الملخص:
إنّ الطّابع البنيويّ لظاهرة العنف في المجتمع الجزائريّ يرتبط – أنطولوجيّا وجدليا – بمفهوم الاجتماع وتاريخانيّة التّأسيس لمفهوم الدّولة، ودور مفهوم التعصّب “في تفسير معناها وتبرير شرعيّة عنفها”.
نقدّر أنّ السّوسيولوجيا قد منحتنا المعرفة النّقدية لأحداث التاريخ، وأنّ الأركيولوجا بأدواتها “المادّية التجريديّة” قد مكّنتنا من القدرة على الاقتراب من الفهم الموضوعي للظاهرة.
لقد خلصنا إلى شيء من الفهم مفاده أنّ ظاهرة العنف في المجتمع الجزائري، ظاهرة توجب إزاحة ما علِق بها من فهم مشوّه كثيرا ما أضفى عليها طابع العفوية في طرائق طرحها للتفكيك والتحليل بما أفقدها تاريخيّتها.
إنّ التأريخ لظاهرة العنف في المجتمع الجزائريّ بردّ المسألة إلى التحوّلات التّاريخية وما خلّفته من صدمات وارتجاجات ارتكست في العقل الباطن يجلّي هندسة المخيال والممارسات المجتمعية لمفاهيم: الآخر المختلف والغريب، وكيفيّات استعادة مفاهيم المقدّس، والحرب والعنف وأشكال ردود الفعل العنيفة من حيث النّوع والحجم والقوّة في المخيال الجمعيّ.
الكلمات المفاتيح: الإشكالية- التاريخ- الفعل- عنيف-المجتمع الجزائري.
Abstract:
The structural nature of the phenomenon of violence in Algerian society is linked “ontologically and dialectically” to the concept of human formation in Algerian society, the history of the founding of the concept of the state, and the role of fanatical groups “in explaining their meaning and justifying the legitimacy of their violence.” We know that sociology has given us critical knowledge of the events of history, and archeology with its “material and abstract” tools has given us the ability to objectively understand the phenomenon.
We have understood that the phenomenon of violence in Algerian society is a phenomenon that must be removed from the dull understanding, which often gave it spontaneity, and ignores the history of the phenomenon. Its responding to a variety of historical transformations and the traumas and concussions they left behind in the subconscious mind, It clarifies the formation of the imagination and the societal practices of the concepts: the different and strange other, the imaginative restoration of the sacred, and war. As a result, the violent theme and form of the violent response in terms of type, size and strength.
Keywords: problematic, history, action, violent, Algerian society.
1- مقدّمة: في أسئلة البدء والجرأة الإبستمولوجيّة:
يدعو “ميشال فوكو Michel Foucault” إلى الإصغاء إلى التّاريخ بدلا من التعلّق بالماورائيات، والبحث عمّا وراء الظّواهر من دلالة لا تمثّل سرّ الظواهر والأفكار الجوهريّة الخالدة (…) ولذلك يرى فوكو أنّ ما نعثر عليه عند البداية التّاريخية للظواهر والأفكار ليس ماهيتها الثّابتة أو هويّاتها المحفوظة وإنّما شتات صور غائمة عنها وخاصّة في الدّراسات الإنسانية، وإنّ البحث عن الأصول لا يعني العثور على أصل أوّل يمكن اعتماده تأويلا جديدا للأشياء (بن عبد العالي، 1981: 162-163).
إنّ الاهتمام بالتّأريخ للفعل العنيف في المجتمع الجزائريّ حافل بنشاط إبستمولوجيّ ونقديّ تتداخل فيه كلّ من السّوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والإثنولوجيا والتّاريخ والسّياسة والتّوازنات ما فوق إقليميّة ولذلك فإنّ توخّي نوع من السّوسيولوجيا الأركيولوجية يكون أدعى إلى الفائدة بما يفوق مجرّد تركيب الجمل حسب طريقة المؤرّخين.
إنّ تاريخ الجزائر المعاصر والمحدّد بمنظورات الأحداث اليوميّة يمكن أن يكون موضوعا خصيبا للسّوسيولوجيا توصيفا “للفعل العنفي” في المجتمع الجزائري وتشخيصا لأدقّ تفاصيله ومظاهره، وأمّا تاريخ الماضي الخاضع نظريا “للمقاربات المطمئنة أو الكسولة ومنهج التقليد السّردي”، فيكاد يقتصر على رواية الأحداث متتبّعا إيّاها بتلخيص اختزاليّ للمكان والزمان قلّما يجرؤ على طرح صلة أحدات الزّمان والمكان بجملة الصلات التي يمكن أن تكون بينهما.
سنجازف – من جهة إيبستيمواوجيّة محض – بوضع قسم من المجال العاّم للتاريخ تحت اسم السّوسيولوجيا تحقيقا للفائدة إجرائيا، ويبقى أن نعرف ما إذا كان العنف في المجتمع الجزائري يلقى تلك الأهمّية بالنّسبة إلى الممارسات الاجتماعية الأخرى ويستطيع التحكّم فيها وتفسيرها.
ولكن، ما معنى التّفسير؟ فلا تفسير حيث لا استمرار… نستطيع أن نفسّر الفعل العنفي في المجتمع الجزائري عندما نستطيع بطريقة سوسيوأركيولوجية زحزحة ستار الفهم المشوّه عن الأسباب التي تؤدّي بشكل عامّ منتظم إلى الممارسة العنفيّة.
2- أركيولوجيا العنف والأسئلة المهملة:
إنّ السلوك العنيف في حياة المجتمعات قد دفع إلى الاهتمام بهذه القضيّة من طرف عديد المنظّرين فهذا “توماس هوبس T. Hobs” يرفع لواء معارضة حال الاجتماع = “مجتمع الدّولة” حيث يكون الإنسان في وضع الطّبيعة كحال البشر قبل عيشهم في المجتمع متخفّفين من كلّ سلطة عامّة يهابها الجميع.
لذا وجب التّساؤل عن الحال الأولى للبشر ؟
لقد وصف ” هوبس” هذه الحال وقدّم الإجابة بأنّها تتميّز “بحرب الكلّ ضدّ الكلّ”.
