخصوصيّته. وثانيها؛ يرتبط بالمشكلات البيئيّة، وتأثيرها ينصبّ على تأكيد فقدان الكون لخصوصيّته. وثالثها؛ يختصّ بمعاينة الأضرار التّكنولوجيّة والرّقميّة، ويفيد فقدان الإنسان للحميميّة. ورابعها؛ يهتمّ بتتبّع هذه الطّفرات الّتي تطال فكرة الإنسانيّة، وتدفعها إلى تحدّي واقعيّة فكرة “الإنسان المزيد”، ومؤدّاها تعرّي الإنسان وفقدانه لإنسانيّته. وينتج عن هذه المقاربة الرباعيّة، تأكيد عام فيه إثباتات تفيد هذا الفقدان القويّ للخصوصيّة والحميميّة، بما يحملانه من إشارات حول فكرة “انتفاء الحرّيّة” أمام هذا “التّعرّي” و “التّكشّف”؛ مع ما ينشأ عنه من ضرورات ملحة، تتطلّب “إعادة تعريف هويّة الإنسان الحديث والمعاصر”، أو بالأحرى “إعادة تعيين الكوجيتو الحداثيّ”.

على أساس أنّ فقدان الإنسان الحديث والمعاصر لهويّته المرتكزة على خصائصه “الأخلاقيّة” و “الوجوديّة” و “الفكريّة”، يعني إعادة النّبش في سؤال “الإنسان” و “الهويّة” و”الحداثة”، وفي النّهاية، إعادة طرح “سؤال الحرّيّة”. إذ ماذا يتبقّى للإنسان الحديث والمعاصر بعد فقدانه لخصوصيّته الجسديّة والبيولوجيّة، ولأفقه الجماليّ، ولحميميّته الذّاتيّة، وفي النّهاية لوجوده الإنسانيّ؟ أو بالأحرى ما الهامش المتبقّي لتعريف ” كوجيتو” الذّات بعد أن فقدت كلّ هذه المحدّدات المركزيّة؟

2- المبرّرات البيولوجيّة: الإكراه البيولوجيّ وفقدان خصوصيّة الجسد:

نفتتح صور “فقدان الحرّية” البشريّة في الزّمن المعاصر، بما تعنيه من أهمّية في إعادة طرح سؤال “الإنسان” و “الهويّة”، من عمق هذه التّغيّرات الّتي تطال، “البنية البيولوجيّة” للإنسان الحديث والمعاصر، والّتي تتطلّب منه الخوض في نموذج جديد لما يمكن تسميته “التّبيّؤ البشريّ”، ويُقصد به: المجهودات الكثيرة الّتي من المفترض على الإنسان القيام بها للتّأقلم مع كمّ المتغيّرات الهائلة الّتي تطرأ في محيطه العامّ، فمن “منجزات الثّورة البيولوجيّة أنّ المرض لا يحدث بالضّرورة كنتيجة لعامل مفرد، كجرثومة ممرضة، أو فيروس، ولكن كنتيجة لعوامل متعدّدة، من بينها طبيعة البيئة المحيطة بالجسم… وهو ما استدعى بناء نظريّة جديدة تسمّى علم التّبيّؤ البشريّ”[3].

وهي نظريّة، كما يفيد تعريفها ومجال تخصّصها، تهدف إلى التّعامل بمنطق علميّ أكثر مع التّغيّرات والتّهديدات الّتي تطرأ على بنية العالم. وما يصاحبها من أزمات بيئيّة؛ اقتضت في النّهاية التّعامل مع هذه الموضوعات بلغة علميّة مبنيّة على أطر هذه النّظريّة المسماة بـ “علم التّبيّؤ البشريّ” والقائلة: “بضرورة النّظر إلى الفرد باعتباره جزءا من نظام كلّي، وأنّ صحّته تعتمد على كثير من العوامل البرانيّة”[4]، وهو بهذا المعنى لا يحدّد سمات البنية الوجوديّة الّتي هو جزء منها، بقدر ما أنّ كلّ مجهوداته تقتضي تطوير ذاته حتّى يُساير ما يجري من تحوّلات عامّة في بيئته الخارجيّة، والّتي تنعكس على بنيته البيولوجيّة أيضا.

وطبعا هذه الدّعوة إلى التّعامل الجدّي مع مطالب النّظريّة الموسومة “بالتّبيّؤ البشريّ”، والمراد تحويلها إلى علم قائم، هي نتاج لتحوّلات عميقة، تحدث على مسرح العلوم البيولوجيّة، وما يترتّب عنها من مشاكل ومخاوف كامتدادات لما هو علميّ نظريّ. ومعنى هذا أنّ هناك أسئلة مركزيّة ستصبح مطروحة بقوّة كموضوع يرتبط بالوجود الإنسانيّ في كلّيته، من خلال المدخل البيولوجيّ الّذي أصبح معمّما؛ ما يعني أنّ هذه الثّورة الّتي تحدث على هذا المستوى، لها تداعيات إنسانيّة، تمتدّ إلى كلّ التّفاصيل، فهي ترتبط بالأسئلة الأخلاقيّة والقيميّة، وبالانعكاسات البعيدة المرتبطة بمطالب تحسين النّسل، وسياقات خلق الإنسان الأرقى والفائق، ورغبة اختراع الإنسان الآليّ البيولوجيّ…، إلخ[5].

وهي تغيرات مرتقبة على المستوى البيولوجيّ، وتفرض بالضّرورة مخاوفها الموضوعة، الّتي تفيد تجاوز المقدرة البشريّة الحرّة في التّعامل مع عالمه، وفق منظور دقيق وواضح ومتحكّم فيه، إذ سيتطلّب الأمر الوقوف على “الارتكاسات  بعيدة المدى لموضوع أطفال الأنابيب، والأجنّة المجمّدة، والتّلقيح خارج الرّحم، وتحسين النّسل بوجهيه، وزرع الأعضاء وانعكاساته الإيجابيّة والسلبيّة، وحقّ الإنسان  في الموت إن كان مريضا على شفا الموت ويعاني من داء عضال، ونقل الجينات…”[6]؛ وهي كلها موضوعات يجري الآن التّعامل معها بيقظة حقوقيّة وإنسانيّة وطبّية، للحيلولة دون  الانفلات من قبضة التّوجيه الإنسانيّ؛ مع العلم أنّ ممكنات تجاوز أفق التّحكّم البشريّ ليس أمرا مستحيلا ولا مستبعدا، رغم قوّة الرّقابة المفروضة وصرامتها ، لسبب بسيط مردّه إلى تكافؤ الفرص والآليّات. إذ لا يمكن للعلم أن يكون رقيبا حاسما لما هو علميّ، فالأدوات الّتي تملكها الإرادات -الخيّرة والشّريرة- هي ذاتها في النّهاية.

تجري هذه الأحداث بالتّوازي مع متغيّرات أخرى ضخمة، تعرّفها المجمّعات العلميّة المختصّة بتطوير الأبحاث البيولوجيّة، والّتي توضّح حجم الاهتمام المتزايد بـ “الجينوم” البشريّ، مع العلم أنّه من المفترض أن يسفر مزيد من البحث والتّقدّم في هذه النّاحية العلميّة تغيّرات كثيرة، على ملامح إنسانيّة الإنسان، وسيمنحه حرّية ملغومة[7]، لأنّه أفق يوسّع إدراكات الذّات بذاتها، فيما يختصّ بموضوعات الجسد صحيح، لكنّه أفق مُهَدِّد في نفس الوقت أيضا لهذه الذّات.

إذ “ستتحوّل قدراتنا على التّنبّؤ بما قد نُكونُه، وقد تُمكنّنا في نهاية الأمر من تعزيز قدرنا الوراثيّ أو تجنبّه، سواء بالطبّ أو بغيره”[8]، وهذا الترقّب العلميّ ربّما تجاوز الآن بالفعل حاجز التّنبّؤ، وأصبح واقعا مفروضا، ولأنّ الأمر هو على هذه الحالة، فمن البديهيّ أن “يؤثّر المشروع يقينا في الطّريقة الّتي ستمارَسُ بها معظم علوم البيولوجيا في القرن القادم”[9] .

طبعا التّساؤل عن علاقة هذه التّحوّلات العلميّة بموضوع الحرّيّة، هو واضح لدرجة أحيانا يكون من غير المفيد الإشارة إليه، تجنبا للتّكرار، لكن لا بأس من عرض هذا المثال الواضح وبشكل مختصر، وليكن عن عمل شركات التّأمين مثلا[10]، وكيف أنّها بدأت تطلب معلومات عن الخريطة الجينيّة، وتجمع البيانات المرتبطة بالتّفاصيل الدّقيقة للأجساد والأبدان، مع وضعها في بنك معلوماتيّ كـ “بيغ داتا” مستقبليّة.

ما يعني فقدان حتّى المعطيات الشّخصيّة المرتبطة بجسد الفرد أيضا؛ والواقع أنّ الجسد في الزّمن الحديث والمعاصر هو جزء مركزيّ من الملكيّة الفرديّة، إذ سلامته هي من ضمن الأولويّات المركزيّة للمطمح الحقوقيّ والإنسانيّ. فأن يكون الإنسان ذاتا حرّة وواعية وفاعلة ومتحكّمة…، معناه في البداية أن تتحقّق هذه المطالب في علاقته بذاته كفكر وجسد وروح؛ أي في مراعاة تامّة لملكاته الرّوحيّة والتّأمّليّة والفكريّة، وأيضا لقدراته الجسديّة، كما في العقود الرّياضيّة، الّتي يحتكر فيها البطل قدراته البدنيّة بالتزام قانونيّ وأخلاقيّ، باعتبارها ملكيّته الخاصّة الّتي يمكنه تسويقها، على أساس أنّ امتلاك الشّركات المتعاقدة يكون في النّهاية مبنيّا على اختياراته الشّخصيّة، فهو الّذي يقرّر أمر تفويض هذا الاستغلال أو يرفضه.

وهي أمثلة تأكيديّة، تشير إلى مخاوف كَثُر التّعبير عنها حتّى في الأعمال الفنّيّة والسّينمائيّة؛ أي الجشع اللامنتهي لشركات التّأمين، ورغبتها في استغلال خصوصيّات النّاس بمنطق ربحيّ، لا يستند إلى رؤية إنسانيّة أو مقاربة أخلاقيّة تثمّن الدّور الإيجابيّ لفكرتي التّكافل والتّعاون البشريّين، باعتبارهما أساس فكرة “التّأمين” وغايته.

على هذا الأساس يبدو أنّ المخاوف البيولوجيّة المطروحة، ليست مجرد هلوسات نظريّة وفقط، وإنّما هي جزء أساسيّ من الأزمة البنيويّة للإنسان المعاصر؛ لدرجة أنّ هناك من يرد مشكلاتنا المعاصرة بالدّرجة الأولى إلى المشكلات البيولوجيّة، الّتي هي ربّما أساس التّحول. “فمشاكل التّضخّم السّكّانيّ، وتدمير البيئة واعتلال المدن الداخليّة كلّها مشاكل لا يمكن حلّها عن طريق التّقدّم التّكنولوجيّ ولا بالتّاريخ والآداب، ولكن يقتصر حلّها كلّيّة على الالتزام بمنهج مبنيّ على فهم الجذور البيولوجيّة لهذه المشاكل..”[11]، على أساس أنّ معرفة الذّات تنطلق من معرفة الخبايا البيولوجيّة للإنسان ومكوّناته الإحيائيّة، وطبعا هذا الحكم الجازم لا يمكن الأخذ به بصورة مطلقة ، ولكنّه بشكل عامّ يقرّبنا من المخاوف المعاصرة المرتبطة بعمق التّحول الوراثيّ والبيولوجيّ الموجود.

