شعرية الألم في رواية “مي ليالي إيزيس كُوبيا: ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفوريّة”  لواسيني الأعرج

مي ليالي إيزيس كُوبيا

الملخص:

يبحث هذا العمل في شعريّة الألم في رواية ” مي ليالي إيزيس كوبيا ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفوريّة “للكاتب والرّوائي الجزائري واسيني الأعرج. انطلاقا من تتبّعنا لحضور تجليّات الألم في النّص بدءا بالعتبات من عناوين وتصدير وإهداء وصولا إلى النّص الدّاخلي المُحايث، من خلال متابعة تجربة مي زيادة أثناء إقامتها في مستشفى الأمراض العقليّة، والكشف عن الآلام النفسيّة والجسديّة التي خاضتها مي في هذا الفضاء الأشبه بالفضاء السّجني. وهو نصّ تخييلي يُحاول أن يستعيد نصّا حقيقيّا، بمعنى (واقعي) لحقه الاتلاف والمصادرة باعتماد السّيرة الغيريّة في محاولة لإنصاف هذه التّجربة الثّرية بأسلوب روائي ليس يخلو من متعة وطرافة. بالإضافة إلى ما طرحه النّصّ من قضايا تفصّل هذه التّجربة وتكشف بعض ملامحها وأسرارها.

الكلمات المفاتيح: شعريّة، الألم، الكتابة، سيرة غيريّة، نصّ محايث (داخلي)

Abstract:

This study is about the poetics of trauma in the novel of ” May Layeli Izis Kobia: Three hundred and a night in the mental hospital hell” written by the Algerian writer and novelist, Wassini Al Aaraj. The study gradually detects the textual traumatic features running from the prelude, the acknowledgment and the thresholds to the core text that revolves around May’s prison-like experience at the psychiatric hospital and all the physical and mental pains she suffered from. The text is mainly fictional trying to restore an already confiscated and wretched one relying on biography so that we may stylistically compensate this substantial experience without forgetting to land on searing issues that are telling and revealing in regard of this experience.


1- مدخل:

تعرّف الرّابطة الدّوليّة لدراسة الألم (l’Association internationale pour l’étude de la douleur) IASP) الألم هو تجربة حسّيّة وعاطفيّة غير سارّة مرتبطة أو موصُوفة في تلف الأنسجة الفعليّ أو المحتمل، أو يتمّ وصفه بعبارات توحي بمثل هذا الضرر “. 1 أيار (مايو) 2016.

ويعرّفه دافيد لي بروتون (David Le Breton): “الألم مثلهُ مثل باقي الإدراكات الحسّية ليس تسجيلا لمُعطى جسمانيّ، وإنّما هو تأويلٌ وترجمة بعبارات حميميّة لتشوّه قاس للذّات. إنّهُ تظاهر محسُوس وخاضع للقياس، ومُندمج في شكل دلالات وحدَّة معيّنة. فالإحساس بالوجُود هو نتاج انتباه وتفكير، وهو مُصفّى عبر مقولات فكريّة، بحيثُ يعانق الجسد المعنى… بعبارات أخرى، الألم ليس فقط سلسلة من الآليّات الجسمانيّة، فهو يمسّ إنسانا مندمجا في نسيج اجتماعيّ وثقافيّ وعاطفيّ وموسوم بتاريخه الشّخصي. ليس الجسد هو الذي يتألّم وإنّما الفرد في كلّيّته. الألم هو هجمة دلالة خاصّة تحتل قلب الفرد”[1].

وأضحى في الحقيقة موضُوعا تتنازعُه مجالات شتّى، بدْءا بالطّب والجراحة، ومرُورا بالفلسفة وعلم النّفس والدّراسات الحضاريّة، وصُولا إلى تحليل الخطاب. وهو ما يجعل من موضوع الدَّرس خصبا ومتداخلا في آن. وقد عُرف مُنذ البداية باعتباره مَجَالاً حِكْرًا على الدِّراسات الطّبيّة والباتُولُوجية ومع تطوُّر العُلُوم أصْبَحَ الألمُ مَجَالاً مُشْتَرَكًا خَاصَّةً مَعَ عِلم الاجتماع الطبّي الذي وسّع من المفهُوم وَجَعَلَهُ مَجَالاً للدِّرَاسَة المُشتركة. فقرّبت المفهوم وأخرجته من دوائره الضّيّقة والمحدُودة.

وتمكّنت هذه البحوث من الخروج من الألم باعتباره تجربة مخصوصة ومعزولة إلى مبحث عام ومشترك، من خلال التّحوّل من الألم إلى دلالات الألم ومعانيه الفلسفيّة وأبعاده الاجتماعيّة وعمقه النّفسيّ. فتحول من مشكل أو مجال طبّي إلى فضاء خصب من حدود التّجربة الفرديّة المغلقة إلى مجال أوسع وأكثر رحابة.

أما الرُّؤية السُّوسيو- أنثروبُولوُجيَّة للألم فقد لخّصاـها “ميلزاك” و “وول” Melzack & Wall بقولهما: إنّ كلمة ألم تُمثّل طائفة من الخبرات المُختلفة والفريدة التي تتأثّر بقُوّة بالبيئة الاجتماعيّة الثّقافيّة التي تتضَمَّنُ مُجْمَلَ العَوَامِـل الاجتمَاعيَّة والسُّلُوكيَّة والثَّقافية (Bendelow and Williams1995a:142)[2]. فالألم شعور مقلق ومربك يمثل منغّصا مزعجا، يتجاوز حدود الجسد المتألّم العضويّ ليلامس لغة التّعبير عن هذا الألم. فإذا كانت أجسادنا تتألّم بصمت فإنّنا بحاجة إلى التّعبير عن هذا الألم الذي يظهر في أشكال مختلفة، من أنين وصياح وتأوّه وفزع. فتسترجع اللّغة حضورها بعد غيابها، لتفسّر أو تعبّر عن هذا الإحساس. ومن هنا تظهر علاقة اللّغة بالألم. فنخرج من الألم إلى التّعبير عنه، من التجربة إلى لغة الألم أو خطاب الألم.

ويمثّل الألم الجسديّ وجها من وجوه الألم لأنّ النّفس كذلك تتألم وهما يتداخلان ويتقاطعان.