وإنّ هذه القاعدة تنمّ عن حكم مسبق على عالم الإنسان الأوّل حيث حاول العقل الغربي أن يعقل المجتمع الإنسانيّ من خلال مفهوم خاص للاجتماع الإنساني، وهو مفهوم يربط بين “الاجتماع والدولة”، بشكل يصبح معه القول : بأنّ كل ما يقع قبل الدّولة يخرج عن نطاق الاجتماع وينتمي – تبعا لذلك – إلى عالم التّوحّش، غير أنّ بعض “الأنثربولوجيين والإثنلوجيين والأركيولوجيين” بدؤا يتجاوزون هذا التّصور للاجتماع من خلال التّأسيس لمقاربات بديلة تنبني على “مصادرة” مفادها: “إذا كانت صفة التّوحّش قد وُصفت بها المجتمعات الأولى بسبب الحرب الدائمة التي تطبع اجتماعهم كما أقرّ بذلك “هوبس”، فهل يعني ذلك أنّ إنسانيتنا الحديثة قد هجرت التّوحّش. وتخفّفت من العنف ؟. ثمّ ألا يشكّل العنف الذي ما يزال يخيّم على العالم المعاصر أثرا من آثار البدائيّة فينا؟ (Tocqueville, 1952: 42-80).
يرى “سبنسر Spencer” من جهته أنّ الأحداث التي تهيمن على حياة الموحّشين والبرابرة هي الحروب. وأنّ وجهة النّظر هذه كانت بمثابة تتمّة لوجهة نظر التيولوجي “سوربزي سوزا S. Souza” حول قبائل” التيوبيناميا البرازيلية “، حيث علّق قائلا : “بما أنّ التيوبيناميا يتميزون بنزعة حربيّة شديدة فإنّ كل اهتمامهم ينصبّ على معرفة كيفيّة خوض الحرب ضد أعدائهم ( Sperber, 1974: 31-38).
وتحت وطأة “نمذجة نسقية Typologie Systematique” استنتج “موريس دافي M. Devy” – مستثنيا -مجتمع إسكيمو الوسط الشرقي… أنّه ما من مجتمع بدائي يفلت من ممارسته للعنف، وأنّه ما من مجتمع بدائي مهما كان نمط إنتاجه ونظامه التقني والاقتصادي يجهل أو يرفض نشر العنف من خلال الحرب. ذلك الذي تنضوي تحته كل مجموعة متورّطة في نزاع مسلّح”.
يبدو أنّه لا يمكن فهم المجتمع الأوّل دون فهم مقهوم الحرب التي أخذ بعدا شموليّا مباشرا من معطيات السّوسيولوجيا البدائيّة (Sperber, 1974: 42-68).
وإن هذا التّأكيد للوقائع العنيفة المتجليّة في الواقعة الحربيّة يقابله صمت “الإثنولوجيا الحديثة بوصفها أداة التّأريخ المهمّة للسلوك العنيف” والتي ترى أن العنف لا يوجد إلاّ من خلال وسائل منعه. فما مبرّر هذا الصّمت؟
من المؤكّد أنّ المبرّر الأوّل يتأتّى من الشروط المنظّمة للمجتمعات المعاصرة والتي يهتم بها علماء الإثنولوجيا. غير أنّ الإثنولوجيا اليوم لم يعد في مقدورها مراقبة المجتمعات على من موقع الإفراد والعزل لسبب بسيط وهو أنّ “الحرب البدائيّة باعتبارها سلوكا عنيفا قد أضحت غير مرئيّة، لأنه لم يعد هناك محاربون لصنعها” (Sperber, 1974: 70-83).
3- العنف ليس دون سبب أو غاية:
ثمة خطاب متناقض يؤرّخ لمسألة العنف ويمكن تصنيفه ضمن ثلاث اتجاهات كبرى:
1 -خطاب ذو نزعة طبيعيّة وثانيها خطاب ذو نزعة اقتصادية. وثالثها خطاب ذو نزعة تبادليّة. ويؤرّخ كلّ واحد من هذه الخطابات للسلوك العنيف بردّه إلى خاصيّة محدّدة في الإنسانيّة: أولاها أنّ العنف سمة حيوانيّة ومعطى طبيعيا يضرب بجذوره في كينونة الإنسان البيولوجيّة. وهذا العنف المتبلور في السّلوك العدواني ليس من دون سبب أو غاية، فهو دائما موجّه نحو هدف يظهر العدوان عبر العصور كأداة ترتبط “بالكسب” أساسا، ولذلك اتضح دوره لدى المجتمعات الأولى في”الصّيد” حيث يمتزج العدوان بالحصول على الطّعام.
2- أنّ العنف مصاحب للإنسان كائنا طبيعيا يتحدّد باعتباره وسيلة للبقاء وتأمين الوجود ولذلك تظهر المماثلة بين الاقتصاد البدائي واقتصاد الصّيد (Favret, 1971: 36-40).
وإذا كان هدف الصّيد الحصول على الغذاء، فإنّ الوسيلة إلى بلوغ البغية هي العدوان: “ويجب قتل الحيوان بغية أكله. ولأجل هذه الخاصيّة يحسن تحليل كل تقنيّة عنف للحصول على الغذاء تحليلا أركيولوجيا بتعابير السّلوك العدواني (Favret, 1971: 58-64)”.
إنّ هذا الاختزال “للحرب إلى صيد” كما ذهب إليه “غوهان – Ghohan” غير مؤسَّس إلاّ إذا اعتبرنا أنّ هدف الحرب هو دوما غذائي، وأنّ موضوع هذا الشكل من العنف هو الإنسان بوصفه طريدة مخصّصة لكي تؤكل. وأن هذا التعميم للطابع البيولوجي للممارسة العنفيّة المتجلّيّة في الحرب يؤدّي إلى إفراغها من بعدها الاجتماعي الخالص. ومن ثمّ، لا تشير بشموليتها نحو الطبيعة، بل نحو الثقافة (Chomsky,1970: 49-52).
4- عجز القوى الإنتاجية وظهور ظاهرة الحرب:
إنّ مؤسّسي “الأنثربولوجيا الاقتصادية”، يصفون الاقتصاد البدائي، بأنه اقتصاد كفاف يسمح للإنسان بتأمين العيش فقط. ومن المعاني الراتبة عن هذا الاعتقاد أنّ نُدرة الموارد الماديّة تؤدّي إلى التّنافس بين المجموعات التي تدفعها الحاجة إلى امتلاكها. وهذا الصّراع من أجل الحياة يجرّ إلى النّزاع المسلّح، مادام لا يوجد من هذه الموارد ما يسدّ حاجة الجميع.
ولأنّ “الماديّة التاريخية” تكتشف قانون الحركة التاريخيّة والتغيّر الاجتماعي في ميل القوى الإنتاجية إلى النّمو، ولكي يتحرك التاريخ وتنطلق قوى الإنتاج يقول: “ماركسMarx – ” ينبغي أن تكون هذه القوى الإنتاجية نفسها في بداية الأمر في أقصى حدود الضعف والتخلّف. ومن هذا المنطلق، نجد المجتمع الأوّل يطرح على “الأنثربولوجيا الماركسيّة” قضيّتين جوهريّتين:
أمّا القضية الأولى فمفادها أنّه إذا كان الاقتصاد لا يشكّل في المجتمع الأوّل “البنية التحتيّة” فمن خلال أي شيء يمكن استخلاص الكينونة الاجتماعيّة؟
وأمّا القضية الثانية، فجوهرها أنّه إذا كانت قوى الإنتاج لا تميل إلى النّمو ولا تعمل باعتبارها محدّدا للتّغيير الاجتماعي، فما هو عندئذ المحرّك الذي يدفع حركة التّاريخ إلى الأمام؟
يمكن القول عامّة إنّ “المقاربة الاقتصادية” بأشكالها المختلفة تفسّر الحرب -ممارسة عنيفة- بوصفها حصيلة تنافس الجماعات بغرض امتلاك موارد نادرة. وفي المقابل يتضح أنّه من الصّعب فهم من أين يستمد الوحشيون المنهمكون في البحث عن الغذاء تلك الطاقة وذلك الوقت الزائدين عن الحاجة لتوظيفهما في محاربة جيرانهم؟
إن الأنثربولوجيا الاقتصادية تؤكّد أنّ الاقتصاد البدائيّ اقتصاد وفرة وليس اقتصاد ندرة. وأنّ العنف لا يتمفصل مع الشقاء، وهذا يعني سقوط مسلّمة التّفسير الاقتصادي للحرب في المجتمعات الأولى. فلمَ تتحارب الجماعات إذا كان لا علاقة للاقتصاد بالحرب؟ عندئذ ستتّجه النّظرة نحو الداعي السّياسي؟ (Sperber, 1968:185-210 ).
5- إرادة التّجزئة وإشكاليّة الكينونة الاجتماعيّة:
يرى “ليفي ستراوس، L. Strauss ” أنّه لا يوجد في المجتمعات الأولى تميّز واستقلال لمفهوم العنف عن العلاقات بين الجماعات (قبائل أو عصابات أو مجموعات محلّية) لأنّ هذه العلاقات في عمقها علاقات تجاريّة. ويتوقف مصير السّلم أو الحرب بين الجماعات والقبائل على نجاح ما يكون بينها من صلات اقتصاديّة ومشاريع تجارية. وإنّ الحرب والتجارة بهذا المعنى صنوان متلازمان بما يجعل الحرب أولويّة أنطولوجية بما تحتله من “موقع في جسم الكينونة الاجتماعية” (Strauss, 1971: 20).
وفي مقال آخر له يضيف “ستراوس”، بأنّ التجارة في المجتمعات الأولى هي بديل الحرب والطريقة التي بواسطتها تثبت بأنها تمثّل تعديلا لها (Strauss, 1971: 24).
وإنّ النّظرة الأولى إلى الحرب بوصفها سلوكا عنيفا في الطّرح الأوّل لنظرية “ليفي ستراوس يجعل العنف إخفاقا محتملا للتجارة”. ومقابل هذا يبدو أنّ “النّظريّة التّبادليّة” في تأريخها للسلوك العنيف تمنح أولويّة للتّبادل. بحيث لا يصبح العنف سوى “إخفاق للعمليّة التبادلية”. وبهذا المعنى لم يعد للحرب أيّة إيجابيّة لأنّها لم تعد تعبّر عن الكينونة الاجتماعيّة للمجتمعات الأولى لأنّ المجتمع الأوّل بقدر ما يمثّل حقلا للتبادل فإنّه يمثّل بالقدر نفسه أيضا فضاء للعنف.
ويعتقد “هوبس” أنّ المجتمع الأوّل يقوم على “حرب الكلّ ضدّ الكلّ” خلافا لوجهة نظر”ستراوس” “النقيض الجدليّ” لهذا التصوّر من خلال القول، “بشرط العلاقات التبادليّة بين الجميع”.
وممّا تقدّم ندفع إلى التّساؤل: هل تقديم فعل الحرب على فعل التبادل يؤدّي إلى المساس بفكرة التبادل كجوهر للاجتماع؟.
إنّ الإجابة تكمن قبل كل شيء في “أنّ التّبادل والحرب يجب أن يُعقلا بوصفهما شرطا للاجتماع الأوّل” وليسا مجرّد مفهومين يتعاقبان تراتبيّا بما يسمح بالانتقال من أحدهما إلى الآخر وفق تدرّج ما (Moscovici, 1972: 19) ذلك أنّ السلوك العنيف ليس نتيجة “للتجزؤ بل التجزؤ هو نتيجة الحرب وهدف من أهدافها أيضا” (Moscovici, 1972: 20). وبذلك يمكن القول: “إنّ السلوك العنيف وسيلة لغاية سياسية”.
إنّ جوهر الأطروحة إذن أنّ المجتمع الأوّل هو جماعة تؤمِّن لنفسها السّيطرة على موطن ما باسم القانون الذي يضمن عدم انقسامها. ويمثّل الموطن الرّابطة السياسيّة بما هي استبعاد للآخر بوصفه مرآة – المجموعة المحليّة – وهو بالضبط ما يرجع إلى صورتها “باعتبارها كلاّ شاملا”. ففي الجماعات المجاورة تتوصّل هذه الجماعة أو تلك إلى أن تطرح نفسها على جهة التمايز المطلق. وإنّ منظومة المجتمعات الأولى أبعد من أن تكون جامدة إنّها في حركة دائمة الجوهر، والجوهر البدائي أبعد من أن ينغلق على نفسه بل هو منفتح على الآخرين من خلال العنف الحربي. وبالنّتيجة يكون السلوك العنيف تمثيلا لبنية المجتمعات الأولى وليس إخفاقا مؤّقتا لتبادل فاشل (Moscovici, 1972: 30-48).
6- الجهاد وتوظيفه المخيالي والمجالي:
لقد كان التبشير بالإسلام باعتباره جهادا في سبيل الله وحربا ” باسمه ” دافعا رئيسا لتطوير مؤسّسات وأدوات وطرائق وإجراءات جديدة، كما يحصل في “الثّورات التاريخية” وهذه المؤسّسات هي التي سوف تستدعيها عند الحاجة “السّلطة الدّوليّة” وتقيم عليها مشروعها العنفي، بعد أن تعيد توظيفها “المخيالي والمجالي”. أي السّلطة بعد مراجعتها أسس الدّولة القائمة.
والحقيقة، إن الدولة سوف تأتي نتاجا فرعي للجهاد ونشر الرسالة الإلهية. ولعلّ مصدر نجاح الإسلام وتقدّمه في العصر الوسيط لم ينبع إلاّ من أمر واحد هو قوّة استعداداته الذّاتية لتجاوز ازدواجيّة السّلطة هذه وتأسيس قاعدة التّفاهم والتّعاون بين السّلطتين الروحية والزمنية.
إن الدّولة لم تولد تلقائيا من التقاء عناصر القوّة المسلّحة والشّريعة والجماعة وتحوّلها الطبيعي من “أدوات رسالة إلى أدوات سلطة”، فقد ارتبط نشوؤها بأخطر أزمة عاشها الإسلام في كلّ تاريخه، ونمت من خلال الصّراع داخل الدّين والوعي الإسلامي نفسه.
وفي مخاض دموي عنيف ( جعيط،1989: 8-10) لم يحصل اختزال الإسلام للدّولة إلاّ بعد ممارسات عنيفة ( حرب أهلية ) سمّيت بالفتنة الكبرى وكانت بدايتها مقتل “عثمان”، وتُرجع الروايات أسباب هذه الأزمة التي أدّت إلى اغتيال الخليفة، إلى انتشار السّخط والتّذمر بسبب “الصّعود الأموي” في عهده ومحاباته أبناء بيته وأقاربه في العطايا والهبات (جعيط، 1989: 60-70) وكذلك نشاط “أبي ذر الغفاري” الذي اتّخذ موقفا معاديا للبذخ والغنى الفاحش الذي بدأ يتفشّى، وتحوّل إلى معارض سياسيّ علنيّ (جعيط، 1989: 80-84).
لم يكن مقتل “عثمان” – في الواقع – إلاّ مقدّمة للأزمة الحقيقيّة التي سوف تضع وجها لوجه خليفة المسلمين “علي بن أبي طالب” من جهة، “ممثّل النّزعة العسكريّة” و “معاوية بن أبي سفيان” ممثّلا “الأرستقراطيّة الفارسيّة التّقليديّة” ولعلّ ما استقر عليه الرّأي العام الإسلاميّ بمختلف اتّجاهاته أنّ السّبب الحقيقيّ لهذا التحوّل الكبير في تاريخ الدّعوة، هو “مكيافيليّة معاوية” ودهاؤه، وهو ما يكشف حقيقة الصّراع وعمقه بين “العقل والإيمان والمصالح القاهرة والمعاني والمبادئ الزذاجرة” (بحث مشترك: 1989: 13-59). فبقدر ما كان منطق المصالح وتوزيع الغنائم والعطايا يؤكّد نفسه ويترسّخ مع تزايد الانتصارات وإرساء “نظم جمع الخراج والعطاء معا”، كان منطق الرسّالة والتبشير والجهاد ( لوجه الله ) يتراجع أو يفقد هيمنته المطلقة، وكانت السّياسي الذي ينظّم هذه المصالح ويرعاها، أي يفكّر في منطق حمايتها وتوسيعها، تبرز أكثر قوة، بقدر ما كانت الدّعوة ضد الفساد و التّرف وعدم المساواة في التّوزيع ونشوء “الإقطاعيات والثروات الهائلة تزداد قوّة وعنفا” (بحث مشترك، 1989: 60-70).
لقد حوّلت “النبوّة شعبا إلى مقاتلين” ودفعته إلى حقل الصّراع الدّولي وجعلت الأمن القومي كلّه معلّقا بانتصارهم الدّائم.
ليس ثمّة من شك في أنّ “المجتمع المقاتل” كان يدرك في أعماقه أنّ وراء الصّراع على السّلطة وتمسّك “علي ومعاوية” معا بموقفهما، كان يكمن وراء الفارق في الدّوافع في وجهتيْ النّظر المختلفتين تماما في معالجة شؤون المسلمين كجماعة و كقوّة ماديّة متحرّكة على مسرح التّاريخ.
ولم تكن الفتنة (وتجليات العنف فيها مجرّد صراع بين نخب مختلفة التّكوين والمصالح وإلاّ لكانت صراعا سياسيا على السّلطة، لقد كانت تجسيدا لأزمة الضّمير الإسلامي ذاته في بحثه عن رؤية جديدة على أساس المعطيات الكبرى التي خلقتها الإمبراطوريّة وقد كانت بهذا المعنى (فتنة) ولم تكن حربا أهليّة تقليديّة. والفتنة لا تعني شيئا آخر سوى انهيار القدرة على التّمييز وزوال المعايير الواضحة. ومن ثمّ الاستسلام والتّسليم السّلبي للحرب كما لو كانت كارثة لا مناص منها فهي النّتيجة الطّبيعية لانعدام القرار وغياب الرؤية وإمكانيّة الاختيار.
والواقع، أنّ “عليّا” لم يرتكب إلاّ خطأ واحدا هو عدم إدراكه بداية الزّوال الفعلي لشروط عهد الخلافة وإصراره على السّياسة الدينيّة داخل الدّولة التي بدأت تتكوّن في العقول والمصالح والتّوازنات الاجتماعيّة والاستراتيجيّة (جعيّط، 1989: 136-145).
7- الظّاهرة الاستعماريّة وظاهرة العنف في الجزائر:
إذا كان المقال الإثنولوجيّ الذي تكوّن مع “بيار كلاستر” يتضمّن في جانب منه الكشف عن الاستبعاد الذي مارسه الغرب على غير الأوروبّيّين، بإقصائه لهم من الاجتماع يدلّ على ما ينتاب الذّات الأوروبّيّة من شكّ واضطراب ويكشف بجلاء -على حد تأكيد “هشام جعيط”- “عن عمليّات النّفي الذي مارسته الذّات الغربية على نفسها”، من خلال “نفيها للمجنون والشاذّ والمريض والطفل” فإنّ جميع المحاولات تنمّ في الوقت نفسه عن جذور النّظرة إلى الغير في ميدان التّحليل النفسي وفي ميدان الإثنولوجيا وفي ميدان الإستشراق وذلك لأنّ نظرة الغرب إلى الشّرق تتضمّن مقدارا من النّفي له. وحقيقة النّفي – نفي الذّات للآخر – تعني أن ننفيَ عن الآخر ما نمتلكه نحن. لذا، فإنّ كلّ معرفة بالآخر هي وجه من وجوه المعرفة بالذّات. وهكذا، “إذ تنفي الذّات الغربيّة المجنون والمنحرف في داخلها فلكي تؤكّد معقوليّتها وإذ تنفي الشّرقي أو أيّا كان خارجها فلكي تؤكّد تقدّمها وحداثتها” (Ghalioun, 1981: 66-70).
إنّ التّاريخ المعاصر لم يعرف ظاهرة استعمارية كالظّاهرة الاستعماريّة التي عرفتها الجزائر، كما أنّ الإنسانيّة الحديثة لم تتعرّض إلى ممارسة عنيفة كالتي عرفها المجتمع الجزائري، خاصّة وأنّ الاستعمار الفرنسيّ لم يكتف باحتلال الجزائر وسلب ثرواتها فحسب وإنّما “حاول تفكيك هويّتها أيضا”.
لقد تحدّث “إيديولوجيّو الاستعمار الفرنسيّ في رسالتهم التّمدينيّة”، أنّهم يحملون الحضارة والثّقافة والحياة الجديدة إلى الشّعوب الفقيرة لكنّ واقع الممارسة إنبنى على استراتيجية تهديم البنى الاجتماعيّة – الاقتصاديّة الذي أنجزه الجيش الفرنسيّ من خلال تمكين الأقليّة الأوروبّية والسّوق الفرنسيّة من موارد مختلفة ويد عاملة رخيصة الثّمن.
إنّ مثل هذا المسار كان قبل كلّ شيء نتيجة لغصب أراضي سكّان الرّيف وقد اكتسى هذا الغصب أشكالا مختلفة وأخذ أبعادا كبيرة، لم يكن يوما سهلا ولا نابعا من استسلام إذ لم يكن ممكنا إلاّ بموجب أعمال عنيفة (الأشرف،1983: 12-17).
وفي سياق هذه الممارسة قال “الجنرال دوبرمون” وهو يخاطب جنوده بعدما استولى على مدينة الجزائر: ” لقد جدّدتم عهد الصّليبين ” (…) بل هناك ما هو أبلغ من هذا الكلام.. فقد كتب “بوجولا Poujoulat” – وهو رحّالة فرنسيّ وثيق الصّلة “بالماريشال بيجوBugeoud” – في سنة 1844 مذكّرات عن رحلته ينوّه فيها برسالة فرنسا التبشيريّة في الجزائر، وقد أورد وصفا لما دار بينه وبين “بيجو”: قال لي “الماريشال بيجو” يوم قابلته منذ سنتيْن في مدينة الجزائر: “متسائلا ماذا جئنا نعمل في إفريقيا؟ “. “فأجبته لكي نواصل العمل الذي بدأه “جودوفري Godefroy” و”لويس السابع -Louis 7″ و “سان لويس Saint Louis” فأضاف قائلا: “إنّ الحرب التي تقوم بها فرنسا في إفريقيا إنمّا هي حلقة من حلقات الحروب الصّليبية” (Pougoulat, S. D.: 285-288) وأضاف نفس المتحدّث في مقال آخر قائلا: “أنّ الله من أسمائه أنّه إله الجيوش وإله المعارك وأنّ المجتمعات لا تتقدّم إلاّ بالدّماء والدّموع” (Pougoulat, S. D: 298).
إنّ الأمثلة على هذه “السّادية المتمثّلة في التّفاخر بتعذيب الجزائريّين”، عديدة ومتنوّعة فهؤلاء الضبّاط والجنود تأثّروا في صباهم أو في شبابهم بحروب “نابليون” وممارساته العنيفة وعايشوا فيما بعد عهدا متأزّما برجوع “الملك لويس 18” إلى الحكم. فضلا عمّا فرضه الحلف المقدّس من شروط مجحفة على فرنسا التي تقلّص نفوذها نتيجة انتصارات أنجلترا وتأثّروا بما آلت إليه أوضاع بلدهم من انحطاط ولذلك كلّه كانوا يشعرون بالإحباط، فلّما قامت حرب الجزائر وجدوا الفرصة “لينفّسوا عن مكبوتاتهم وليعوّضوا شيئا ممّا فقدوه من احترام “.
إنّ هذه الممارسات العنيفة لا تبدو غريبة إلاّ من حيث الظاهر لأنها تكشف عن الرّغبة المسيطرة على نفوس العسكريّين، وهي نيل المجد و إخضاع السّكان الأصليين، إنّها حرب من أجل الحرب، وممّا لا شك فيه، أن تلك العقلية العسكريّة قد غلبت عليها النّزعة العدوانيّة الوحشيّة إلى درجة أن التّسمية شبه الرّسمية التي أطلقها القائد “مونتانياك” على جنوده وهي “مشاة الموت” أو تلك التي أطلقها “بيجو” “الطّوابير الجهنّميّة” (الأشرف، 1983: 113-114).
8- السلوك العنيف أثناء ثورة التّحرير الجزائريّة:
تجدر الإشارة إلى أنّ تنظيم “جبهة التّحرير الوطنيّ” قد تمخّض عن نزاع ساد في صفوف الحركة الوطنيّة الجزائريّة، كما أنّ حركة التمرّد على إدارة الاحتلال قد أفضى إلى تدخّل كاسح صعب التحكّم فيه، وقد فرض على التّنظيم الجديد القضاء على التّنظيمات السّياسيّة التي وضعتها الحركة الوطنيّة قبل “ثورة نوفمبر” ولأجل ربح تأييد الجماهير الشّعبية، فإنّ “جبهة التّحرير الوطنيّ” ركّزت في ندائها إلى الكفاح المسلّح على أهمّ جوانب السّياسة الثّقافية الجزائريّة. وفي هذا الإطار يقول “أحمد بن بلّة”: “إنّهم كانوا ينظمّون أنشطة ثقافيّة قبل الثّورة مثلما كانت تفعله جمعيّة العلماء، ولاحظ أنّ مبادئ “جبهة التّحرير” كانت في أساسها مرتبطة بالثّقافة العربيّة الإسلاميّة (… ) فالذين يشربون الكحول مثلا غير مسموح لهم الالتحاق “بالجبهة” والذين لا يصلّون غير مسموح لهم تحمّل مسؤوليات عليا في الحركة. وبذلك فإنّ قادة الثّورة كانوا مسلمين مصلّين (Benbella, 1985: 174).
ونظرا إلى أهمّية الإسلام في الثقافة السياسيّة الجزائرية فقد ضُمّن في برنامج الجبهة باعتباره يمثّل إيديولوجية الشّريحة العريضة من المجتمع، واستلته “الجبهة” بطريقتين: تجنيد الجماهير ضدّ الاستعمار الفرنسيّ من جهة، وعزل الأحزاب أو الحركات الوطنيّة التي رفضت الالتحاق بالثّورة عن الجماهير من جهة ثانية (حربي، 2001: 9-10).
وفي زخم التّأسيس أصبحت “جبهة التّحرير الوطنيّ” حركة اجتماعيّة متناقضة بدمجها للنّخبة الوطنيّة داخل أجهزتها الأمر الذي جعلها تنظيما غير طبيعيّ يتّصف بالخلافات والصّراع على السّلطة داخل قيادتها إلى حدّ وصل الذروة في استعمال العنف.
ويلاحظ أنّ العمل السّياسيّ والعسكريّ “للجبهة” فاجأ قدماء قيادات “الحركة الوطنيّة” الأمر الذي جعلهم خلال السّنة الأولى من اندلاع الثّورة يقفون موقفا حياديّا باستثناء ردّ الفعل السّريع لأنصار “مصالي الحاج” الذين رفضوا الاعتراف بشرعيّة “جبهة التّحرير الوطنيّ” وقاموا في الحين بتأسيس تنظيمهم الذي أطلقوا عليه اسم ” الحركة الوطنيّة الجزائريّة ” ودخلوا بذلك في سلسلة من حرب المقاهي مع “جبهة التّحرير الوطنيّ” الذي كان ميدان المعركة الرّئيسيّ بين التّنظيمين على الأراضي الفرنسيّة بين العمّال الجزائريّين والمهاجرين. وفي الجزائر فإنّ المواجهة الكبيرة بين “جبهة التّحرير الوطنيّ والحركة الوطنيّة الجزائريّة” كانت في “بلاد القبائل”.
إنّ نتيجة المعارك بين التّنظيمين كانت عنيفة للغاية، ففي فرنسا نظّم 1200 هجوما خلّف 4000 قتيل و9000 جريح (Harbi, 1992: 139).
أ – الاستقطاب على أساس العُصْبة :
إنّ الجهاز البيروقراطي الذي تمّ تشكيله على جناح السّرعة لم يلبث أن تعرّض إلى هزّات عنيفة بسبب سلسلة الأحداث التي تبلورت في ممارسات عنيفة نالت من التّوازن القائم بين مختلف القوى الاجتماعيّة المحلية، إذ سرعان ما ظهرت من وراء الواجهة البيروقراطيّة العلاقات التّقليديّة القائمة على صلات (القربى والولاء).
لقد كان لاعتقال “مصطفى بن بولعيد” الذي كان يحظى باعتراف الجميع الأثر الكبير ففي 04 فيفري 1955 وقع اغتيال خليفة “بن بولعيد”، “بشير شيحاني” من طرف نائبه” عجول” بالتّواطؤ مع “لغرور عباس”، بحجّة “أنّ الحرب جهاد يقوم به الأطهار”، ثم جاءت تصفية ” عمور جبار ” في منطقة “سوق أهراس” في ربيع 1956 وقد نُسبت هذه التّصفية إلى “الوردي قتال” وهو من “عرش النمامشة” الذي اضطرّ إلى الانسحاب تحت ضغط المنطقة وإطاراتها. وعلى صعيد آخر رفضت قبائل “أولاد ديا، أولاد الشّيخ، بني صالح وتيفاش” الخضوع لسلطة “النمامشة “، كما أنّ ” بشير سيدي هاني ” المسئول عن منطقة جبل “لبيض جنوب تبسّة” انفصل هو الآخر عن منطقة “الأوراس” (Maarfia, 1991: 20-48).
وهكذا، فقد أصبح هنالك ثلاثة أقطاب للمقاومة المسلحة: “الأوراس النمامة وسوق أهراس”. والملاحظ، أنّ كل قطب من هذه الأقطاب كان مفتقرا إلى التّجانس. وأدّى الصّراع على مستوى القيادة إلى فوضى أفضت إلى ممارسات عنيفة ولاسيّما في أوساط “القبائل”.
إنّ الصّراع الذي كان دوما حاضرا لم يتجلّ بوضوح إلاّ عندما تعلّق الأمر بضرورة حماية المجموعة، لذلك لم تكن الفرق منغلقة على ذاتها بل كان هناك تبادل بينها ما سمح بظهور تحالفات بين شبكات السّلطة حتّى و إن ظلّت متحوّلة وغير مستقرّة، وهذا معناه أنّ المجموعات قد حادت آنذاك عن قالبها التّقليديّ لتنصهر ضمن المرجعيّة الوطنيّة لم تكن سائدة آنذاك وظلّت الصّراعات العنيفة بين مختلف المجموعات المحليّة، حتّى أنّ التّعاون ضدّ جيش الاحتلال الفرنسيّ لم يتغلّب على الصّراعات العنيفة باستقواء كلّ طرف على الآخر بالحصول على أسلحة أكثر منه (Harbi, 1992: 54-62).
وحتّى “مؤتمر الصومام 1956” لم يسلم من صراعات التعصّب في ما يخصّ التّمثيل فيه بين أعضاء “لجنة التّنسيق و التّنفيذ” من جهة، و “بن بلّة وبوضياف” من جهة أخرى، وقد كان لهذه الصّراعات انعكاسات كبيرة على مسيرة المقاومة المسلّحة خلال سنتي (1956 – 1957 ) ( حربي، 2001: 16-17).
لقد كانت النّزعة القبليّة ماثلة في الأفعال و أنماط التّسيير والتّفاعل بين مختلف الفئات المكوّنة للفعل الثّوري خلال فترة حرب التّحرير، حيث كثيرا ما أشير إلى غياب الثّقة بين مختلف الفاعلين والتّحالفات المصلحيّة والطبقيّة، كما لعبت الإشاعة الدّور الكبير في تصفية المعارضين (Morizot, 1992: 140-152).
ب – الإشاعة أداة لتصفية الآخر:
يمكن الإشارة على سبيل الحصر أنّ فترة قيادة العمليّات العسكريّة جماعيا دامت خمسة أشهر عانت فيها كثيرا من غياب الثّقة بين عناصرها و شهدت تحالفا بين العقداء “بوقلاّز” و “بن عودة” و “محمّد العموري” ضدّ “محمّد السّعيد” الذي راح ضحيّة حملة الشّائعات، أتُّهم فيها بتدعيم مساعدي الضبّاط الملتحقين بصفوف “جيش التّحرير” بعد فرارهم من الجيش الفرنسيّ، أمّا أنصار “محمّدي السّعيد” فقد كان “صومه يتّهمونه بالعمل على خنق الولاية الثالثة” ومن بعدها “الولاية الرابعة” ذاكرين “محمّد العموري” ( وهو نقيب للناحية – أ – وتشمل : باتنة، بريكة، عين توتة وسطيف ) الذي كان يستعمل عملاءه الخاصّين ويرعاهم على حساب أموال الثّورة من أجل القيام بدعاية حاقدة ضدّ كلّ ما هو ” قبائليّ ” ( حربي، 2001: 16-17).
وفي 13 ديسمبر 1958، و قبل إنزال العقوبة عليه من طرف لجنة التّنسيق و التّنفيذ اعتبر “العموري” اتّهامه بإثارة الشّقاق مجرّد غيبة، كما تضمّن تقريره ما يلي: “لقد اضطررنا داخل الولاية إلى محاربة-عمر بن بولعيد ورجاله لأنّه كان متعصّبا وجهويّ النّزعة واتهمني حينئذ أنّني “قبائلي KABYLE” لقد سقط أكثر من 200 جنديّ للقضاء على هذا الرّجل.. من المؤسف حقّا أن يضطرّ المرء إلى ذكر عدد القبائليّين في مناصب قياديّة في الولاية الأولى (حربي،2001: 17 -18).
إنّ حدّة الصّراع واللّجوء إلى الإقصاء والتّصفية الجسديّة حمل بعض القيادات على التّمرّد على أسلوب الثّورة وما أنجرّ عنه من ممارسات عنيفة كثيرا ما كانت تؤجّجها العصبيّة القبليّة.
و إنّ الاستقطاب على أساس جهويّ يدفع إلى النّظر في هذه المسألة المعقّدة لاسيما أنّ “الإثنولوجيا الاستعماريّة قد اختزلت الجزائر لوقت طويل إلى مجرّد فسيفساء من المجموعات البشريّة المتجاورة من العرب والقبائليّين والشّاوية والإباضيّين واليهود”.
وتفاعلا مع هذا الوضع اختارت “مقاولة التّاريخ الرّسمي” في الجزائر بعد الاستقلال التّستّر على الظّاهرة القبليّة والاختلافات الجهويّة خوفا من تغذية العصبيّات المحليّة، والغريب في الأمر أنّ “جبهة التّحرير الوطنيّ” منذ نشأتها قد كرّست من خلال إنشائها المناطق ثمّ الولايات، الاستقلاليّة الجهويّة خوفا كان يشاع آنذاك من تجربة “مصالي الحاج” وخطر الزّعامة الوطنيّة، غير العداوة والانشقاق بين “القبائليّين والشّاوية” وهكذا تصارعت المجموعات إلى حدّ “الاقتتال” حيث تعتمد كلّ مجموعة على “ثقافة منطقتها ورموزها مخاطبين البسطاء من النّاس بلغتهم المعبّرة عن معاناتهم اليوميّة سعيا للاحتفاظ بالسّلطة والاستيلاء على موارد الثّورة، خدمة لمصالحها” (Harbi, 1992: 63-75).
ومع اغتيال “عبّان رمضان” (ديسمبر 1957)، فإنّ مبدأ أولويّة العمل السّياسي على العمل العسكريّ لم يعد معمولا، ومنذ ذلك الحين أصبحت المبادرة للعسكرييّن وبعبارة أخرى، إنّ اغتيال “عبّان رمضان” كان بداية “لانقلاب الجناح العسكريّ ضدّ الجناح السّياسي في الممارسة الثّوريّة الجزائرية”، مبرّرا تدخّله في الشّؤون السّياسية، ورفض العسكريّون الفصل بين ما هو سياسيّ وما هو عسكريّ معتبرين أنفسهم مناضلين في “جبهة التّحرير الوطنيّ، وليس عسكريّين محترفين”.
لقد تجلّى ذلك “الانقسام والصّراع وعدم التّجانس في تشكيلة الحكومة المؤقّتة، فظهرت غير منسجمة إيديولوجيّا، فكان منهم الرّاديكالي واللّيبراليّ والإسلاميّ إضافة إلى تدخّل الجيش في الشّؤون السّياسيّة للحكومة المؤقّتة”.
لذا، يمكن القول: “إنّ إيديولوجية” جبهة التّحرير “خلال ثورة التّحرير يجب أن نفهم على أنّها كانت تشكّل وحدة متناقضة نجحت في تجنيد الجماهير ضدّ الاستعمار لكنّها فشلت في بلورة مبادئ إيديولوجيّة متماسكة أي أنّها أخفقت في تجاوز التّناقض الإيديولوجيّ الموجود داخل قيادتها في بعض مراحله إلى حدّ ممارسة العنف المتطرّف (تصفية المعارضين جسديّا أو وضعهم على الهامش) الأمر الذي جعل هذا التّناقض يستمرّ إلى فترة ما بعد الاستقلال (Harbi, 1992: 76-138)”.
9- خاتمة:
إنّه كما أخطأ “ليفي ستراوس” في فهم الحرب، أخطأ “هوبس” في فهم التّبادل.
لقد اعتبر “هوبس” أنّ حرب الكلّ ضدّ الكلّ تمنع حصول التّبادل بكلّ أشكاله ولذلك اعتبر أنّ المجتمع البدائيّ لا يرق إلى مرتبة الاجتماع، وأنّ عالم الوحشييّن ليس عالما اجتماعيّا وأنّ مؤسّسة الاجتماع تمرّ عبر نهاية الحرب ونشوء الدّولة، وكلاهما أخطأ في تفسير العالم البدائيّ، فالعالم البدائيّ هو مجتمع قام خلافا لما قاله “هوبس” من أجل الحرب، وأخطأ كلّ من “ماركس وأنجلز” عندما وصفا ثورة “الأمير عبد القادر” بكونها صراعا بائسا للحال البربريّة للمجتمع الجزائريّ ورحّبا بالغزو الفرنسيّ واعتبراه حقيقة هامّة وسعيدة في تقدّم الحضارة (Marx Et Engels, 104).
إنّ الاستعمار المباشر للجزائر نتجت عنه محاولة استئصال ثقافة السّكان الأهالي وإقصاؤهم بطريقة عنيفة، لكنّ هذه السياسية أدّت في ما بعد إلى خلق أسباب تحطيمها وذلك عن طريق مساهمتها في خلق شروط ظهور الحركات الوطنيّة وتطوّرها وتحويل مطالبها من إصلاحات اجتماعيّة واقتصاديّة إلى المطالبة بالاستقلال السّياسي ّالتّام. لكنّ الحركات الوطنيّة لم تكن تشكّل مجموعة متجانسة من الأفراد، لقد كانت لهم توجّهات وأفكار مختلفة حول مستقبل الجزائر غذّتها النّزعة القبليّة والجهويّة وفرضت نفسها إلى جانب الدّين كمحرّك سياسيّ بالغ الأهميّة في تبرير الممارسة العنيفة.
لا مناص من التّسليم، بأنّ الصّدمات العنيفة التي تعرّض لها المجتمع الجزائريّ عبر مراحل تاريخيّة معيّنة تركت أثرها البالغ في العقل الباطن للمجتمع الجزائريّ وساهمت إلى حدّ كبير في هيكلة مختلف أبنيته وأنماط تفاعله مع الآخر. ومن ثمّ شكّل العنف العمليّة الاجتماعية الأكثر ممارسة والأداة المثلى في الخطاب وإنجاز التّغيير وتلبية الحاجات وتحقيق الوجود.
لقد ساهمت “المقاربة الأركيولوجيّة في فهم العقل الجزائريّ”، بأنّه “عقل يفكّر عنفا ويشتغل كذلك” وأنّ حال الصّراع والاحتراب هي “حال مزمنة”. وبذلك، فإنّنا نستبعد عن ظاهرة العنف في المجتمع الجزائريّ أيّ طابع عفويّ وتلقائيّ مؤكّدين بذلك – باراديغم -الطّابع البنيوي للظّاهرة وتعدّد عناصرها وتمظهراتها التي تطفو على السّطح زمن الأزمات.
إنّ القراءة “الأركيولوجيّة لهندسة المخيال” تفيد بأنّ الممارسة العنيفة تلتحم “أنطولوجيا” بتمثّلات الهويّة في المجتمع الجزائريّ “الانشقاقيّ من حيث التّشكيل واشتغال الأبنية”، والذي يلعب فيه “الآخر المختلف والغريب” الحائز على أدوات الهيمنة على الحقل الاجتماعيّ وتوجيهه وفق ترتيبات “لعبة المصالح المهيكلة مسبقا على مخرجات تضمن إعادة إنتاج التعصّب والهيمنة”، سواء كان التعصّب محليّا أو وافدا من خارج الحقل الاجتماعيّ يأبى المنافسة على مكتسبات سابقة أو التنازل لصالح مجموعات جديدة. ومن ثمة، تبدو عمليّة الصّراع العنيفة “متجذّرة أركيولوجيّا في المخيال والتّمثّلات” وتتزامن حدّتها بين المجموعات في مرحلة الأزمات، وكثيرا ما ترتبط بشحّ الموارد المتاحة.
10- المصادر والمراجع:
- الأشرف، مصطفى (1983). الجزائر الأمة والمجتمع. الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب.
- بحث مشترك (1989). جدلية الديني والسياسي في الإسلام. عمّان: دار الشروق للنشر والتوزيع.
- جعيط، هشام (1989). الفتنة الكبرى، الدين والسياسة في الإسلام الأول. باريس: غاليمار.
- حربي، محمد (2001). مؤامرة العموري. الجزائر: مجلة نقد العدد رقم (14.15).
- بن عبد العالي، عبد السلام (1981). الميتافيزيقا والعلم والايدولوجيا. بيروت: دار الطليعة.
- Ben Bella. Ahmed (1985) Itenéraire. Beyrouth. El Wahda.
- Noam (1970) Le Langage Et La Pensée. Payot.
- Jean (1971). Le Malheur Biologique Sa Répétition. Paris. Annales. Es. L. Vd. 26. N.34.
- Bourhar (1981). Identité. Culture Et Politique. Culturelles Dans Les Pays Dependants Paris. Peuples Méditerranéens.
- Mohamed (1992). Le Fln Mirage Et Réalité Des Origines Á La Prise. Du Pouvoir (1954-1962). Paris.
- Maarfia, Mohamed (1991). La Passion Du Fellagha. Paris: La Pensée Universelle.
- Marx, Karl Et Engels, Frediric (1965). Marxisme Et Algerie. Pars : Sociales.
- Morizot, Karl Et Jean (1992). L’aures Ou Mythe De La Montagne Rebelle. Paris: L’harmattan.
- Moscovici, Serge (1972).La Société Contre Nature. Paris : U.G.E (10-18).
- Poujoulat (Sd): Voyage En Algérie S. M. Ed.
- Sperber, Daniel (1974). Le Symbolisme En Général. Paris: Herman.
- Strauss, Laud Levis (1971) L’homme Nu. Paris: Plon.
- Tocquville, Alexis (1972). L’ancien Régime De La Révolution Paris: Gallimerd.