لا مراء حول قيمة الجهود المكرّسة لنقد مرجعيات التفكير الديني، وإشكاليات العقل التراثي. سواء اتفقنا أم اختلفنا معها. فهي جهود مهمة، اتسمت بثرائها الفكري والفلسفي. واستأثرت باهتمام الباحثين والدارسين. وتكمن أهميتها بحيوية مناهجها، وقدرتها على طرح الأسئلة، واختراق الممنوع واللامفكر فيه. فجميعها تراكم معرفي لمقاربة الحقيقة، وترشيد الوعي، ضمن مشاريع حضارية هادفه وفاعلة. وهذا لا يعني عدم وجود ملاحظات وتحفّظات أساسية حول مرتكزاتها التي انقلبت بدورها إلى بديهيات فرضت نفسها على الباحث. كانحياز محمد عابد الجابري للعقل المغربي ضد العقل المشرقي في مشروعه “نقد العقل العربي”، حتى اضطر جورج طرابيشي لتأليف كتاب مهم بعنوان: “نقد نقد العقل العربي”. أو رهان مشاريع أنسنة المقدّس على إقصاء مطلق الدين كشرط أساس للنهضة، في مجتمع يستأثر التراث بمعظم مرجعياته العقيدية والفكرية والثقافية بل وحتى السياسية. فهي رهانات خاسرة.
المشكلة ليست في الدين كوحي إلهي، وإيمان يثري التجارب الروحية، بل في تحري مقاصده وغاياته وتوظيفه، وفهم دور الإنسان في الحياة، وقيمة العقل في تطوّره حضاريا. فثمة فهم أفقد الدين بُعده الإيجابي، وقدرته على تهذيب النفس وتنمية روح التقوى وكبح دوافع الشر. سببه فهم مبتسر لا يميّز بين القضايا المطلقة والقضايا النسبية في النصوص المقدسة. ولا يميّز بين الدين والفكر الديني، ويصر على تجريد التراث من تاريخيته والإذعان لسلطته وأحكامه. فمشكلة المشاريع الفكرية عدم تجاوزها ليقينيات مضمرة، يتأثر بها الباحث لا شعوريا، وهي على نوعين: الأول يقع ضمن فرضيات البحث. والثانية تتولد من خلاله. فتنشأ تراكمات يقينية لا شعورية جديدة. وهو أمر خارج عن إرادته أحيانا، بفعل النظام المعرفي القائم على ثقافة الفرد، فكل قراءة تخضع لإكراهات المنهج، وتستمد وجودها من ذات القبليات. وهذا لا يبرر التراخي والتحيّز المطلق. ويتطلب يقظة دائمة لتفادي الإنزلاقات الأيديولوجية.
إن حركة الفكر لا ترتهن لأي منجز، فهي حركة دؤوبة تفرضها تجدد الإشكاليات، وكيفية فهمها ومعالجتها، وما يستجد من وعي واستفهامات ملحّة. خاصة إشكاليات الفكر الديني ومرجعياته، فثمة مساحات لم تستأثر باهتمام الباحثين، رغم خطورتها المعرفية. وما زالت مقاربة النصوص وطريقة أدائها وهي تفرض حقيقتها ومحدداتها وسلطتها تنتظر جهودا تتقصى حركة النص في طيات العقل التراثي، فهو قوامه وأساس بنيته. وليست مرجعيات التفكير الديني سوى مصفوفة نصوص تتولى عملية التفكير وإنتاج المعرفة. من خلالها يفسر العقل التراثي ظواهر الأشياء، ويفرز الحق عن الباطل. خاصة الروايات الضعيفة ذات التأثير الأقوى في تزييف الوعي، وتكريس الجهل والأمية والتخلف. ولا يكفي وعي النص ظاهرا في تفكيك تلك المرجعيات وإعادة تشكيل العقل، فهو ليس مجرد نسيج لغوي، بل سلطة تستمد صدقيتها من قبليات المتلقي ومن قوة بيانه، وقدراته البلاغية والتعبيرية، وأسلوبه في توظيف المجازات داخل النسق اللغوي، وحجم الإحالات المرجعية في إيحاءاته ورمزيته وقدرته على استغفال القارئ. لذا تجد النصوص الدينية أثرى وأقدر على مقاومة النقد والتفكيك، حينما تتجدد دلالاتها مع كل مقاربة نقدية. فلا يمكن تسوية الإشكالية ما لم نفهم تقنية أداء النص، وحجم رهاناته على ثقافة الفرد وقبلياته. بهذا يتضح أهمية نقد النص ومضمراته في تسوية إشكاليات مرجعيات التفكير الديني. ولم تعد دراسة النصوص متنا وسندا كافية في زعزعة يقينيات العقل التراثي.
الفرد يتأثر بالنص رغم علمه بضعفه أحيانا، مما يعني أن مركز اشتغال النص خارج وعي المتلقي، فهو يستهدف بنية المقولات الأساسية التي يراهن عليها في وجود حقيقته. وهذه مهمة أخرى في دراسة نقد النص، تتطلب عدة معرفية، وقدرة على التفكيك والتنقيب في أعماق النص وقبليات المتلقي، وكيفية وعيه للنص، ومدى تأثير البيئة الثقافية عليه، ورصد قنوات الإرتباط، ومعادلات إشتغال النص داخلها. وهذا ما قام به كتاب: (النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعيات التفكير الديني)، فيندرج ضمن مشروع نهضوي طموح لاستعادة وعي الفرد بعد نقد العقل الديني ومرجعياته المرتهنة في معارفها لقدسية التراث وأوهام الحقيقة، بعيدا عن المناهج العلمية، والكشوفات المعرفية الحديثة. فالكتاب يلاحق البنية المعرفية للعقل التراثي، لنقد مقولاته ومضمراته ويقينياته، وتحري مدى مطابقتها للواقع، وصدقية النصوص المؤسسة لها. ولا يكتفي بالنقد والتفكيك والتحليل، بل يواصل حفره وتنقيبه في بقع معرفية مُستبعَدة ومهمّشة، تقع ضمن المتواري واللامفكر فيه، يتوقف على استدعائها فهم الواقع ومعرفة الحقيقة. وكيفية اشتغال النص وفرض حقيقته ومحدداته، خاصة التباس المقدّس بالمدنس، والديني بالبشري، بسبب التباس المفاهيم وتزوير الوعي.
إن نقد النص هو تعبير آخر عن سؤال الحقيقة، وهذه إحدى مهام الكتاب وهو يلاحق مرجعيات التفكير الديني بحثا عن مضمراتها، لفرز ما هو نسبي، وفضح مراوغات النص وتقنياته في وجود الحقيقة، لاستعادة الوعي وإعادة تشكيل العقل وفق نظام معرفي يرتكز للدليل والبرهان في معارفة وعلومه، من أجل نهضة حضارية نستعيد بها إنسانيتنا، ونستنشق رحيق الحرية، بعيدا عن سطوة التراث، وأسطرة الرموز الدينية.
لست مع متاهات التفكيك، غير أني أسعى لأقصى ممكنات الغوص في أعماق الظواهر الاجتماعية والدينية لإدراك الحقيقة، وتقديم قراءة موضوعية، تنأى عن المراكمة فوق ركام الخراب المعرفي ودوامة التخلّف. وأطمح لرؤية مغايرة وفق مبادئ عقلية متحررة من سطوة الخرافة واللامعقول وأوهام الحقيقة، ورهاب النص وقدسيته، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب. يتمثل قيم التسامح والمواطنة، ويعترف بالآخر اعترافا حقيقياً. فالمشكلة الأساس تتعلق ببنية العقل، والنظام المعرفي، ونوع المفاهيم والمقولات المؤسسة لها، وطبيعة الثقافة التي تنتمي لها. نحن بحاجة مستمرة لنقد جميع الثوابت والقناعات. فالفهم المبتسر للدين أحد الأسباب الرئيسية وراء التخلّف الحضاري، وهذا يتطلب نقد مرجعيات الفكر الديني بمنهج عقلاني جريء.
نأمل أن تكون أفكار الكتاب إضافة حقيقية تساهم في فتح آفاق رحبة لمعرفة مستنيرة، تزعزع يقينيات العقل الدوغمائي، وتجرد رجل الدين من سطوته، ليستعيد الفرد وعيه، ومكانته الحضارية.
كان هذا الكتاب ردا على سؤال عن الروايات الدينية، وطرق فرز الصحيح عن الضعيف منها. وأحسب أنه رسم صورة واضحة لدور النص وخطورته على الوعي، كمرجعية معرفية للعقل الديني، وبيان طرق اشتغاله ومراوغاته. فثمة مصفوفة يقينيات لا دليل على صدقيتها سوى روايات موضوعة، وقد ذكرت أهمها.
***
ماجد الغرباوي
1 – 7 – 2018
* مقدمة كتاب النص وسؤال الحقيقة، ماجد الغرباوي، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا وأمل الجديدة، دمشق – سوريا، الطبعة الأولى: 2018م.