يحدث هذا الإقرار أيضا، في الوقت الّذي تُطرح فيه بقوّة مخاوف جدّية، تعود إلى الأزمات الّتي تطرحها فكرة “البيولوجيّة التّطوريّة”، باعتبارها دلالة على عمق التّغيّر الّذي يصاحب الأبحاث المهتمّة بالموضوعات البيولوجيّة. والّتي تشير في عمومها إلى إمكانات: “صنع فرد جديد”[12]، أو بمعنى أدقّ؛ صناعة عنصر جديد بإيعاز من الخلاصات العلميّة الّتي تمنحها الدّراسات البيولوجيّة، والّتي أطلقت فعليّا الإشارات النّظريّة الأولى، من أجل صياغة تصوّر كامل عن هذه “الصّناعة الجديدة”؛ رغم حجم الإشكالات الّتي تنجم عن إقرارها، في حال تمّ اعتماد مخرجاتها العلميّة في مشاريع طبّيّة مستقبليّة، وهو ما ليس مستبعدا.

سيكون لهذه التّحولات امتدادات أخرى تطال باقي الملكات والإمكانات الإنسانيّة طبعا، وستتجاوز الطّفرات العلميّة على مستوى “الجسد”. إذ ليس الأمر سوى مدخلا لما هو أشد وطأة، والحديث هنا عن حجم الضّرر الّذي من المفترض أن يصيب أيضا الإمكانات “العقليّة”؛ حيث من الطّبيعي أن تحمل هذه المتغيّرات العامّة الّتي نعاين صورها بوضوح في الزّمن المعاصر، عددا من التغيّرات على مستوى: نمط الحياة، الثّقافة، التّطلّعات الشّخصيّة[13] .

ومفاد هذه النّقلة أنّه في الوقت الّذي يعيش فيه مسرح الإنسانيّة المعاصرة تحوّلات بيولوجيّة ورقميّة وبيئيّة…، هناك بالمقابل تغيّر مركزيّ آخر هو في طور الاكتمال، وهو “تَغَيُّر العقل”، وهو تغيّر: عالميّ، مثير للجدل، وغير مسبوق، ومتعدّد الأوجه…[14]، بل يمكن عدّه في الواقع التّغيّر الأساسيّ الّذي يحكم أسئلتنا المركزيّة، لأنّه سيكون بوسعنا التّخطيط لنوع العالم الّذي نريده للعيش ضمنه، إذ أن تغيّر العقل هو بالأساس إشارة إلى ما أصبحنا نملكه، وهو بالأساس تحديد: نوع البشر الّذي نريده بالفعل[15]. وهذا يفيد، بشكل ضمنيّ، صوابيّة هذه المخاوف الّتي تعود إلى مسرح الإنتاج العلميّ الخاصّ بالإنسان ككائن بيولوجيّ؛ والتّحدّيّ يكمن في كون هذه المخاوف ليست سوى جزء يسير ممّا هو أعقد وأعمق؛ خاصّة وأنّه يرتبط بفقدان أوسع، يرتبط هذه المرّة بفقدان جماليّة الكون، على ضوء تراكم هذا الكمّ الهائل من المشكلات والتّحدّيات البيئيّة.

3- المبرّرات البيئيّة: فقدان جماليّة الكون وتحدّيات خلخلة النّظام:

فليست البيولوجيا بما تحمله من تغيّرات وتأثيرات وأسئلة، رغم أهمّيّتها، إلاّ مدخل من ضمن مداخل أخرى، تُوثِّق لصدق القراءات الّتي تأخذ بعين الاعتبار حجم الهواجس والمخاوف الموجودة. بل إنّ العالم اليوم مهووس لدرجة لم تحدث في السّابق إطلاقا -بالمعنى الحرفيّ لفكرة الإطلاق رغم عدم صوابيّتها فلسفيّا في الغالب- بمشكلة أخرى مركزيّة؛ وأعني “مشكلة البيئة”[16]، والّتي أصبحت بالفعل ضمن المطالب الرئيسيّة لعدد من الأطروحات: العلميّة والفلسفيّة والأنتروبولوجيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة والقانونيّة…، لأنّها باختصار شديد ترتبط بأسئلة الوجود في كلّيته وتفصيلاته معا.

يعني هذا ، أنّ  جزءا أساسيّا من القلق الّذي نحسّه في عصرنا الحاليّ، هو بالفعل مردود إلى تاريخ علاقتنا بالبيئة[17]؛ وسبب هذه المركزيّة متمثّل بالأساس في كون “تاريخ البيئة ميدان جامع للتّخصّصات حقّا، وذو أبعاد ليس في التّاريخ وعلم الآثار والجغرافيا وحسب، وإنّما أيضا في علوم الأرض والعلوم البيولوجيّة والطّبّية…والتّحالف الوثيق الصّلة بين تخصّصي التّاريخ والجغرافيا…”[18]،  واعتمادا على هذا الإقرار، سيكون من الطّبيعيّ أن نجزم بأنّ هذا التّغيّر، سيكون له بالطّبع امتداداته على الموضوعات الطّبيعيّة والإنسانيّة، ولأنّه بهذه الأهمّية فإنّ المخاوف الحاليّة من التّدهور البيئيّ لها مبرراتها الموضوعيّة، وتستند على أرضيّة من المعطيات والتّقاطعات. ومنه تتبلور الحاجة الملحّة إلى إعطاء العلاقة بين البشر وكوكبهم مكانة خاصّة في كلّ المقاربات الجدّيّة الّتي تتوخّى تشخيص منزلقات الأحداث والأفكار والرّؤى في الزّمن الحديث والمعاصر.

والمشكل الأساسيّ هو في هذه الحقيقة الصّادمة، والمرتبطة بكون “أنّ ما يقوله النّاس عن الطّبيعة لا يمثّل بالضّرورة كيفيّة سلوكهم نحوها”[19]. وهذه بالذّات النّقطة المركزيّة، الّتي تجعل هذه المخاوف مبرّرة بشدّة، إذ في الوقت الّذي نسمع فيه عن حدوث طفرة كبيرة، في ما يختصّ بالمطالب الدّوليّة المرتبطة بالمناخ والدّاعية إلى الحفاظ على البيئة واعتبارها عالمنا الّذي ينبغي الحفاظ عليه…، نشهد بالمقابل تهرّبا دوليّا، يرفض التّقيّد بهذه الدّعاوى، من خلال إبقاء هيمنة الصّناعي  والاقتصاديّ كأولويّة، تفوق كلّ المطالب الأخرى المرتبطة بموضوعات الحفاظ على البيئة، ولعلّها المفارقة الّتي تتوسّع رقعتها باستمرار فاضح؛ إذ في الوقت الّذي يتمّ انتقاد هذه الفكرة يجري العمل ضدّها بوضوح شديد.

وأمام هذا الانزلاق المُعبّر عنه في المفارقة السّابقة، أصبح الحديث عن “الحتميّة البيئيّة”، موضوعا جدّيّا للغاية، حيث أنّ التغيّر البيئيّ، تجاوز مستوى علاقتنا بالكون كموضوع للتّفاعل الطّبيعيّ، وأصبح تغيّرا في كينونة الذّات نفسها، من حيث كونها مطبوعة ضرورةً بالعوامل الّتي تشكّلها. فالهويّة باعتبارها جوابا عن سؤال الذّات وهي تحاول تعريف ذاتها، تشترط جوابا مأخوذا في جزء منه من طبيعة الإنسان وامتداداته في المكان؛ أي ضمن البيئة الّتي يعيش في كنفها. والنّظر إلى الذّات الحديثة كذات حرّة، يشترط في هذه الحالة جعل البيئة شرطا من شروط تحديد أبعاد هذه الحرّيّة؛ ولأنّ ابتكار هذا المفهوم دلالة على فكرة مؤدّاها أنّ “أسلوب حياة مجتمع ما وتطوّره التّاريخيّ إنّما تحدّدهما الظّروف الفيزيائيّة لبيئته”[20]؛ فإنّ الرّبط بين هويّة الإنسان الحديث والمعاصر ومشكلاته البيئيّة هو أمر مطلوب بالضّرورة.

هناك إذا، هواجس موضوعيّة متعلّقة بموضوعات البيئة في الزّمن المعاصر؛ وكثيرة هي العناوين البارزة والمعبّرة الّتي تحاول التّعبير عن هذه المخاوف في القرنين الأخيرين، وبالذّات في العقود الّتي تلت ظهور الطّاقات الجديدة. إذ نقرأ “القنبلة السكّانيّة” “الانفجار السّكّانيّ”.. و”كوكب يموت”… و”كوكب ينتحر”.. و”الكوكب الّذي يأكل ذاته”… و”عالم يتدهور”… و “عالم مزدحم”… و “الدّوامة”… و “الصّحراء الزّاحفة”…و”المدن الدّخناء”…و “لا تشربوا الماء ولا تتنفّسوا الهواء”….[21]؛ وهي كلّها تعبيرات ربما تتوخّى التّنبيه من المنزلقات الممكنة بسبب التّدهور البيئيّ، مع الدّعوة إلى التّعامل مع هذا التّدهور بجديّة نقديّة أكبر.

ومن الواضح جدّا أنّ هذه الاختلالات مردّها في النّهاية إلى الأنشطة الإنسانيّة، الّتي هي أمام محكمة النّقد الأخلاقيّ والقانونيّ والسّياسيّ…، تعتبر إدانة واضحة للإنسان، باعتباره مسؤولا عن أزمات البيئة. وهي مسؤوليّة إن شئنا اختصارها، ضمن قاعدة عامّة، فتصير كالتّالي: “الإنسان اليوم متهمّ بقضيّة مصيريّة بالنّسبة إلى الجنس البشريّ، إنّها قضيّة الإخلال بالبيئة والشّروع في تدميرها”[22]، وهذه الصّيغة النّهائيّة ربّما هي واضحة، بحيث كلّ محاولة لإيضاحها ربّما هي إخلال بصفائها ووضوحها، والأهمّ من هذا: بفضحها وصرامتها.

لكن وضوحها، لا يلغي الحاجة إلى العودة إلى أهمّ المسارات الّتي أدّت إلى جعل هذه الخلاصة، وكأنّها نتيجة علميّة صارمة،  فالمشكلة الحقيقيّة، لا ترتبط بهذا الإقرار بجرم الإنسان الحديث والمعاصر: “الحر” و”الواعي” و “العاقل”،  وإنّما هي مرتبطة بكيفيّة وضع الإنسان نفسه في مقابل البيئة، “فالإنسان يضع نفسه خارج إطار أنظمة البيئة ويعتبرها ملكيّته الخاصّة، فيتصرّف فيها كما لو كانت حديقته المنزليّة، وينظّمها وينسقّها ويشكّلها بالكيفيّة الّتي ترضي “ذوقه”…وانطلاق الإنسان في تعامله مع البيئة، من هذا الاعتبار يجعل منه “مشكلة للبيئة” بحيث يصدق القول {أنّه يستحيل تحديد البيئة المثلى للإنسان إذا كان المرء لا يفكّر إلا في الإنسان وحده}”[23]؛ إذ أنّ هذا الوضع هو المقلق، أو إذا تحدّثنا بلغة أخلاقيّة: مؤسف ومخزٍ وصادم وعار.

إن تناسي الإنسان أنّه بالفعل جزء من البيئة الّتي يعيش ضمنها وفي كنفها، سمح ببروز أنماط من التّفاعل اللاّإيجابيّ بينهما-الإنسان/البيئة-، وبالتّدريج أصبحت تمظهرات هذا التّدخّل تأخذ صبغة التّهديد المباشر للوضع الإنسانيّ في سماته الوجوديّة الخالصة، بالنّظر إلى حجم الضّرر الّذي أصاب الآليات التّلقائيّة لعمل قوانين الطّبيعة، وهو الضّرر الّذي “أدّى إلى مجموعة من المشكلات المهدّدة لحياته على هذا الكوكب…فالنّمو الانفجاريّ في عدد السّكّان مشكلة…والتّلوّث مشكلة… واستنزاف موارد البيئة مشكلة… وإخلال التّوازن الطّبيعيّ بالبيئة مشكلة…إنّها مشكلات صنعها الإنسان بالبيئة وعليه مواجهتها”[24]. وكلّها مشكلات تؤكّد معطى واحدا وأساسيّا: أنّ هذه الحرّيّة الّتي هي “حدس أخلاقيّ” مركزيّ بالنسبة إلى الذّات الحديثة والمعاصرة، تحتاج إلى إعادة نظر حقيقيّة، وفي سياق نقد جريء وصارم.

4- المبرّرات الرّقميّة والتّكنولوجيّة: فقدان الإنسان للخصوصيّة:

طبعا، لا يعني ما قدّمناه أنّنا حسمنا مع مطلب وصف حجم “التّعرّي” الّذي أسهمت فيه “الأزمة البيئيّة” بكلّ تفصيلاتها الّتي ذُكرت؛ وإنّما الغاية، كما في باقي المظاهر والمبرّرات الأخرى، هو الإشارة المختصرة، لدواعي هذا القلق المعاصر، من فقدان الارتباطات القويّة للإنسان بجسده وكونه وخصوصيّته وإنسانيّته. والّتي تسمح له بتمثل ذاته كذات “حرّة” و “مستقلّة”، وإحدى مظاهر هذا الفقدان الأساسيّة في الزّمن المعاصر، مرتبطة بالـ “تكشّف” و “التّعرّي” النّاجم عن “الطّوفان الرّقميّ” و”الهيمنة التّكنولوجيّة”؛ إذ لم نعد نتمثّل ذواتنا كبشر من لحم ودم، يعيشون ضمن مظاهر كونيّة، على أساس أنّ “حركات الأجسام المادّيّة وأفعال البشر الّذين هم من لحم ودم ما هي إلا مظهر خارجيّ، ولنقف على حقيقة ما يجري من حولنا، لا بدّ لنا من رؤية العالم الافتراضيّ، أعني ذلك التّدفّق الغريب للبتات –أرقام الصّفر والواحد، أي النّظام المعلوماتيّ- الّتي توجّه دفّة أحداث الحياة”[25] .

أمام هذا التّطوّر المعلوماتيّ، يبدو وكأنّنا بصدد تأسيس ” كوجيتو جديد”، لا يقوم على مركزيّة الذّات، وإنّما أساسه “المعلومة” و “الرّقم” و “الآلة”. إنّنا نحيا في عالم تكون فيه السّلطة لهذه الثلاثيّة المنتشرة في كل التّفاصيل الإنسانيّة. فما من موضوع، إلاّ ونحن بحاجة إلى إعادة التّفكّر والتّأمّل حوله بالنّظر صوب مساهمة هذه الثّلاثية، وفي مقدّمتها “الخصوصيّة الإنسانيّة”.

وربّما يكون العنوان المقترح في إحدى فصول كتاب “الطّوفان الرّقميّ: كيف يؤثّر على حياتنا وحرّيّتنا وسعادتنا؟”، تلخيصا رائعا لأهمّ مفارقة مرتبطة بوجودنا الحاليّ؛ خاصّة وأنّ صياغته لا تقدّم جوابا، بقدر ما أنّها دعوة إلى التّأمّل في واقعنا الحاليّ بعيون فاحصة، من خلال سؤال  استشكاليّ، نود الانطلاق منه، وهو التّالي: “التّعرّي في وضح النّهار؛ هل فقدنا الخصوصيّة أم تخلّينا عنها؟”[26]، والمهمّ في الحالتين؛ وسواء تعلّق الأمر ب”الفقدان” أو بـ “التّخلّي”، هو أنّنا فعلا فقدنا الخصوصيّة وأصبحنا “عراة” و”مكشوفين” أمام تلصّص وتجسّس الرّقميّ.

العالم المعاصر وفق هذا الاعتبار، هو عالم موسوم بـ “الرّقابة الرّقميّة”، إذ لا شيء يفلت منها، كما في رواية “جورج أورويل” 1984[27]؛ ولكن بدلالات رقميّة هذه المرّة، حيث يمكن تتبّع كلّ تفاصيل النّاس ومراقبة تصرّفاتهم وحركاتهم وسكناتهم وما يشاهدونه ويتابعونه….؛ والمهمّ في هذا الوصف هو : القلب العميق الّذي حدث على معاينتنا؛ إذ لسنا من نراقب ما نُشاهد، بل الّذي نشاهده يراقبنا.

حيث “لا يدرك العديد من متصفّحي الإنترنت أن المواقع التي يزورونها قد تسجل عليهم أفعالهم. فمن النّاحية التكنولوجيّة قد يكون هناك سجل يبين بالضّبط أيّ صفحة ويب زرت ومتى كان ذلك، وذلك أثناء تصفحك لكتالوج مكتبة من المكتبات الموجودة على شبكة الإنترنت، أو أثناء تصفحك لموقع لبيع المستحضرات الصيدلانيّة، أو لموقع خدمة تقدم نصائح حول وسائل منع الحمل أو الجرعات الزائدة من المخدّرات. وهناك مجال واسع لاستخدام هذه المعلومات لأغراض تمس خصوصيّة زائر الموقع، لكنّها ليست بضارّة نسبيّا، مثل التّسويق، ولأغراض أخرى قد تثري الشكّ، مثل إدراج الزّائر على قائمة سوداء أو ابتزازه…”[28]، وهذه ربما صورة مبسّطة، لكنّها توضيحيّة بشكل هامّ للغاية لمعرفة حجم الرّقابة ودقّتها واستتباعاتها.

الرّقميّ بهذا المعنى، لم يعد مجرد إشارة من إشارات وجودنا المعاصر، ولا صفة من صفاته الثّانوية، ولا جزءا من أجزائه المركّبة البسيطة…؛ وإنّما هو بالأساس الوجه الأبرز لهذا الوجود، والمشهد المركزيّ له، والسّمة البارزة مقارنة بسواه…، فكلّنا نعيش ونحيا –أي العيش بالمعنى الطّبيعيّ والحياة بالمعنى الإنسانيّ- في كنف هذه الصّورة الرّقميّة. وهو بلا شك فتح عظيم، لكنّه يضعنا فعليّا ضمن نماذج جديدة لـ”مفهوم الشّرّ”[29]، كما في البروز الجديد لحالات “التّحرّش الإلكترونيّ”[30]. إضافة إلى أنّ التّماهي الّذي حدث بين “الإنسانيّ والرّقميّ”، يشير ضمنيّا إلى نقلة كبرى تمرّ منها البشريّة في الأزمنة الرّاهنة، ومن المفيد جدّا تشخيص بواعثها وأصولها وتتويجاتها الممكنة، في المسائل المتعلّقة بأسئلتنا الوجوديّة الكبرى، كما في “سؤال الحرّيّة”.

يفيد هذا الإقرار، أن الإنسان الحديث والمعاصر، هو بصدد الخوض في سياقات جديدة، تثير أسئلة مغايرة، قادرة على خلخلة أسسه الصّلبة والمتينة؛ كما في إحساسه بذاته كذات “حرّة” و “فاعلة”، وفي المقابل كذات “غير متحكم فيها” و “لا مفعول بها”. وهي الأحاسيس الّتي تصطدم بواقعيّة ما يجري على مسرح الأحداث الآنيّة، حيث يبدو واضحا الفقدان لما هو خصوصّي ونابع من الذّات وإلى الذّات، بسبب الانفجار الرّقميّ الّذي زعزع هذا الهيكل الفرديّ والاجتماعيّ الموسوم بصفة “الخصوصيّة”[31]، وأفقدنا الإحساس بمتعة المنافع المعلوماتيّة المتوفرة في كلّ مكان، بسبب الاهتزازات الّتي حدثت بفضل فقدان الغطاء الحامي والواقي، الّذي كانت توفّره هذه الخصوصيّة فيما سبق[32] .

وهذا بالذّات جذر التّناقض، لأنّه إشارة واضحة لكمّ المفارقات المطروحة فيما يختصّ بموضوعات الحرّيّة والخصوصيّة، فالإنسان الحديث والمعاصر يحبّ عالمه بخيراته وممكناته وأشيائه وطاقاته ورغده ورفاهيّته…، ولكنّه ينعل في ذات الوقت هذه المسبّبات الّتي أذاقته مرارة الإحساس بفقدان حرّيّته وخصوصيّته وحميميّته، لصالح هيمنة الثّورة الرّقميّة، الّتي أذاعت تفاصيله في كلّ مكان[33]، دون أن يكون له دخل فيما يحدث، وكأنّ هذه الممكنات الّتي هي بحوزته خارجة عن نطاق تصرّفه، حتّى وإن أثارت إعجابه. ووصف هذا المشهد إذا أردنا تلخيصه، ربّما يصبح كالتّالي: “في عالم ما بعد الخصوصيّة، صرنا نقف عراة تحت ضوء الشّمس، وفي بعض الأحيان يكون ذلك الشّعور محبّبًا على نحو غريب”[34] .

هذه الصّورة المختصرة، ربّما تحيل إلى جزء من التّحوّل الموضوعيّ الّذي يحدث ضمن نسق اعتقاد الذّات الغربيّة بكونها حرّة وفاعلة. وإقرارها بهذه التّناقضات هو واقع مبرر تفرضه حدّة التّطوّرات الّتي تحدث في زمننا الرّاهن، والّذي تغيّر من الحديث عن تقسيمات من قبيل “الحداثة وما بعد الحداثة”، “الأنوار والزّمن الوسطوي”، “الجدّة والتّقليد”، “الزّمن الماضي والزّمن الحاضر” إلى أخرى بديلة تخضع لفكرة “الجيل”؛ أي إلى ذلك التّقسيم الّذي يفيد الدّلالة على مستوى التّحوّل الّذي راكمته الثّورة العلميّة والرّقميّة. والمدى الّذي بلغه التّطوّر التّكنولوجيّ في كلّ القطاعات والميادين؛ والسّؤال طبعا هو عن محلّ هذه الحدوس الأخلاقيّة في سياق هذه التّقسيمات الجديدة؛ والمؤكّد كجواب محتمل هو أن أشياء ما تحدث وتنبئ بتغيّرات جذريّة ستطال تمثّلاتنا “للحرّيّة” ولغيرها. وهنا تكمن ضرورة وإلزاميّة إعادة “التّشريح” الّذي دعا له تايلور.

الزّمن المعاصر هو إذا زمن “الأجيال”، زمن الطّفرات والنّقلات الرّقميّة والتّكنولوجيا[35]، زمن التّغيّرات الشّموليّة الّتي تطال الجماعات والأفراد والأنساق والأفكار والمؤسّسات والقواعد…، زمن السّباق من أجل “السّيطرة” و ” الاستحواذ”، زمن السّؤال عن الجهة الّتي تملك “الجيل الأكثر تطوّرا”، زمن “أجهزة إنسان آلي حقيقيّة لها القدرة على التّمييز السليم ويمكنها أن تتعلّم وتتحرّك وتتفاعل بذكاء مع البشر “[36] وزمن “جيل الكمبيوتر، وبداية ظهور أجهزة الإنسان الآليّ ذات الوعي والإدراك الذّاتي”[37]، زمن اندثار خدمات[38] وبروز أخرى جديدة ومغايرة في المقابل: التّرفيه- البرمجة- تخصّصات العلم والتّكنولوجيا- صناعة الخدمات- مهن الخدمات المعلوماتيّة – مهن الطّبّ والبيولوجيا …[39]؛ في النّهاية زمن الهيمنة الرّقميّة وإشراطاتها الموضوعيّة، باعتبارها قدر لا بدّ منه بشروره ومحاسنه.

هي أيضا ثورة بكلّ المقاييس والاعتبارات، ولا يمكن للحرّيّة كمفهوم مساهم في تكريس هذه الغلبة الجديدة للرّقميّ، لضمانها شروط عمل الذّات، باعتبارها حرّة وفاعلة وقادرة ومنتجة، على أساس أنّ الاتّفاق قائم بين “شروط التّحرّر” هذه، وبين الوضعيّة الحاليّة الّتي بلغتها المعرفة الإنسانيّة، كما تتبدّى في الفتوحات العلميّة والتّقنيّة والرّقميّة؛ من حيث أنّ الأولى حمت الثّانية ووفّرت لها الشّروط والسّندات النّظريّة والموضوعيّة.