فبقدر ما يظهر الألم فرديّا في الظّاهر فإنّه موصُول بالتّجربة الجماعيّة، فالمتألّم يريد أن يتواصل مع الآخرين ليخبرهم بألمه بحثا عن التّعاطف واقتسام التّجربة. وكأنّ تقاسم الإحساس بالألم أو بمجرّد الاخبار عنه تتقلّص حدّة الألم عند مشاركته مع الآخرين.

فالمتألّم يترجم أحاسيسه وفق قوّة الأـلم ودرجة تحمّل المتألّم له. فيمكن أن يبدأ بشكل تأوّه بسيط أو أنين، وصولا إلى الولولة والصراخ. فتنتقل التّجربة من فضاءاتها المحدودة، ومن عزلتها إلى مجالات أرحب وأشدّ اتساعا. فالألم عاطفة منقولة. وهو شكل من أشكال الفهم والإدراك لأجسادنا ولتفاعلنا مع الفضاءات الموصولة بحضورنا. فالألم رؤية للعالم.

ويُمثّل الألم في رواية مي ليالي إيزيس كوبيا ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العُصفوريّة من بين النُّصُوص التي قَامت على تسريد هذا الشُّعُور وإخراجه من مُجرَّد إحْسَاسٍ فرديِّ صَامِت محدُود، إلى موضُوع للكِتَابَة والتَّأليف في إهاب فنّي وأدبي أخْرَجَ البُعد الشّخْصي وحوّلهُ إلى موضُوع فنّي وجمالي بدْءا بالعَتَبَات.

2- إنشائيّة العتبة إنشائيّة الألم :

2- 1- العنوان والعنوان الفرعي:

تمثّل العتبات النّصيّة مجالا طريفا للدّراسة والتّحليل، ومن أهمّها العنوان بأصنافه سواء الرّئيسي أو الفرعي أو الدّاخلي. ويحضر الألم مفهوما واضح الحضُور في عنوان مي زيادة المُركّب ويحتلّ العنوان أهمّية بالغة في عمليّة ما قبل القراءة الفعليّة.

ما يجعلُ للعنوان أهميّة كُبرى تتجاوزُ مُجرّد التعّيينِ والتّسمية لتدخُلَ في علاقة تفاعُلٍ مع المتلقّي الأوّل، باعتبار العنوان أوّل ما يشُدّ إليه القُرّاء أو الجمهُور المُوجّه إليه العمل. “والعنوان علامة جوهريّة للمُصاحب النّصي”[3]. فهو حسب جينات(Genette) من النُّصوص المُوازية، والعنوان حسب بارط يفتحُ شهيّة القراءة، أشبه بالاسم الشّخصيِّ للأثر. ومن خلاله يتحدّدُ مصيرُ النّص ونجاحه في وظيفته الإغرائيّة. ذلك أن العنوان لا ينتمي فقط إلى البُعد الفنّي الإبداعي، بل يرتبطُ ارتباطاً وثيقا بالبُعد التّجّاري والتّسويقي. “فالعنوان للكتاب كالاسم للشّيء، به يُعرَفُ وبفضله ِيُتداولُ، يُشارُ به إليه، ويدُلّ به عليه، يحملُ وسم كتابهِ، وفي نفس الوقت يسمه العنوان – بإيجاز يناسبُ البداية – علامة ليست من الكتاب جُعلت له، لكي تدُلّ عليه “[4].

والعنوان مي يُحيل مباشرة -باعتباره الاسم الشّخصي-على كاتبة معروفة. فيكشفُ جزءا من سيرتها الذّاتية الموصُولة بشكل أو بآخر بموضُوع الألم خاصّة في فترة مرضها وبقائها في العصفُوريّة. فبمُجرّد قراءة الاسم يحضر في الذّهن ما تحمله من معاني الألم والعذابات التي عاشتها مي زيادة. تقول في إحدى رسائلها” لا أدري السّبب فأنا أكثر من مريضة إنّي لم أتألّم أبدا في حياتي كما أتألّم اليوم. ولم أقرأ في كتاب أنّ في طاقة بشر أن يتحمّل ما أـتحمّل. إنّ هناك أمرا يمزق أحشائي ويُميتُني في كُلّ يوم بل في كُلّ دقيقة. لقد تراكمت عليَّ المصائبُ في السّنوات الأخيرة”[5] من رسالة مطوّلة لابن عمّها جوزيف زيادة في 28أيلول (سبتمبر) 1935.

هذه المحنة التي تتحدّث عنها مي تُحيلُ مُباشرة على ما كانت تُعانيه من عذابات وآلام، يستحضرُها القارئ بمُجرّد قراءة العنوان. وهو ما يبعثُ في النّفسِ الرّغبةَ في الكشف عمّا وراء العنوان. لأنَّ العنوان ليس سوى عتبةٍ من عتبات البناءِ. وعلى المُتقبِّلِ أن يمُرَّ بها إلى المِعمارِ الكاملِ للنَّص. وأنْ يتفطّنَ إلى مزالق العنوان. فمنْ لا يتفطّنُ إلى العتبةِ الكُبرى يتعثَّرُ بها. ويظلُّ خارجَ النّص على حدّ عبارة سعيد يقطين[6]. فللعنوانِ مكانةٌ خطيرةٌ ومُميَّزة. فهو بمثابةِ الوجهِ الذي يُطالعُ بهِ الكتابُ مُريديه. وهو أشبهُ بالغُرّة على الجبين، لأنّهُ أوّلُ ما يظهرُ من الكتابِ. هو الذي يبقى في الذّاكرة، وأوّلُ من يتنكّرُ لمُبدعِهِ. فكثيرا ما نذكُرُ العنوان ولا تُسعفُنا الذّاكرة باسم المُؤلّف. وهو أشبهُ بالاسم الشّخصيّ الذي يدُلُّ على صاحبهِ. لذلك نجدُ عنايةً خاصّةً من الكُتّاب لانتقاءِ عناوينهم.

والعنوان في مي زيادة في الحقيقة ثلاثة لم يقتصر على واحد، وإنّما اختار المؤلّفُ أن يضيف عُنوانين فرعيين اختلفا من حيث السُّمك والخط والتّرتيب وقد وردت كالتّالي:

  • مي.
  • ليالي إيزيس كوبيا.
  • ثلاثمائة مائة ليلة وليلة في جحيم العصفوريّة.

ليالي إيزيس كوبيا اسم مُستعار لمي زيادة وشّحت به ديوانها الأوّل الصّادر باللُّغة الفِرَنْسِيّة. فلَيَالي إشَارَة إِلَى الجَانِبِ المُظْلم فِي عَلاَقَة تَقَاطُع مع اليومِيّات. وإيزيس هِي آلهة فرْعونِيّة باعِثة للحَيَاة للإله أوزيريس ووَالِدَة حُورس في صورة الأم الكامِلة خصُوبة وجمالا. ” رُبّما كان اسم الآلهة يعني العرش ويكتب بعلامة مشابهة لتلك التي تضعها على رأسها. وعلى ذلك فمن المُمكن أنّ إيزيس كانت في الأصل تجسيدا للعرش. وكانت ذات معنى خاصّ بالنّسبة للملك [كذا…] باعتبارها أمّهُ الرَّمزية… وكانت إيزيس تُعبَدُ بِصِفَتها “عظيمة السّحر” التي أضفت الحماية على ابنها حورس من الثّعابين والحيوانات الضّارية والمخاطر الأخرى. وعلى ذلك فإنّها تقُوم بحماية الأطفال أيضا”[7]. وهو ما يكشف بعض العناصر والأبعاد الرّمزيّة الموصُولة بدلالات الأمومة والخصوبة والحماية. بالإضافة إلى الطّابع المُلوكي للاسم والفخامة التي ترتبط بالعرش وبالسّلطة الرّمزية، وتُحيل على مكانة مي الأدبيّة والاجتماعيّة.

فكتابة اللّيالي تمثّلُ ضربا من ضروب التنفيس لمواجهة الألم والشّفاء ممّا استبدّ بالنّفس من وجع وآلام، يذكرنا هذا القول بخطاب عبد الفتاح كيليطو ودور اللّيالي ثلاثمائة ليلة وليلة في عمليّة شفائه وهو طريح الفراش، يقول “والحال أنّي بقدر ما كنتُ أقرأ ويمضي الوقتُ، تتحسّن حالي. ولمّا بلغتُ الصّفحة الأخيرة، شُفيتُ تمَامًا. وَكَأنَّ للأدَبِ فَضِيلَة عِلاَجيّة. فإنّ لم يكُن يُشفي أمراض البدن، فهو يُسكّنُ آلام النّفس. هذه إحدى تيمات كتاب اللّيالي أميل إلى الظّنّ أنّني استعدت الصّحة بفضل شفاعته، بفضلها هي أيضا، الزّائرة الغامضة التي نسيته عند رأس فراشي”[8].

هكذا تتحوّلُ الكتابة إلى ضرب من ضُرُوب البحث عن علاج، سواء بالقراءة كما ذكر كيليطو، أو بالتّدوين. فعندما نحوّلُ أوجاعنا إلى حبر تمتصُّ الورقة تلك الآلام، وتتحوّل المُعاناة إلى نصُوص طافحة بدلالات التّخفيف والتّنصل من أتعاب وأوجاع مُلتصقة بالنفس، فلا سبيل إلى تجاوزها إلّا بالكتابة دواء متاحا في ظلمة الليالي وجحيم المكان.

وكوبيا المُكون الثّاني للاسم المُستعار، بمعنى زيادة باللّغة اللّاتينية. وفيه معنى النّماء والخصوبة، وكأنّها بهذا الاسم المُركّب تُعدُّ نفسها في ديوانها الأوّل المعنون بــ “زهرات الحلم” كي تنهض بهذا الدّور القادم، باعتبارها مؤسّسة لدور مركزي في المجال النّسوي، انتصارا لقضايا المرأة، ودفاعا عن دورها الاجتماعي في ظلّ مجتمع ذكوري لا يؤمن بمكانة المرأة ولا يراها فاعلة في المجتمع، ناهيك عن دورها في النّهضة العربية والحضاريّة عامّة.

2-2- العنوان الفرعي الثالث:

  • ثلاثمائة مائة ليلة وليلة في جحيم العصفُوريّة.

فيه إحالة على الّليالي التي قضّتها مي في مُستشفى العصفوريّة، بالإضافة إلى كتاب ثلاثمائة ليلة وليلة. وقد وُسمت بالجحيم، ليكشف العنوان منذ البداية إحالة النّص على الليليّات جنسا كتابيا. ففَضَاء العُصفُورية فضاء سرْدي ارتبط به النّص، وكشف تنوّعا أجناسيّا ملحوظا. وبيّن بوضُوح المحنَة والمُعَانَاة التي كَانَت مي زيادَة قدْ عَانتها في العصفُوريَّة، مُعتبرة الإقامة جحيما. ومن معاني الجحيم النَّار والعذاب. وقد جاء في اللّسان مادة جحم وأَحْجَم الرجل: دَنا أَن يُهْلِكَه. والجحيمُ اسم من أَسماء النّار.
وكلُّ نارٍ عظيمة في مَهْواةٍ فهي جَحِيمٌ، من قوله تعالى: قالوا ابْنُوا له بُنْياناً فأَلْقُوه في الجحيم. ابن سيده: الجحيمُ النارُ الشديدة التأَجُّج كما أَجَّجوا نارَ إبراهيم النّبيِّ، على نبينا وعليه الصّلاة والسّلام، فهي تَجْحَمُ جُحوماً أي توقَّد توقُّداً، وكذلك الجَحْمةُ والجُحْمةُ؛ قال ساعدة بن جؤية: إنْ تأْتِه، في نَهار الصَّيْفِ، لا تَرَهُ إلاَ يُجَمِّع ما يَصْلى من الجُحَمِ ورأَيت جُحْمةَ النارِ أي توقُّدَها”.

و َانْفَتِحُ النّصُّ عَلَى أجْنَاس كتابيَّة مألُوفَة لمْ تَلْقَ عِنَايَةً مِنْ النّقاد والمُهتَمِّين، وَهي اليوميّات. إذ يستدعي العُنوانُ مع تَغيير طَفِيف من اليَوميَّات إلى اللّيالي. وورد في مُعجم مَصْطَلَحَات الرّواية فِي تَعْرِيف مُصْطلح اليوميَّات مَا يَلِي “خواطر ووقائع ومشاعر وأخبار يُدوِّنُها الكَاتبُ، يوْمًا بعد يوم، ولا يجمعها سوى اندراجها في مجرى يومه. وقد ظهر هذا اللّون في أوروبا في القرن الثّامن عشر استجابة لميل مُتزايد عند الفرد للنّظر في نفسه. تستجيب اليوميّات لحاجة كاتبها إلى فحص الضّمير، أو الاحتفاظ بذِكْرَيات يُهدّدها الزّمان والنّسيان… وقد جعل منها الكتاب مُختبرا لتجْريب أشكال جديدة من الكتاب ” [9] و هو ما يصلُ النّص بجنس معلُوم، وينفصلُ عنهُ في الوقت نفسه. ليؤسّس لخصُوصيّة وفرادة في علاقة فاصلة واصِلة.

  • التصدير مظاهر الألم:

أيكفي أنْ نُحبّ شيئا ليصير لنا؟ رغم حبّي اللاّفح، أراني في وطني تلك الغريبة الطّريدة التي لا وطن لها “.

مجلة الهلال تشرين الأول (أكتوبر) 1922. [10]

Tu me dis, Dieu a pitié des affligés, dieu est bon etc… Parlons-en à ton Dieu qui laisse pourrir une innocente au fond d’un asile Camille Claudel 1934[11]

يُمثّل التّصدير (Epigraphe) في الرّواية ظاهرة مُتواترة ومُطّردة، خاصّة في أعمال واسيني الأعرج. وهو ما يَسِمُ النّص بحواريّة تجعلُ من فضاءات الكتابة فضاءات مُتداخلة. فنصُّ التّصدير طيّع بالضّرورة ينقادُ إلى المتن يعضُده ويفي ببعض حاجاته. والاستشهاد كما ذكر أنتوان كمبانيون (Antoine compagnon.)” حركة ثقافيّة تقيم علاقة بين نصيّن ” أو تمسّك بعزلة النّص أو هو “جراحة تجميلية، ومن المُؤلّف” طبيب التّجميل والجرّاح والمُعالج “الذي يشُدّ بدبّوس قطعا مُختارة للتّزيين ويلحمها بجسد نصّه. ومع الدّقة في الإنجاز تصبحُ النّدبة (المزدوجتين) – وهنا في نصّ مي زيادة -الكتابة بخطّ سميك – ليست مجرّد زخرف إضافي يدُلُّ على تماسّ قوي وعلى دعوة حارّة للتّعارف”[12].

أ- التّصدير الأوّل: “أتمنّى أن يأتي بعدي من يُنصفُني”

يمثّلُ قولا مسندا إلى مي زيادة. ورد تعبيرا مُباشرا تتمنَّى فيه الإنصاف، في إشارة واضحة إلى الإحْساس بالظُّلم والرّغبة في استعادة حقّ مسلُوب. وكأنّ المُؤلّف بشكل من الأشكال، يُحيل على النّص، وأقصُد نصّ الرّواية الذي كشف التّصدير عن بعض دوافع التأليف. وهو إنصاف الكاتبة (والمُنصف اسم الفاعل بحركة كسر فوق الصّاد) هو المؤلِّف الذي اختار أن يقُوم بهذه المُهمّة، أو على الأقل يُحاول أن يُعيد هذا الحقّ حتى تسترجع مي جُزءا من حضُورها الذي سُلب منها.

فهذا النّصّ استجابة لصرخة مي المُدوّية، وسعيا من المؤلّف إلى تلبية هذا النّداء. وكأنّه ضربٌ من ضروب ردّ الاعتبار. أشبه بعلاج الألم لهذا الجسد المكلُوم، ولو بعد موتها. وهو ما عرفناه لا حقا، في كُلّ الحوارات التي سمعناها من المُؤلّف صرّح بها في الرّد على بعض التّساؤلات في مواقع التّواصل الاجتماعي، من قبيل ردِّه على بعض التّعليقات حول الرّواية. يقُول ” لقد ظُلمت مي كثيرا وغِنى حياتها كان الأساس في نجاح الرواية. “إذ يرى الكاتب أنّ غنى حياتها هو الذي قاد الرّواية إلى نجاح منقطع النظير[13]. ومن هنا يحتلّ المُؤلّف -والكاتب بعض صُور حضُوره – مكانة مركزيّة موصُولة بدوافع التّأليفّ، ولها بالنّص صلةٌ ورابطةٌ متينةٌ تنفتحُ على الدَّاخل النّصي، وكُلّ ما جاءت به الرّواية من دلاَلات ومعانٍ، وكذلك على الخارج النّصي الذي يستدعي سيرة مي، وما كانت تعانيه في حياتها الحقيقية. لذلك فالتّصدير ليس مُجرّد نصّ صغير يقفُ قبالة النّصّ الكبير (الرّواية)، وإنّما ينهضُ في تقديرنا في هذا النّصّ بوظيفة بارزة وأساسيّة، كشفت دورا رئيسيّا للكاتب، وفضَحَت حضُوره الخفيّ. وكشف مدى ارتباط النص بدلالات الألم والانكسَار.

ب – التّصدير الثّاني:

قول منسوب إلى “مي”، كذلك موصُولٌ بمعاني الغُربة. وهي ليست غُربة في المكان وإنّما غُربة مُختلفة تستدعي بوضوحُ ما ذكره التّوحيدي في الإشارات الإلهية، وتتقاطعُ مع بعض دلالاته ومعانيه. فإذا بنصّ التّصدير لا يستدعي النّص الآخر بقدر ما ينشئ علاقات وصلات جديدة تنفتح على التّراث وتجعل النّص موصُولاً بعُمْق تَاريخِيّ وحضاري، دُون أن يفقد النّص الأصلي جذوة حضُوره. وتظلُّ معاني الغُربة مُنغَمِسَة فيما تُعَانِيه الذَّات من آلام نفسيَّة وانكسارات عاطفيَّة موصُولَة بِحَالَة الاكتئَاب وَالوَجَع َتُعانِيه الشّخصيَّة في علاقة تَقَاطُع واستدعاء لتجارب وكتابة ألميّة متشابهة إلى درجة التماثل. يقول: “وأين أنت عن غريب لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان قد عَلاهُ الشُّحوب وهو في كِنّْ، وغلبه الحُزن حتى صار كأنه شِنّ. إن نَطَقَ نطق حزنان منقطعاً، وإن سَكَتَ سكت حيران مرتدعاً، وإن قَرُبَ قرب خاضعاً، وإن بَعُدَ بعد خاشعاً، وإن ظَهَرَ ظهر ذليلاً، وإن توارى عليلاً[14]“.

  • وهو استدعاء يجعلُ النّصّ محكُومًا بالتّعدُّد الصّوتي البولوُفُوني، يقُوم على ضرب من التَّعالق مع تَجْرِبَة ضارِبَة في القدم تُحيلُ عَلَى مَعَانِي الغُربَة الذّاتيّة والدّاخليّة باعتبارهَا شُعُورًا خَانِقًا يبدّدُ الطُّمأنِينَة ويبعثُ على معاني الألم والانكسَار.
  • وهذا التَّشابهُ الكبير بين النَّصين إنّما يكشف عن تعالُق وحُضُورٍ بيّن لمعنى الألم في عمليّة الاختيار والتّوجيه، نحو تصور يرى في الغُربة مفهوما طاغيا ومؤثّرا في النّص المُحايث، يشي به ويُحيلُ عليه ويجعل منهُ مَدَارًا لِلْكِتَابَةِ وَالتّأليفِ، مِن ذلك عنوان الفصل الدّاخلي. “مريمتك أنا يا الله لماذا تخلّيت عني “[15].

ج- التّصدير الثالث:

ورد باللُّغة الفرنسيّة موصُولاً بإحالة مُتَرْجَمَة فِي الهَامِش مِنْ صُنْع المُؤلّف يَطْرَح فِي شَكْل حِوَار تغيب فيه أطرافه أو لا تظهر بوضُوح بين صوتين، صوت أوّل لذات مخاطبة تُوجِّه ُسُؤَالاً إنكاريا عن مفهوم العدالة الإلهية والإنصاف والطّيبة، موسوم بثلاثة نقاط تتابع تُحيل على أنّ الكلام متواصلٌ. ثم يتحوّل السّؤال في شكل تأنيب ليس يخلو من جرأة وتحدّ للأقدار حول حالة من يترك البراءة تتعفّن في ملجأ المجانين.

وهو ما يُحيلُ مُبَاشَرَةً عَلَى سِيرَة الرّسَّامة والنَّحاتة الفرنسية كامي كلوديل (Camille Claudel)، في استدعاء واضح لتقاطع السّيرتين وخوض تجربة الجنون والمرض النّفسي الذي عانته. كما عانته مي زيادة. فمفهوم الجنون في حدّ ذاته لا يخلو من اضطراب وتداخل شديدين بسبب ارتباطه بمجالات شتّى. لعلّ أهمّها الطّب وعلم الجراحة وعلم النّفس والفلسفة. فتجربة المصحّ العقلي أو العصفوريّة تعدّ فضاء موصُولا بحالات الفُصام، يكشف بوضُوح أوجاع الذّات وآلامها وانْكساراتها.

ويرتبطُ الجنون بعوالم الذّات المريضة وما تُعانيه من عذاب وألم وانكسار، في تقاطُع واضح رسم ملامحه المؤلّف بأن جعل السّيرتين كامي كلوديل ومي زيادة في حالة تقاطُع وانسجام وتآلف بين ما عاشته الرّسّامة والنّحاتة الفرنسيّة وما عاشته مي زيادة الكاتبة العربيّة.

ومن عناصر التّقاطع ما ذكر واسيني الأعرج في مقال له يكشف هذه الصّلة والرّابطة، يقُولُ وَاصِفًا مَا وَصَلت إليْهِ كَامِي بقولهِ “فقد اتّفق رودان مع أمّ كامي كلُوديل وأخيها الشّاعر والدّبلوماسي، وأُدخلت إلى مستشفى الأمراض العقلية، فمكثت هناك حتّى الموت، بعد أن فشلت كُلّ محاولات إنقاذها. فقد كان رودان السّبب الرّئيس الذي يتخفّى وراء مأساتها التي لم تمنحها أيّة فُرصة لاستعادة جهُودها وموهبتها. لا شاهد اليوم على مأْساتها إلاَّ رسائلها التي كتبتها لعائلتها، أو للمسؤُولين في الدّولة المُشرفين على الفنّ، الذين تواطؤُوا مع رُودان وأغمضوا عيونهم على آلام كامي كلوديل. تشكَّت كثيرا من هذه الغطرسة والإهمال الإدارييّن، دون أن تتمكّن في فرض رؤيتها واستمالة عطف الآخرين “[16].

وتُعاد التّجربة نفسها مع مي زيادة، التي أدخلت العصفوريّة بتواطؤ من ابن عمّها الطّبيب جُوزيف زيادة مع بعض أفراد العائلة، بعد أن تعكّرت حالتها النّفسية إثر موت والدها وجبران ووالدتها في فترات قريبة. ومثّل ذلك جُرْحًا نَازِفًا لاَ يَنْدَمِل، وَشَكْلًا من أشكال الإقصاء المُتَعَمِّد (نُشير هنا إلى انقسام النّاس بين مُدافع ورافض لمرض مي وبين واثق ومؤكّد). المهمّ أنّ السّيرتين تتقاطعان بشَكل لافتٍ وَقَد أَحَال المُؤلّف على هذا التَّقاطع من خلال نصّ التّصدير الذي “انفتح على الآخر الغربي الذي يسكنُ الذّات “ولكنّهُ أحال على رؤية وموقف يُحيلُ على أحداث داخل النّص وخارجه، بدْءا بالعنوان الفرعي” جحيم العصفوريّة، وصولا إلى الفصُول الدّاخليّة للنّص الموصُول بحالات الآلام والفواجع التي تعاني منها الشّخصيّة.

3- الألم في النّص المحايث:

يظهر بجلاء خاصّة في الفصل الأوّل المعنون بـ “غيمة النّاصرة” يقولُ ” أتساءل أحيانا إذا لم تكن حياة مي، جُزْءا من حياتنا العربيَّة المقهُورة اليوم، ومطيّة لنكُون شُركاء في زمن بدأته هي، وجيلها، بشجاعة وسط ذكُورة متسلّطة خرّبتها الحُروب والهزائم والخيانات المُتعاظمة، و أـتممْنا نحن كلّ بؤسه، بل مدّدناه أكثر بدل كسره، ومنحناه كل سُبل الاستمرار المتخلّف والمتطرّف أيضا[17]“.

هذا النّصّ يَكشفُ بِشكْل واضح صوتَ دَلاَلاَت الأَلَم الفرديّ والخَيْبات الجماعيَّة التي وصلت سيرة مي بسيرة أمَّة وشَعْب. وَالغَايَةُ من النّص الذي لا يقتصرُ عَلى مُجرّد سِيرَة غيريَّة، إنّما هُو نَصّ ينتصرُ لمنظُومَة القيم الإيجابيَّة، يصدُرُ عنْها النّص موصُولاً بنبرة ليْسَت تخلُو من بُعْدٍ نقديّ للوضْع الاجتماعي الحضاري وَصَلَت إليه المُجتمعات العربيّة.

إذ تشكّلُ سيرتها طوق نجاة يُمكن استثماره واستلهامه لتلمّس الطرّيق نحو الخلاص. فالنّص فيه كشف واضح لملامح المُجتمع العربي، وما يُعانيه من هزائم وانكسارات وذكوريّة مقيتة تضعُ النّصّ في مصاف النُّصوص الجندريّة المُنتصرة للْحَرَكَة النّسويّة، باعتباره نَصّا مُنْتصرا لقيم المُواجهة للسّائد والمألوف. فهو نصٌّ مقاوم لفكر الذكورية، وفيه انتصارٌ لمعاني الحُرِّية، يتساوقُ مع ما كانت تُنَادي به مي زيادة في حياتها. فأضحت من بين الأصوات المُلهمة لأغلب الحركات النّسويّة في العالم.

وبدا العمل يُطلّ برأسين، وينظر باتجاهين مختلفين، الأول موصُولٌ بِجُزْء من سيرة الكاتبة والأديبة مي زيادة باعتبارها سيرة مشُوبة بالكثير من الأسئلة والقضايا تنْضَحُ أوجاعا وآلاما. والثّاني ينفتحُ على البُعد الحضاريّ، والجانِب النَّقدي، الذي يُوَجِّه النَّص ويَسِمُهُ بالبُعد النّقدي، يكشف وضعا متوتّرا أمام وضع قائم يروم تجاوزه إلى وضع أفضل. وهو ما يحضر فيه معاني الألم حضُورا لافتا.

ويحيلُ النّص الرّوائي أساسًا من خلال عمليَّات تراكُميَّة مُتنوِّعة على دلالات وقيم مُختلفة ترسم ملامح النّصّ وتفضح عُمقه الإيديولوجي الذي يحتاجُ إلى إنعام وتفحُّص لكشف ما يحمله من أفكار. ولكنّ هذه الأفكار تظلّ دائما محكُومة بما يُحيلُ عليه. هي رؤى حمّالة للدَّلالات والمعاني، كاشفة لمنظُومة القيم يصدر عنها النّصّ. إذ لا يُمكن قراءة الواقع من منظور واحد. هو أشبه بمُفترق طرق للمعايير والقيم المتداخلة والمتشابكة… ويتمثّلُ دور الرّوائي في تفكيك وتفصيل هذه التَّقاطعات واختزالها إلى عناصرها العميقة والأساسيّة[18].

منظومة القيم ليست دلالة جاهزة معطاة سلفا. ولكنّها مسار دلاليٌّ يتشكّلُ عبر نفاذنا إلى عمق النّص. فهو “سيرورة لإنتاج الدّلالة ونمط في تداولها واستهلاكها، إنَّها تصوُّرٌ مُتكامِلٌ للعالم”[19].

ويظهر فيه الألم موجّها لوظيفة النّص، داعما للقراءة الوظيفيّة، فلا تُقدم سيرة ممتعة فحسب. فمي زيادة أقصد الرِّواية من بيْن السّير الغيريّة المُميِّزة، لم يقتصر فيها النَّصّ على مُجرّد التّخييل بتقديم الحسن والممتع، وأقصد الجانب الترفيهي في القراءة، والمتعة يُقدّمها النّص الرّوائي. وإنّما في تقديري والرّهان الأكبر تحقيق المُعَادَلَة بين الإمتاع والمؤانسة بتعبير القدامي. بمعنى الحسن النّافع والمُمتع المُفيد تُقدِّمُ فيه الرّوايةُ “المعرفة” بالألف واللاّم، رواية تحفُرُ عميقا في المناطق المُعتّمة من سيرة كاتبة. وتُقدِّم معلومات دقيقة. والأهم، القيمة التي يبشّر بها النّص. وهي قيمة الإنصاف، وتحقيق رغبة ونداء صدحت به مي في حياتها باحثة عمّن ينصفُها. أرى أنّ النّص قد أنصفها إلى حد ما على الأقل بفضح المُؤامرة التي حيكت ضدّها. فتجاوزت الرّواية وظائفها القديمة لترسُم، أو على الأقل، لتُبشِّر بوظائف جديدة هي ردّ الاعتبار لكتاب. وتحديدا لامرأة ولدت في مجتمع ذكُوري أبوي مُتسلِّط. وحتى موتُها ظلَّ لُغْزا مُحَيِّرا ؟؟؟

ولكنّ هذه الدَّلالة تظلُّ محكُومَة بعَوَاملِ التَّعدّد. “فالنّصّ عندما يتخلّص من إرغامات المحفل المُبدع يُصبحُ في حِلّ من أمره، ويُسلّم حينها نفسه لحركيّة تأويل لا تتوقّف عند حدّ بعينه” [20]. ويذكُرُ الكاتبُ في حوار جَمَعَنِي بَهِ عَلَى صَفَحَات التَّواصُل الاجْتِمَاعي، تطرّقنا فِيهِ إلى وَظِيفَة الكِتَابَة، فَكَان جوابُهُ “لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ ثمّ كيف نكتب؟ والأسئلة الثلاثة تصبّ في معين واحد: مأساة الإنسان في مواجهة قدر ليس سهلا وليس عاديا. لماذا نكتب؟ لأنّنا نُريد أن نقول شيئا؟ أن نصوغ سُؤالا داخل زمن يتحرّك بسرعة جنونية؟ لمن؟ لأنّنا نفترض باجتماعية الإنسان. أي أنّنا نحتاج إلى شريك حقيقي يقاسمنا الحالة، نتجادل معه ليس لإقناعه، ولكن ليستمع إلينا ونستمع إليه. وخلق جسور هي نفسها جسور الحياة. هنا يأتي سؤال الكيف. نكتب لأنَّنا نؤمن بأنَّ الكتابة ليست رسالة ترمى في الهواء، ولكنه قيمة جمالية تربي في القارئ وفينا ذائقة ما، تجعل من المنجز الأدبي متعة بالدّرجة الأولى، ورحلة داخل برنامج سردي، فيه من الحنكة ما يأسرنا، إذا كان العمل ناجحا طبعا.

لذلك تظهرُ من خلال النّص المُحَايث ما عانته مي من العائلة، ومن المُجتمع، ليرسُم معالم نصّ يدخل في أغوار الذّات البشريّة وينفتح على المجتمع الذُّكوري الذي لم يرحم من تجرأ على بعض ثوابته، فأخذ يُكيل لها التهم. ولعلّ تجربة الاتهام بالجنون ترسم ملامح هذه الرحلّة القاسية.

تقولُ مي في حوار مع إحدى الشَّخصيّات “في الشّرق ازدواجيّة كبيرة هي رهينة ثقافَة فيها الكثير من النّفاق والخوف من كلّ ما هو جديد، هو حداثيّ ومنفتح على الحياة، ولكن في الوقت نفسه يحافظ على رجل الدين الخفيّ، يتحكّمُ في كلّ حياته يلاقي ما لا يلاقي، لأن لكلّ واحد مسلكه، لهذا في لحظة من اللّحظات فكّرت أغلق الصّالون نهائيّا” [21]. وهو موقف موصول بتصوُّرات الكاتب ورُؤيته، ومُحاربته التّخلف والنِّظرة الأحادية المُغلقة للمجتمع. بدا منذ أعماله الأولى في حروبه ضد التطرف والإرهاب منذ سيّدة المقام وشرفات بحر الشمال، يقول متحدّثا عن رواية مي زيادة” مأساة كاتبة. لا تشبهها إلّا مأساة النّحّاتة الفرنسيّة كامي كلوديل، التي دفع بها أخوها وأمّها وصديقها النّحات الفرنسي الكبير رودان، نحو مستشفى المجانين، وبقيت كامي هناك أكثر من نصف عمرها، حتى وفاتها. يبقى سرّ ليالي العصفوريّة مُعلقا في الفراغ. وهو نصّ سيكشف عن حقيقة هشاشة مي، ولكن أيضا جرأتها في قول الحقيقة عارية حتّى ولو اضطرت إلى دفع ثمنها غاليا، الموت في عُزلة أو الاعتداء والقتل؟”[22].

 وانتهى الأمر باختبار عقلها في محاضرة ألقتها في الجامعة الأمريكية، بيروت: رسالة الأديب إلى الحياة العربيّة، قدّمتها في ويست هول يوم 22 مارس 1938 انتصرت فيها للعلم والنّور والثّقافة ولرسالة الأديب النّبيلة.

وهو ما كشف عنه الفصل الأخير المعنون بـ “هي لم تمت ولكن شُبّه لهم” فيُشبِّهُها بالمَسيح ويتساءل بحُرقة كيف لشخصيّة مرمُوقة مثل مي أن تكُون جنازتها بهذا الشّكل. فقد حضر في جنازتها ثلاثة أشخاص خليل مطران وأنطوان جميل، لطفي السيد. ويصرّح واسيني الأعرج في لقاء مسجّل على قناة اليوتيوب كاشفا العَلاَقَة التي تصلُهُ بالنّص وبمي تحديدا يقولُ: “جدوى الاهتمام بمي زيادة هو أنّنَا جميعا أو أنا شخصيّا أراني فيها وأرانا فيها داخل سياقات متشابهة، فكلانا يُحَاول أن يجعلَ هذه الحداثة التي تكتبها مي زيادة شيئا ملموسا. أشعر أنّها تُحدّث عني وتكتُبني.

خرجت من سجنها بفضل قوّتها التّعبيرية، إذ حضر القضاة والمحامون محاضرتها واستغربوا كيف لامرأة بهذا المستوى العقلي أن تتّهم بالجنون، عادت بعدها إلى القاهرة في 1939 وقطعت كل علاقاتها القديمة، واعتزلت الناس.

ولأنّها كانت تريد أن تثبت رجاحتها العقلية، استجابت لدعوة الجامعة الأمريكية في يوم الاثنين 20 يناير 1941، ألقت محاضرتها «عشّ في خطر، للآنسة مي» على السّاعة الخامسة والنّصف، بالقاعة الشرقية، وحضر حشد كبير من الناس ساقه العلم والفضول أيضاً، بعد أن أصبح جنونها مشاعاً في الوسط الثقافي[23].


قائمة المصادر والمراجع:

المصادر:

  1. الأعرج (واسيني)، مي ليالي إيزيس كوبيا. ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية لبنان. دار الآداب 2017.
  2. الأعرج (واسيني)،مي ليالي إيزيس كوبيا. مصر. بردية للنشر والتوزيع. ط2، 2018.

المراجع العربية :

  1. برّادة (محمد)، لُعبة النّسيان، الرّباط، دار الأمان، 2003.
  2. بارط، (رولان)، أسطوريات، أساطير الحياة اليومية، ترجمة قاسم المقداد، دمشق دار نينوي للدّراسات والنشر والتّوزيع، 2012.
  3. بالعابد (عبد الحقّ)، مكوّنات المنجز الروائي تطبيق شبكة القراءة على روايات محمد برادة، رسالة دكتوراه جامعة الجزائر، كلية الآداب واللّغات، 2007/2008، (مخطوط (.
  4. بالعابد (عبد الحقّ)،عتبات: جيرار جينات من النّص إلى المناص، مُقدّمة كتاب عتبات. بقلم سعيد يقطين بيروت، الدّار العربيّة للعلوم، الجزائر، منشورات الاختلاف 2008.
  5. بينيت (أندرو) المؤلف ترجمة، سرى خريس، أبو ظبي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث 2011.
  6. بنكراد (سعيد). السيميائيّات والتّأويل، مدخل لسيميائيّات ش. س. بورس، الدّار البيضاء، المغرب، المركز الثقافي العربي، 2005.
  7. التوحيدي (أبو حيان)، الإشارات الإلهية، تحقيق عبد الرحمان بدوي، بيروت، دار القلم، 1981.
  8. الجزّار (محمد فكري)، العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي، القاهرة، الهيئة المصريّة العامة للكتاب، 1998.
  9. الدّاهي (محمد): شعريّة السيرة الذهنية، الدّار البيضاء، فضاءات مستقبليّة، 2000.
  10. زيتوني (لطيف)،معجم مصطلحات الرواية، لبنان، مكتبة ناشرون 2002.
  11. الزاهي(فريد)، النص والجسد والتأويل، الدار البيضاء، أفريقيا الشرق،2003.
  12. عبد الحميد (شاكر)، عصر الصّورة، سلسلة عالم المعرفة العدد 311، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون، 2004.
  13. عبيد (كلود)، الألوان، (دورها، تصنيفها، مصادرها، رمزيتها، ودلالاتها) بيروت، المؤسّسية الجامعيّة للدراسات والنّشر،
  14. العروي (عبد الله)، مفهوم الحرية، المغرب، المركز الثقافي العربي،2015.
  15. عزّام (محمد)، شعريّة الخطاب السّردي، دمشق، منشورات اتحاد الكُتّاب العرب، 2006.
  16. فوكو (ميشيل)، القصة، الرواية، المؤلف، ترجمة خيري دومة، ص 207، دراسة في نظرية الأنواع الأدبية المعاصرة، فصل المؤلف، القاهرة، دار شرقيات للنشر والتوزيع،1997.
  17. فوكو (ميشيل)، الكتابة والتناسخ مفهوم المؤلف في الثقافة العربية. ترجمة عبد السلام بنعبد العالي بيروت لبنان، دار التنوير للطباعة والنشر1985.
  18. كيليطو (عبد الفتاح). الأدب والغرابة. بيروت، دار الطليعة 1997 الطبعة3.
  19. لوكر (مانفرد)، معجم المعبودات والّرموز ترجم صلاح الدين رمضان القاهرة، مكتبة مدبولي، 2000.

المراجع الفرنسية :

  1. Barthes(Roland), Mythologie; Paris, seuils ;1947.
  2. Barthes(Roland), La mort de l’auteur (1968), Le Bruissement de la langue, Paris, Éd du Seuil, 1984 ; réédition coll. «Points».
  3. Compagnon(Antoine), Le Démon de la théorie. Littérature et sens commun. Éditions du Seuil, mars 1998.

المجلات والجرائد والمواقع الإلكترونية:

  1. الأعرج (واسيني). هل ماتت ميّ زيادة مقتولة في القاهرة؟ القدس العربي السبت 2 يناير 2018.
  2. بنكراد (سعيد). الصُّورة بين وهم الاستنساخ واستيهامات النّظرة، من موقع: http://www.saidbengrad.net/ar/image.htm.
  3. بن حميد. (رضا)، عتبات النّص في حدّث أبو هريرة قال، الجزائر، مجلة، الخطاب، العدد 18، 2014.
  4. كامي كلوديل في مواجهة ذكورة الظلم، الجمهورية، 12/02/2018.

[1]– دافيد لو بروتون. تجربة الألم بين التحطيم والانبعاث، ترجمة فريد الزاهي، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر. 2017. ص59

[2]– حسني إبراهيم عبد العظيم، الألم الإنساني (رؤية مغايرة) (1)، https://mana.net/archives/1237.

1- الخطاب المُوازي للقصيدة العربية. نبيل منصر المغرب دار توبقال للنشر 2007، ص40.

[4]– محمد فكري الجزّار، العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي، القاهرة، الهيئة المصريّة العامة للكتاب،1998،ص 15.

[5]– خالد محمد غازي. مي زيادة سيرة حياتها وأدبها وأوراق لم تنشر. القاهرة. ناشرون وكالة الصحافة دار الكتب المصرية 2015.

[6]– مقدمة كتاب عتبات لـ عبد الحق بالعابد بقلم سعيد يقطين، ص15.

[7]– مانفرد لوكر، معجم المعبودات والّرموز ترجم صلاح الدين رمضان القاهرة، مكتبة مدبولي،2000، مصر القديمة،ص67.

[8]– عبد الفتاح كيليطو، أنبئوني بالرؤيا، المغرب، دار طوبقال للنشر، ص8.

[9]– لطيف زيتوني، معجم مصطلحات الرواية، لبنان، مكتبة ناشرون، 2002، ص179.

[10]– ليالي إيزيس كوبيا ص7، نص التصدير.

-[11] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[12]-Antoine Compagnon, La seconde main. Éd du seuil 1979, P3.نقلا عن نبيل منصر الخطاب الموازي. ص56.

[13]– طبعت في خمس دور نشر طبعات متتالية سنة 2018 ولم يمُر على صدُورها أشهر.

[14]– التوحيدي، الإشارات الإلهية، تحقيق عبد الرحمان بدوي، بيروت، دار القلم، 1981. ص89.

-[15] الرواية ص52.

[16]– واسيني الأعرج، كامي كلوديل في مواجهة ذكورة الظلم، الجمهورية،12/02/2018. رابط المقال:

https://www. eldjoumhouria.dz/rai.php?Art=36048

[17]– الرواية. ص 160.

[18]– Philippe Hamon. Texte et idéologie,. Paris. P. U. F. 1984. Pp.220.

[19]– سعيد بنكراد، السيميائيّات والتّأويل، مدخل لسيميائيّات ش. س. بورس، الدّار البيضاء، المغرب، المركز الثقافي العربي، 2005، ص27.

[20]المرجع نفسه،ص33.

-[21] مي، ليالي إيزيس كوبيا، ص122.

[22]– واسيني الأعرج، هل ماتت ميّ زيادة مقتولة في القاهرة؟ القدس العربي السبت 2 يناير. 2018.

[23]– من مقال لواسيني الأعرج بعنوان أهي مجنونة؟ من موقع الرواية الرابطhttps://www.alroeya.com/119-86/2196256-%D8%A3%D9%87%D8%B0%D9%87-%D9%85%D8%AC%D9%86%D9%88%D9%86%D8%A9

 تاريخ الدخول 12/02/2021.

مقالات أخرى

تعدّد الطّرق الصّوفيّة

جماليّة التّناصّ في الشّعر الصّوفيّ

“زيارة” الضّريح بإفريقيّة مطلع العصور الوسطى

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد