الملخّص:
يتناول هذا المقال جدلية الحضور والغياب في كتابة المراهق، مستمدّا مشروعيّة الحديث عنها من طبيعة بنياته الذّهنيّة والشّعوريّة والسّلوكيّة. فما يحضر في كتاباته سواء في فضاء مؤسّسته التّعليميّة أم في مواقع التّواصل الاجتماعي جعلنا نقف عند حجم الغائب فيها، ومن ثمّة كشف العوامل الثّقافيّة والتّربويّة والدّينيّة والسّياسيّة الموجِّهة لها. ولتحقيق قدر من العلميّة في هذه الدّراسة، انتقلنا إلى بعض المؤسّسات التّعليميّة، وزرنا بعض مواقع التّواصل الاجتماعي، وقدّمنا استمارة لثلّة من مراهقينا من شأنها مساعدتنا على معاينة كتاباتهم ميدانيّا، والوقوف على حجم الاختلالات في منظومتنا التّربويّة، وثقافتنا الاجتماعيّة المغذّيتيْن لاتّجاهات الكتابة لديهم، بما يسمح لنا بتفسير خطاب العنف الحاضر بقوّة، وسلوكات الانزواء، وثقل الجنس والدّين، وازدراء المرأة، وسلطة التّقليد، وغياب استقلاليّة الذّات، فضلا عن ضمور البعد المعرفيّ والفكريّ، والسّياسيّ، والعلميّ، وغياب لمسات الإبداع، مقابل انغماس كبير في قضايا سطحيّة، خاصّة على مواقع التّواصل الاجتماعيّ التي أنتجت انهيارا ملحوظا لسياقات الكلام، وتهجينا لصفاء اللّغة، ولرمز الهويّة فيها. ولمنح هذه الدّراسة طابعا شموليّا قدّمنا مقترحات تربويّة تدعم نزوع الكتابة لدى المراهق، غير أنّها تدعو إلى بناء منظومة تربويّة أساسها الحرّية، وعمودها خصائص المراهق.
الكلمات المفاتيح: الغائب في كتابة المراهق-خصائص المراهق-الثّقافة الموجّهة-انهيار السّياق-سلطة التّقليد-اختلال المنظومة التّربويّة.
Abstract:
This article deals with the controversy of presence and absence in the writing of the teenager, deriving the legitimacy of talking about it from the nature of his mental, emotional and behavioral structures. what is present in his writings, whether in the space of his educational institution or on social media sites, made us stop at the size of the absent in them, and then reveal the cultural, educational, religious and political factors directed to them. To achieve a degree of scientificity in this study, we moved to some educational institutions, visited some social media sites, and submitted a form to a group of our teenagers, which would help us examine their writings on the ground, and identify the size of the imbalances in our educational system, and our social culture that feeds their writing trends, This allows us to explain the discourse of violence contained therein, reclusive behaviors, the weight of gender and religion, contempt for women, the authority of tradition, and the absence of self-independence, as well as the atrophy of the cognitive, intellectual, political, and scientific dimension, and the absence of touches of creativity, in exchange for a great immersion in superficial issues, especially on the Social media sites that produced a noticeable breakdown of speech contexts, and our hybridization of the purity of language, and the symbol of identity in it. To give this study a comprehensive character, we have presented educational proposals that support the tendency to write among the adolescent, but it calls for building an educational system based on freedom, and its pillar is the characteristics of the adolescent.
Key word: The absent in the teenage writing- Adolescent Characteristics-Oriented culture- Context breakdown – The power of tradition – Disruption of the educational system.
1- واقع الكتابة لدى المراهق:
نستمدّ مشروعيّة الحديث عن الغائب في كتابة المراهق من طبيعة تكوين بنياته الذّهنيّة والشّعوريّة، ومجمل الخصائص التي تميّز شخصيّته في هذه المرحلة الهامّة من عمر الإنسان.فالمراهقة، من منظور أحمد أوزي هي «مرحلة وسطى بين الطّفولة والرّشد، وهي فترة من العمر ذات تأثير كبير في تحديد نموّ الشّخصية ونضجها»[1] يطبعها الانفتاح والاستقلال الذّاتي، والاندفاع الشّعوري، والرّغبة الجامحة في التّعبير، والتّساؤل المستمرّ كما أقرّ بذلك معظم الباحثين في علوم التّربية، والسّيكولوجيا، والسّوسيولوجيا، مثل ستانلي هول، وجان بياجي، وإريك إريكسون، ومارغريت ميد، وأحمد أوزي. إنّ المراهق شخص ينشأ وسط بيئة اجتماعيّة وثقافيّة، تصدر سلوكاته عن بنية شعوريّة وذهنيّة ونفسيّة. وبما أنّه ينفتح تدريجيّا على العالم الخارجي[2]، فإنّه يشرع في استقبال رسائل جديدة ومتباينة، وهو ما يولّد لديه توتّرا شديدا عندما يحاول إدماج مختلف الإشارات والرّموز في منظومته الخاصّة[3]. ويأتي هذا النّزوع من أجل اختبار مصداقيّة ما تشكّل في ذهنه من أفكار، وعقائد، وتصوّرات، وَقِيَمٍ، وأحاسيس، أو لفرض ما تلقّاه وتعلّمه وآمن به في مراحل سابقة، أو لتحقيق مطلب إعادة التّكيّف مع الواقع الجديد، أو بدافع الرّفض والتّمرّد، أو بغرض البحث عن الذّات. انطلاقا من هذه العناصر الابستيمولوجيّة المرتبطة بطبيعة المراهقة، سيتّضح لنا في كتابة المراهق ما يُعَدُّ انبثاقا طبيعيّا لها، وما يعتبر غيابا أو انحرافا أو تجلّيا غير سليم لخصائص البداهة لديه. فالكتابة، بكلّ أشكالها، لا تعبّر عن شخصيّة المراهق وتطلّعاته ومعتقداته فحسب، وإنّما عن نزعته نحو تحقيق الاستقلال في الفكر والسّلوك، وإثبات الذّات أيضا[4]، أي أنّه يشرع في البحث حثيثا عن هويّته الذّاتية والثّقافيّة والوجوديّة عن طريق الكتابة. لذلك فهو لا يتردّد في تفجير كلّ ما يعتمل في نفسه من خواطر وهواجس وتصوّرات، بشكل تلقائيّ، في مختلف وضعيّاته سواء كان في مؤسّسته التّعليميّة، أو في بيته، أو على جدران وكهوف، أو حتّى على أشجار أو رمال أو جسد، أو مدوّنته الخاصّة، أوفي مشاركته، وتعليقاته على صفحات التّواصل الاجتماعي.
2- هيمنة التّقليد وندرة الإبداع:
يتأسّس مقالنا على ثنائيّتيْ الحضور والغياب في خربشات المراهق، فما يكتبه لا يعبّر دائما عن حقيقته الطّبيعيّة، إنّما قد يعبّر الحاضر منه عن حقيقة غائبة تلعب فيها الثّقافة والتّربية دورا مركزيّا. انطلاقا من علاقة التّرابط الدّالة هذه بين الحاضر والغائب، سيلاحظ المتتبّع لكتابة المراهق غيابا شبه كامل للنّزعة الإبداعيّة في تعبيره، ووصفه، ونقده، وتشكيله. صحيح أنّ التّقليد خاصّية لازمة لمرحلتي الطّفولة والمراهقة، إذ يسعى خلالهما الطّفل إلى تقليد النّموذج والاقتداء بالمثل، فبهما يتعلّم، وعلى نهجهما يسير، إلّا أنّ الباحثين يؤكّدون على أنّ هذا النّزوع مرتبط بالمرحلة الأولى من المراهقة؛ لاعتبارات عديدة منها قلّة الخبرة والتّجربة ومستوى النّضج الذّهني. أمّا المرحلة الثّانية التي تبدأ من أربع عشرة سنة؛ ففيها يفترض أن ينتقل المراهق إلى التّأمّل، واكتساب آليّات الاستدلال، والتّفكير الفلسفي والمنطقي المجرّد.[5] يسمح هذا النّموّ الذّهني برفض النّموذج والتّمرّد عليه، ومن ثمّ فتح الباب واسعا أمام الإبداع والاكتشاف، والتّعبير عن الأفكار والأسئلة التي تؤرّقه في صور فنّيّة، وأشكال تعبيريّة مستمدّة من نبع خياله الخصب. من ذلك مثلا ما ورد، استثناء، على طاولة إحدى المؤسّسات التّعليميّة؛ حيث تمّ انتخاب تشكيلة لكرة القدم مكوّنة من أسماء بعض الأساتذة العاملين بها. وحسب تصوّر هذا النّاخب المراهق، فقد أدرج فلانا في حراسة المرمى، مسنودا في الدّفاع بأربعة أساتذة ذوي مواصفات ذهنيّة ونفسيّة وجسديّة. بينما وضع في وسط الميدان ثلاثة أسماء أخرى، تاركا الهجوم لأستاذ واحد معروف بالخفّة والطّول والسّرعة. وقد جعل في جناحه الأيمن أستاذا، وفي جناحه الأيسر نظيرا له. يبدو إذن أنّ للنّاخب المحلّي رؤيةً ما حول طبائع الأساتذة، ومواصفاتهم، وسلوكاتهم. وبدلا من التّعبير عنها بلغة تقريريّة مباشرة حسنة أو سيّئة، فضّل الإفصاح عن ذلك بانتقاء تشكيلة كرويّة تنسجم مع اهتمامات المراهق، وتحمل رسالة مفتوحة إلى المتلقّي حول خصائص الأساتذة. وهذا تعبير فنّيّ لائق ومطلوب ينمّ عن ارتقاء وعي كاتب مراهق، لم يشأ استعمال الأساليب المتداولة التقريريّة والتّقريعيّة التي تغمر فضاء المؤسّسات، وتسيء إلى روّادها جميعا، وإنّما رغب في تقديم صورة عن رجال التّعليم العاملين بالمؤسّسة، بخلق وضعيّة رياضيّة مختلفة عن سياق التّعبير، تسعى في دلالاتها إلى إثارة المرح والفكاهة والسّخريّة، أحيانا، لدى المشاهد، وتلفت انتباهه إلى قدرة النّاخب على معرفة وترجمة السّمات الشّخصيّة، والتّربويّة، والسّلوكيّة التي ينهجها بعض الأساتذة، سواء الواعية منها أو غير الواعية.
دون ذلك، تطالعك أينما توجّهت في فضاء المؤسّسات التّربويّة كتابات ورموز وأشكال منسوخة تعبّر، في مجملها، عن حجم المكبوت وثقله، وبساطة التّفكير وأفقه. فالكتابات الأكثر تردّدا تتمحور حول ثيم الجنس، والبذاءة، والأستاذ، من قبيل رسومات لأعضاء تناسليّة، مصحوبة بتعابير الفحولة، والفتوحات الجنسيّة، فضلا عن أساليب الفضح الجنسي، يتمّ فيها توجيه اتّهامات بالسّحاق، واللّواط، أو ممارسة الجنس بين النّوعين بذكر أسماء معيّنة لتلاميذ، وأساتذة أحيانا. كما تتوارد جمل كثيرة مسيئة للآخر، غايتها التّشهير… إن كانت هذه التّعابير تقلّ داخل فضاء القسم، فهي على العكس من ذلك تنشط في فضاءات المراحيض؛ لأنّها فضاءات مغلقة تسمح لروّادها بالتّعبير الحرّ بعيدا عن المراقبة القانونيّة الزّجريّة، والتّربويّة الأخلاقيّة.
كما تبدو أمام أنظار المعاين رسومات وكتابات مستهلكة، مباشرة، وساذجة، تغيب فيها لمسات الإبداع المفترضة في شخصيّة المراهق، انسجاما مع الخيال الخلّاق الذي ينشأ لديه في هذه المرحلة.[6]من قبيل: “اضغط هنا يختفي الأستاذ “، أو رسومات العضو التّناسلي الذّكوري المنتشرة على الكراسي، أو ذكر أسماء صديقة، أو كتابة العتمة؛ حيث ينتهج أصحابها أسلوب الانزواء لخربشة كلمات ورسومات مسيئة لأشخاص، أو لتفجير مكبوتات جنسيّة «تمارس الجنس مع إبليس«، أو للدّفاع عن المثليّة «دع المثليّ وشأنه»، أو لتمرير خطابات العنصريّة والعرقيّة «العزّ والمجد للشّعب الرّيفي«، »تازة المهمّشة«، أو لمدح أستاذ أو ذمّه «مْعَلّْم«، «بُوعَرُّوفْ«، أو الإعلان عن مناصرته لفريق «ديما الرّجا«، أو سبّ شخص أو جماعة «Fuck prof»،«Fuck BTS» . وإذا كانت هذه المواقع مليئة بكتابات المراهقين المحظورة عادة من طرف الأنا الأعلى للمجتمع، فإنّ نتائج الاستمارة بَيَّنت أنّ نسبة الذين كتبوا في فضاء المراحيض لا تتجاوز 50%، ويعني هذا أنّ هذه الفضاءات المغلقة ما زالت تشكّل فعلا ملاذا لقول المحرّمات الثّقافيّة والأخلاقيّة والجنسيّة والسّياسيّة دون القدرة على الإفصاح عن ذلك علنا. ولعلّ أهمّ العوامل التي تقف وراء هذا النّمط من الكتابة الخلفيّة التي تتميّز بالسّطحيّة، والرّكاكة، والاجترار، والتّقليد هي عوامل تربويّة سيكولوجيّة، وسوسيولوجيّة، وقانونيّة أحيانا. لا يمكن أن تطفو مواضيع الجنس، والبذاءة، والأستاذ على مخيّلة المراهق، وانشغالاته إلّا إذا ارتبطت جلُّها بالتّحريم المنتهج في مثل هذه المواضيع السّاخنة لدى المراهق، والمسكوت عنها عند الكبار، وبالقمع الممارس سلوكا ومعرفة وتربية داخل الفضاءات التّعليميّة، أو من خلال خطابات مسموعة في البيوت والشّوارع، أو لسيادة نمط تربويّ تقليديّ ممركز حول التّلقين والإجبار، ومفتقِد للتّفاعل الإنسانيّ وللإنصاف. والحال أنّ التّربية المعاصرة منوطة بهذا التّغيير المنشود، من خلال بناء عقول منفتحة، وثقافة متنوّعة قائمتين على قيم المواطنة، والحرّيات الفرديّة، والشّفافيّة، والحقوق، والتّعايش، والاندماج الكامل في المجتمع، وتوسيع أفق تفكير المتعلّم، وتوفير بدائل للتّعبير، وإظهار خيارات أخرى ممكنة في الحياة.
في هذا الصّدد، يندرج الجسد ضمن اهتمامات المراهق باعتباره فضاء هامّا للكتابة، ووسيلة ناجعة للتّعبير، لذا فهو يحاول استثماره باعتباره مِلْكا خاصّا ولوحة للتّعبير والإشهار. إلّا أنّ الملاحظ هو طغيان التّقليد شكلا ومضمونا حيث تتناسخ فيه صور وخربشات محلّيّة وعالميّة، تتوارى فيها لمسات الفنّ والإبداع. فليس من رقص أوّل مرّة في الملاعب كمن حاول الرّقص بطريقة ثانية مختلفة، وليس من حلق شعره أوّل مرّة بهندسة مَّا كَمَنْ سعى إلى حَلْقِه بالطّريقة نفسها أو بخلافها، وليس من وشم على عضلاته رسائل قصيرة ورموزا وكتابات كمن اتّبع الخطى نفسها. فالإبداع فعل خاصّ غير قابل للتّقليد ولا للتّشويه. إنّ العيب إذن ليس في الكتابة بالجسد أو عليه، وإنّما العيب هو أن تجعل جسدك دفترا لقول الآخرين، وفضاء لِلَهْوِهِم، ولوحةً إشهاريّة مجانيّة لإبداعاتهم. وإذا علمنا أنّ التّقليد لا حياة له، أدركنا عدم صحّة هذا النّزوع لدى مراهقينا النّاتج عن تنامي عوامل سوسيوتربويّة وثقافيّة مغذّية له. فتشكّل عقل المراهق، إذن، خلال مراحل النّموّ السّابقة، يتمّ وفق تصوّرات، وقناعات، ومعتقدات، ونزوعات تفرضها وقائع ثقافيّة مهيمنة ضدّا على طبيعة المراهق النّفسيّة والاجتماعيّة والتربويّة. والحال أنّ هذا الوضع غالبا ما يحول دون استثمارها بشكل صحيح حالما يريد التّعبير عن ذلك في الفضاءات العامّة والخاصّة. إنّ النّظر إلى الإنسان من زاوية ثقافتنا حول الجسد الحامل له، يشكّل في نظر دافيد لوبرتون أزمة حقيقيّة في تاريخ معرفة الإنسان بذاته «فالجسد لا يوجد إلّا وهو مبنيّ ثقافيّا من قبل الإنسان. إنّه نظرة موجّهة للشّخص من طرف المجتمعات البشريّة التي تحدّد معالم تخومه من دون أن تميّزه في أغلب الأحيان عن الإنسان الذي يجسّده. [7]«. الجسد طاقة هائلة يتيح إمكانيّات لا نهائيّة للتّعبير عمّا يشعر به الإنسان في مختلف مراحل حياته. وبما أنّه مازال مأسورا في ثقافتنا الشّهوانيّة، فٳنّ المراهق يجد، بدوره، صعوبة في تحقيق استقلال جسده، بما يمكنه من امتلاك قيمتيْ التّميّز والتّجاوز، وبالتّالي إحداث الفوارق بين جسد الإبداع، وإبداع الجسد.
وكما أنّ المراهق والمراهقة ينزعان نحو الكتابة على جسديهما بمقترحاتهما الخاصّة، فإنّهما يرغبان كذلك في ارتداء ألبسة بجمل، وكلمات سواء على الصّدر أم على الظهر. والظّاهر أنّ هذه المخطوطات تتحكّم فيها السّوق التّجاريّة تبعا لنوع الشّركات في علاقتها بالمشاهير، أو بمؤسّسات عسكريّة أو رياضيّة قد يعلمها المراهق فيحرص على اقتنائها وارتدائها، وقد يُقبل على ارتداءها دون أن يكون له علم بطبيعتها كما تبيّن من مساءلتنا لثلّة منهم. من أمثلة ذلك ما ورد على بعض الألبسة: U.S. ARMT ̵ SPEED, POOVERACING, ARMANI, Calvin Klein In Air. وتمر هذه الألبسة المخطوطة عند المراهقين بموجات من الإقبال والعزوف حسب درجة التّأثير والنّجاح المحلّية والعالميّة، فالمراهق شديد الحساسيّة بكلّ ما يجري حوله من متغيّرات سلوكيّة وظاهراتيّة.
لا شكّ إذن في أنّ مثل هذه التّعابير المنتشرة على نطاق واسع داخل فضاء المؤسّسات التّعليميّة لا تنسجم مع خاصّية الإبداع والتّجاوز لدى المراهق في هذه المرحلة. والحال أنّ هذا الأخير يمتلك قدرة فائقة على تحقيق ذلك، فبمثل هذه الإيحاءات النّاتجة عن الرّسومات والكاريكاتور والرّموز والكتابات السّاخرة، ومختلف الأشكال الإبداعيّة المتاحة، يستطيع أن يعبّر أحسن تعبير عن عالمه الخاصّ، بل ويطرح بديلا ممكنا له. والواقع أنّ محاكمة التّلميذ على بؤس التّقليد لديه، والذي غالبا ما يصدر عن الكبار أيضا، لا تستقيم في هذا السّياق. فعندما نعلم أنّ التّقليد يشكّل هامشا كبيرا من تفكيرنا، ونمط حياتنا، ومنهجيّاتنا، ومعارفنا سواء في خطابنا التّربويّ أو السّياسيّ أو الدّيني أو الثّقافي، ندرك حجم المسؤوليّة المنوطة بنا في هذا الصّدد، ونعرف عوامل فشل مشاريع التّربية منذ زمن طويل، وجمود العقلانيّة كنتيجة مباشرة لغياب الحرّية والدّيمقراطيّة في هذه الأوطان. فالثّقافة المتحكّمة في كتابة المراهق والصّادرة ضدّا على مكوّناته الذّهنيّة والشّعوريّة والثّقافيّة، هي نفسها المعشّشة في طرائق حياتنا، ورؤيتنا للوجود. إنّ كلّ تقليد مُقَدِّس للماضي، وكلّ فشل في استنبات التّنازع، والدّيناميّة في الحاضر مع كلّ القوى، وعلى مختلف الأصعدة، يؤدّيان حتما إلى الاحتماء بمقولات الأصول، والعادات والتّقاليد، والتّراث، والارتماء في أحضانها كلّيّا، ومن ثمّة إلى عجز كامل عن الإبداع والابتكار باعتبارهما الوسيلة الوحيدة للإجهاز على منظومة التّقليد، وبالتّالي إمكانيّة بناء عقليّة التّغيير والتّجديد التي سيتشرّبها مراهقونا، ويدمجونها في سجلّاتهم الثّقافيّة والإبداعيّة.
3- تواري اللّغة الفصحى وبروز اللّهجات:
من العناصر شبه الغائبة كذلك في كتابة المراهق التّعبير باللّغة الفصحى، علما أنّ المراحل الأولى للمراهقة وحتّى ما قبلها، تتميّز بنزوع الطّفل نحو التّعبير بلغته الأصليّة. فما هي إذن تجلّيّات هذه الظّاهرة اللّغوية في خطاب المراهق؟ وما هي العوامل التي تقف وراء بروز العامّيّة، وتواري اللّغة الأمّ؟
ما عاينّاه من جمل معبّرة عن ارتباط المراهق بلغته الرّسميّة يبقى نادرا جدّا على غرار توظيف الجناس الجزئي والتّام أحيانا، من خلال التّلاعب بمواقع الحروف، وإحداث نغم موسيقي له أثره الدّلاليّ والجماليّ في ذهن ونفسيّة القارئ، مثل العبارتين التّاليتين: «الحزن الخنز«، «هجر هرج«، إلى جانب أخرى باللّغة اللّاتينيّة«wac caw». ولسنا ندري هل هذه الكتابات صادرة عن الشّخص ذاته أم عن أشخاص متعدّدين لكونها تتضمّن أحيانا تنافرا موحيا بالتّنابز والسّخريّة على غرار ما وجدناه مثبتا على جدار قسم، أسماء ستّة أنثويّة مخطوطة باللّون الأحمر، فيما كُتب على يمينها بلون أسود، وبخط مختلف القول التّالي: «رحمكم الله». وهي عبارة تكشف بالملموس طبيعة كتابة المراهق المليئة بالسّجال البَعْدِي كنوع من أنواع الحوار والتّواصل مع باقي المراهقين، إذ يجد في نفسه حاجة للرّدّ على ما هو مكتوب بلغته الدّارجة القريبة من أحاسيسه، ومن واقعه، ومن إمكانيّاته التّعبيريّة، بحيث لا يميّز في تركيبها بين الضّمائر المميّزة للإناث (رحمكنّ)، والضّمائر الخاصّة بالذّكور (رحمكم)، أو بين الحروف المطلوبة في كتابة لفظ معيّن كتابة صحيحة، على غرار كلمة Caw، إذ المقصود هو ko الذي يعني الضّربة القاضية أو النّهاية المذلّة للفريق. كما لا حظنا جملة فصيحة متردّدة في موقعين مختلفين من المؤسّسات المعاينة، مثبتة بخطاب إنشائي ينسجم عمليّا مع طبيعة المراهق الميّالة إلى التّساؤل، وهي «أليس من حقّ المشتاق نظرة وعناق». وإذا كانت هذه العبارة صحيحة في بنيتها ودلالتها، فإنّها تفتقد إلى علامة الاستفهام، فالمراهق لا يولي، في هذه المرحلة العمريّة، أهمّيّة لتركيبه اللّغوي، إنّما يسعى فقط إلى التّعبير عمّا يخالجه من مشاعر في سياق طارئ معيّن. إنّ اللّغة من منظور المراهق ليست بنية معياريّة، إنّما هي وسيلة لإبلاغ الرّسائل فحسب، لذلك يستوي عنده العاميّ بالفصيح، اللّفظ بالرّمز، الجملة بالأيقونة، ضمير المؤنّث بضمير المذكّر، الألفاظ المقترضة بالدّخيلة والمعربة، والمنحوتة، كما تستوي النكرة بالمعرفة أيضا.
أعتقد أنّ أهمّ دواعي تخلّي المراهق عن التّعبير باللّغة الفصحى هي دواع سوسيو-ثقافيّة أساسا، فكلّما انخرط في مطاحن المجتمع، واحتكّ بدواليب مؤسّساته، وشرائحه إلّا وتأثّر باللّهجات، لأنّها أكثر تداولا واستجابة لما يريد التّعبير عنه، خاصّة وأنّ اللّهجة نابعة من رحم السّرعة، والحيويّة، والانفعال، والحساسيّة الملازمة للمراهق. لكلّ ذلك تتوارى الكتابات باللّغة الفصحى؛ لأنّها تكبّل المراهق وتقيّده، بينما تسمح له العامّيّة بالانطلاق والتّحليق دون حرج من ارتكاب خطإ، أو تصحيف كلمة، أو اقتراض أخرى، أو تركيب خلطة لغويّة يحضر فيها السّكون بقوّة، وتغيب فيها الحركة التي عادة ما تبطئ عمليّة النّطق كما هو مألوف في لغتنا العربيّة.
أظهرت نتائج الاستمارة أنّ نسبة الذين كتبوا بلغتنا الفصحى، وعددهم مائة وصل 40%، بينما تقلّ النّسبة بكثير في الكتابات المثبتة على الجدران والطّاولات، ربّما لسرعتها واختصارها حيث لا يسمح المجال لتركيب جمل واضحة وسليمة. على عكس ذلك بلغت نسبة الكتابة بالدّارجة المغربيّة، أو باللّغة الأجنبيّة 60% من مجموع الكتابات. وتؤشّر هذه الإحصائيّات على درجة نزوع المراهقين نحو السّرعة في الكتابة، وإبلاغ الرّسائل بأقلّ حروف ممكنة. كما تؤشّر على مَيْلٍ ملموس نحو التّعلّق باللّغات الأجنبيّة، والتّظاهر بتمثّلها، وحسن النّطق بها وكأنّها دلالة على التّحضّر والعصرنة. وهذا ينسجم تماما مع عدد التّلاميذ المشاركين في الأنشطة الموازية التي تجريها المؤسّسة سنويّا في مجال الخطابات، حيث يرتفع عدد المشاركين باللّغة الإنجليزيّة سنويّا، مقابل انخفاض واضح في عدد المشاركين باللّغة الفرنسيّة، فيما تراجع عدد المخاطِبين باللّغة العربيّة إلى مستوى الصّفر في سنوات عدّة.
ومع انتشار وسائل الاتّصال الحديثة ازدادت كتابات المراهق بعدا عن اللّغة القاعديّة، فالظّرف لا يسمح له بالعودة إلى المعجم للتّثبّت من صحّة المصطلحات خطًّا ومعنًى. كما أنّ طبيعة الرّسائل القصيرة، وتعدّد الانشغالات، وسرعة الزّمن فرض على المراهق إسقاط معظم الرّوابط اللّغويّة، بل وأجزاء هامّة من الكلمات. لقد باتت اللّغة الفصحى أكثر من أيّ وقت مضى على مشارف السّقوط مع هذه الموجات التّواصليّة الجديدة؛ حيث أصبحت عبارة عن رموز وأشكال مخدوجة، وأيقونات شعوريّة، وتراكيب لغويّة مصوّرة تشكّل فيها الأجسام والأشكال والرّموز والحركات حَجَرًا أساسا. ولا شكّ في أنّ دخول هذه المكوّنات في منظومة التّعبير اللّغوي ينبّهنا إلى أنّ المراهق وجد في السّند التّكنولوجي، متعدّد الوظائف، لغته الخاصّة التي عجزت المنظومة التّربويّة عن نهجها في برامجها ومناهجها. ويُنذر هذا التّحوّل بحدوث أزمة جوهريّة في وظيفة اللّغة الكلاسيكيّة في مواجهتها للمدّ المعلوماتي الجارف[8].
4- الفكر والوجود والسّياسة والدّين:
لا نريد أن نجعل من المراهق شخصا راشدا، فلكلّ مرحلة إمكانيّاتها التّعبيريّة الذّهنيّة والشّعوريّة. غير أنّ نتائج علوم التّربية تثبت أنّ ذهن المراهق، حوالي السّنة الرّابعة عشرة، يحقّق درجة عالية من التّفكير المنطقي، والتّأمّل التّجريدي. ويسمح له هذا النّموّ بطرح أسئلة عديدة ومقلقة حول وجوده، وهويّته، وانتمائه، وجنسه، وخلق الكون، وخالقه، فضلا عن التّفكير في القيم، والمبادئ، والفلسفة، والدّين[9]، خاصّة وأنّ كلّ ما هو فكريّ يكتسي طابعا وجوديّا في أساسه، فليس هناك وعي معزول عن غرضه وموضوعه كما أكّد مرلوبونتي[10]. والواقع أنّ هذا النّمط من التّفكير هو الذي يُحْدِث تحوّلا عميقا في شخصيّته وحياته، ويمكنه من الإقلاع عن مركزيّة الذّات التي عادة ما تأسر خياله وتكبّل طاقته. غير أنّ واقع الحال يشير إلى تراجع ملحوظ في فكر المراهق، فكتاباته، وأسئلته تُبَيِّنان أنّ مثل هذه القضايا لم تعد تشكّل حيّزا واضحا من انشغالاته واهتماماته كما كان الشّأن من قبل، وكأنّ مراهق الأمس أنضج من مراهق اليوم.
إنّ اللّافت للنّظر هو غلبة الكتابات الطّائفيّة والعنصريّة داخل الفضاءات التّربويّة على جدران وطاولات المؤسّسات من قبيل «سواسة حضارة«، »تازة تاريخ وحضارة فلا تستغرب«،»العرب أحرار»«viva barça» «اليهود = قردة«، «المجد للرّيف«. ولعلّ أهمّ الأسباب التي أملت هذه الرّؤية هو استمرار ترسيخ ثقافة طائفيّة قبَليّة، تمجّد الذّات الجماعيّة، وتحتفي بها، مقابل جلد الآخر، وإقصائه، وانتهاك حقوقه، وحرماته ضدّا على ثقافة المجتمع والأمّة والكون والإنسان عامّة. وهذا أسوأ ما كرَّسته التّربية الثّقافيّة العربيّة في مرحلة ما بعد الاستقلال، بل وعملت على إعادة إنتاجه من جديد. فإذا تعلّق الأمر بالهويّة مثلا نُظر إليها نظرة ضيّقة ومتشدّدة «المغربي أذكى بشر في العالم«،»اللّغة العربيّة نزلت من السّماء«،«إلّا رسول الله». وإذا تعلّق الأمر بالجنس أي بثنائيّة الذّكر والأنثى وضعت هذه الأخيرة في الحضيض، باعتبارها كائنا من الدّرجة الثّانية، ونُظر إليها نظرة ازدراء هي أقرب إلى عقيدة اليهود الذين يردّدون في صلواتهم، ودعائهم (أشكرك ربّي لأنّك لم تخلقني أنثى). من تلك الكتابات التي دبّجت حول المرأة عموما:
- «المرأة ضلع أعوج «
- «les femmes sont des puttes»
- »كيد النساء«
فالمتأمّل لمثل هذه النّماذج من كتابة المراهق، يجدها مستمدّة من فكر دينيّ ثقافيّ، ناتج عن تراكم تراث معرفيّ سليل عصور خالية، ارتدى فيها الدّيني لباسا ثقافيّا، وهو ما منحه شرعيّة الوجود والامتداد والصّمود. لقد كان الرّجل، في هذه العصور، حاميا وقائدا للأسرة، وللدّولة؛ تكرّست خلالها ثقافة إقصاء المرأة، وإبعادها عن تدبير الشّأن السّياسيّ والاقتصاديّ والأسريّ. وإذا كانت الاستمارة قد خلت، بشكل شبه كامل، من الكتابة المسيئة للمرأة، فإنّ ما ورد منها على الطّاولات والجدران يناقض تماما هذا الغياب، لأنّ تعامل التّلاميذ مع أسئلتها وظروف ملئها بحضور زملائهم، وأستاذهم قد يدفعهم إلى تجنّب إثارة مثل هذه الإساءات. والغريب أنّ المراهق حينما يريد أن يكتب عبارة بذيئة، خاصّة ما يرتبط منها بالجنس، فإنّه يسارع إلى استعمال لغات أجنبيّة؛ فرنسيّة أو إنجليزيّة، على غرار العبارة الثّانية المسيئة للمرأة بشكل عامّ، دون أدنى إشارة إلى نسبيّة الحكم، أو خلفيّته، وسياقه المنتجين له. وكأنّ وقع فظاظة التّعبير بلغة أجنبيّة أخفّ من وقعه على القارئ بلغته الأصليّة، أو هو أقلّ انتهاكا للأخلاق العامّة للنّاس، والحقّ أنّها ثقافة شائعة في مجتمعنا.
وعلى الرّغم من أنّ هذه الظّواهر ترتدي ملامح إثنيّة، وقوميّة، ودينيّة، فإنّها مع ذلك لا تخلو من خلفيّات سياسيّة كما وجدناه على إحدى الطّاولات حيث كُتب جزءٌ من نشيد الرّجاء الذي اكتسى شهرة عالميّة: «في بلادي ظلموني، لمن نشكي حالي، الشّكوة لربي العالي». باستثناء هذه الخطابات اللّينة التي تمزج بين السّياسي والاجتماعي، يظلّ الفكر السّياسي أكبر الحقول غيابا في كتابات المراهقين، فلا أثر للأحزاب السّياسيّة ولبرامجها ولمرجعيّاتها وإصلاحاتها، سواء بالدّعم أو بالاستهجان. فضلا عن إشهار تعاقب الحكومات، والبرلمانات، وتغيير الدّساتير، واختلاف أنظمة الحكم، والرّموز السّياسيّة. ويرجع ذلك إلى غياب حرّية التّفكير لدى شرائح واسعة من الشّعب المغربي، ممّا ينعكس سلبا على ثقافة المراهق، وقناعته، وجرأته، ورؤيته للوضع السّياسي. ونعتقد أنّ التّاريخ سيمحو لا محالة شيئا فشيئا، مثل هذه الأنماط الذّهنيّة الماتحة من موجات الثّقافة السّائدة، بفعل ترسّبات عوامل سياسيّة واقتصاديّة وعقديّة، وكلّما ارتقت ثقافة المجتمع، وصحّت معتقداته استقى شبابه كذلك من كنه الأشياء، وجوهر طبيعتها، ومكوّناتها، ومستجدّاتها بدلا من تداول ثقافة بائدة تكتسي قوّتها من كثرة تداولها لا من صحّتها.
إنّ ما نجده من أضواء في مجال الفكر الدّيني يبقى نادرا جدّا، على غرار ما رسمه أحد التّلاميذ على دفتره، حيث أبدع رسما كاريكاتوريّا لرجل ذي لحية طويلة كثّة سوداء، وجسم ضخم. رأسه على شكل صندوق كبير يفتح ويغلق من الأعلى. ولمّا سألتُه عن مضمون ذلك أجاب بأنّ بعض رجال الدّين لا يُعملون عقولهم، بل يملؤونها عادة بمعتقدات خرافيّة سمعيّة، تُملى عليهم من مشايخ آخرين. وهذا الصّندوق يبقى قابلا للشّحن والإفراغ وكأنّه مستودع لتخزين بضاعة مّا.
يبزغ نُضْجُ المراهق كلّما انتقل من الذّات إلى الموضوع، أي أنّ وعيه لا يمكن أن ينمو في ظلّ استمرار تمركزه حول ذاته. فكلّما انتقل المراهق إلى العالم الخارجي كلّما صدمته تجارب مغايرة، وشحذت وعيه أوعاءٌ أخرى مختلفة. من هذا المنظور نلاحظ، في خطاب المراهق، غيابا لمقولات الحرّية والعدالة الاجتماعيّة والمساواة في الحقوق، والواجبات، والظّلم، والاستبداد، فلئن كنّا لانعدم حضورها في ذهنه، فهي لا تَرِدُ كثيرا في كتابته، وهذا ما يؤشّر على غياب ثقافة أحقّية الإيمان بمنجزات الشّعوب، ومكتسباتها في الحقوق والقوانين والحرّيّات، علما أنّ المراهق يشرع في تحقيق استقلاليّته في هذه المرحلة، ومن المفترض أن تتبدّى في كتاباته، وردود أفعاله قيمُ الرّفض، والنّقد، والتّحليل، والتّفكيك، والتّغيير بما يسمح له ببناء عالمه المثالي الخاصّ. لقد عزّزت إحصائيّات الاستمارة، والمخطوطات في فضاء المدرسة هذا الغياب، فقد أظهرتا أنّ نسبة المراهقين الذين كتبوا في مجاليْ الفكر والعلوم يقدّر بـ 13%، فيما بلغت نسبة كتابة الأسماء، واللّهو، والبذاءة، وخربشات لا معنى لها 87%. والحال أنّ الذين وضعوا علامة في خانة العلوم لم يترجموا ذلك على مستوى الإجابة عن سؤال “ماذا كتبت؟”، إذ لم تظهر سوى جملتين فكريّتين بسيطتين متداولَتين، وهما»الحياة تستمرّ«، و»العلم نور والجهل عار». فضلا عن كتابات أخرى على الطّاولات تنتمي إلى مجال الفكر الإشكالي، مثل: «لماذا أنا موجود»، «ساعة في الجحيم«، «why are you gay»، فيما تكاد تغيب منجزات العلوم باستثناء رموز وأشكال هندسيّة ورياضياتيّة. إنّ حضور العلوم في وعي المراهق، وغيابها عمليّا يؤشّر على هيمنة الفكر العلمي السّطحي في ثقافتنا المعاصرة، وخاصّة لدى الشّعوب النّامية. فرغم تطوّر العلوم، فإنّها لا تشكّل حيّزا مقلقا في فكر واهتمامات أبنائنا، لذلك تغيب بشكل ملحوظ في كتاباتهم، وخطاباتهم. ولعلّ ضمور البعد العلميّ في منهجيّات تحليلهم للظّواهر الطّبيعيّة، والاقتصاديّة، والدّينيّة، والسّياسيّة دليل واضح على تواريه مقارنة بأبعاد وظيفيّة أخرى.
إنّ ما يكتسبه المراهق في هذا المجتمع، من قيم وتصوّرات ومظاهر، يُلقي به في أتون الطّائفية، وظلام العنصريّة بدلا من دعم قيم الانفتاح وتدبير الاختلاف واحترام الآخر، سواء كان بشرا أم حجرا أم شجرا أم حيوانا. لذا نأسف أن نجد كتابات مراهقينا ضيّقة الأفق، عديمة الأخلاق تسقط توًّا في أساليب العنف اللّفظي، والوشاية، والتّشهير، والسّطحية، لأنّها كتابة غير حالمة، تفتقد للرّؤية المستقبليّة، والخيال الخلّاق، وتكتفي باجترار أنماط تفكير، وأساليب حياة هجينة، عاكسة بذلك ثقافة سوسيولوجيّة منحدرة، تكشف عمّا ترسّخ لدى الإنسان العربي عموما من قيم متردّية تجرّعت حَلَمَة الحقد، والكبت، والحرمان، والنّفاق، والنّرجيسيّة في فضاء البيت والمدرسة والمجتمع. والواقع أنّ مثل هذه المقولات الحاضرة تؤشّر على منظومة التّغييب القسريّة التي تنتهجها منظومتنا التّربويّة سواء داخل الأسرة أم لدى الوزارات الوصيّة، وتفضح شعارات الإصلاح منذ زمن طويل. فالتّربية ليست معزولة عن دواليب المجتمع، ومخطّطات الدّولة السّياسيّة، والاقتصاديّة والتّعليميّة. وكان محمد جسوس قد أرجع ذلك إلى غياب المشروع المجتمعي المبني على الوفاق والتّراضي والرّؤية المستقبليّة، بعيدا عن الرّهانات السّياسيّة الضّيّقة[11].
5- كتابة المراهِقة:
نودّ في هذا العنصر الحديث عن كتابة المراهقة لما تبديه من تحفّظ ملحوظ في ممارسة الكتابة والتّعبير عن رأيها، وأحلامها، أو استيائها من قسوة الواقع. فالملاحظ أنّ مجمل كتابتها، بكلّ ما تحمله من أحاسيس وأفكار وأحلام ومعاناة…، تكاد تقتصر على ذكر أسماء الصّديقات عموديّا باللّون الأحمر، مثل: NOURA, ZINEB, SABAH, DOHA,،AHLAM، أو للتّعبير عن وشائج الحبّ الأزلي الذي يجمع بينهنّ من قبيل: سهام +حنان =حب دائم[12]، إضافة إلى بعض الرّموز التّقليديّة التي تدور في هذا الفلك كالقلب والوردة والسّهم، وبعض الوشوم المتخفّية عند بعضهنّ. فقد أظهرت نتائج الاستمارة أنّ فتاة واحدة هي التي أفصحت، في جوابها عن سؤال “ماذا كتبت؟” عن حبّها لشابّ بقولها دون أن تعرب عَمَّا كتبته بالضّبط» كتبت عن شابّ يحبّني وأنا أبادله نفس الشّعور». والملاحظ أنّ كتابتها غالبا ما تتمّ باللّغة الأجنبيّة، وخاصّة الإنجليزيّة، من قبيل: Listening is the beginning, good speaks in the silence of heart، إمّا لبراعتها في النّطق بهذه اللّغة، أو لرغبتها في النّأي عن مستبشعات المراهقين المسطورة عادة باللّغة العربيّة، وأغلبها مسيء لطهر الفتاة، وشرفها وعزّتها يستنكف المرء عن ذكره. إنّ هذا التّأويل تعزّزه كتاباتها التي غالبا ما تخلو من مثل هذه الأساليب الخشنة، بينما المطلوب وفقا لخصائص المراهقة الفيزيولوجيةّ والسّيكولوجيّة هو التّعبير عن شعورها الباطني المتنامي تجاه متغيّرات الجسد، وجماليّته، وقدسيّته[13]، فما هي دواعي غياب معظم ما يعبّر حقيقة عن انشغالات واهتمامات وتطلّعات الفتاة المراهقة في بلادنا؟
الواقع أن وضعيّة المرأة في المجتمع لازالت متردّية، بفعل سيرورة تاريخيّة مثخنة بالانتهاكات البشعة، والتّواطؤات السّمجة التي يمجّها ويستنكرها ضمير الإنسان المعاصر. وهذا ما وَلَّدَ لدى المرأة ذاتها شعورا بالإحباط والنّكوص إلى درجة الإيمان بهذا الوضع، وكأنّه قدر سماويّ محتوم، تتحوّل معه وضعيّة المراهقة إلى حالة سكونيّة، عكس المراهق الذي يبدو أكثر تحرّرا ونشاطا وتحوّلا. وكانت القاصّة المغربيّة سعاد الرّغاي قد أشارت في إحدى قصصها إلى هذه المفارقة، حيث تطالب المرأة المعاصرة بإنصافها وتحرّرها، بينما تعود تَوًّا إلى ممارسة التّربية التّقليدية المتسلّطة حالما تصبح أُمًّا أو مسؤولة إداريّة أو تربويّة[14]. والملاحظ أنّ هذه الثّقافة الارتداديّة العنصريّة مازالت تتغذّى من طعام تيّارات دينيّة مبتدعة، سواء داخل المدرسة أم خارجها، في وقت دخل فيه العالم عصر الحداثة المبنية على قيم المساواة، والعدالة، الاجتماعيّة، والمشاركة، والإنتاجيّة، فمقياس الأفضليّة بين الأفراد مبنيّ اليوم على مدى مساهمتهم في خدمة المجتمع وبناء الحضارة، وليس على أساس الجنس أو العضلة والخشونة أو اللّيونة والاكتناز…
إنّ ثقافة من قبيل׃ “ضلع أعوج”، “ناقصة عقلا ودينا”، “هي مِلْك الرجل”، “لا يمكن تحميلها مسؤوليّة في المجتمع”، “كائن كائد وماكر”، “مخلوق عاطفيّ”، “من أكثر أهل النّار”، “المرأة كلّها عورة”، “من أكثر الفتن”، “مكانها الطّبيعي البيت”، “حرام أن يَعْلُوَ صوتها”…لا يمكنها إلّا أن تؤثّر سلبا على نفسيّة وقناعة المرأة في المجتمع. وكلّما حاولت الخروج من هذه الشّرنقة، والتّصدي لهذه الأحكام القاسية إلّا ووصفت بأوصاف بذيئة تحطّ من كرامتها، وتشلّ قدرتها على الحركة. وبما أنّ حالة المراهقة اجتماعيّا ونفسيّا غيض من فيض، فهي غير قادرة على التّعبير الحرّ والصّريح عن مختلف هواجسها وانشغالاتها، إنّها كائن يعاني كبتا متعدّد الأوجه جرّاء هذه الثّقافة الاجتماعيّة الظّالمة. ولعلّ أبرز مظاهر الظّلم السّائد هو قبول سلوكيّات المراهق وتشجيعه أحيانا، بينما تُدان سلوكيّات المراهِقة، ويتمّ التّصدّي لها بعنف باعتبارها طفلة خارج الزّمن. لذا فهي غالبا ما تخفي ما تكتبه، أو تلجأ إلى الصّمت الذي يرضي المجتمع الذّكوري المهيمن، بينما ذاكرتها نشطة، ووعيها يقظ على الدّوام، لا ينطقان إلّا في الزّمان والمكان المناسبيْن، «لهذا كلّه تظلّ كتابة المراهقة غائبة ومحتشمة جدّا، لأنّها تصدر عن كائن لم يتجاوز ثقافة الوصاية»[15]، ولم يتخلّص بعدُ من ثقل ترسّبات فكر الهيمنة والغلبة والازدراء حتّى صار معتقَدا وشريعة يَحْرُم المساس بهما.
6- الاستقلاليّة وإبراز الذّات:
ليست المراهَقة سوى بحث جدّيّ عن الذّات، ففيها ينتقل المراهق من مرحلة الكمون التي يفرضها واقع الطّفولة الموسوم بالخشية والعجز والاحتماء، إلى مرحلة التجلّي حيث الرّغبة جامحة لمواجهة العالم، وإعلاء عبارة”: أنا موجود هنا والآن”. إنّ ذات المراهق في هذه المرحلة ليست ذاتا كباقي الذّوات، بل هي النّبع الحقيقيّ لكلّ شيء، ومصدر الوجود، فهي التي تمنحه معنى وقيمة كما أكّد ميرلوبونتي[16]. وكان أَلْبُورْت قد ذهب أبعد من ذلك في تتبّعه لنموّ ذات المراهق حيث توصّل إلى أنّ «أنا» المراهق هي المسؤولة عن التّطوّر الحاصل في شخصيّته، وليست الجوانب الجنسيّة أو الاجتماعيّة المكتسبة كما زعم كلّ من فرويد وإيركسون[17]، ومن ثمّ فالاهتمام بالذّات تغذّيه دوافع شخصيّة «فالفرد يهتمّ بذاته كثيرا، حين وصوله إلى فترة البلوغ والمراهقة، محاولا إثباتها أو تأكيدها أو الدّفاع عن استقلاليّتها [18]«. وعندما تتفحّص كتابات المراهقين في فضاءات المدرسة، تجدها مفتقدة لمؤشّرات دالّة على الاستقلاليّة، وعارية كذلك ممّا يثبت أنهّا صادرة عن ذات لها حضورها، ورؤيتها وقضاياها في تنازع المجتمع. فما ظفرنا به ونحن نتابع هذه المقولة قول بعضهم «Only God can judge me»،«أحلامي حقوق في بلاد أخرى«. ولا شكّ في أنّ مثل هذه العبارات، على ندرتها، تعبّر عمليّا عن نشوء نزعة الذّاتية لدى المراهق. وهو نشوء منسجم تماما مع هذه المرحلة العمريّة من حياته. فإذا كان المراهق يتعرّض باستمرار إلى محاكمات متباينة من قبل أهله تارة، ومن طرف أساتذته تارة أخرى، ومن زملائه أيضا، فإنّ شعوره بالاستقلال يجعله ممتعضا ممّا يصدر عن الآخرين، وغير راض عن ذلك؛ لأنّها لا تنبني على فهم جيّد لطبيعته. فسلوكاته التي تبدو نشازا للآخر لا يراها هو كذلك، بل يعزّزها بإطلاق مزيد من المواقف المختلفة عن الدّائرة الاجتماعيّة. هكذا تبدو عبارة: «الله وحده يستطيع محاكمتي» معبّرة عن رفضه القاطع لتدخّل الغير في شؤونه الشّخصيّة، فلا أحد يملك سلطة مادّيّة أو معنويّة أو دينيّة أو سياسيّة، أو تفويضا من أحد يمكنه من تقييم، وتقويم ذات المراهق. إنّها ذات تقف على قدر كبير من المثاليّة، والسموّ.
لا تكتفي الذّات عند المراهق بإنتاج عبارات التّعالي والنّرجيسيّة، وإنّما تمتدّ للتّعبير عن أحلامها، وتطلّعاتها، ووجودها كما أجلته العبارة الثّانية التي مزج فيها هذا المراهق بين الأحلام والحقوق، مقارنا بين وضعيّتين حضاريّتين: الأولى مُنتجة للأحلام، غير أنّها مُفتقدة لكلّ شروط تحقّقها. الثّانية منتجة للأحلام ولشروط تجسيدها على أرض الواقع، بل أكثر من ذلك فقد باتت حقوقا لدى جميع المواطنين. إنّ تنامي ثقافة وجود بلدان لا تَدَّخر جهدا في إسعاد أبنائها، ومنحهم كامل الحقوق والحرّيات يفسّر مضمون هذه الجملة التي كتبها المراهق على صفحة من صفحات الاستمارة. كما يفسّر كذلك صعود ظاهرة الهجرة النّظاميّة لدى الشّباب، بحيث أصبحت بديلا ممكنا لبؤس الواقع، وانكسار الأحلام في بلدانهم الأصليّة. والحاصل أنّ المراهق يوجّه من خلال هذه العبارة نقدا ناعما للوضع القائم سياسيّا واقتصاديّا وحقوقيّا، يعبّر من خلاله عن فجوة حضاريّة بين شعوب العالم، وكأنّه ينبّه إلى استمرار إنتاج مشاريع الفشل، واستنبات الشّروط اللّاإنسانيّة الممتدّة في الزّمن والمكان. ويصرخ كذات لها الحقّ في اختيارٍ حرٍّ لحياة مستقبليّة كريمة، فلا يمكن لأيّ مشروع تنمويّ يفتقد الكرامة والعدالة والمساواة والحقوق أن يعرف طريقه إلى النّجاح. وكان جان بول سارتر قد أكّد في حديثه عن إنسانيّة الوجوديّة قائلا «إنّ الوجوديّة فلسفة متفائلة، لأنّها في صميمها فلسفة تضع الإنسان مواجها لذاته، حرّا، يختار لنفسه ما يشاء»[19]. إنّ الذّاتيّة نزعة إنسانيّة أصيلة، تعزّز في الفرد قيمته الوجوديّة، ومسؤوليّته في الاختيار، ونمط التّفكير والفعل «فالإنسان ليس سوى ما يصنعه هو بنفسه. هذا هو المبدأ الأوّل من مبادئ الوجوديّة«[20].
دون هاتين العبارتين لم نظفر بما يعبّر عن تجلّيات ذات المراهق كذات مستقلّة لها كيانها، وحضورها، وهويّتها. لذلك انتفت أساليب ياء المتكلّم(ي)، وضمير المفرد(أنا)، وألفاظ (ذاتي، نفسي، كياني، وحدي..). وحينما تتقلّص الأنا مقابل تضخّم الغير في خطابات المراهقين، ندرك حجم المسخ الذي تعرّضت له خلال صيرورة تشكّلها. إنّ إعلاء صوت الذّات لدى المراهق هو الحدّ الفاصل بين مرحلة الطّفولة ومرحلة المراهقة، أو لنقل هو العلامة الطّبيعيّة على حسن الانتقال، وسلامة الشّخصيّة. فبعدما ظلّ الطّفل زمنا تحت الوصاية والرّعاية والاهتمام المشترك، تأتي فترة الخروج الحتميّ من هذه الحماية، فالمراهق لم يعد بحاجة إلى من يتتبّع خطواته بعدما اشتدّ عضده الذّهني والعضلي. والحال أنّ غياب تجلّيات الذّات، أو الحجر عليها، لدى مراهقينا يترجم تخلّف المرجعيّةالفكريّة للمنظومة التّربويّة التي لا زالت تصدر عن فكر واحديّ، نمطيّ، وشموليّ تغذّيه سلطة الجماعة، وثقافتا القطيع والرّعية. وهي أنماط تربويّة تعزّز قيم الانصهار، والمحو، والخفوت، والكمون، وتحارب الفردانيّة، والتّجلّي، والإعلاء، ورفع الصّوت؛ لأنّ بناء كيان مستقلّ يؤدّي حتما إلى التّمرّد على السّائد والمألوف ممّا ترسّخ في أذهان ومشاعر العامّة. لقد بات معلوما ما حقّقته النّزعة الفردانيّة في الغرب من تقدّم، وتجاوز للأنماط السّائدة، وبدونها ما كانت أوروبّا قادرة على الخروج من تخلّفها الذي فرضه فكر الجماعة على مدى زمن طويل. وكان أدريس أبركان قد أشار إلى أنّ أهمّ أسباب استمرار انحصار الدّماغ الجماعيّ للبشريّة يعود بالأساس إلى الحجر المفروض على الدّماغ الفرديّ [21]. فلولا برونو لظلّت الشّمس تدور حول الكرة الأرضيّة في اعتقاد النّاس، ولولا إنشتاين، مؤسّس نظريّة النّسبيّة، لظلّ قياس الحركة، والزّمن والمكان مطلقا كما سنّ ذلك نيوتن من قبل. ولولا إيدوارد جينر مكتشف التّلقيح لظلّت نسبة الوفيات في صفوف الأطفال مهولة، وعاديّة كما أفتى بذلك بعض رجال الدّين المسيحيّين زمنا طويلا، في محاولتهم تبرير واقع مؤلم.
7- نتائج الاستمارة :
ولتعزيز تحليلنا لطبيعة الغائب في كتابة المراهق، زرنا ثلاث ثانويّات تأهيليّة، سجّلنا خلالها مختلف الكتابات، والرّسومات، والرّموز التي استشهدنا ببعضها. كما قدّمنا استمارة إلى عدد من المراهقين بهذه المؤسّسات، من أجل ملئها على وفق أسئلة شموليّة دقيقة، تمسّ جوانب هامّة من انشغالاتهم، وهي على الشّكل التّالي:
استمارة بشأن الكتابة في فضاء المؤسّسة التّربويّة:
أعددنا هذا النّموذج انطلاقا من رؤية شموليّة لهاجس الكتابة لدى المراهق، مركّزين على ستّة أسئلة مستمدّة من طبيعة نزوعه نحو ممارسة فعل الكتابة، ومجالها، وطبيعة المكتوب، وفضاء الكتابة، ودوافعها، وغاياتها، ثمّ انتهينا بطرح سؤال حول مدى استمرار رغبة الكتابة لديه في ظلّ ظهور الشّاشة الزّرقاء باعتبارها أكثر استجابة، وفعاليّة، ويسرا وسرعة في تنفيذ فعليْ الكتابة والإرسال.
كانت خلفيّاتنا وراء اعتماد هذا النّموذج عديدة منها، الوقوف عن كثب على فعل الكتابة لدى المراهق، ومعاينة مدى انسجام ما ورد فيها من مكتوب مع ما هو مثبت على جداريّات المؤسّسات التّعليميّة، ومواقع التّواصل الاجتماعي. وقد أجْلت مختلف صفحاته جزءا هامّا من انشغالات المراهق، ونزوعاته، ومصادر الكتابة لديه. غير أنّ حالة التّحوّل التي يعيشها المراهق فيزيولوجيّا ونفسيّا واجتماعيّا ومعرفيّا لا تتوافق مع خربشاته بهذه الفضاءات، بل تترجم حجم الانحراف الذي يسكن كيانه في رؤيته لذاته وللآخر. فليس هناك ما يبرّر حضور حجم العنف، والبذاءة، والسّطحيّة، وثقل الجنس، والسّياسة، والدّين، وغياب الفكر والمعرفة ومنهجيّات التّحليل، سوى تعبير صريح عن سقوط تربويّ، وانحدار أخلاقيّ، وفراغ في بناء عقول أبنائنا بناء وظيفيّا ومنهجيّا، يمكّنهم من تحقيق الارتقاء الفكريّ والحضاريّ المطلوبيْن مستقبلا. وكان حريّا بنا أن نرسم صورة أخرى لمراهقينا تعكسها كتاباتهم، وسلوكاتهم، وفلسفتهم من خلال مساعدتهم على إحداث انتقال نوعيّ وسلس، على غرار باقي مراهقي البلدان المتحضّرة، حيث تتلاءم الكتابة مع طبيعة التّحوّلات الفيزيولوجيّة والنّفسيّة والشّعوريّة والاجتماعيّة والذّهنيّة، فلا يبدو النّشاز فيها إلّا على قدر يسير ومعقول. وكان إدريس أبركان قد دعا في كتابه ” حرّروا دماغكم” إلى ضرورة بناء تربية منسجمة مع طبيعة دماغ الإنسان بقوله «لا يجب إجبار الدّماغ ليشبه المدرسة، بل يجب إجبار المدرسة على مشابهة دماغنا»[22]اهتداء بما قاله دافنتشي «لا يجب أن نجبر الطبيعة كي تشبه أفكارنا، بل علينا أن نجبر أفكارنا على مجاراة الطّبيعة»[23]. فالباحث يريد أن يعيد قطار التّربية، ومعه قاطرة العقل، وغيرهما إلى سكّتهما الطّبيعيّة إذ لا يجب أن نجبر عقول أبنائنا، ومراهقينا على حفظ مادّة مّا بدلا من فهمها، لأنّ طبيعتها ترفض الأوّل، بينما تبدي استعدادا كبيرا لممارسة الفعل الثّاني. والحالة نفسها حينما نعاقب تلميذا بدنيّا على عدم قيامه بواجب مّا، لأنّ طبيعة جسدنا ترفض أيّ ألم يلحق به.
8- عنفوان الكتابة في فضاءات التّواصل الاجتماعي للمراهِقين:
أصبحت الفضاءات الزّرقاء مجالا مغريا لمجايليها من المراهقين والشّباب، بفعل ما توفّره لهم من إمكانيّات عديدة ومتنوّعة لتمرير خطاباتهم، وأفكارهم، وتصوّراتهم، واهتماماتهم الخاصّة المنبثقة عن طبيعة نموّهم الذّهني والشّعوري. إنّ انخراطهم المبكّر في هذه الوسائل التّعبيريّة الجديدة يفصح عن علاقة تفاعل كبرى معها، وصلت حَدَّ الغرام والإغراء والهوس. وأيّ محاكمة، بالمعايير التّقليديّة التي نشأنا عليها[24]، لمستوى الانخراط اللّامشروط لهؤلاء الرّوّاد الشّباب في هذه الفضاءات، لا تراعي مستجدّات الحاضر، ولا تستشرف المستقبل، في الكتابة والفكر والقيم، ستكون إجحافا كبيرا في حقّهم. لذلك سننظر في كتابة المراهقين بهذه المواقع الجديدة، من باب فهم طبيعة التّحوّل في بنيتها، ومعاييرها، وخصائصها، ومظاهر الجدّة فيها، ووظائفها المعرفيّة والثّقافيّة والقيميّة والاجتماعيّة.
من آثار وسائل التّواصل الحديثة على اللّغة الفصحى، شيوع تعليقات مختصرة تخلط بين اللّغة الأمّ واللّهجات المنبثقة، بين النّصّ وصاحبه، حول مقالات فكريّة واجتماعيّة وسياسيّة ودينيّة من قبيل:
- كلام جميل
- أنت جميلة (تعليق على مقال كاتبة)
- نوّرتي الموضوع
- كلام حلو ورائع
- أنا معك
- أنت كافر الله يقطع راسك(تعليق على تعليق)
- أنت زنديق… أنت مبتعرفش الدّين.
فهل يجدي نفعا أن تعلّق على موضوع فكريّ أو تربويّ أو علميّ بمثل هذه التّوقيعات الانطباعيّة التي تحيد عن الموضوع، وتفتقر للعمق والتّبصر والتّدبّر. ألا يؤدّي هذا إلى تقليص ذهن القارئ، وتحجيم قدرته على الانطلاق؟ إنّ مثل هذه التّقييمات والتّعليقات تكشف عن بساطة المعلّق، وضيق قدرته على النّقد والتّحليل والتّشريح. والواقع أنّ قراءة استهلاكيّة كهذه لا تتجاوز حدود رغبة المتواصل في الإطراء المجانيّ على الكاتب أو استهجانه بغرض الإعلان عن الانتماء إلى المجموعة دون إفادة أو استفادة. هذا هو حال معظم فضاءات التّواصل الاجتماعي، وبعض المنتديات والمواقع التي ينتمي روّادها إلى فئات المراهقة والشّباب. ولئن كانت محاسن انتشار مواقع التّواصل الاجتماعي في ظلّ تنامي التّطوّر التّكنولوجيّ الهائل، هي تراجع ملموس لدى المراهق في الكتابة على جدران المؤسّسات التّعليميّة، نظرا لما تتيحه هذه المواقع من فرص كثيرة لتمرير الخطابات، وإيصال الرّسائل بسرعة وبلاغة، فإنّ من مساوئها ازدياد بعد المراهق عن التّعبير باللّغة الفصحى، إذ لم تعد تشكّل عماد التّواصل لديه، بل أصبحت الرّموز والأشكال والأيقونات التي تتيحها هذه الوسائل مطلبا ملحّا لدى المراهق، فهي توفّر عليه عَنَاء التّركيب الكلاسيكي، وجهدا لا يعود عليه بفائدة.
من محاسن التّكنولوجيا المعاصرة، ما أتاحته للمراهقين من إمكانيّات هائلة للتّعبير عن آرائهم برسائل سريعة، موجزة ومجسّمة. وبما أنّ المراهق واحد من النّاس الذين دخلوا معترك هذه الفضاءات الرّقميّة مبكّرا، فقد أتاحت له فرصا هامّة للانخراط في فضاءات التّواصل الاجتماعي. ولا شكّ في أنّ هذه المواقع والصّفحات تشكّل أفضية جديدة للتّعبير، وللتغيير في الأسلوب، والحجاج، والرّؤية. وبما أنّ هذه الوسيلة المستجدّة هي أرقى ما وصل إليه الإنسان، وأفضل ممّا أنتجه على مرّ العصور، فقد ساهمت بشكل ملحوظ في إقلاع عدد كبير من المراهقين عن الكتابة على الجدران التي أصبحت تقليديّة، في نظره، لأنّها لا تفي بأغراض التّواصل مع الآخر، ولا بإمكانيّة تفجير المكبوتات، والمحرّمات. لقد أكّد استطلاع للرّأي الوارد في الاستمارة حول مدى استمرار رغبة المراهق في الكتابة بفضاء المؤسّسة من دونها، أنّ نسبة70% أبدوا قناعتهم بعدم الرّغبة في الكتابة به، فيما أعربت 30% عن نيّتها في الاستمرار في اختيار فضاء القسم، وغيره وسيلة مفيدة لتمرير خطاباتها، ورسائلها.
ونعتقد، حسب معاينتنا، أنّ حجم الكتابات المسطورة على الطّاولات والجدران في السّنوات الأخيرة بدأت تقلّ مقارنة مع السّنوات الماضية، وبالتّالي فآراء المتعلّمين تعبّر فعلا عن عدول عمليّ عن نزعة الكتابة على الجدران، وغيرها، وذلك راجع إلى بروز وسائل جديدة مغرية بإمكانيّاتها التّعبيريّة الهائلة التي تلائم طبائع المراهق في السّرعة، والإيجاز، والنّجاعة، والتّجسيم، والتّصوير، والحركة، وتشخيص الانفعالات، والمشاعر عبر توظيف أيقونات معبّرة عن مشاعر الحزن، والفرح، والامتعاض، والرّفض، والإعجاب، والتّشجيع بعيدا عن عناء التّركيب، والصّحّة والخطإ، خاصّة وأنّ محرّكات البحث والتّقويم، وذاكرة الحاسوب المخزّنة لكلّ العمليّات أصبحت تعوّض جهد التّفكير، والتّأليف، وتوفّر كذلك المساحة والمسافة والزّمن لروّادها.
لفهم كتابة المراهق، بهذه الفضاءات، كان لزاما علينا الدّخول إلى صفحات ومواقع التّواصل الاجتماعيّ للمراهقين، وخاصّة موقع Facebook، وMy space . ورغم أنّ تحديد هويّة النّاشطين بها بات أمرا متعذّرا، نظرا لاستتباب ثقافة الأسماء المستعارة، والهويّات الرّقميّة التي جاءت كنتيجة مباشرة لما تتيحه تقنيات الوسائل التّكنولوجيّة من إمكانيّة الظّهور بهيئات افتراضيّة لأغراض مختلفة[25]. إنّ عالم الكتابة بهذه الفضاءات عالم مدهش، معقّد، منتهك، ومغر في الآن نفسه. من الواضح أنّ المراهق لم يعد مهتمّا ببنيات اللّغة، وقواعدها، وفصاحتها، واستقلاليّتها، وسلامة تركيبها النّحويّ والإملائيّ، وإنّما بات مهووسا بلحظة النّشر، أوالرّدّ أوالتّعليق، وانتظار ردود الآخرين، وتفاعلاتهم من جميع أقطار العالم. أنتج هذا الوضع التّواصليّ جملة من الخصائص، منها ما هو لغويّ، وما هو ثقافيّ معرفيّ، ومنها ما هو شعوريّ وسلوكيّ. كلّ ذلك كان من قبلُ مثار استهجان من طرف حرّاس اللّغات، ونقائها، نذكر منها ما يلي:
أ– اتّساع دائرة النّقاش، نظرا لما تمارسه مواقع أخرى من تأثير على المراهقين، إذ لم تعد انشغالاتهم محصورة في ما تمليه طبائعهم، من حبّ، وانفتاح، وانفعال، وحركة، وتقليد… لقد لا حظنا انتقال المراهق إلى طرح مواضيع جديدة، ومتابعة مجريات الأحداث العالميّة، والتّعليق عليها، مثل حدث سقوط الطّفل ريّان في بئر عميقة، وما أساله من مداد عالميّ غير مسبوق، حيث ورد في تعليقات بعضهم:
-الحمد لله والشّكر لله، ريّان دائما في قلوبنا.
-ريّان(émoticône)تذرف دموع الحزن.
-أصبحتم تتاجرون بريّان، راعيو لوالديه والعائلة ديالو.
-ليس الموت خاصّ بالكبار، أدّو صلاتكم ولا تنسو ذكر الله.
كما لا حظنا انخراطا واسعا للمراهقين في التّعليق على أنشطة رياضيّة، أو المسارعة إلى نشر صور، وأفكار حولها، على غرار ما أورد أحدهم بعد خسارة المنتخب المصري في نهائي كأس إفريقيا للأمم بالكامرون بعنوان: «الدّنيا دوّارة أخويا.. نهار عليا ونهار عليك. «حيث أورد صورة لمحمد صلاح بشوشا فرحا بعد تجاوزهم للمنتخب الكامروني، أمامها صورة أخرى يذرف فيها دموع الحزن بعد الخسارة أمام السّينغال، نورد منها ما يلي:
-بارك من زرع الفتنة يالله تصلاحنا مع الجزائريّين باغيين تشعّلوها لنا مع المصريّين
-خاوة خاوة هارد لاك لخاوتنا المصريّين كنتو رجال
-كيتنا حنا لي من سبعينات وهي علينا ما عمرها ما كانت لينا
-كون غير دخلتي سوق كَرّk احسن
-ما تبكيش الخوينز
-اتّق الله ياصاحب الصّفحة لا تفسد ما أصلحه الطّفل ريّان
-شحال عزيز عليكم الفتنة نتوما ياهاد الصّفحات خاصّكم تنقاردو ونتوما لي فرقتو الدّول العربيّة بسُمِّ الحقد حسبيا لله ونعم الوكيل حظّ موفّق لمنتخب مصر كنتم رجال تستحقّون…..
ب– الاهتمام بالصّور الشّخصيّة، إذ تحظى منشورات الصّور الشّخصيّة للمراهقين باهتمام كبير من طرف أصدقائهم، حيث تحقق التعليقات أرقاما عُليا مقارنة بالمنشورات الفكرية والسياسية:
– منوّر خويا
-نورتي البلاد
-برفكتو
-متألللق
-كبرتي الخوادري
-لايك (بالأصبع)
-راااااااءع
ديمااااواجد
-premo
ج– العناية ببعض أوجه التّكنولوجيا، مثل منشور Malek stranger حول مسابقة أحسن خلفيّة للهاتف. وقد حقّق هذا المنشور حوالي 2300 تعليق، ومشاركة بصور لخلفيّات متنوّعة، تراوحت بين جمال الطّبيعة، وتنوّع الثّقافة، وثقل العقيدة، وحجم التّأثير بالمشاهير، وحبّ الحيوانات، وغرابة الصّور، وغموض بعضها… وجاءت التّعليقات متضاربة بين مؤيّد ومعارض، ومشارك ومستهجن، وناصح لاستثمار اللّحظة فيما ينفع من صلاة وتعبّد، بدلا من إضاعة الوقت في مثل هذه المنشورات:
-صلّي على رسول الله
-حافظو على صلاتكم، ملايين يتمنّون يخرجون من قبورهم لركعة واحدة العهد الذي بيننا وبينهم الصّلاة فمن تركها فقد كفر، ربّي اجعلني مقيم الصّلاة ومن ذرّيتي.
– اشنو دينك
-تتركو الإنسان وتحبّو الحيوان
-انت صوّرتي المنظر؟؟؟؟
-perfecto
-غاية
-fantastics
د– تزايد الاهتمام بالمنشورات الفكريّة، خاصة ما يرتبط منها بالحكم، والأقوال المأثورة، حيث لا حظنا مشاركة واسعة للمراهقين على صفحاتهم المفترضة، يُبدون فيها آراءهم حول منشورات، نشكّ في نسبتها إلى المراهق لصعوبة ضبط هويّات النّاشرين، نظرا لاتّصافها بالتّنوّع في الحقل المعرفيّ، والعمق الفكريّ، والكثرة والتّواتر. غير أنّ التّعليقات المدبّجة تعبّر فعليّا عن تساوق مع منظوراتهم، وطبيعة نزوعات التّفكير لديهم. من ذلك ما ورد على صفحة مّا:
“قبل أن تعتقد أنّك مصاب بالاكتئاب، تأكّد أوّلا أنك لست محاطا بالأغبياء”
حظي هذا المنشور بحوالي 530 تعليقا، و 2500 تقاسم (برتاج)، وهذه بعضها:
– رسالة لكلّ واحد نفسيّته زيّ الزّفت
-جميل
-الكلام عظيم
-صحّ والله
-محاطين بالأغبياء والحاقدين والحاسدين
-انت بتنشر حاجات تحف
-محاطة وبزّاف
-Entourage khraaa
-إيه علاقة الأغبياء بالاكتئاب
-True hhh
– لا أنا الغبيّة الوحيدة
– وإذا محاط شسوي؟
-الذّكاء له حدّ أمّا الغباء ملوش نهاية….
هناك منشورات أخرى، نذكر بعضها لأهمّيتها، من ذلك:
” لا علاقة لي بنواياك الحسنة حين تكون أفعالك سيّئه ولا شأن لي بجميل روحك ما دام لسانك مؤذيا“
“لا تتوقّع أبدا أن تحصل على مثل ما تعطي فليس كلّ النّاس لديهم قلب مثلك“
“استمتع بأبسط الأشياء في حياتك، فأنت لا تعلم قيمة ما تملك من نعم حتّى تفقدها“
“صفّق لمن علّمك القسوة ثمّ اصفعه بقوّة حتّى يعلم أنّك تعلّمت“
“قمّة المتعة أن تجالس شخص يكرهك ويغتابك كثيرا ومع ذلك يبيّن لك العكس، وهذا كافي بأن يخبرك بأنّك بحضورك هيبته قادرة على تحويله إلى جبان منافق” (مرفوق بصورة لليوناردو ديكابريو).
إنّ قراءة بسيطة لهذه الكتابات المأخوذة من صفحات التّواصل الاجتماعي للمراهقين، تؤشّر على بزوغ عهد جديد، سيعصف بجملة من المفاهيم التّقليديّة التي تكرّست على مدى زمن طويل، حتّى ظننّا أنّها نهائيّة، كاملة، وذات أسس متينة، وعلى رأسها مفاهيم اللّغة، والتّواصل، والقيم، والواقع، والخصوصيّة، ومحدوديّة فكر المراهق، وأناه الصّغيرة. وهذه بعض الاستنتاجات التي أمكننا استخلاصها:
أ- لم تعد اللّغة من منظور المراهق سوى وسيلة واحدة من وسائل التّواصل، حيث تسلّل إلى مجالها مرتزقة آخرون، مثل أيقونات شعوريّة، وأشكال، وعلامات، ورموز يدويّة، وحروف وكلمات متكرّرة، وأشباه اللّغة، ولهجات قوميّة مختلفة، فضلا عن تلاقح اللّغات العالميّة، وهجنتها، إذ لم يعد لنقائها أيّ حضور أو قيمة ما دامت غاية المتواصل ليست بناء خطاب لغويّ محبوك يحتمل قراءات متعدّدة، ويتّسم بصورة صاحبه أسلوبا، وفكرا، وخيالا، وإنّما غايته التّعبير في اللّحظة عن موقف، أو شعور، أو رأي واضح، مكشوف، عفوي، سريع وغير مدروس. لذلك لا يسائل المراهقون بعضهم البعض عن أخطائهم اللّغوية، ولم يرد أبدا أيّ نقد أو ملاحظة تدعو إلى ضرورة احترام سلامة التّركيب اللّغوي للغتنا القوميّة، بل ولا يرون ذلك عيبا يحطّ من قيمة التّركيب، والخطاب، والنّصّ ما دام الغرض من الرّسالة قد تحقّق بشكل تامّ، وبدون لبس.
نتذكّر جميعا كم أسالت اللّهجات من مداد، ونقد، واستهجان عندما تسلّلت إلى حرمة اللّغة الأدبيّة السّامية، غير أنّه سرعان ما ظهر من يدافع بشراسة عن قيمتها التّعبيريّة، وسلاستها، وشحناتها الدّلاليّة حتّى أمست تنويعا مميّزا مطلوبا في الخطابات الرّوائيّة، والسّياسيّة، والدّينيّة، والأكاديميّة. والحال أنّ ما تعرفه لغات العالم، في فضاءات التّواصل الاجتماعيّة، من تهجين غير مسبوق سيعرف مقاومة مماثلة دفاعا عن اللّغة الأصيلة باعتبارها رمزا للهويّة، وشعارا للقوميّة، وعنوانا للحضارة. لكن سرعان ما سيذوب جليد الممانعة أمام سلطة واقع الفضاءات الافتراضيّة التي تمضي بصورة اللّغة المعاصرة نحو التّطوّر والاكتمال، دون توقّف، ودون امتلاك أحد لأيّ قدرة على إيقاف عجلتها، وكأنّها تتشكّل في كوكب آخر خارج السّيطرة.
ب– أصبحت الأسماء المستعارة مطيّة روّاد هذه الفضاءات، إذ نادرا ما تجد من يفتح صفحته، أو يشارك بتعليق، أو منشور باسمه الحقيقيّ. تدلّ على ذلك طبيعة الأسماء المثبتة سواء باللّغة العربيّة، أم باللّغة اللّاتينيّة، من قبيل:Amine Aminos, Tata Adaw, Um Aws, Ana hna، جغيسو جغيسو، سكران ماشي بالعاني، بيست براند شوب ماروك،Maryol Minto. ويأتي هذا السّباق المحموم نحو الظّهور بأسماء مستعارة تحت ضغط هاجس التّميّز، والانفراد، وخصوصيّة الصّفحة بدءا بعنوان أو اسم صاحبها، وليس بدافع التّنكّر، وإخفاء الهويّة كما بدا من قبلُ. انتقل الاسم، إذن، من حالته الواقعيّة كما رأينا ذلك في فضاءات المدرسة حيث كان تأريخا لشخصيّة المراهق، وهويّته الحقيقيّة، إلى حالة صورته الافتراضيّة[26] التي يرغب في تصديرها إلى العالم. فكما كان المواطن العادي يضخّم صورة النّجم، أو السّياسيّ، أو الفنّان الذي لا يراه إلّا عبر التّلفزيون أو الجرائد أو السّينما، كذلك حال صورة المراهق الافتراضيّة التي يسعى جاهدا إلى تضخيمها في أعين جماعته، وجمهوره غير المحدودين. فليس هناك ما يمنعه من ألّا يوحي للآخرين بأنّه هو كذلك، خاصّة وأنّ ثقافة الاستعارة باتت مألوفة لدى الجميع. لقد باتت خاصيّة التّميّز هاجسا يؤرّق الهويّات الافتراضيّة لروّاد الإنترنيت، ليس في جانب اللّغة والأسلوب اللّذين باتا نسخا واحدة على الصّعيد العالمي، وإنّما في جوانب البروفايل، والمنشورات أساسا.
ج-هيمنة الخطاب الدّيني على باقي الخطابات، فلا يكاد يخلو منشور، أو تعليق من نفحات دينيّة. والملاحظ أنّ إدراجه غالبا ما يتمّ بطريقة إسقاطيّة حيث يسارع المتواصل إلى إقحام جزء من آية قرآنيّة أو حديث نبويّ، أو حتّى مصطلحات، مثل: حنا مسلمين، اتّق الله، صلي على رسول الله، خاوة في الاسلام، لا حول ولا قوّة إلا بالله، اللّهم، صحّ والله، سبحان الله، حسبي الله ونعم الوكيل، الحمد لله، رجعو لله….. دون مراعاة لسياق الكلام، ولا لدلالته النّاشئة عنه، وشروط استعماله كي يؤدّي وظائفه الدّلاليّة، والحجاجيّة، والقيميّة والأخلاقيّة. ويبدو أنّ تواتر ترديد خطاب مّا يعبّر عن طبيعة تشكّل عقل صاحبه، وهنا نستحضر ما قاله محمّد عابد الجابري، في كتابه “بنية العقل العربي”، من «أنّ العقل العربيّ عقل يتعامل مع الألفاظ أكثر ممّا يتعامل مع المفاهيم، ولا يفكّر إلّا انطلاقا من أصل أو انتهاء إليه أو بتوجيه منه» [27]، لهذا لا يمكنه أن ينتج المعرفة بل يحصلها عن طريق الاستنباط والمماثلة والتّجويز والقياس.
د-الانتقالات الحادّة بين المواضيع، حيث ترفرف التّعليقات من جوهر الموضوع إلى هوامش لا تمتّ إليه بصلة، فكلّ متفاعل يقول ما لديه، في منأى عن سياق الكلام، غير آبه بما يجب أن يقال، ولا بمضمون القول، حيث يتحوّل الموقع إلى سوق لعرض البضائع اللّغوية والمعرفيّة والثقافيّة والعقائديّة، والحالات النفسية والاجتماعية، إذ نادرا ما تصادف تعليقا على تعليق، يهدف منه صاحبه إلى نقد، وتقويم المقول بغرض الحفاظ على تماسك الموضوع ووحدته، وإغنائه، واحترام حدوده، وإثراء خطوطه المعرفية. وإذا حدث فغالبا ما يكون الرّدّ عنيفا، ومخجلا، وفظّا ينمّ عن غياب فلسفة التّواصل، وأدبيّاته، فضلا عن هيمنة ردود شكليّة، وسطحيّة لا تضيف له شيئا، ولا لقرّائه، من قبيل:
- ضخخخخم، فعلان، كلام واع، صححح، حرفيّا صح، صدقت والله، جزااك الله خيرا، أحسنت النّشر، اللهم اصلح ذات البين…
إنّ المراهق لا يحرص، في هذه السّياقات، على جودة منتوجاته الفكريّة واللّغويّة، واقتراحاته الثّقافيّة، بقدر ما يحرص على الرّدود التي ينالها منشوره أو تعليقه، حيث يخصّص هامشا كبيرا للتّفاعل معها، بكلّ مشاعره وقدرته على نسج علاقة احترام وتقدير مع زملائه من كافّة أطراف العالم. بل أكثر من ذلك فهو يَقْلَقُ كثيرا من بعض أصدقائه الذين لم يشاركوه بتعليقاتهم الاعتياديّة، لذلك تجده بالقدر ذاته حريصا على من لم يكتب، وعلى من كتب ونقد، حيث يشرع توّا في توجيه ردود لاذعة لكلّ منتقديه، أو مستهجنيه، يتحوّل معه سياق التّفاعل إلى معارك هامشيّة عنيفة ولا أخلاقيّة أحيانا.
ه– “انهيار السّياق” كما ذهب إلى ذلك مايكل ويش[28]، فقد سمح واقع الشّبكة الإلكترونيّة لروّادها بمشاركة الآخرين في ما يقترحون من أفكار، وصور، وأحداث، ومقترحات، وردود أفعال، وتعليقات… تأتي معظمها مقتطّعة من سياقاتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والسّياسيّة والعقديّة، تقدّم إلى جمهور واسع عالمي يقرؤها في ظروف تختلف تماما عن الظّروف التي يُكتب فيها النّصّ الأصلي. وسيلاحظ القارئ، والباحث معا ملامح هذا المعطى الجديد من خلال تحوّلات عديدة طرأت على خطاب المراهق، منها:
– اعتبار إخفاء الهويّة أمرا عاديّا.
– اتّساع دائرة اهتمامات المراهقين حيث امتدّت لتشمل مواضيع سياسيّة، وحضاريّة، وعلميّة، وثقافيّة، واقتصاديّة، وحالات اجتماعيّة، وظواهر استثنائيّة… لم تكن تحظى لديه بأهمّيّة من قبل.
-انتفاء قيمة الهويّة المحلّيّة ممثّلة في اللّغة والدّين والوطن.
-ارتفاع منسوب الوعي الذّاتي من خلال الانفتاح المستمرّ على تجارب عالميّة للمراهقين خاصّة، وللشّباب عامّة، بحيث تداخلت الأعمار، وامتزجت الخصوصيّات الثّقافيّة.
-إسقاط الأحكام، والأفهام، والملاحظات على المنشور، أو التّدوينة بشكل لا يتطابق أحيانا مع ما يسعى إليه صاحبه، وذلك بسبب عزلة العبارة، وتداخل الثّقافات، وثقل ذاتيّة القارئ، وغاياته، وتضارب الآراء التي تعمل باستمرار على التّشويش على سياق الكلام.
– انهيار قيمة المعلومة، إذ لم يعد لها أثر كبير في حياة المراهق، ما دامت لا تشكّل جديدا مدهشا بالنّسبة إليه، في ظلّ متابعته لكلّ ما يجري في عالم شبكيّ سريع الإصدار، والإخبار، والتّرويج، والاطّلاع. فأينما وّليت وجهك ستسمع من المراهق، ومن غيره ما ترغب في إطلاعه عليه، أو إقناعه به، لأنّ شرط التّجاوب المطلوب في كلّ وضعيّة تواصليّة يسقط فورا، مما يجعله مجرّد تحصيل حاصل.
و– الانتقال من الموضوع إلى الذّات، حيث يقحم المراهق ذاته، بوعي أو بدونه، في مجمل المواضيع المقترحة، فلا يستطيع كبح جماح أناه وهو يداعب فكرة، أو صورة، أو مشهدا تحت ضغط المماثلة أو الممانعة، أو الاختلاف، أو استعصاء الموضوع على فهمه. لذلك غالبا ما يَعْدِل عن موضوعيّة الموضوع لإدماج ذاته فيه، بالتّعبير عن شعور يخالجه، أو تجربة يعيشها، أو إبداء موقف شخصيّ منه بدلا من تحليله، ونقده، ومناقشته. وهذا ما يفسّره أيضا مسارعته للتّعليق على صاحب المنشور، مدحا أو ذمًّا بدلا من كتابته، من قبيل:
- أنت عبقريّ، أنت مميّز، والله رجل، كلامك عظيم، اتّق الله ياصاحب الصّفحة، أنت عبيط…
والواقع أنّ هذا النّزوع نحو ذات المراهق يتّفق مع هذه المرحلة العمريّة حيث تحظى الذّات فيها بقيمة كبرى باعتبارها اكتشافا جديدا ومدهشا بالنّسبة إليه، غير أنّه يعبّر عن توظيف مجانيّ لها، لا يراعي الشّروط الموضوعيّة لإدراج الذّات إدراجا سويّا، ووظيفيّا، إنّما يعكس حجم التّضخّم والشّكلنة لـ “أنا” ما زالت في حاجة إلى بناء متعدّد الأبعاد حتّى تستقيم.
ز-تفكّك أواصر العلاقة بين اللّغة والهويّة القوميّة، إذ لم تعد اللّغة في شبكات التّواصل الاجتماعيّ حاملة لهويّة النّاطقين بها، باعتبارهم أمّة لها ثقافتها، وفكرها، وفلسفتها في الوجود، وإنّما أصبحت اللّغة الشّبابيّة معبّرة عن هويّة مرحلة عمريّة مميّزة لكلّ مراهقي العالم. إنّها إذن تجاوز بَيِّنٌ للهويّات اللّغويّة القوميّة، وإيديولوجيّتها، مقابل تشكّل ملامح لغة عولميّة ذات خصائص جديدة قوامها الاقتصاد في الكلام، وسرعة الإرسال، وهجنة التّركيب، وبساطة الرّسالة، ويُسر القراءة.
ح-الثّابت والمتحوّل في كتابة المراهق، سواء في الفضاءات الكلاسيكيّة، أم على مواقع التّواصل الاجتماعيّ. فالظّاهر أنّ الثّابت فيها هو حاجته إلى التّعبير، وإصراره على إبراز الذّات عن طريق الرّفض، أو التّأييد، أو الاحتجاج، أو الإدانة، أو تفجير المكبوت، وهذا ما يمارسه بقوّة، وبإقبال ورغبة لا نظير لهما. كما أنّ نزعته نحو تكريس أسلوب النّقد اللّاذع، وبذاءة الألفاظ، وعموميّة الأحكام، وإطلاقيّتها ما زالت تشكّل حيّزا هامّا من تفكيره، وزاوية نظره للآخر خاصّة، وللوجود عامّة. بينما المتحوّل هو اختلاف الوسائل، ومساحة التّعبير، وارتفاع أعداد المشاركين، واتّساع دائرة التّفاعل التي انتقلت بسرعة من المحلّيّة إلى العالميّة. بيد أنّ مضمون هذه العمليّات لم يعرف تغييرا جوهريّا سوى ما لحق باللّغة من تهجين عولميّ، وانتفاء لأصالتها، وقدسيّتها، وافتضاض لعذريّة هويّتها القوميّة. وما ظهر من تضخيم لذات افتراضيّة كان مفروضا أن تصغر، وتتواضع أمام ذوات عالميّة مختلفة، وتتعلّم، وتصحّح نزوعاتها المرضيّة، مستثمرة غنى الفضاء العالمي، وثراء أطروحاته المتنوّعة والمختلفة، فضلا عن ظهور مساحة واسعة لملامح الارتقاء الفكريّ من خلال مطارحة مقولات لمفكّرين وفلاسفة وعلماء، سيكون لها حتما تأثير إيجابيّ على منهجيّات التّفكير، وتنويع مصادر المعرفة التي ستلعب دورا حاسما في تشكيل عقول مراهقينا مستقبلا.
ط– لا شكّ في أنّ انتقال مراهقينا من الكتابة في فضاء مؤسّساتهم التّعليميّة الواقعي، إلى فضاء مواقع التّواصل العالميّ الافتراضيّ، سيفضي إلى تحوّلات عميقة في المفاهيم، خاصّة ما يرتبط منها بجدل الواقعيّ والافتراضيّ في الوجدان، والفكر، والسّلوك، والقيمة، والجمال، والإنتاج، والهويّة، وزاوية النّظر إلى الآخر المتعدّد، وإلى الوجود الممتدّ في الزّمان والمكان، لا يستطيع أحد اليوم التّنبّؤ بطبيعة التّغيير، ولا بحدوده، وآفاقه، وآثاره على مستقبل الإنسان عامّة.
9- مقترحات تربويّة:
لتحقيق كتابة سليمة منبثقة عن خصائص المراهق ومنسجمة معها، يفترض اعتماد المبادئ التّربويّة التّالية׃
- فهم طبيعة المراهق التي جُبل عليها.
- دعم خاصّيّة الكتابة لديه وتعزيزها وفق رؤية تربويّة تخدم نموّ شخصيّته وانفتاحها.
- اعتماد التّواصل والحوار، فيما يصدر عنه، بدلا من القطيعة والشّجب والرّفض في معالجة القضايا المطروحة.
- إشراكه في القرارات سواء داخل البيت أم في المدرسة وإدماجه في الأنشطة الموازية.
- تربية ملكة النّقد والتّساؤل لديه، لإشاعة جوّ من الحرّية والشّفافيّة والاستقلاليّة في الرّأي والحقّ في التّعبير.
- إطراء منجزاته وسلوكاته كلّما حقّقت درجة مّا من النّموّ والارتقاء.
- دعم قيم الصّدق والصّداقة لديه من طرف الأسرة والمدرسة، وإطلاعه على محطّات مشرقة من مراحل المراهقة التي أبان عنها المراهقون، لتكون خير سند له.
- اقتحام الطّابوهات وتناولها، كلّما أتيحت الفرصة، حتّى لا تكبت أكثر في لاشعوره.
- تحسيس المراهق بأنّه شخص سويّ جدّا، ومن ثمّ العمل على الارتقاء بمشاعره وفكره بما يسمح له بالمشاركة الفعّالة والإيجابيّة في بناء المجتمع.
- فتح فضاءات خاصة لكتابة المراهق، لتكون قدوة للنّاشئة سواء على مستوى فنّ الخطّ أم على مستوى إرساليّات الخطاب.
- تشجيع خاصّيّة استقلال الذّات لدى الشباب، لأنّها عنوان الهويّات الجديدة، ومناط التّنازع الإيجابيّ، وطريقة ناجعة للحفاظ على التّنوع الطّبيعي المفضي إلى الاختلاف في الكتابة، والرّأي، والفكر، والعقيدة، والشّعور، والأحلام، والتّطلّعات، والمنافسة، والجدّة… خاصّة في ظلّ مساعي الجمهور الشّبكيّ لتشكيل الوعي الإنسانيّ الجمعيّ الموحّد[29].
- مناقشة كتابات المراهقين بجميع فضاءاتها ووسائلها، في ورشات تكوينيّة، أو في برامج تلفزيونيّة، وفيديوهات يُشْرَك فيها هؤلاء الشباب على نطاق واسع، ويُسمح لهم فيها بإبداء آرائهم بكلّ حرّية وشفافية، مع الحرص على تثمينها، وتقويمها ذاتيّا حتّى لا يشعر باستمرار الحجر والوصاية في زمن الانفتاح والمشاركة.
- لا يعيش المراهق معزولا عما يجري في ملاعب مجتمعه، لذلك لا يجب أن ننتظر ثمارا مستساغة أكثر ممّا نغرسه في تربتنا، وجغرافيّتنا. فلا نهضة ولا حداثة ما لم يتحوّلا إلى وعي جماهيريّ، أي إلى حقيقة تربويّة قاعديّة وذاتيّة، تمسّ السّواد الأعظم من مجتمعنا كما قال علي أسعد وطفة[30].
- علينا أن نعيد النّظر، بطريقة تربويّة عادلة، في العوامل الحقيقيّة التي تمنع المراهقة المغربيّة من التّعبير عن ذاتها، أسوة بزملائها، في هذه الفضاءات. والحال أنّ مواقع التّواصل الاجتماعي منحتها هامشا من الحرّية، سمح لها بالتّعبير عن آرائها الخاصّة، وفرض وجودها ككيان مستقلّ.
- لا يحقّ محاكمة خربشات مراهقينا بفضاءات التّواصل الاجتماعيّ، وفضاء المؤسّسات التّعليميّة، بمعايير تقليديّة لم تنبثق من سياقات مستجدّات تكنولوجيا التّواصل المعاصرة، ولم تفهم سلطتها، وآثارها على الفكر، والشّعور، وزاوية النّظر إلى الحياة، والوجود معا. إنّما علينا الاقتراب من خطاباتهم، وبذل مجهود مضاعف لإدراك طبيعة هذه المخطوطات المتّسمة بالانفتاح اللّامشروط على تجارب العالمين، بما يسمح لنا بتحقيق تحوّل ذاتي يمكّننا من معرفة أبواب ولوج البارجة، بدلا من إجبار المراهق على النّزول منها. «فقد غيّرت شبكة الإنترنيت بشكل لا رجعة فيه، حياة النّاس والمراهقين خصوصا، بطريقة واسعة لا يمكن تصوّرها… يجب علينا أن نتعلّم ما يعانيه المراهقون، ونتعلّم التّنقل بين الجماهير الشّبكيّة لفهمهم»[31].
- فهل سيرسم مراهقونا، من خلال كتاباتهم، ملامح صورتهم الطّبيعيّة ذهنيّا وشعوريّا ومعرفيّا وسلوكيّا، أم سيعكسون بؤس التّربية، وضحالة الثّقافة المتداولة، وعنف الخطاب، وتخلّف منهجيّات التّفكير في المدرسة، والأسرة، والمجتمع رغم الانفتاح الذي أتاحته وسائل التّواصل الاجتماعي على الصّعيد العالمي، مكسّرة بذلك حدودا ظلّت، لزمن طويل، عاملا حاسما في تشكيل أوعاء أبنائنا، وتوجيه منظوراتهم للحياة خاصّة وللوجود عامّة، علما أنّ الفشل أو النّجاح ليس عملا فرديّا خالصا، بل هو مسلسل جماعيّ ناتج عن اختيارات واعية لمجتمع مّا كما أكّد ادريس أبركان[32].
[1]– أوزي أحمد، المراهق والعلاقات المدرسية، ط1، 2000، ص3.
[2]– المرجع نفسه، ص12.
[3]– ستانلي هول، عن جميل حمداوي، المراهقة خصائصها ومشاكلها وحلولها، ص34، نسخة رقمية:
books.islamway.net/1/549̱%20monahqatariaa ̱hamdon.pdf
[4]– أوزي أحمد، مرجع سابق، ص49.
[5]– جان بياجي، عن جميل حمداوي، مرجع سابق، ص47.
[6]– أوزي أحمد، مرجع سابق، ص73.
[7]– دافيد لوبرتون، أنتروبولوجيا الجسد والحداثة، ترجمة محمد عرب صاصيلا، منشورات المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط3-1997، نسخة رقمية:https://www.dopdfwn.com/cacnretra/scgdfnya/kutubpdfcafe-WAnRw.pdf
[8]– حسن مالك، شبكات التواصل الاجتماعي وأزمة الهوية اللغوية في العالم العربي، مجلة باحثون، عدد1- 2017، ص31.
[9]– أحمد أوزي، مرجع سابق، ص53.
[10]– عن علي زيعور، مذاهب علم النفس، منشورات دار الأندلس بيروت، ط4- 1982، ص 141.
[11]– شاكر عبد الحميد، الخيال، عالم المعرفة، 2009، ص472.
[12]– أحمد أوزي، مرجع سابق، ص115.
[13]– Saber hamrouni, La psychologie de l´adolescent P8,Version numérique : www.issep ̵Ks.ru.fn.
[14] – حسن المودن، مغامرات الكتابة في القصة القصيرة المعاصرة، ط1- 2013، ص104.
[15] – سيمون دو بوفوار، الجنس الآخر ج1، ص221، نسخة رقمية: file:///D:/Le-deuxieme-sexe-tome-1-Simone-de-Beauvoir-frenchpdf.com_.pdf.
[16]– علي زيعور، مذاهب علم النفس، مرجع سابق، ص143.
[17]– عن جميل حمداوي، المراهقة خصائصها ومشاكلها وحلولها، مرجع سابق، ص32.
[18]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[19]– جان بول سارتر، الوجودية مذهب إنساني، ترجمة عبد المنعم الحفني، ط1-1964، ص9، نسخة رقمية: C :/Users/HP/Downloads/32707Foulabook.com.pdf
[20]– جان بول سارتر، الوجودية مذهب إنساني، مرجع سابق، ص14.
[21]– Idriss Aberkane, Libérez votre cerveau, Edition Robert Laffont.S.R. Paris – 2016, P 17.
[22]– Idriss Aberkane, Libérez votre cerveau, Référence précédente, P. 158.
[23]– Ibid.
[24]– عبد المحسن صالح، التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان، عالم المعرفة، عدد 48- 1981، ص86.
[25]– Mustapha Chagdali, Réseaux sociaux virtuels et identité numérique, Bahitoune, N1 2017,P7.
[26]– Ibid.
[27]– محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، منشورات. مركز دراسات الوحدة العربية، ط 9- بيروت 2009، ص564.
[28]– أمل شمس، جدليّة انهيار سياقات “الهوية- الزّمان/ الوقت- المكان/ المسافات الاجتماعية- التواصل” على شبكات التّواصل الاجتماعي وتأثيراتها المجتمعيّة في العالم العربي، عالم المعرفة، عدد 185- 2022، ص 244.
[29]– أمل شمس، مرجع سابق، ص 274.
[30]– علي أسعد وطفة، التربية والتنوير في تنمية المجتمع العربي، كتاب جماعي، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة كتب المستقبل العربي، ع39- ص65.
[31]– أمل شمس، مرجع سابق، ص268.
[32] -Idriss Aberkane, Libérez votre cerveau, Référence précédente, P 148.