جزء من هذا التّحول، تمّ من خلال صعوبة فهم التّناقضات الّتي حصلت في هذا الزّمن، باعتباره “زمن الرّفاهيّة” كما أشرنا سابقا من جهة أولى، وزمن الهيمنة الرّقميّة من جهة ثانية، وفي الأساس زمن الدّفاع عن الحرّيّة، وهي الجهة الثّالثة. ومن ضمن ما أفضى إليه هذا الوضع هو بروز نقاشات جديدة تُسائل كمّ العوالق المترسّبة بفضل هذه التّركيبة المعقّدة؛ كما في النّقاش الدّائر مثلا حول فكرة “الوقت الحرّ”، حيث طرحت فكرة التّخطيط المؤسّساتي، بما فيه المتعلّق بالفضاء العامّ، الّذي توفّره الجهات المختصّة، من أجل ملء أوقات الفراغ بأنشطة ثقافيّة وفكريّة، إحراجات كبيرة، “باعتباره –هذا التّخطيط المؤسّساتي- قد حدّ من حرّيّة الفرد في اختيار أسلوب التّمتّع بوقت فراغه”[40]؛ أي وصل النّقاش إلى مستوى الحديث عن الحرّيّة في تصريف “فائض الحرّيّة”. على أساس أنّ التّرفيه المؤسّساتي هو فضاء عام إلزامي، رغم أنّ غايته تكمن في توفير ممكنات أخرى لممارسة الهوايات والقناعات بنوع من الحرّيّة.

هذا يعني أنّ الحرّيّة المتساوية، الّتي يحسّ الجميع بامتلاكها دون تمييز، تطرح الآن مشكلات في معاقلها الأساسيّة؛ أي “الفضاء الخاصّ”. من خلال النّسف الّذي حدث لهذه “الخصوصيّة”، وأيضا “للمجال العامّ” الّذي كان يحتضن “تعايش الخصوصيّات بالجمع”، وولد الأمر نوع من الإحساس –وإن يكن مبالغا فيه- بعدم القدرة على خلق عالم يتّسم فعليّا بالمساواة، بحيث لا يخضع فيه الأشخاص إلى آخرين.

على أساس أنّ هوس السّلطة والتّحكم هو سمة أساسيّة مميّزة للكائن الإنساني. حيث تتعدّد أسباب الوصاية، ويجري الحسم مع بعض أشكالها، لكنّها تظلّ قائمة وموجودة، دون أن يصل الزّمن الحديث إلى مستوى الحسم معها. إذ “هناك فريق استغلّ الدّين للسّيطرة على الأتباع، واستغلّ آخرون معاني مجرّدة مختلفة…، ولكنّ الأسلوب الأعمّ كان وما زال إغداق النّعم والأموال على فريق من النّاس لاستخدامه في أغراض متعدّدة”[41]؛ وهذا يحيل إلى معطى أساسيّ ربّما هو متجلّي في أفكار وقف عندها دو توكفيل مثلا ومعه تشارلز تايلور وآخرون بتمعّن؛ وأقصد “الرّاحة التّافهة” و ” الاستبداد النّاعم”، من خلال إقامة نقديّة تمّ ضمنها صياغة حوارات نظريّة عميقة مع فلسفات أخرى، من قبيل نيتشه، هايدغر وفوكو.

وطبعا مسؤوليّة التّحوّل الرّقميّ والتّكنولوجيّ في ترتيب هذا المشهد الجديد بكلّ تناقضاته، هو بلا شكّ ليس محلّ خلاف كبير؛ إذ بفضل سرعة تغيّرات هذه الثّورة[42]، أحسّ الإنسان بعدم قدرته على مسايرة ما يجري، وأفقده هذا، الإحساس بأفعاله، إذ بدا وكأنّها ليست فعلا أفعالا حرّة وواعية؛ إذ “لا بدّ أن نعي أنّ العلم والتّكنولوجيا هما المسؤولان بالدّرجة الأولى عن كلّ هذا التّغيير وسرعته ومداه. فلولا العلم والتّكنولوجيا لما كانت الحضارة العلميّة الحديثة، ولما واجهت الإنسان الحديث مشكلة اضطراره للتّكيّف المتلاحق بسرعة من سلسلة لا تنتهي من التّغيّرات والمتغيّرات، واضطراره لوعي فيض متفجّر من المعلومات يتدفّق عليه كلّ يوم”[43] .

والحقّ أنّ هذا الوصف رغم إطلاقيّته يبقى مبرّرا لأسباب ومؤشّرات موضوعيّة بالجملة، إذ لا يمكن مثلا عَدُّ المختبرات العلميّة الّتي تنجز أبحاثا في كلّ الميادين والقطاعات المعرفيّة، بل لا يمكن متابعة ما يجري داخل نفس التّخصّص من أبحاث، فمن من العلماء اليوم يستطيع مواكبة كلّ النّتائج العلميّة الّتي ترتبط بموضوع محدّد كالطّبّ مثلا؟؛ وهل هناك صلة وصل بين المراكز والمجمّعات البحثيّة المهتمّة بنفس الموضوعات، إلاّ في حالات نادرة جدا، كأن نتحدّث مثلا عن “مجمع ناسا” أو غيره.

كلّ هذا يعني شيئا واحدا، هو وجود سيولة بحثيّة، وتدّفقات لا تنتهي من النّتائج العلميّة، وخلاصات بالجملة تقترح حلولا علاجيّة لمشكلات إنسانيّة، وابتكارات بلا عدد منها الّذي يؤزّم الوضعيّة البشريّة…[44]. في النّهاية لم يعد الإنسان المعاصر، ينصت بصدق لظواهر العالم، بما في ذلك الظّاهرة الإنسانيّة نفسها. وأمام هذه الهوامش اللاّمنتهية، من الحرّيّة في الإبداع والابتكار والاختراع والبحث والتّنقيب…، يبدو أنّ الحرّيّة تصبح فاقدة لمعانيها، ما دامت لا تنصت لحرّيّة الآخرين في ذات الآن.

المهمّ أنّ هناك صورة مأساويّة بدأت تُرسَم بعد الفواجع الّتي عاينتها الإنسانيّة، بوضوح شديد. ومردّ جزء منها، إلى هذا الفقدان لما هو إنسانيّ بفضل الثّورة الرّقميّة والتّحوّلات التّقنيّة، ولعلّها الصّورة القاتمة الّتي حملتها الأطروحات المركزيّة “لجاك إيلول” وريث حركة المقاومة الفرنسيّة في الحرب العالميّة الثّانية، الّذي “طرح نظرة سوداويّة في كتابه “المجتمع التّكنولوجيّ” الصّادر في الخمسينات، معتبرا أنّ المجتمع التّكنولوجيّ “قوّة ماحقة تقمع الشّخصيّة تحت ضغوط بيروقراطيّة مركزيّة”[45]؛ وهذا القمع الممنهج ربّما نقرأ منه صورة الإدانات الواسعة الّتي نصادفها عند كلّ مهتمّ بالقراءة النقديّة للوجه الرّقميّ.

لقد نمت شيئا فشيئا حركات من أجل “البساطة الإراديّة”، وهي ناقدة للتّقنيات السّالبة للحرّيّة على خطى جاك إيلول 1988 “على أساس أنّها تنمو شيئا فشيئا حركات ناقدة للتّقنيات السّالبة للحرّيّة، تتويجا لخطى عمل “جاك إيلول”[46]؛ لكنّه مع ذلك نقد لا ينهي حدّة الجدل القائم ضمن مفارقة هذا “التّعدّي الرّقميّ” على الخصوصيّة، والمرتبط بهذه الصّورة الأخلاقيّة الّتي لا يمكنها قطعيّا محاكمة وجودنا الرّقميّ؛ لسبب بسيط مردّه إلى أنّه “في كلّ منّا يتساكن حبّ التّكنولوجيا ورُهابها”[47] .

ولعلّها المفارقة الّتي تجعل المبرّرات الرّقميّة والتّكنولوجيّة؛ الّتي تفيد فقدان الإنسان للخصوصيّة، هي بالفعل من ضمن أكثر الإحراجات المطروحة أمام مطالب الإنسان الحديث والمعاصر، الباحث عن تثبيت مكاسب “الحرّيّة”. إذ عِلْمُنَا بهذا الفقدان لا ينشأ عنه مقاومة لهذا المدّ، بقدر ما أنّه يحدث انغماس تدريجيّ في هذه الإمكانات الّتي تتيحها العوالم الرّقميّة والتّكنولوجيّة. لكن حدود هذا الزّخم لا يقف في مستوى التّغيّر الّذي يطرأ على السّلوكات البشريّة وحياة الأفراد وعلاقاتهم الاجتماعيّة؛ وإنّما يتجاوزه إلى مستوى تهديد طبيعة الوجود الإنسانيّ في كليّته؛ كما في أطروحات “الإنسان المزيد” و”الإنسان العاري”؛ والمشار إليها على وجه العموم، بأطروحات مأزق “ما بعد الإنسان”.

5- المبرّرات الوجوديّة: مأزق “ما بعد الإنسان”؛ وفقدان الإنسانيّة:

تجاوزت المخاوف الموضوعيّة النّاشئة عن الإحساس بفقدان الإنسان الحديث والمعاصر لحرّيّته، أمام تنامي أشكال الوصاية والرّقابة والتّهديد المفروضة من حالات التّخلّي عن الإنسان، سواء كان مردّ هذا التّخلّي إلى المخاطر البيئيّة أو البيولوجيّة أو العلميّة أو التّقنيّة..؛ مستوى المخاوف البسيطة والعاديّة، ووصلت بالتّدريج إلى مراتب عالية من التّوجس، تمثلّت أساسا في الأطروحات الّتي بدت مصرّة على رفض المهادنة النّظريّة مع ما يحدث من تحوّلات، معتبرة أنّ بعضها بدأ يمسّ “القضايا الوجوديّة”، ويسائل بصدق الحياة البشريّة في طبائعها الوجوديّة الخالصة، والّتي أصبحت مهدّدة رسميّا؛ كما في أطروحتي “الإنسان المزيد” و”الإنسان العاري”، والموسومة بقلق العنوان المخيف التّالي: “ما بعد الإنسانTranshumanism[48]“.

هذه الفكرة القائلة بـ “ما بعد الإنسان” رغم كونها صادمة ومخيفة، إلاّ أنّها في الآن ذاته موضوعيّة ومبرّرة ولها مؤشّراتها. لأنّها مجرّد “توصيف” لهذا التّحوّل التّدريجيّ نحو عالم يتجاوز “أخلاقيّاته” ويتجرّد رويدا رويدا من “إنسانيّته”، وأيضا من سماته المركزيّة المميّزة لوجوده. ودعاة ما بعد الإنسانيّة في الفكر المعاصر هم “جميعا وبلا استثناء، يخطّطون لمشروع يضمن الخلود ويمنحون به أنفسهم شبه مناعة من مثل محو كلّ معاناة، وفصل التّفكير عن الجسد، واختزال هذا التّفكير في ظاهرة عارضة بسيطة هي عبارة عن قوام جسميّ مصمّم على نحو آلة حتميّة، وفي أحسن الحالات بصورة ناقلة للمعلومات..”[49]، وهذا التّجاوز إن تمّ فعليّا سيكون بمثابة النّقلة الكلّيّة نحو عوالم أخرى ليس في الشّكل فقط، وإنّما في عمق التّمثّلات الأخلاقيّة والحقوقيّة والوجوديّة، وهذا الأساس.

يجري هذا الإقرار في الوقت الّذي أصبحت تتعالى فيه مطالب “تحسين النّسل” و”الخلود”[50]؛ مع الإشارة إلى نوعيّة هذا “الخلود”، والّذي لا يعني بشكل حصريّ “البقاء الدّائم وإلى ما لا نهاية”؛ وإنّما يحمل المفهوم دلالات تتجاوز المعاني الحصريّة العامّة، حيث قد لا يهتمّ أساسا بفكرة الخلود المطلق، بقدر تركيزه على فكرة الحياة في صحّة جيّدة ولفترة أطول وغير محدّدة[51]. وهو مطمح لا يخلو إطلاقا من المطبّات الأخلاقيّة، لكونه ينزع إلى ابتكار أنماط وجوديّة جديدة، مخالفة للقواعد الطّبيعيّة العامّة، ويفرض على الإنسان التّخلّي عن بعض المحدّدات الجوهريّة الّتي تميّز وجوده.

طبعا هذه المطبّات الأخلاقيّة وأشكال القلق الإنسانيّ، بدت واضحة في عدد من الأطروحات الأخلاقيّة النّاقدة لهذا النّزوع الجديد؛ وكان أهمّ نقد موجه لهذا الأفق الجديد المنعوت بما بعد-الإنسانيّة “مفاده أنّ ما بعد-الإنسانيّة، قد تتخلّى نهائيّا عن الإنسانيّ، فبتخليها عن الضّعف والهشاشة، قد تهدم واحدا من مصادر الرّابطة الاجتماعيّة باستهدافها زوال الضّعفاء. إنّها قد تنزع إلى إزالة التّجربة الّتي لا مفرّ منها للإنسانيّة، نعني تجربة المحنة، بل وتجربة المعاناة”[52]؛ وطبعا بقاء هذه الإشعارات لا يمكن قراءته على أساس أنّه ترف فكريّ وفقط، بل إنّه يعني الكثير بالنّسبة إلى وجودنا، “لأنّ المعاناة ببساطة لا غنى عنها لبقائنا، وجزءاً من طاقم الأدوات الّتي وهبنا إياه التّطوّر من أجل استباق مخاطر الهلاك. ولأن لنا ذاكرة واعية لآلامنا، فإنّنا نسعى إلى تشييد عالم نستطيع فيه التّخفيف من حدّة الآلام الآتية مستقبلا”[53]؛ فتكون تجربة الألم هي التّنبيه الّذي نزيح به المزيد من هذا الألم.

يقابله طبعا تصوّر آخر مخالف تماما، وهو ناشئ عن التّقييمات والمحاكمات النّفعيّة لما هو أخلاقيّ؛ بانيا طرحا عامّا يقول بضرورة الاستفادة من هذه الإمكانات الجديدة الّتي تمنحها القدرات العلميّة والتّقنية، في تطوير أفق الحياة الإنسانيّة، لما يتجاوز الطّبيعة الفعليّة لها، خدمة لمصالح الإنسان المعاصر وأهدافه ومنافعه، المتميّز بإمكاناته اللاّمحدودة؛ وهو طرح عوضا أنّ يساير الرّأي القائل بأنّ “تحويل طبيعة الإنسان هو من قبيل البدعة، يجيب بأنّه بالعكس من باب اللاأخلاق ألاّ يتمّ الاستغلال الأقصى للقدرات التّقنيّة لتحسين حياة البشر. وكما يحذّر البعض من فقدان معالم الحداثة، ينادي البعض الآخر بهذه الحداثة نفسها لتبرير استمرارها عبر التّحويل البشريّ”[54].

وعلى هذا الأساس، وانطلاقا من حجم النّقاش الأخلاقيّ والعلميّ المُثار حول جدوى الاستفادة من هذا التّطوّر الحاصل، تكون فكرة “ما بعد الإنسان”، هي فعليّا، وعطفا على هذه المفارقات والجدالات، بمثابة التّحوّل العميق الّذي يصيب البنية العميقة للوجود في كلّ تفريعاته وتفصيلاته. وكثيرا ما نعثر على بعض التّفسيرات الّتي أرادت النّظر إلى الموضوع بجديّة أكبر، كما في فكرتي “الإنسان المزيد” و”الإنسان العاري”، على أساس أنّهما فكرتان وإن اختلفتا في مداخل تحديد أفق “ما بعد الإنسانيّة” إلا أنّهما معا يتقاسمان نفس الغاية، باعتبارهما منبّهات وصفيّة، لاستباق المآزق الأخلاقيّة النّاجمة عن عمق هذا التّغير المحتمل حدوثه.

ولزيادة بعد التّفصيل، لا بأس من الإشارة إلى المعاني الّتي تتضمّنها  الفكرتان، من خلال البدء من دلالات مفهوم  “الإنسان المزيد”؛ استنادا إلى الكتاب الّذي حمل نفس التّسمية، والّذي ضمّ عددا من المقالات الّتي جمعها ونسقها ونظّمها “إدوار كلينبتر”[55]؛ حيث جاء فيه أنّ التّعزيز البشريّ والإنسان المزيد، هي دلالات على فكرة الزّيادة الّتي تعني في هذه الحالة “مجموعة من الإجراءات والمناهج أو الوسائل، الكيميائيّة أو التّقنية، الّتي تهدف إلى تجاوز القدرات الطبيعيّة أو العادية للفرد”[56]؛ وهو معنى عام يحيل ضمنيا إلى ثلاث مستويات مركزيّة، “زيادات قدرات الفرد؛ تحسين طبيعة الإنسان، وأخيرا تحسين الذّات”[57] .

وكل صيغة من هذه الصّيغ تختصّ بجزء من أجزاء هذا التّحوّل؛ الأولى “تشكّل امتدادا مباشرا للتّعزيز الجينيّ باستعمال الطّرق التّقنية والبيولوجيّة والكيميائيّة لتدعيم القوّة والذّكاء وتمديد أمد الحياة”[58]. أمّا المستوى الثّاني فيتعلّق “بالتّحويل البشريّ على مجموع البشريّة من أجل خلق إنسان جديد بالمعنى المجرّد والفلسفيّ لعبارة التّحويل البشريّ”[59]. والصّيغة الثّالثة تختصّ “بالأدوات والأنشطة الّتي تهدف إلى مساعدة الفرد على تحقيق مشروع حياته وبلوغ مراميه الوجوديّة”[60]؛ وفي الصّيغ الثّلاثة تكتمل بنية التّحوّل من خلال الجمع بين: البيولوجيّ-الكيميائيّ، والفلسفيّ – المجرّد، والأنشطة –الأدوات…، وهي المستويات الّتي ربّما تختزل البنية المركزيّة للوجود البشريّ ومعانيه.

والتّحدي المطروح في كلّ هذه الحالات، يرتبط بالنّتيجة النّهائيّة لهذا التّحول، على مستوى تمثّل الذّات لنفسها كذات حرّة وواعية وفاعلة ومسؤولة…؛ إذ لا معنى لهذه “الحدوس” أمام هذا الوضع الجديد، لسبب بسيط يعود إلى حالة “تجاوز الإنسان”، الّتي تنشأ عن هذه “الزّيادة”. ومنه فالحدوس النّاشئة عن تمثّل الإنسان الحديث والمعاصر لنفسه، تصير ضمنيّا شبه ملغيّة، فلا مكان هنا لـ “الأصالة” و “التّميز” و “التّعقّل” و “التّفرّد”…، وبمعنى أصحّ لا مكان هنا “للذّات” و “الهويّة الفاعلة”. إذ الجميع فلسفيّا يُختزل في صورة واحدة “مُهجَّنة” و “مُنمّطة”، على أساس أنّ “الأجهزة التّقنيّة الّتي تخوّل لنا الزّيادة الكمّيّة بصفة مفرطة في قدراتنا للتّفاعل مع الآخرين، تتّجه في الوقت نفسه نحو التّنميط”[61]؛ وربّما كان هاجس الحداثة في الأصل خلق الصّورة المناقضة تماما، حفاظا على التّميز والاختلاف البشريّ، وليس الوصول إلى هذه الصّورة “المكبسلة” و”المختزلة”، عن “إنسان واحد” موجود.

هذا جزء من الإحراجات الّتي تنشأ عن مفارقات فكرة “الإنسان المزيد”، والّتي هي بدورها مجرّد جزء ضمن “هوس” الفكرة القائلة بطلوع فجر “ما بعد الإنسان”؛ والمردودة أيضا إلى هذا “التّكشّف” و”التّعرّي” الكامل لإنسان الزّمن الحاليّ، أمام ما يحدث من تحوّلات عميقة، على الأقلّ وفق اعتبارات الفكرة الموسومة بـ “الإنسان العاري”؛ كما في الصّيغة الّتي حملها عنوان الكتاب المشترك الّذي ساهم فيه “مارك دوغان” و”كريستوف لابي”.

في هذا المستوى من الهيمنة الّتي بلغتها الثّورة الرّقميّة، أصبح “التّعرّي” و “التّكشّف” واقعيْن، لا يمكن بأي شكل من الأشكال إنكار وجودهما؛ إذ تمكّنت فعليّا الثّورة الرّقميّة من جعل حياة الإنسان المعاصر “مكشوفة” و”مفضوحة”، و”تفاصيله” و “خصوصيّته” و “حميميّته” “ملغيّة” و”منتهكة”…، بفضل السّياسات الجديدة المفروضة إعلاميّا ورقميّا وتواصليّا. وكما في مقدمّة الكتاب: “إنّهم أصبحوا يعرفون عنّا كلّ شيء: سلوكنا وعاداتنا في الاستهلاك وميولاتنا الجنسيّة، الصّريحة والخفيّة، ورغباتنا، وآراؤنا في السّياسية والاجتماع والإيديولوجيا. لم يعد الإنسان قادرا على الاختفاء أو التّواري وراء الجدران العازلة، كما كان يفعل في المدن والقرى الصّغيرة. إنّ عين الرّقيب الإلكترونيّ تتسلّل إليه اليوم في كلّ مكان…”[62] .

ومشكلة هذا التّحكّم الأساسيّة، هي في تلك “الطّواعيّة” و”القبول الأعمى”، الّذي سلّم بهما الإنسان الحديث والمعاصر، كلّ خصوصيّاته الّتي يملكها، إلى الشّركات والمؤسّسات والتّطبيقات الرّقميّة والمدوّنات التّواصليّة والفضاءات الإلكترونيّة…،  وهكذا، وبنوع من الإذعان الهادئ ودون أيّ شكل من أشكال المقاومة “سلّمنا رقابنا إلى جلاّد بلا سيف”[63]؛ وقدّمنا لهذا الجلاّد ما يفوق أجسادنا، بل أساسا وهي الطّامة الكبرى “إرادتنا الحرّة”، فصرنا فاقدين لكلّ الموانع الأخلاقيّة و “السّدود” النّظريّة الّتي كانت تحمينا من أن نكون عبيدا بالمطلق للرّقميّ، بسبب منح كلّ خصوصيّتنا وحميميّتنا لهذه المؤسّسات والبرامج والتّطبيقات.

أصبح الإنسان الآن بمقتضى أطروحة هذا الكتاب، الموسوم بـ “الإنسان العاري”، خاضع لشركات “آبل، غوغل، ميكروسوفت، أمازون…” ولتطبيقاتها الّتي تتطوّر باستمرار، من خلال تنويع طرق الحصول على أكبر قدر ممكن من “البيغ داتا”[64]، باعتبارها فعلا “بترول العصر”. لأنّها تساوي الكثير بالنّسبة إلى كلّ شركات العالم، الّتي تشتري معطياتك الشّخصيّة لاستغلالها في مجال تخصّصها، إذ من المهمّ جدّا معرفة أذواق النّاس واهتماماتهم وقدراتهم ومطالبهم وأوجاعهم وأفراحهم وأحزانهم…، ما يريدون وما لا يريدون، ما يقبلون وما يرفضون…؛ لكن بهدوء شديد لا يشبه الرّقابة التقليديّة الصّريحة والمباشرة، وهو أصل ربط هذه “الداتا” بمشروع خلق “الدّيكتاتوريّة الخفيّة”[65]، أيّ التّحكّم النّاعم والسّلس والهادئ، الشّبيه بفكرة دوطوكفيل حول ” الاستبداد النّاعم”، وإن اختلفت السّياقات العامّة له، إذ هو في هذه الحالة أوسع، وعلى أساس هذا الاتّساع أقرّ الكتاب، بأنّنا بالفعل أمام أكبر إكراه ناعم[66] .

لقد تجاوزنا بفضل “البيغ داتا” فعليّا “صور هيمنة الدّولة”، كما في صيغة “هوبس” الشّهيرة، إلى أفق يتجاوز هذا “اللفياتان/الدّولة” ذاتها، لحساب الشّركات العالميّة الكبرى، الّتي “تسيطر بصمت”[67]، على السّياسيّ ومن هو على شاكلته. لأنّها “تشبع كلّ حاجاتنا وتستبق رغباتنا، وتخمن تفكيرنا الأكثر سرّيّة، وتوجّهها بليونة وإقناع في أبسط مظاهرها وذلك كلّه من أجل خيرها”[68]؛ إنّها تخلق بمعنى مختصر “وجودا هشّا” يحسّ الإنسان ضمنه أنّه منزوع من كلّ ملكاته وسلطه وقدراته، فهو هشّ للغاية، بفقدانه لميزات الرّفض والمواجهة والمجابهة، الّتي كان يتسلّح بها في لحظات المقاومة السّابقة. لأنّ السّلط المُتحكّمة كانت متعيّنة وواضحة ومعلومة…، أمّا في الزّمن المعاصر، فلا أحد يستطيع التخلّص من فكرة كونه عاريا وشفّافا ومكشوفا بشكل كلّيّ ونهائيّ، وحتّى الرّافضين ينخرطون بسهولة في هذا السّيل الجارف طمعا في نِعَم التّقنية، وإغراءات طول العمر والصّحّة الجيّدة والصّورة الجميلة المكتملة…؛ باعتبارها ذرائع قويّة تضعها الهيمنة الرّقميّة كأطروحات بديلة تستميل بها فريق النّاقدين[69] .

الكتاب هو في المحصّلة صرخة أخلاقيّة وتنبيه سياسيّ وتحذير علميّ…، لما تنتظره الإنسانيّة، في حال تغافلت عن هذه التّغييرات الحاصلة في كلّ تفصيلاتنا اليوميّة والوجوديّة؛ بنوع يتجاوز كلّيا “تنبيهات أورويل” وانتقاداته لأشكال الرّقابة[70]؛ لأنّ طموح الرّقابة التّقنيّة يتجاوز فعليّا كل تلك الحدود المطروقة في موضوعات أخرى، أدبيّة أو فنّيّة أو فلسفيّة…؛ ولأنّ هذا “الطّموح” قَعَّد وأرسى “لأُسس ديكتاتوريّة ناعمة، حيث يكون على كلّ فرد، دون إشعاره بذلك، قبول أن يكون كيانه كلّه أو جزء منه مكشوفا أمام نظام للرّقابة الكونيّة”[71] .

هذا هو وضع الزّمن المعاصر في عدد من الأصوات المتذمّرة ممّا يحدث فعليّا، وهذه بعض الصّور الموضوعيّة، الّتي ربّما استند عليها الفلسفات والتّوجّهات الفكريّة المعاصرة للقول بوجود مآزق حقيقيّة تدفعنا إلى القول بـ”الفقدان الإنسانيّ لحرّيّته”، رغم عدم صواب المبالغة في هذا التّوجّس، على أساس أنّ هذه المخاوف من المفروض أن تكون مدخلا من أجل “إصلاح الوضع”، و”تشخيصه” لفهم أفضل بالزّمن الحديث.

6- في ما يشبه الخاتمة:

يبدو أنّ هواجس فقدان الحرّيّة في الزّمن المعاصر، ليست من نوع الإشكالات الّتي يمكن الانتهاء فيها إلى خلاصات مركزيّة، على شكل نتائج موثوقة، تسمح بالحديث عن “صورة ختاميّة” لمشهد التّفكير المرتبط بها. لكن على الأقلّ تمنحنا الإشارات المركزيّة للدّراسة القدرة على فهم أجزاء أساسيّة من أزمة الزّمن المعاصر، في القضايا المتعلّقة بغياب الحرّيّة، على ضوء مظاهر “الفقدان” الّتي طالت وجودنا الإنسانيّ، في صوره البيئيّة والبيولوجيّة والفكريّة والإنسانيّة، باعتبارها مظاهر بارزة وفاعلة وموجودة.

ولأنّها بهذا الشّكل من البروز والوضوح؛ فإنّها تصير مدخلا أساسيّا لإعادة “سؤال الإنسان”، ومعه أسئلة “الذّات” و”الوجود” و “الحرّيّة”، باعتبارها مطلبا أساسيّا ينشأ عنه بالضّرورة الحاجة إلى إعادة البحث ضمن مقولة “الكوجيتو”، بسبب ضياع المركزيّات التّقليديّة، أو على الأقلّ عدم وثوقنا الكلّي من صدق وجودها، إذ لم يعد الإنسان وحده “مفكّرا” ولا “فاعلا” ولا “متحكّما” ولا “متحرّرا” ولا “راغبا بوعي”…، فماذا تبقى إذا كإجابات محتملة عن سؤال “ما الإنسان؟”، ولو في الصّيغ المرتبطة بالحدود المنطقيّة للجواب.

إنّه “الفراغ الرّهيب”، الّذي ينشأ بسبب حجم ما فقدته الذّات الحديثة والمعاصرة، إذ لا يبدو أنّ هذا الفقدان هو مجرّد مظهر عابر أو قلق جزئيّ، بل هو بالأساس جرح عميق ومشهد فيه الكثير من مظاهر “القسوة” و”البؤس” و “الضّياع”. فمن فقدان الإنسان لسلامة الكون بسبب الأزمة البيئيّة، مرورا بفقدان خصوصيّة الجسد مع الطّفرة البيولوجيّة، وما يتبعه من فقدان للخصوصيّة والحميميّة بسبب الثّورة الرّقميّة…، وصل الإنسان إلى لحظات فقدان الإنسانيّة بسبب التّعرّي والتّكشّف والزّيادة الرّقميّة. وها قد أصبح كلّ شيء مكشوفا، ومراقبا وتحت السّيطرة، وكلّ التفاصيل متابعة؛ ولا أحد يملك خصوصيّته وحميميّته بالكامل، ولا أحد يحسّ بامتلاكه لطبيعة وجوده الصّادقة: إنّه عالم الفقدان الكلّي للحرّيّة: أو بمعنى أدقّ، عالم “ما بعد الإنسان”.

لكن هل فعلا ضاع كلّ شيء وأصبح هامش العودة معدوما؟ وهل انتقلنا إلى حالة من “اللانقطة” واللامركز” و “اللاكوجيتو”؟

ليس الجواب عن هذه الأسئلة في الواقع هو المهمّ، لأنّ في كلتا الحالتين، وسواء تعلّق الأمر بالإيجاب أو السّلب، سنكون أمّا حالة من “العدم” أو من “التّقييم الأخلاقيّ المفرط”، وما نحتاجه فكريّا على الأقل، هو تشخيص بواعث القلق، من خلال الرّهان على القراءة “التّشخيصيّة” الّتي تطالبنا بالفهم، أكثر من مطالبتنا بالقبول أو الرّفض، لهذه المظاهر المخيفة، مع الحكم أخلاقيّا عليها.

أو بمعنى أصحّ هناك “فرص” كبيرة تبقى موجودة، يمكن التّعويل عليها من أجل إعادة تحريك المعاني الرّاكدة لسؤال “الإنسان”، كمطلب إيتيقي، يسمح بعرض “الآفاق الانسانيّة” الّتي يطرحها الزّمن المعاصر، باعتباره أيضا عالم ” الاعتراف” و”احترام الحقوق” و”الفرص المتساوية” و”تعميم الخيرات”…، عالما يحتضن “إيتيقا العناية” و “ديمقراطيّة التّداول” و “العلمانيّة المنفتحة” وحقّ “التّعدّد الثّقافي” ويحفظ “المجال الخاصّ” ويتيح “فرص  الإبداع”….؛ إنّه العالم الّذي ينبغي أن نحيا ضمنه، والوجود الّذي نحن مطالبون بالعيش في كنفه، لأنّه في النّهاية مجرّد تعبير عن “مفارقات الوضع البشريّ”، و”تناقضات العالم”، حيث كلّ مظهر من مظاهر “الفقدان” يقابله “امتلاك نقيض”.


المصادر والمراجع المعتمدة:

باللغة العربيّة:

  • إدوارد كلينبتر، الإنسان أمام تقنياته، الزّيادة، التّهجين، التّحويل البشريّ، ضمن: الإنسان المزيد، تنسيق إدوار كلينبتر، ترجمة جميل شاكر، منشورات المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء-بيروت، الطبعة الأولى 2019.
  • أر. إيه. بوكانان، الآلة قوّة وسلطة: التّكنولوجيا والإنسان منذ القرن 17 حتّى الوقت الحاضر، ترجمة شوقي جلال، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 259، مايو 2000.
  • إرنست ماير، هذا هو علم البيولوجيا: دراسة في ماهية الحياة والأحياء، ترجمة د. عفيفي محمود عفيفي، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 277، يناير 2002.
  • إيان ج. سيمونز، البيئة والإنسان عبر العصور، ترجمة السيد محمد عثمان، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 222، يونيو 1997.
  • رشيد الحمد ومحمد سعيد صباريني، البيئة ومشكلاتها، منشورات عالم المعرفة، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 22، أكتوبر 1979.
  • زهير، الكرمي، العلم ومشكلات الإنسان المعاصر، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 5، مايو 1978.
  • سعيد محمد الحفار: البيولوجيا ومصير الإنسان. منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 38، نوفمبر 1984.
  • سوزان كرينفليد، تغيّر العقل: كيف تترك التّقنيات الرّقميّة بصماتها على أدمغتنا، ترجمة إيهاب عبد الرحيم علي، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 445، فبراير 2017.
  • لادانييل كيفلس وليروي هود، الشّفرة الوراثيّة للإنسان: القضايا العلميّة والاجتماعيّة لمشروع الجينوم البشريّ، ترجمة د. أحمد مستجير، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 217، يناير 1997
  • مارك دوغان وكريستوف لابي، الإنسان العاري.. الدّكتاتورية الخفيّة للرقميّة، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي للكتاب. الدار البيضاء، المغرب. الطبعة الأولى، 2020.
  • مارك رو، ما بعد – الإنسانية: نحو تصوّر آخر ممكن، ضمن: الإنسان المزيد، تنسيق إدوار كلينبتر، ترجمة جميل شاكر، منشورات المركز الثّقافيّ للكتاب، الدار البيضاء-بيروت، الطبعة الأولى 2019
  • ميتشيو كاكو، رؤى مستقبليّة: كيف سيغيّر العلم حياتنا في القرن الواحد والعشرين، ترجمة سعد الدين خرفان، مراجعة محمد يونس، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 270، يونيو 2001.
  • نورينا هيرتس، السّيطرة الصامتة: الرّأسمالية العالميّة وموت الدّيموقراطيّة، ترجمة صدقي حطاب، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 336، فبراير 2000.
  • هال أبلسون وهاري لويس وكين ليدين، الطّوفان الرّقميّ: كيف يؤثر على حياتنا وحريتنا وسعادتنا، ترجمة أشرف عامر، مراجعة محمد فتحي خضر، منشورات مؤسّسة هنداوي للتّعليم والثّقافة، القاهرة، 2014.

مراجع باللغة الفرنسية:

  • Charles Taylor, Le Malaise de la modernité, Traduit de l’anglais par Charlotte Melançon, Éditions du Cerf, Paris, 2010.
  • Luc Ferry, La révolution transhumaniste : comment la techno médecine et l’uberisation du monde vont bouleverser nos vies, Plon, April, 2016.

[1]– Charles Taylor, Le Malaise de la modernité, Traduit de l’anglais par Charlotte Melançon, Éditions du Cerf, Paris, 2010, p. 13.

[2]– ibid, p. 16.

[3]– سعيد محمد الحفار: البيولوجيا ومصير الإنسان. منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 38، نوفمبر 1984. ص44.

[4]– المرجع نفسه، ص44.

[5]– المرجع نفسه، ص246.

[6]– سعيد محمد الحفار: البيولوجيا ومصير الإنسان، مرجع سابق، ص246.

[7]– يمكن في هذا الصدد الإشارة إلى حجم المفارقات والتّحدّيات الحقوقيّة والأخلاقيّة الّتي تطرحها مثلا فكرة “اليوجينيا”، والّتي تعني حصرا: تحسين البشر؛ لكن مدلولها العامّ واستتباعاتها تحيل ضمنيّا في الواقع إلى تغيير الصّورة الطبيعيّة للإنسان كما وجدت في الأصل، وكيف أنّها ستكون مكروهة فيما بعد لأنّها سترتبط ببعض الإبادات الجماعيّة، الّتي سعت إلى تجاوز صورة ما عن الإنسان المنعوت بكونه “بدائيّا” أو أقلّ قيمة وحسنا واكتمالا…، وتوالي الأبحاث العلميّة إلى حدود الآن في نفس الموضوعات هو دليل إضافيّ على هذه الرّغبة القويّة بالذّهاب بعيدا في هذا الموضوع المعنيّ بتحسين النّسل والصّورة والشّكل، وربّما  الاهتمام الزّائد بالطّبّ التّجميليّ يدخل في هذا المسار، واستتباعاته الأخلاقيّة والإنسانيّة ستكون محل جدل حقيقيّ فيما بعد؛ أي إذا تمّ تعميمها فعليّا، لأنّ هذا النّوع من الطّبّ يعبّر إمّا عن عدم رضا بالمنحة الطبيعيّة للإنسان، أو أنّه يؤدّي إلى تساوي الجمال والّذي يفقد قيمة الجمال لمن يملكونه في ذات الآن، إذ لا معنى لفكرة “الأصالة” بمعانيها الخلقيّة، إذا ما أصبح الجميع يملك نفس الصّفات بفضل التّحسين الطّبّيّ….، انظر: لادانييل كيفلس وليروي هود، الشّفرة الوراثيّة للإنسان: القضايا العلميّة  والاجتماعيّة لمشروع الجينوم البشريّ، ترجمة د. أحمد مستجير، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 217، يناير 1997.  ص14.

[8]– لادانييل كيفلس وليروي هود، الشفرة الوراثية للإنسان، مرجع سابق، ص7-8.

[9]– المرجع نفسه، ص8.

[10]– للمزيد من التّفصيلات المتعلّقة باستغلال شركات التّأمين للمعطيات الطّبّية، بالمعنى التّجاري الصّرف لمفهوم الاستغلال، ومفارقاته القانونيّة والأخلاقيّة، انظر: المرجع نفسه، ص330-331.

[11]– إرنست ماير، هذا هو علم البيولوجيا: دراسة في ماهية الحياة والأحياء، ترجمة د. عفيفي محمود عفيفي، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 277، يناير 2002. 15.

[12]– المرجع نفسه، ص196.

[13]– سوزان كرينفليد، تغيّر العقل: كيف تترك التّقنيات الرّقمية بصماتها على أدمغتنا، ترجمة إيهاب عبد الرحيم علي، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 445، فبراير 2017، ص14.

[14]– المرجع نفسه، ص15.

[15]– سوزان كرينفليد، تغيّر العقل، مرجع سابق، ص15.

[16]– طبعا هذا الحكم الإطلاقي الّذي يشير إلى كمّ المخاوف المرتبطة بالمشكلات البيئيّة في الزّمن المعاصر، ويعتبرها جديدة مقارنة بالتّاريخ السّابق -رغم أنّ بعض مظاهر هذا التّخوف برزت أيضا في عدد من الدّعاوى البيئيّة، الّتي تخوفت من المخاطر النّاجمة عن التّدخّل البشريّ في الطّبيعة سابقا- مردّه بالأساس إلى الصّيغة الّتي أصبحت معتمدة في الدّفاع عن القضايا البيئيّة، والّتي أضحت مؤسّسة ومنظّمة في إطار نقابات وأحزاب وجمعيّات ومنظّمات وهيئات…، لدرجة أنّ ما يشار إليها ب”الأحزاب الخضر” أو “الأحزاب البيئية”، لم تكن بنفس هذا التّمثيليّة والتّنظيم والحضور في السّابق، وبالعوة إلى تاريخ تشكّلها، سيبدو واضحا أنّ تطوّرها  ارتبط حصريّا بالقرنين الأخيرين، بل لم يكن حضورها قويّا وفاعلا إلاّ في السّنوات القليلة الأخيرة؛ وهذا  الاعتبار بالذّات هو الّذي تمّ  الاستناد عليه في القول بعمق التّحوّل الّذي مسّ موضوعات البيئة، باعتباره حدثا تاريخيا جديدا لا عهد لنا به من قبل.

[17]– إيان ج. سيمونز، البيئة والإنسان عبر العصور، ترجمة السيد محمد عثمان، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 222، يونيو 1997، ص6.

[18]– سوزان كرينفليد، تغيّر العقل، مرجع سابق، ص6.

[19]– إيان ج. سيمونز، البيئة والإنسان عبر العصور، مرجع سابق ذكره، ص199.

[20]– المرجع نفسه، ص220.

[21]– رشيد الحمد ومحمد سعيد صباريني، البيئة ومشكلاتها، منشورات عالم المعرفة، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 22، أكتوبر 1979، ص107.

[22]– المرجع نفسه، ص107.

[23]– المرجع نفسه، ص108.

[24]– المرجع نفسه، ص112.

[25]– هال أبلسون وهاري لويس وكين ليدين، الطوفان الرقمي: كيف يؤثّر على حياتنا وحرّيّتنا وسعادتنا، ترجمة أشرف عامر، مراجعة محمد فتحي خضر، منشورات مؤسسة هنداوي للتعليم والثّقافة، القاهرة، 2014. ص20.

[26]– هال أبلسون وهاري لويس وكين ليدين، الطّوفان الرّقميّ، مرجع سابق، ص41.

[27]– جزء من الأطروحة المركزيّة لهذا الكتاب الموسوم بـ: “الطوفان الرقميّ”؛ هو الدّفاع عن الفكرة القائلة بهيمنة “السّلطة الرقميّة” في كلّ التفاصيل العامّة المرتبطة بوجودنا، وقد تمّ تشبيه هذه الحالة بالتّصوّر الّذي حملته أعمال “جورج أرويل”، لكن بمعاني تتجاوز التّعبير الأدبيّ لمفهوم “الرّقابة الصّارمة”، من خلال إضفاء الطّابع العلميّ على هذه “الرّقابة” عن طريق إبراز أوجهها  الرّقميّ، رغم أنّ النّتيجة هي في نهاية المطاف واحدة: تكريس نزعة السّيطرة والهيمنة ونزع الخصوصيّة؛ إضافة إلى التّحكم المطلق في الذّوات المعنية؛ ولكن الكتاب مع ذلك، يحاجج بفكرة تتجاوز المعاني الّتي صاغها “أورويل”، نقرأ إشاراتها في القول التّالي: ” هناك أمر حول العالم الرقميّ لم يتخيّله أورويل؛ فهو لم يتوّقع أن تكون  كاميرات المراقبة بمنأى عن أكثر تقنيات اليوم انتهاكا للخصوصيّة، فهناك العشرات من أنواع مصادر البيانات الأخرى، والبيانات الّتي تستمدّ من تلك المصادر يُحتفظ بها وتُحلّل. فشركات المحمول لا تعلم فحسب الأرقام التي اتّصلت بها، بل تعلم أين كنت وقت أجريت تلك المكاملات، وشركات بطاقات الائتمان لا تعلم فحسب مقدار ما أنفقت من مال، بل تعلم كذلك ما اشتريت بذلك المال، والمصرف الذي تتعامل معه لديه سجلات إلكترونية بمعاملاتك المالية، ليس فقط بغرض ضبط سحوبات وإيداعات رصيدك لديه،  بل يخطر الحكومة إن حدث وقمت بسحب مبالغ كبرى من حسابك؛ وتفاصيل حياتنا في كلّ مكان… ، إن الانفجار الرقميّ يحدّد من أين  اقتنيت الملابس، والصّابون الّذي نستحمّ به، والطّرقات الّتي نسري فيها، والسّيّارات الّتي نقودها، وأين قدناها. كان لدى الأخ الأكبر في رواية جورج أورويل كاميرات مراقبة، لكن لم تكن لديه محرّكات بحث تجمع شتات “البتات” تلك معا لتعثر على الإبرة في كومة القشّ. إنّنا أينما ذهبنا نترك بصمات إلكترونيّة، في حين تعيد أجهزة كمبيوتر ذات سعات مذهلة بناء تحرّكاتنا هنا وهناك. إنها كذلك تعيد تجميع أجزاء الصّورة لتحدّد من نحن، وماذا نفعل، وأين نفعل ذلك، ومن نناقشه في ذلك…”. انظر: هال أبلسون وهاري لويس وكين ليدين، الطّوفان الرّقميّ، مرجع سابق، ص42.

[28]– هال أبلسون وهاري لويس وكين ليدين، الطّوفان الرّقميّ، مرجع سابق، ص37.

[29]– المرجع نفسه، ص39.

[30]– ليس المقصود بهذا التّعبير؛ أي “التّحرّش الإلكترونيّ”، فقط نوع العلاقات الّتي تنشأ بين طرفين في شبكات التّواصل ومواقعها بمختلف التّلوينات، على أساس أنّ هذا النّوع من التّحرّش هو عاديّ واعتياديّ، ولا يطرح بالنّسبة  إلى الإنسانالمعاصر أي غرابة أو استغراب، رغم الرّدود الأخلاقيّة الممكنة على بعض حالاته؛ لكن المقصود به –وهذا الأهمّ- هو بروز هذه الأنواع الجديدة من أشكال التّواصل الّتي تتمّ بين ذات بشريّة لها وجود إنسانيّ فعليّ، وذوات أخرى مفبركة صناعيّا، تضع نفسها موضع الإنسان، رغم كونها مجرد برمجيّات تمّ تصميمها بغرض القيام بمثل هذه المحادثات، حتّى تبدو وكأنّها عاديّة وتتمّ بالفعل بين شخصين؛ ويمكن مثلا الاستدلال على هذا الوضع من خلال مثال لمحادثة تمّت  في عام 2006، حينما نشأت صداقة عبر الإنترنت بين فتاة لا تبلغ من العمر سوى  13 سنة، تُدعى “ميجان ماير” من داردين بريري بولاية “ميسوري”، وبين صبي عمره 16 عاما يُدعى “جوش”،  وعندما انقلب عليها جوش وكتب لها: “أنت إنسانة شريرة، والجميع يبغضونك … ولو متّ لاستراح العالم منك…” ما كان من ميجان إلا أن انتحرت، والعجيب في الأمر أنه بعد البحث تبيّن أنّ جوش هذا مجرد شخصيّة وهميّة، إذ لم يكن جوش إلا اسما لحساب على موقع “ماي سبيس”. انظر: هال أبلسون وهاري لويس وكين ليدين، الطّوفان الرّقميّ، مرجع سابق، ص 39. وطبعا لم تعد هذه الصّورة مبالغة فيها الآن، بل أصبحت هذه المخاوف الأخلاقيّة المترتبة عن العلاقات التّواصليّة بين الذّوات الإنسانيّة من جهة، والآلات والتّطبيقات من جهة ثانية. موجودة ومحلّ نقاش جدّي؛ ولعلّ أكثرها وضوحا الصّورة الّتي نقلها الفيلم الشّهير “HER”، والصّادر سنة 2013، ويحكي الفيلم قصّة كاتب يطوّر علاقة مع نظام تشغيل ذكيّ ذو صوت أنثويّ، وكيف أنه بالتّدريج يجد نفسه مُحبّا لهذا الّظام، بل وتملكه الإحساس بالغيرة في نهاية الفيلم، بعد معرفته بحقيقة أنّ الفتاة هي مجرّد نظام تشغيليّ يقوم بنفس المحادثات مع الآلاف من المشتركين الآخرين، بل والمهمّ في الأمر هو أنّ النّظام يتفاعل مع الرّغبات الإنسانيّة بجديّة كبيرة، تجعله في مصاف العلاقات الإنسانية-الإنسانية.

[31]– هال أبلسون وهاري لويس وكين ليدين، الطوفان الرقمي، مرجع سابق، ص40.

[32]– المرجع نفسه، ص39.

[33]– المرجع نفسه، ص40.

[34]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[35]– طبعا عطف “التّكنولوجيّ” على الرّقميّ” وربطهما، لا يعني التّماهي الكلّي بين المفهومين، بمعنى التّرادف والتّساوي؛ وإنّما الاختلاف بينهما رغم كونه طفيفا يبقى موجودا، بحيث تكون “التّقنيات” هي الموضوع الأصيل لدراسة “التّكنولوجيا”؛ انظر مثلا:  أر. إيه. بوكانان، الآلة قوّة وسلطة: التّكنولوجيا والإنسان منذ القرن 17 حتّى الوقت الحاضر، ترجمة شوقي جلال، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد259، مايو 2000. ص 13-14. ويمكن العودة حتّى للتّمييزات الّتي يقيمها “هايدغر” بين المفهومين، بل وبشكل أدقّ إلى التّمييز الّذي يقيمه بين “التّقنية” ذاتها و “ماهية التّقنية” في مقالته حول “ما التّقنية؟”.

[36]– ميتشيو كاكو، رؤى مستقبلية: كيف سيغير العلم حياتنا في القرن الواحد والعشرين، ترجمة سعد الدين خرفان، مراجعة محمد يونس، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 270، يونيو 2001، ص107.

[37]– المرجع نفسها، الصفحة نفسها.

[38]– المرجع نفسه، ص167.

[39]– المرجع نفسه، ص168 وما بعدها.

[40]– زهير، الكرمي، العلم ومشكلات الإنسان المعاصر، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 5، مايو 1978، ص226.

[41]– المرجع نفسه، ص230.

[42]– لإبراز تأكيدات تثبت حجم التّغيّرات الّتي حملها القرن الأخير، والّتي لا يمكن مقارنتها بأيّ تحوّل حدث في السّابق من حيث السّرعة والمردوديّة والفاعليّة، وأيضا من حيث الكمّ والكيف، لدرجة يصعب ملاحقة ما يجري من تغيّرات وتطوّرات بسبب “جنون التّصنيع”، يمكن العودة إلى: أر. إيه. بوكانان، الآلة قوّة وسلطة، مرجع سابق ص7 وما بعدها.

[43]– زهير، الكرمي، العلم ومشكلات الإنسان المعاصر، مرجع سابق، ص241.

[44]– يمكن تقديم عدد لا يحصى من الحالات الّتي توثق لهذا التّحوّر الجديد للأبحاث العلميّة، في صيغتها المهدّدة للوجود الإنسانيّ، وربّما الإشارة إلى النّقاش الّذي خاضه “برتراند راسل”، من أجل الدّفاع عن عدم صحّة استخدام القنبلة الذّريّة. هو وجه من أوجه ها التّأكيد على الدّور السّلبيّ للعلم، وإمكانيّة تحوّله إلى مشروع للإبادة –رغم أن راسل كان طبعا مؤمنا بالمشروع العلميّ وبإطاراته النّظريّة والرّياضيّة-، لدرجة أنّ البعض يعتبر ” الحرب العالميّة الأولى هي حرب الكيميائيين والثّانية هي حرب الفيزيائيّين؛ إذ بينما هيمن على تكنولوجيا النّزاع الأوّل إنتاج المتفجّرات الشّديدة، فإنّ مسار الحرب العالميّة الثّانية حدّده الرّادار، وهو تقنية مسح إلكتروني حقّقت ميزة حيويّة للسّلاح الجويّ الملكيّ في معركة بريطانيا…”؛ انظر: أر. إيه. بوكانان، الآلة قوّة وسلطة، مرجع سابق، ص 247. والمركزيّ في كل هذا أنّه أصبح بالإمكان ترتيب العلم بترتيب الحروب، وكأنّهما مترادفين، وهذا فشل أخلاقيّ لا يمكن عده مجرد صورة تأويليّة وفقط، لأنّه أفرغ العلم من كلّ مدلولاته الّتي ربّما تفيد أهميّته –دون إلغاء أهميّته كسند نظريّ وعمليّ في حلّ المشكلات الجديّة أيضا بطبيعة الحال-.

[45]– أر. إيه. بوكانان، الآلة قوة وسلطة، مرجع سابق، ص255.

[46]– إدوارد كلينبتر، الإنسان أمام تقنياته، الزّيادة، التّهجين، التّحويل البشريّ، ضمن: الإنسان المزيد، تنسيق إدوار كلينبتر، ترجمة جميل شاكر، منشورات المركز الثّقافي للكتاب، الدّار البيضاء-بيروت، الطّبعة الأولى 2019. ص9.

[47]– المرجع نفسه، ص8.

[48]– لا بأس من التّنبيه إلى أنّ التّرجمات المتداولة لكلمة: “Transhumanism”، قد نعثر عليها بمعاني أخرى؛ ومن باب الاختصار نقول أنّ أبرزها يمكن لمه في التّرجمات التالية: “ما بعد الإنسان”، “الإنسانية المتعدّية” ، “الإنسانية البعديّة”، “ما فوق الإنسان”. وهي تدلّ على كل التّحولات الطارئة على الإنسان جراء الثّورة الجينيّة والثورة الرقميّة. ويمكن العودة في هذا الصّدد مثلا إلى المؤلّف المركزيّ للمفكر والوزير الفرنسيّ السّابق “لوك فيري”، الموسوم بعنوان: “ثورة ما بعد الإنسان”، للوقوف بشكل أكبر وأضح على سمات هذا الأفق الجديد الّذي أصبحت تنحو نحوه الإنسانيّة في الزّمن المعاصر. انظر:

– Luc Ferry, La révolution transhumaniste : comment la technomédecine et l’uberisation du monde vont bouleverser nos vies, Plon, April, 2016.

[49]– مارك رو، ما بعد – الإنسانيّة: نحو تصوّر آخر ممكن، ضمن: الإنسان المزيد، تنسيق إدوار كلينبتر، ترجمة جميل شاكر، منشورات المركز الثّقافيّ للكتاب، الدّار البيضاء-بيروت، الطّبعة الأولى 2019. ص136.

[50]– طبعا هذه المطالب الخاصّة بتحسين النّسل والخلود، وُجدت فيما سبق باعتبارها أولويّات وضرورات، كما في الحضارة الفرعونيّة الّتي اهتمّت بفكرة التّحنيط بحثا عن هذا المطمح، لكنّها في الغالب لم تكن مبنيّة على الرّؤية العلميّة الصّارمة الّتي هي عليها اليوم، ومنه فالحديث عنها كنقلة وجوديّة عميقة، تميّز إنسان الزّمن الرّاهن، يأخذ مشروعيّته من هذا البعد الجديد للفكرة، بحكم وجود سياقات تستضيف معقوليّة هذا التّصوّر، وتجعله ممكنا ومتاحا علميّا من النّاحية النّظريّة على الاقلّ، ؛ وهو ما لم يكن موجودا في ما سبق.

[51]– مارك رو، ما بعد – الإنسانية: نحو تصور آخر ممكن، مرجع سابق، ص138.

[52]– المرجع نفسه، ص140.

[53]– المرجع نفسه، ص141.

[54]– المرجع نفسه، ص10.

[55]–  إدوارد كلينبتر  Edouard Kleinpeter : مهندس بحث في “المركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا”، ومسؤول عن الوساطة العلميّة بالمعهد العالي لعلوم الاتّصال التّابع للمركز الوطنيّ الفرنسيّ للبحث العلميّ، وهو مهندس فيزيائيّ وحاصل في نفس الوقت على دكتوراه في الفلسفة، وعلى ديبلوم في تخصّص الصّحافة والإعلام، ومن بين  اهتماماته المركزيّة: تداخل الاختصاصات والزّيادة الإنسانيّة.

[56]– إدوارد كلينبتر، الإنسان أمام تقنياته، مرجع سابق، ص12.

[57]– المرجع نفسه، ص11.

[58]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[59]– المرجع نفسه، ص12.

[60] – المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[61]– المرجع نفسه، ص18.

[62]– مارك دوغان وكريستوف لابي “الإنسان العاري.. الدكتاتورية الخفية للرقمية”. ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي للكتاب. الدار البيضاء، المغرب. الطبعة الأولى، 2020. مقدمة المترجم ص13.

[63]– المرجع نفسه، ص14.

[64]– تعني “البيغ داتا”، حسب ما هو متضمّن في الكتاب من خلال إضافه المترجم سعيد بنكراد:”كلّ المعطيات الّتي يتركها المبحرون في الأنترنيت عبر فايسبوك وغوغل وآبل وأمازون وتويتر، على اعتبار أنّ هذه المؤسّسات تبرم مع المُبحر عقدا إذعانيّا، يسمح بموجبه لهذه المؤسّسات أن تستعمل معطيات حياته الخاصّة جزئيّا أو كلّيّا، وتبيعها للمؤسّسات التّجارية والاستخباريّة”؛ انظر مقدّمة: مارك دوغان وكريستوف لابي “الإنسان العاري.. الدّكتاتوريّة الخفيّة للرّقميّة”، مرجع سابق، ص15.

[65]– المرجع نفسه، ص20.

[66]– المرجع نفسه ، الصفحة نفسها.

[67]– تدلّ فكرة “السّيطرة الصّامتة” التي استخدمتها “نورينا هيرتس” في كتاب لها بنفس العنوان؛ على شكل الهيمنة المعاصرة الّتي تأتّت بفضل هيمنة العوامل الرّبحيّة  والاقتصاديّة، حتّى على الخطابات السّياسيّة والثّقافيّة والأخلاقيّة، الّتي وإن بدت مهمّة وفاعلة فإنّها في الواقع، لا تعدو أن تكون مجرّد أصوات ومطالب شكليّة؛ لأنّ الّذي يسيطر فعليّا ولكن بشكل “خفيّ” و “صامت” هو “منطق رجل  الاقتصاد”، وتقترح في هذا الصّدد العودة إلى تاريخ البداية الفعليّة والواضحة لهذا النّوع من السّيطرة، حين  اعتلت “مارغريت تاتشر” السّلطة، مؤسّسة نوع من الرأسماليّة الجديدة المفرطة في توحشها وتوغّلها وتغولها، بمساهمة رفيقها “رونالد ريغان”، الّذي ساعدها على وضع قوّة غير عاديّة في أيدي الشّركات والمؤسّسات التّجارية والصّناعيّة العملاقة، لتتجاوز بذلك سلطة كلّ المفاهيم والشّعارات والأسس..، الّتي كان يُفترض أنّ الزّمن المعاصر قد أقام أركانه على أرضيتها، كالسّياسة والدّيموقراطيّة وفكرة حقوق الإنسان…؛ولمزيد توضيح حول هذه الصّورة المشار إليها بـ “السّيطرة الصّامتة”؛ انظر: نورينا هيرتس، السّيطرة الصّامتة: الرّأسماليّة العالميّة وموت الدّيموقراطيّة، ترجمة صدقي حطاب، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 336، فبراير 2000، ص 15 وما بعدها. كما يمكن العودة إلى الفصل الخاصّ بموضوع هذه الغلبة لما هو اقتصاديّ واستهلاكيّ، والّذي صاغته بقالب نقديّ مميّز وجريء؛ انظر فصل “تسوَّق …لا تصوت…”؛ المرجع نفسه، ص 129 وما بعدها.

[68]– مارك دوغان وكريستوف لابي “الإنسان العاري.. الدكتاتورية الخفية للرقمية”، مرجع سابق، ص 160.

[69]– المرجع نفسه، ص 19.

[70]– من باب المقارنة بين الرّقابة الرقميّة ورقابة الحزب كما صاغها أورويل؛ هناك بالنّسبة إلى المؤلّفين فرق شاسع، تمّت صياغته كالتّالي: “كتب أرويل قائلا: “يمكن للحزب أن يعرف جزئيّات ما تقوله أو تفكّر فيه، لكن قرارة نفسك، الغريبة حتّى بالنّسبة إليك، ستظلّ في منأى عنه”. والأمر ليس كذلك مع البيغ داتا، وكابوس 1984 أرحم منها، فالمصفوفة تشقّ سريرتنا وتكشف عن المعنى الخفيّ لسلوكنا، ويعود الفضل في ذلك إلى المعطيات الأوليّة، تلك المعطيات الّتي تقول كلّ شيء عن واقعة إبلاغيّة: التّاريخ والسّاعة والمدّة والمكان… عدا مضمونها”. مارك دوغان وكريستوف لابي “الإنسان العاري.. الدّكتاتوريّة الخفيّة للرّقميّة”، مرجع سابق،  ص70-71.

[71]– المرجع نفسه، ص56.

مقالات أخرى

التّعليم عن بعد

إشكاليّة العدالة والدّيمقراطية

البيت

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد