البيئة المجتمعية للتشغيل وأزمة إصلاح التعليم العالي في تونس: دراسة نقدية في السياقات والأبعاد

التعليم العالي في تونس

1- المقدمة:

يتعرّض التعليم العالي اليوم، في تونس وفي الوطن العربي عموما، إلى انتقادات عديدة داخلية وخارجية، وتنطلق هذه الانتقادات من مسألة عدم استجابة مخرجات المؤسسات التعليمية لانتظارت المحيط الاقتصادي ولعروض سوق الشّغل عموما. وعلى الرّغم من أن ظاهرة بطالة خريجي التعليم العالي تمثل ظاهرة قديمة، إلا أنّ التحولات المجتمعية الرّاهنة (اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، تكنولوجية..) جعلتها من الإشكاليات التي تحتل صدارة المواضيع في النقاشات العلمية والسّياسية الملحة في مجتمعنا. كما أن الضبابية التي خلفتها السياسة الليبرالية اليوم، على المستويات المجتمعية كلها، دعّمت لدى عامة الناس، هاجس الخوف من المستقبل الذي ينتظر أبنائهم بعد نهاية مشوارهم التعليمي.

أشارت، منذ أواخر القرن الماضي، عديد الدّراسات والتّقارير ([1]) إلى أن حل هذه المشكلة يتم عبر تغيير السّياسات التعليمية والتكوينية نحو إعطاء أهمية أكبر للتعليم التقني / المهني المتخصّص، وعبر الاتجاه نحو “مَهْننة” (la professionnalisation) التعليم العالي حتى يتلاءم مع عروض سوق الشغل وحتى يستجيب لتحديات التنمية ويتماشى مع البيئة المجتمعية الجديدة المٌعولمة. كما أكدت عديد التقارير الدولية مثل “التقرير الدولي حول التنمية الإنسانية” و”التقرير السنوي الصادر عن منظمة الأمم المتحدة والمتمثلة في “برنامج الأمم المتحدة للتنمية”(PNUD) النتائج السلبية للمقاربة الليبرالية في التنمية، حيث أصبحت مختلف الفئات الاجتماعية في المجتمع مهدّدة في الحفاظ على استقرارها الاجتماعي نتيجة تراجع نظام التأمينات، وتخلي الدولة عن مسؤولياتها في الانفاق العمومي على المجالات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم والتشغيل..الخ.

2- التعليم والسياقات الجديدة للتشغيل في تونس:

كل نظام تعليمي تحتضنه بيئة مجتمعية معينة تتأثر به وتؤثر فيه. وتعرف البيئة المجتمعية على أنّها مجموعة من العناصر الاقتصادية والسّياسية والاجتماعية والثقافية والرّمزية الدافعة للمعرفة أو المعيقة لها ( القيود ـ الضغوطات) والتي يمكن أن تمارس تأثيرا إما سلبا أو إيجابا في أداء النظام التربوي وفي نجاعته.

وتفاعل نظام التعليم مع بيئته المجتمعية يطرح إشكالية العلاقة بين مدخلاته ومخرجاته أي أنّ كل مجتمع يقدّم للمؤسّسات التعليمية المدخلات ( الطلبة، المدرسون، الموارد المالية..) لكي تمارس أنشطتها التكوينية والتأهيلية، لكن بعض هذه العناصر تخضع دائما للتغيير ـ الكمي و النوعي ـ تحت تأثير عوامل هذه البيئة ولا تكون بالضرورة مرتبطة مباشرة بخصائص النظام التربوي القائم. ويمكن أن تتحول هذه المتغيّرات الخارجية مثل: التحول الديمغرافي وارتفاع نسبة التمدرس والتحضر، وارتفاع الطلب الاجتماعي على التعليم، إعادة توزيع الموارد المالية…الخ، إلى اكراهات(des contraintes) ، لأنّها مرتبطة بنسق تطور كل مجتمع وبمشاكله الاجتماعية المركبة. لذلك تسعى جميع الدّول دائما إلى تحسين “تشغيلية”(employability) مخرجات المؤسّسات التعليمية حتى تتوافق مع مستوى تغير بيئتها الاقتصادية والاجتماعية.

2- 1-   خصائص البيئة الاقتصادية للتّشغيل:

شهدت السّنوات الأخيرة من القرن العشرين عديد التغيرات الاقتصادية والثقافية والسياسية على مستوى العالم، وبدأت تتشكّل معها ملامح النظام العالمي الجديد.  ولا يمكن فهم طبيعة التغيّرات في سوق الشغل دون ربطها بسياق العولمة الاقتصادية التي فرضت على جميع الدّول إحداث عديد التغيّرات في مجال التكوين. فالتّغيرات الاقتصادية العالمية الرّاهنة (التكنولوجية والمعرفية والمادية) فرضت تحديات جديدة على مؤسّسات التعليم العالي، وبدأت هذه التحولات تؤثّر في مستقبل بعض المهن والوظائف المستحدثة التي تقتضي إكساب المتعلم كفايات معرفية أو مهارات مهنية تتلاءم مع واقع المؤسّسات الاقتصادية وفرص العمل الجديدة فيها.

ومن أبرز ملامح هذه المرحلة:

أولا، النسق السّريع في التطور التكنولوجي ووتيرة التحولات التقنية والعلمية؛ فقد كانت قطاعات الصناعة والخدمات مجال هذا التطور. هذا التطور التكنولوجي والمعرفي أدى إلى ظهور الصراعات بين المؤسّسات الاقتصادية وإلى تزايد حالات الإفلاس والأزمات المالية، مما دفع بعضها إلى العمل على إعادة هيكلتها وترشيد نفقاتها حتى تنسجم مع بنية الاقتصاد التونسي الجديد “المعولم”. لقد كان التوزيع القطاعي للتّشغيل إثر الاستقلال متوافقا مع بنية الاقتصاد التونسي حيث تتوزع نسب التشغيل في مختلف قطاعاته كالاتي: 73% للفلاحة، 7,3% للصناعة و19,3% للخدمات. وبالتالي، لم يكن الاقتصاد التونسي في حاجة إلى عدد كبير من الكوادر العليا بقدر ما كان في حاجة إلى إطارات متوسّطة ([2]). أما اليوم، فقد أصبحت الشّبكة التشغيلية للقطاعات الاقتصادية موزّعة على النحو التالي: الفلاحة شهدت تراجعا ولا تتعدى نسبة التشغيل فيها 10,4%سنة 2014، بينما شهد قطاع الصناعة تطورا لتصل نسبة التشغيل فيه إلى 34,1% في نفس السنة. كما استحوذ قطاع الخدمات على أكثر من نصف عدد اليد العاملة بنسبة 55,4% ([3]).

قراءة سريعة لهذه المعطيات الإحصائية يمكن أن نستنتج من خلالها ما يلي:

1ـ إنّ التحوّل القطاعي في هيكلة الاقتصاد التونسي من خلال توزيع عدد النّشيطين فيه أفرز واقعا اقتصاديا جديدا منذ أن انخرطت تونس في بداية الثّمانينيات من القرن الماضي في الاقتصاد العالمي وتطبيق برنامج “الإصلاح الهيكلي” (1986) ([4]) الذي أدّى إلى استقلالية النشاط الاقتصادي عن إشراف الدولة. وقد تزامنت سياسة التحرير الاقتصادي مع ازدياد قطاع الخدمات من حوالي 19,3%  في بداية السّبعينيات لتصل نسبة التشغيل في هذا القطاع وصلت اليوم إلى حوالي 63% سنة 2011، ثم تراجعت قليلا إلى حوالي 55,4 % سنة 2014.

تشير هذه المؤشّرات، في جانبها الظاهر والبسيط، إلى أنّ اقتصاد بلادنا أصبح يضاهي اقتصاديات الدّول المتقدمة لكن عندما نقرأ هذه المعطيات ميدانيا أي من الجانب الميكروـ اقتصادي تصبح هذه المقارنة غير واقعية لأنّ تطوّر قطاع الخدمات في تونس لم يكن منظما، بل تزامن مع نمو النشاط الاقتصادي “غيرالمهيكل” أو غير المنظم الذي تضاعف دوره في بنية الاقتصاد الوطني وفي التشغيل خلال العقود الثّلاثة الأخيرة.

2ـ   بالنّسبة إلى قطاع الصّناعة، فإنّ تراجعه اللاّفت في مستوى دوره في التّشغيل يؤكّد فرضية تبعية هذا القطاع للاقتصاد العالمي الذي أدى إلى إغلاق عديد المؤسّسات والمنشآت الصناعية ذات التشغيلية العالية،  أو التقليص في عدد العمال في مؤسّسات أخرى نتيجة الضّغوطات الخارجية التي فرضت على الدّولة برنامج “إعادة الهيكلة” للاقتصاد وما نتج عنها من تسريح لعدد كبير من العمال ضمن إطار المقاربة الليبرالية الجديدة التي تقوم على منطق السوق: “المرونة في التشغيل”.

3ـ أما قطاع الفلاحة، فإنّه ليس أفضل حالا من القطاع الصّناعي. إذ يمر بصعوبات هيكلية وتشغيلية كبيرة ويشهد تهميشا كبيرًا من الدولة. وقد تدعّم تهميش هذا القطاع منذ إبرام تونس اتفاقيات الشّراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995ودخولها المنظمة العالمية للتّجارة سنة 1994. حيث أدى فتح السّوق التونسية للاستثمار الخارجي، وفق نصوص هذه الاتفاقية، إلى إفلاس الآلاف من صغار الفلاحين وهجر أراضيهم والتفويت في بعضها لرؤوس الأموال الأجنبية ليصبحوا من ضمن الفئات المهمّشة والمعطلة في المجتمع. كما أصبح هذا القطاع غير قادر على منافسة نظيره الأوروبي الذي يعتمد التقنيات والتكنولوجيات المتطورة والدقيقة ذات المردودية الإنتاجية العالية.

ثانيا، من مميّزات الاقتصاد الوطني “الجديد” تقلب سوق العمل وانتشار ظاهرة التشغيل الوقتي أو الهش واتساع قاعدة “القطاع اللاّشكلي”(غير المنظم). فالعمل الوقتي وغير المنظم يشغّل حاليا أكثر من 70% من الشّباب التونسي في بداية حياتهم المهنية. وبلغت نسبة مساهمته الجملية في التّشغيل حوالي 43%  في تونس ([5]). وتدل هذه الوضعية على غياب التّوافق بين مخرجات التعليم العالي واحتياجات سوق الشغل. ومن المؤشّرات الأخرى الدّالة على غياب التوافق أنّ معدلات البطالة في صفوف الأميين والمنقطعين عن الدّراسة في سن مبكرة هي الأدنى مقارنة بخريجي التعليم المتوسط والعالي.

ثالثا، الميزة الثالثة والناتجة عن المحيط الاقتصادي العالمي الجديد وظاهرة التّنافس وعشوائية النمو الاقتصادي وسياسات التشغيل الهشّة (المضطربة) تتمثل في تملص الدولة من الالتزام بالتوظيف ومراقبة الوضع الاقتصادي وتوجيهه. وباعتبار أنّ الاقتصاد الليبرالي بطبيعته يقوم على مبدأ التّنافس الحر وغياب التخطيط أو التوجيه من قبل الدّولة، فإنّه لا يمكن أن نتكهن بما ستكون عليه الطلبات المستقبلية لسوق الشغل من يد عاملة أو بالأحرى لا يمكن التكهن بنوعية المؤهّلات العلمية والمهنية التي ستحتاجها المؤسّسات الاقتصادية في تونس، خاصة في ظلّ هيمنة الشركات متعدّدة الجنسيات والمؤسسّات المالية العالمية على المشهد التنموي في تونس.

2-2- سياقات التشغيل والهيكلة الدّيمغرافية للبطالة في تونس:

أدّت التحولات النوعية الشاملة للبيئة المجتمعية (الثقافة والاجتماع والاقتصاد..) في علاقتها بالتكوين إلى تفاقم ظاهرة بطالة الشّباب المؤهل والحامل للشهادات العلمية والتكوينية المتوسّطة والعليا. وفي ظل هذا المناخ الموسوم بالتأزم والتوتّر، بدأت تظهر موجات من النقد، بل والاتهامات الموجهة إلى النظام التربوي ومؤسّساته المختلفة متهمة إياه بإنتاج الأزمة الآنفة ، وبمنظور اختزالي ضيق قد يكون قاصرا أو مغرضا وغير بريء في منطلقاته الفكرية والسياسية والأيديولوجية الظاهرة منها والمضمرة ([6]).

ومنذ سبعينيات القرن الماضي تأكد البعد الهيكلي لظاهرة البطالة في البلاد التونسية ([7]). وتعتبر بطالة خريجي التعليم العالي ظاهرة جديدة في مجتمعنا التونسي مقارنة بالبطالة الكلاسيكية، حيث كان التعليم العالي إلى حدود بداية الثمانينيات من القرن العشرين، أهم مسلك لحصول الشباب على العمل القار واللائق بمستوياتهم التعليمية، بل يعتبر التعليم في نظر العائلة التونسية هو الضّامن الأساسي لتحقيق ارتقاء أبنائها مهنيا واجتماعيا.

لقد شهدت ظاهرة بطالة خريجي التعليم العالي في تونس مراحل تاريخية مختلفة يمكن تقسيمها منهجيا بحسب سياقاتها التاريخية، إلى ثلاث أساسية، على الرّغم من أنها تظل مترابطة وغير منفصلة عن بعضها البعض:

المرحلة الأولى :1956ـ1986: في هذه المرحلة التي يمكن أن نطلق عليها مرحلة تأسيس الجامعة وبناء مؤسّسات الدولة الوطنية والمجتمع عموما لم تطرح مشكلة البطالة تقريبا، لأن جميع مؤسسات الدولة وقطاعاتها المختلفة ( التعليم والصحة والإدارة..) كانت كلها في حاجة إلى إطارات تونسية متوسطة وعليا ولتعويض الموظفين الأجانب. وقد ظهرت البطالة في بعض الشعب المهنية والتقنية ولكنها كانت محدودة وتمكن أغلب المتخرجين من الالتحاق ببعض الأسلاك ذات الكفاءة العليا أو المتوسطة مثل الأمن والجيش..الخ.

المرحلة الثانية: 1986ـ 1991: وهي مرحلة الأزمة الاقتصادية والمديونية ووصول النظام الاقتصادي مرحلة الإفلاس غير مسبوقة وانكشاف مأزق الدولة والفساد في نظام الحكم السياسي والاقتصادي وما أدى إليه من تقييد للحريات وقمع للقوى المعارضة. وفي هذه المرحلة بدأت تظهر مشكلة البطالة بالنسبة إلى منتسبي المسالك والتخصصات العلمية، خاصة خريجي العلوم الإنسانية والاجتماعية.

المرحلة الثالثة: ما بعد 1991: شهدت هذه المرحلة تفاقما للأزمة الاقتصادية وارتفاع عدد المعطلين عن العمل من خريجي الجامعات التونسية وفي جميع التخصصات العلمية دون استثناء على الرّغم من محاولات الدولة التخفيف من هذه الظاهرة عبر إحداث عديد الآليات التشغيلية الوقتية كإحداث البنك التونسي للتشغيل، والتشجيع  للانتصاب الحر..الخ، إلا أنّها كانت جميعها عبارة عن وصفات علاجية غير نافعة، بل زادت الوضع تعقيدا وتهميشا ومعاناة  أكثر لهؤلاء المُعطّلين، لأنّها لم تعتمد برامج مدروسة وحلولا استراتيجية لقضية البطالة. على العكس من ذلك سعت الدولة إلى محاولة تسكين الأوجاع ولم تقم بالتشخيص العلمي والموضوعي لها لمعرفة أسبابها الحقيقية حتى تعالجها بشكل فعلي ونهائي.

بحسب ما ورد في ” الاستراتيجية الوطنية للتشغيل 2013 ــ2017″، فإن خصائص البطالة في تونس تتمثل في كونها بطالة هيكلية تراكمية أنتجت خمس معضلات وهي التالية:

1ــ إن معظم المتعطلين هم من فئة الشباب.

2ــ إن جانبا هاما منهم من حاملي الشهادات العليا في مختلف الاختصاصات.

3ــ إن مشاركة الاناث في العمل ضعيفة إلى حد بعيد.

4ــ إن التفاوت كبير بين الجهات في نسبة المعطلين.

5ــ إن حاملي الشهادات العاملين في النسيج الاقتصادي نسبتهم ضعيفة ومتدنية مما انعكس سلبا على الأداء الاقتصادي”([8]).

في الواقع أن هذه المنظومة الليبرالية لا تضمن بالضّرورة التشغيل، إذ أنها قد تؤدي خاصة في فترات الانكماش والأزمة إلى اشتداد البطالة.. وهذا التمشي الذي وقع تكريسه في تونس في السنوات الماضية هو المسبب الأساسي في ارتفاع معدلات البطالة”([9]). فمن أهم سمات سوق العمل أن معظم العاملين في القطاع الخاص لا ينعمون سوى باستقرار هش و”يُحَوَّلون” من عمل إلى آخر، تبعا للضغوط التي تمارس عليهم عبر أشكال مختلفة من الشغل الهش (العقود الوقتية، وتسريح العمال عن العمل، وافلاس للمؤسسات المشغلة..) والفرص التي تتقاذفهم.

ما نلاحظه، أنّه كلما صعدنا في المستوى التعليمي إلا وارتفعت نسبة البطالة.  كما أنّ التحول الذي عرفته التركيبة التشغيلية في الاقتصاد التونسي في إطار الاقتصاد اللّيبرالي والتنافسي الجديد، منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، قد نتجت عنه انعكاسات سلبية على مختلف الشرائح الاجتماعية والمؤسّسات الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة. ولكن الشّريحة الاجتماعية التي تضرّرت كثيرا من هذه السياسة الاقتصادية والاجتماعية الليبرالية هي الشباب عامة، هم أصحاب المؤهّلات العلمية المتوسطة والعليا، أي خريجي مؤسسات التعليم العالي. فنتيجة سياسة الخوصصة الكلية أو الجزئية لمئات المؤسّسات في القطاع العام، تزايد عدد العاطلين عن العمل. وقد تزامنت هذه السياسة مع تراجع مداخيل الدولة وعدم التزامها بتوجيه الاقتصاد، كما تراجعت قدرتها على إحداث مواطن شغل قارة تتناسب مع حجم المتخرجين الجدد وتستجيب إلى مؤهلاتهم العملية المختلفة. لذلك تعتبر بطالة خريجي التعليم العالي من أهم المعضلات الاجتماعية التي تواجهها تونس خاصة عندما نقرأ ما ورد في التقرير السّنوي للمرصد التونسي للشّباب لسنة 2005 من أنّ هناك عزوفا لدى مؤسّسات القطاع الخاص عن انتداب أصحاب شهادات التعليم العالي.   

3- الأهداف العامة لإصلاح التعليم العالي وأبعادها الليبرالية:

استخدمت عديد المفاهيم مثل “المهْننة”([10]) و”التشغيلية” في العقود الماضية، من أجل ” تلطيف” المقاربة الليبرالية وحجب تيار الخوصصة العالمي الذي أصبح مؤثرا في توجيه سياسات التربية والتعليم والتكوين في العالم، على الرّغم من أنها تعرضت إلى عديد الانتقادات العلمية، والاجماع حول التشكيك في جدوى هذه المقاربة وفاعليتها في التنمية. فقد كشفت بعض الدراسات ([11]) أنّ الدعوة إلى ” التشغيلية” ومهننة التعليم لم تكن في مقصديتها المضمرة بريئة ، وإنّما كانت، في العمق، برنامجا عالميا من أجل خدمة مشاريع ا”لنيوليبرالية الجديدة” ومصالح قوى الرّأسمال العالمي. بل إن التوجه “التّمْهيني” قد تحوّل إلى رؤية اختزالية للتربية والتكوين وحصر وظائفهما في إعداد الطاقات البشرية ضمن رؤية براغماتية تختزل هذه الوظائف في إعداد المتعلمين بالأساس، لممارسة مهنة أو العمل في مجال مهني معيّن.  فالتوجهات السياسية نحو مهْننة التعليم العالي ليست إلا تكريسا للمقاربة “المقاولاتية” لهذا القطاع بعد أن أصبحت مخرجاته، ولا سيما في بلدان العالم الثالث، غير ملائمة لطلبات سوق الشغل ولآليات اشتغال الاقتصاد وتطوّر المجتمع بشكل عام.

لقد تزامن هذا التحول في مستوى مرجعيته الفكرية والسياسية مع منطلق تفكير اقتصادي عالمي يدعو إلى “الخوصصة” ورفع نسق تحرير الاقتصاد في العالم أي في سياق العولمة الذي تحوّلت فيه “المهْننة” إلى “إطار إرشادي” (un paradigme) موجه للسياسات التعليمية على المستوى العالمي بما يتضمنه من أبعاد فكرية وسياسية وأيديولوجية واجتماعية متعدّدة ومتداخلة فيما بينها.  وفي هذه المرحلة التي يطلق عليها بـ “حقبة المرونة” يتم تكييف التعليم مع المتطلبات الجديدة للقوى الصناعية والمالية العالمية. وبالتّالي، أصبح المطلوب من المؤسّسات التعليمية أن توفّر لروّادها (الطلبة) تكوينا ذا مواصفات وكفايات “مهنية” تتوافق مع خصوصية المهنة أو الحرفة أو الوظيفة التي سيمتهنونها في المؤسّسة المشغلة، كما يندرج هذا المفهوم في مجال البحث عن مخرج لأزمة البطالة لخريجي التعليم العالي.

وفي هذا الإطار يمكن أن نطرح السؤال التالي: هل أنّ مهْنَنة التعليم العالي تعد استثمارا رشيدا لتوظيف خريجي التعليم العالي أم أنها مجرّد آلية لتدويل التعليم وخدمة اقتصاد السّوق وقواه الاقتصادية والمالية المهيمنة على اقتصاديات الدول النامية؟   

لكي نجيب عن هذه الإشكالية في سياق التحول الذي يعيشه قطاع التعليم العالي في بلادنا، ينبغي علينا أن ننطلق من الإطار القانوني والسّياسي العام المنظم لهذا القطاع. وفي هذا الإطار سنكتفي ببعض المسائل التي تبدو في نظرنا ذات أهمية وفي حدود أهداف هذه الدّراسة.

3- 1- تغير وظائف الجامعة بين الأمس واليوم:

نعتقد أنّ السّؤال حول مهام الجامعة ودورها في المجتمع سؤال إشكالي وعميق لأنّه يرتبط بمسألة الوجود ولا بمسألة النوع أي يتعلق بوظائف الجامعة ودورها في المجتمع. فهل أنّ وظائف الجامعة ثابتة وهي خدمة المجتمع وقاطرته في تحقيق التنمية أم أنّ وظائفها يتم تحديدها بشكل دوري وفق خصائص النّظام الاقتصادي الذي تحدّده الدّولة؟

تُعدّ الجامعة من أهم المؤسّسات التربوية التي تتأثر بالمناخ المجتمعي العام المحيط بها محليا ووطنيا وعالميا أيضا. فهي تتشكل من خلال بنية المجتمع الذي توجد فيه من ناحية، وهي أداة لصنع قياداته الفنية والفكرية والسياسية من ناحية ثانية. ولهذا، فإنّ للجامعة وظائف وغايات ثابتة مهما تطور المجتمع وتغيرت بنيته الاقتصادية.

أ ـ قانون 31 مارس 1960

تعتبر المؤسّسات الجامعية في جوهرها متعدّدة الوظائف: الاقتصادية والثقافية والبحثية. فبالعودة إلى النظام التربوي التونسي وإلى أول قانون ([12]) منظم للتعليم العالي بعد الاستقلال نجد ثلاث وظائف وهي:

1ـ تنظيم التعليم العالي ونشره وتحقيق تكوين الإطارات لسد حاجيات مختلف فروع النشاط بالبلاد وتنظيم البحوث العلمية والعمل على نموها سواء كانت نظرية أو تطبيقية (الوظيفة المهنية والتقنية).

2ـ حماية الثقافة القومية والعمل على نموها والمساعدة على صوغها في أسمى صيغها في ميادين العلوم والفنون والآداب الجميلة والبحث عن عناصر تلك الثقافة وتيسير سبلها والاحتفاظ بها سواء انتمت إلى الماضي أو الحاضر: المعالم، الآثار الفنية والأدبية والعلمية، الآداب والفنون الشعبية (الوظيفة الثقافية).

3ـ النهوض بالبحث العلمي (الوظيفة العلمية والبحثية) وتكوين المواطن التونسي.

هذه الوظائف الثلاث، تختلف أهميتها بين الأنظمة التربوية في العالم، بحسب السياقات التاريخية وحسب الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية السّائدة في المجتمع. فكل نظام تعليمي يعطي أهمية لإحدى الوظائف على حساب الأخرى في كل مرحلة تاريخية (التكوين العام، التقنية، الثقافة) من أجل مسايرة نسق تطور المجتمع والاستجابة له.

دعا التقرير الصادر عن “المؤتمر الولي الثاني للتعليم التقني والمهني” الذي انعقد في سيول (كوريا الجنوبية) سنة 1999 إلى ضرورة أن تتكيف نظم التعليم التقني والمهني مع التطورات الهامة المتمثلة في العولمة. وأن تتكيف مع التغيير الدّائم للمعطيات التّقنية والثورة المعلوماتية والاتصالية التي شكّلت مجتمعا جديدا أصبح قائما على المعارف وتتوفر فيه طرق جديدة ومشوّقة للتعليم والتدريب.

ولكن السعي إلى ربط الجامعة بشرط “التّوافق” مع متطلبات التشغيل يمثل في اعتقادنا أهم تحد يواجهه التعليم العالي اليوم، نظرا لضعف العلاقة الوظيفية التبادلية بين منظومة التعليم والتكوين مع جميع مؤسّسات التشغيل من ناحية أولى، ولأنّ قانون التأثر والتأثير المتبادل بينهما سيظل ضعيفا حتى في حال وجوده من ناحية ثانية. فأسواق العمل ديناميكية، وتتأثر بالتطورات التقنية وتستثمرها في العمل والإنتاج، في مقابل ذلك تعترض منظومة التكوين والتعليم العالي صعوبات لمواكبة هذه الدّيناميكية والتحولات.

ما ميّز التعليم العالي في تونس حسب الباحث محمد باشوش ([13]) هو أنّه أعطى أهمية خاصة للوظيفة التقنية وبدرجة أقل للوظيفة الثقافية خلال العشرية الأولى نظرا للظرف التاريخي الخاص وهو بدايات تأسيس للكوادر الوطنية التي تحتاجها مؤسّسات الدولة الوطنية الجديدة. ويظهر هذا التوجه من خلال شبكة توزيع المؤسّسات الجامعية التي نص عليها القانون الأساسي لسنة 1960. فمن خلال توزيع هذه الشّبكة نلاحظ أن الجامعة التونسية في بداية تأسيسها كانت معدة أساسا للتكوين في مهن محدّدة تحتاجها مؤسسات الدولة الجديدة مثل: التعليم والكوادر الادارية المتوسطة والتكوين التقني ثم في مرتبة أخيرة نجد الوظيفة البحثية.

ومنذ المخطط الخامس للتنمية (1977ـ 1981) أصبح اتجاه الدّولة واضحا في مستوى توزيع الطلبة على الشّعب وميادين التكوين المختلفة. فإذا شهدت الشُعب العلمية والتقنية ارتفاعا وزيادة كبيرة في طاقة إستيعابها من سنة إلى أخرى، فإنّ أقسام الشّعب الإنسانية والاجتماعية شهدت تراجعا حينا واستقرارا أحيانا أخرى. فسياسة الدولة المتحكمة في بنية النظام التربوي أعطت الأفضلية لقطاعات معينة على حساب الأخرى([14]).  وهذا التفاضل بين الشعب التعليمية التي تفضي إلى تخصص مهني وفني محدد، وبين الشّعب ذات التوجه التكويني العلمي العام جعلت التلاميذ يتوجهون إلى شعب قد لا تلائم إمكانياتهم المعرفية وميولاتهم الحقيقية، ومبررات ذلك هي الاندماج في سوق الشغل وتخوفهم من الإقبال على تخصصات “العلوم الرّخوة” (les sciences moles). 

تؤشّر الشّبكة التوزيعية الجديدة للتخصصات التعليمية على اعتماد الدولة سياسة تعليمية جديدة تسعى من خلالها إلى تسخير الجامعة لخدمة قطاع الصّناعة والأعمال الحرة. فالنصوص القانونية المنظمة للتعليم العالي الجديدة تدعو إلى فك الارتباط بين الوظيفة التعليمية للجامعة وبين وظيفتها في البحث العلمي وعدم توطينه في بيئتها الاجتماعية.

ب ـ قانون 25 فيفري 2008

لقد جاء في الفصل الثاني من القانون الأساسي لسنة 2008المتعلق بالتعليم العالي ([15]) ما يلي:

 “يضطلع التعليم العالي والبحث العلمي بالمهام الأساسية التالية:

ـتنمية المعارف ونشرها لتأسيس اقتصاد يقوم على المعرفة، ودعم تشغيلية الخريجين وذلك في نطاق الشّراكة مع المحيط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي،

ـالقيام بالبحث العلمي وتطويره وتنظيمه ودعم جودته والمساهمة في التجديد التكنولوجي والعمل على توظيف نتائج البحوث في مجالات التكوين والتنمية،

ـإسداء التكوين الحضوري والتكوين عن بعد والتكوين المستمر والتكوين بالتداول والتكوين حسب الطلب وتوفير فرص التعلم مدى الحياة..الخ.

 ومن خلال الأهداف العامة للإصلاح التربوي للتعليم العالي في نظام “الإجازة والماجستير والدكتورا”(إ.م.د) جاء في العنوان الثالث ما يلي:

 خصوصيات شهادة الاجازة لهذا القانون ([16]) هي:

أـ أهداف الإجازة التطبيقية : يهدف التكوين في الإجازة التطبيقية إلى إعداد الخريجين للاندماج المهني أو بعث مشاريعهم الخاصة. وهي ترمي إلى:

 1ـ إكساب الطلبة معرفة نظرية ومهارات عملية وتطوير ملكات الابتكار لديهم بما يتيح ممارسة مختلف المهن والوظائف المرتبطة بقطاع اقتصادي معين في سوق الشغل الوطنية والدولية،

 2ـ تأهيل الخريجين لمواكبة التطورات المستقبلية للمهن والوظائف،

3ـ ترسيخ ثقافة المشاريع وإحداث المؤسسات وتجديدها لدى الطلبة.

ب ـ الإجازة الأساسية: تهدف إلى:

 ـ إكساب الطالب المعارف والمهارات في حقل معرفي معين،

ـ تأهيل الطالب للاندماج في المحيط الاقتصادي والاجتماعي،

ـ تطوير روح المبادرة لدى الطالب،

ـ إعداد الطالب لمواصلة الدراسات العليا في مستوى الماجستير والدكتوراة.

إنّ مختلف المضامين والمفردات التي وردت في هذا النص (ممارسة المهن، الاندماج المهني، ممارسة المهن والوظائف، الاندماج في المحيط الاقتصادي، ترسيخ ثقافة المشاريع..)  تلتقي جميعها في بعدها “البراغماتي” على معنى “المهْننة” و”الاحتراف” في مستوى التكوين والوظيفة. فقانون التعليم العالي الجديد يسعى إلى ربط هذا التعليم بوظيفة واحدة مهيمنة وهي الوظيفة الفنية التي تمكّن المتخرج من إمكانية الاندماج في سوق الشغل. وبالتّالي، لم تعد الجامعة، وفق المقاربة الجديدة لنظام التعليم، مؤسّسة علمية وأكاديمية وبحثية، بل تحوّلت إلى مؤسّسة إنتاجية وظيفتها تدريب المتعلمين وتمكينهم من كفايات مهنية ومهارية وفنية محدّدة.

ولقد أدى تبني هذا التوجه الليبرالي في التربية  إلى تحميل التعليم مسؤولية بطالة الشباب المتعلم مع إغفال ما للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التشغيلية العامة بدورها من تأثير فاعل في إنتاج وإعادة إنتاج وتأزيم هذه المعضلة التربوية والاجتماعية التي أمست من بين أبرز تمظهرات الأزمة الخانقة في بلداننا العربية، فتحوّلت منظومة “المهْننة” و” التشغيلية” إلى مجرد دعوى أيديولوجية ومقاربة ليبرالية مضللة لخوصصة التعليم، حيث اعتبرت أنّ مهْننة التعليم والتكوين هي الحل الأمثل لمشكلة بطالة الشباب ولأزمة سوء التطابق أو عدم التكامل بين النظام التربوي وسوق العمل والإنتاج.

ينبغي علينا، كباحثين، أن ننتبه إلى هذه الهجمة التي يتعرض إليها قطاع التربية والتعليم باعتباره من أهم الخدمات العمومية التي تتحمل مسؤوليتها الدولة. فالجامعة التونسية ليست هي المسؤولة عن حل مشاكل التنمية والتشغيل في المجتمع، كما أنّ حل معضلة بطالة خريجي التعليم العالي يجب أن يكون مشتركا بين مختلف المتدخلين في هذا الحقل وشاملا لمختلف القطاعات. لقد أصبحنا نعيش مرحلة “ما بعد التنمية” أو مرحلة “نهاية التنمية”([17]) منذ بداية الثّمانينيات من القرن الماضي حيث فشلت السّياسات التنموية الليبرالية في التشغيل وبرزت معها عديد التّناقضات والصّراعات والتوترات التي تتعلق أساسا بظاهرة “الاقصاء الاجتماعي” الناعم، ولا تتعلق بتغيير وظائف الجامعة في المجتمع.

ويمثل عدم التقيد بالرسميات أو النظم التشريعية في الشغل أحد خصائص العمالة في المنطقة العربية، فيعمل الشباب بأعداد كبيرة في القطاع غير الرسمي؛ حيث الوظائف غير مستقرة، وتعرض أجورا منخفضة، وظروف عمل سيّئة”. إذ يوجد أكثر من 64%من فرص العمل في القطاع غير الرسمي. ففي عام 2011، كونت العمالة المعرضة للخطر في المنطقة العربية ما يقارب 30%من جميع الوظائف. كما أن المشكلة أسأ حتى من ذلك بين الشباب ذوي الدخل المنخفض، المرجح أن يقبلوا بالعمل غير الرسمي أو مع الأسرة من دونة أجر([18]).

وفي تونس، بحسب ما جاء في هذا التقرير نفسه، كانت حصة بطالة المتخرجين من التعليم العالي ضعف المعدل الوطني، حيث بلغت البطالة بينهم 32,6%عام 2013. وبدأت البطالة بين المتخرجين بالارتفاع في أواخر التسعينات من القرن الماضي بعد أن سلك العديد من البلدان العربية في أواخر الثمانينات (1985) طريق الإصلاح الاقتصادي والإصلاح الهيكلي، وانضم إلى منظمة التجارة العالمية، وأعاد تنظيم اقتصادياته مع معايير الانتاجية الدولية، أحيانا عبر الخوصصة، مما أدى إلى تخفيضات قاسية في الوظائف العامة التي كانت سابقا المستوعب الأكبر للمتخرجين من المؤسسات الجامعية([19]).

3- 2- أفضلية التخصصات العلمية والتقنيّة على الإنسانيات والاجتماعيات:

إنّ إصلاح التعليم العالي واعتماد المقاربة الجديدة لنظام “الاجازة والماجستير والدّكتورا”(إ.م .د) ([20]) في تكوين الطلبة بدعوى إعدادهم بطريقة مغايرة وأفضل للحياة المهنية هي رسالة ضمنية نص عليها هذا القانون من أجل تغيير وظائف الجامعة وطرق تفاعلها مع المجتمع. فلم تعد الدّولة تنظر إليها على أنّها مؤسّسة تعليميةـ اجتماعية، بل أصبحت مؤسّسة إنتاجية واقتصادية و”سلعية” تخضع إلى معايير المنافسة وقانون العرض والطلب ومؤشّرات الجودة الاقتصادية.

واعتماد الدّولة المنطق الاقتصادي في مقاربتها لمفهوم “الجودة” في التعليم بدعوى دعم مكانة التكوين العلمي والتقني حتى يستجيب إلى حاجيات السّوق شرعت به تطبيق سياسة “انتقائية” أو اصطفائية. فالتوجيه الجامعي وبعث الُّشعب القصيرة… الخ كلها مؤشرات تدل من جهة أولى على “سحب الثقة” من الجامعة في قدرتها على تكوين إطارات عليا كفءة، ومن جهة ثانية على سياسة تربوية لم تعد تهمها “دمقرطة” التعليم أو على الأقل استجابته لحاجيات أغلب القطاعات الاقتصادية، بقدر ما يهمّها التحكم مسبقا في عدد المرتادين لبعض ميادين التكوين وتوزيعهم على مختلف الاختصاصات ([21]).

هذه النظرة “المقاولاتية” في التّعليم العالي كانت وراء الدّعوة الرّاهنة إلى تكريس مزيد من خوصصة هذا القطاع وجعله مرتبطا بشكل أساسي بحاجات الاقتصاد من المهنيين في السّوق الوطنيّة.  هذه المقاربة الجديدة تسعى إلى تغيير وظائف الجامعة الرئيسية المتمثلة في المعرفة والبحث وحصرها في وظيفة أساسية ومتمثلة في الإعداد الفني والمهني للطالب. ومن ثم تحولت الجامعة وفق منظومة “إ.م.د” ( نظام أمد) إلى مؤسّسة للإنتاج المادي أي تنتج وتصدّر منتوجاتها البشريّة وتسوّقها مثلما تُسوّق وتصدّر المنتوجات المادية والصّناعية الأخرى، وهذه المقاربة التجارية والنفعية باتت تهدّد بالفعل ” القيم العلمية الجامعية([22])، لنصبح في تونس أمام ظاهرة تربوية جديدة تتمثل في ثقافة التّمايز وعدم الإنصاف بين التخصصات العلمية وبين المؤسّسات الجامعية معا.

نلاحظ أنّ آثار السياسة الليبرالية في التعليم العالي قد أجابت عنها المعطيات الإحصائية المتعلقة بتوزيع عدد الطلبة المتخرجين في السّنة الجامعية بحسب المجال العلمي. إذ نلاحظ من خلال الإحصائيات الرسمية التي تنشرها وزارة التعليم العالي سنويا، عن وجود تفاوت كبير بين قطاع المسالك التعليمية القصيرة بأشكالها المختلفة (الملتميديا والتجارة والتقنية والفنون) وبين مجالات العلوم الصحيحة والإنسانية والاجتماعية. وهذه التوزيعية عندما نتعمق فيها أكثر تكشف لنا حقيقة أهداف المنظومة التعليمية الجديدة التي أصبح يوجهها منطق التمايز والاصطفاء المعرفي والاجتماعي والمهني والتراتبيّة في التعليم العالي.  فالتخصّصات التي يعتقد البعض في أفضليتها عن الأخرى وفق منطق المردود المباشر لها على الاقتصاد مثل: الإعلامية والصّناعات التحويلية والملتميديا والتجّارة أصبح عدد طلبتها يتضاعف من سنة إلى أخرى مثلما تبيّنه الإحصائيات الرّسمية. فاختصاص الإعلامية مثلا بلغ عدد الطلبة بالجامعة التونسية فيها سنة 1997 حوالي 7500 طالبا، وارتفع عددهم خلال السّنة الجامعية 2011ـ  2012 إلى 49505 طالبا ([23]).

من الضّروري أن تواكب مخرجات المؤسّسات التعليمية روح العصر وأن تتفاعل مع خصوصية المجتمع الذي يحتضنها، ولكن دون أن تخضع إلى شروطه، أي يجب أن لا تكون الجامعة دليل اتجاه الريح مستجيبة لكل تغير في أهواء الناس. فعلى مدى الزمن يجب على الجامعة أن تعطي المجتمع ما لا يريده بل ما يحتاج إليه” ([24]). وبالتالي، فإنّ قضية ربط فاعلية التعليم العالي وجودته بشرط “المواءمة” مع متطلبات سوق الشغل كان الهدف منه تغيير الوظائف الثلاث الثّابتة والمتعارف عليها للجامعة والتّشكيك في تكاملها مع بعضها البعض في تحقيق التنمية.

مازالت بعض التخصصات في العلوم الاجتماعية والإنسانية في تونس لا تدرّس إلا في التعليم العالي وفي وضعيات محدودة سواء من حيث عدد الطلبة أو من حيث عدد مؤسّساتها. فمادة الفلسفة مازالت لا تدرّس إلا في السنتين الأخيرتين من التعليم الثانوي. أما علم الاجتماع وعلم النفس والحقوق، فإنّ مأساة “التحقير” والتهميش فيها أكثر، ومازالت هذه المواد غائبة تماما في برامج التعليم الثانوي. إذ يلتحق الطالب في تونس بالجامعة وهو مغيب فكريا واجتماعيا وحقوقيا عن أبجديات علوم التواصل التي تنشئه على قيم العيش المشترك التي ستساعده على التواصل والتفاعل مع مختلف المحيطين به سواء في الجامعة أو في فضاء الشغل بعد تخرجه وسبل اندماجه في المجتمع.

لذلك، ستبقى هذه الحلقة المفقودة من الفجوات بين استراتيجيات الإصلاح وواقع العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تعاني التهميش وعدم اندماجها في محيطها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.  مازالت العلوم الاجتماعية غير مندمجة في الثقافة المجتمعية العامة لأنها غائبة عن برامج التكوين المتوازن للمتعلمين في مختلف الاختصاصات العلمية والتقنية الأخرى. ففي الولايات المتحدة الأمريكية تخصص المعاهد التكنولوجية والكليات العلمية والهندسية نسبة 20% للمواد الإنسانية والاجتماعية في برامج تدريسها”([25]).  وكذلك في فرنسا يدرسون الطلبة العلوم الاجتماعية والفلسفة حتى يكون تكوينهم الأكاديمي متكاملا ويزودهم برؤية نظرية شاملة ويتمكنوا من مواجهة مشاكل الحياة سواء في الشغل أوفي المجتمع عامة. فالتطور الاقتصادي لا يمكن أن يتحقق إذا لم يرفده تطور في الفكر والأخلاق والتنمية الشاملة والمستدامة لا ينفصل فيها البعد الاجتماعي والفلسفي والثقافي عن بعدها الاقتصادي أو السّياسي والتخصّص العلمي الفني الدقيق أو المعرفة الفنية التكنوقراطية المتخصّصة تحتاج إلى معرفة بالعوامل البشرية والبيئية والقيمية، وأبعاد الحاضر والمستقبل حتى تتجسد في واقع تنفيذي ([26])

فالسّياسة التعليمية المتبعة في تونس منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، تستهدف بناء “الجامعة المنتجة” بالمعنى الاقتصادي الضيق للعبارة وتحاول أن تحل مشكلة البطالة بالنسبة إلى خريجي التعليم العالي عبر وسيلتين متكاملتين وهما:

1ـ معالجة مشكلة البطالة وفق المقاربة الاقتصادية لا المقاربة الاجتماعية والثقافية.

2ـ التركيز على العوامل الخارجية المؤثرة في التشغيل من خلال السعي إلى ملاءمة نظام التعليم العالي مع متطلبات سوق الشغل وليس بهدف التلاؤم مع مقتضيات التطور الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع.    

في الواقع أن هذه المنظومة الليبرالية لا تضمن بالضّرورة التشغيل، إذ أنها قد تؤدي خاصة في فترات الانكماش والأزمة إلى اشتداد البطالة.. وهذا التمشي الذي وقع تكريسه في تونس في السنوات الماضية هو المسبب الأساسي في ارتفاع معدلات البطالة”([27]). كما أن اعتماد ا”لنيوليبرالية” على منطق الوثوقية الاقتصادية والفلسفية المغلقة لتحقيق الرّفاه الذي وعدت به الشعوب ليتحول على مدى أكثر من نصف قرن إلى مجرد وهم جميل، وذلك بفعل تضاد المقاصد المثالية لليبرالية مع الواقع المحكوم بجشع الرّأسمال؛ حيث تحول المجتمع المنتظم وفق النسق القيمي الليبرالي، القائم على الحرية والفردانية، إلى واقع تصارعي متوحش لا يحتكم لأيّة قيمة إنسانية، بل يسوده قانون الغاب بكل ما يعنيه من تسييد لمنطق القوة المطلقة في كل قيمة”([28]). لقد ارتفع صافي دخول المشاريع وأصحاب الثروة ارتفاعا متصاعدا، وفي الوقت نفسه، كان العمال المأجورون يئنون تحت وطأة البطالة ويعانون من شدة النتائج التي ترتبت على تراجع مستوى الرعاية الاجتماعية”([29]).

4- الخاتمة:

نعتقد أنّ التّشخيص العلمي لقضية تشغيل خريجي التعليم العالي في تونس هو جزء من الحل، والوضوح في هذا التّشخيص هو أقصر مسافة لوضع هذا الحل. وأوّل بديهة يجب الانطلاق منها هي أن تظلّ الجامعة منارة للعلم والمعرفة والبحث والتكوين وأن لا نختزلها في وجهة نظر اقتصادية وبراغماتية  قصيرة المدى، كما أنّه لا يمكن أن نقيس فاعليتها في المجتمع من منطلق الجدوى “الإنتاجية المباشرة” و”المهننة” أو ” التشغيلية” الوقتية لتلبية مطالب سوق الشغل. فأزمة بطالة خريجي التعليم العالي في تونس وفي الوطن العربي عموما، لا تتحمّل مسؤوليتها المؤسّسة التربوية بمفردها، يل تعود إلى إخفاق السياسات التعليمية مثلما أكّدت عديد التقارير الرّسمية وغير الرّسميةـ العربية والدولية، كما أن هذه الأزمة هي إفراز لأزمة مجتمعية شاملة. وبالتّالي، فالمقاربة الاقتصادية اللّيبرالية وسياسة الخوصصة المتبعة هي التي أدّت إلى تعميق أزمة التّشغيل في تونس وإلى ارتفاع نسبة البطالة بالنسبة إلى خريجي التعليم العالي بشكل خاص.

هكذا، أصبحت العلاقة بين الجامعة والمجتمع عندنا غير متوافقة في نظر البعض لأنّ “الإصلاحات التربوية” الجديدة لم تستهدف إصلاحا تعليميا ومجتمعيا حقيقيا، بل كانت أهدافها إحداث تغيير قسري على وظائف الجامعة، كما أنّها لم تعتمد رؤية استراتيجية متكاملة، وإنما اقتصرت على تحقيق أهداف اقتصادية مربحة وتمت تحت ضغوطات خارجية، ولم تكن ذات أهداف “استراتيجية” من أجل تحقيق التنمية الحقيقية. فالمدير العام السّابق لليونسكو “فيديريكو مايور” أكد في أحد تقارير هذه المنظمة على أنه في مواجهة أزمة تتزايد خطورتها حيث نرى بعض البلدان النامية غير قادرة حتى على تخصيص الوسائل اللاّزمة للعلم والتكنولوجيا، ولا على توفير احتياجات تنمية الموارد البشرية، فكانت النّتيجة  هي الدّوران في “حلقة مفرغة”؛ حيث لا توجد موارد تخصص للعلم، ولا تنمية ممكنة من دون إسهام العلم والتكنولوجيا ([30]). وإذا كانت أغلب هذه الدّول قد ضحّت بالكثير ممّا حققته من مكاسب اجتماعية في العقود الماضية أملا في أن تساعدها هذه السّياسات الاقتصادية الجديدة في التخفيض من معدلات البطالة لكن واقع الحال يشهد على أنّ هذه الدّول كانت تركض وراء سراب لا نفع منه، ووهم لا خير فيه.


[1] ـ التقرير الصادر عن البنك الدولي في شهر فيفري 2008 تحت عنوان: الطريق غير المسلوك ـ إصلاح التعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، بين أن من نواقص الجامعات العربية هي أن العلاقة بين التعليم والنمو الاقتصادي ضعيفة، وأنه لم يتم بعد كسر الفجوة بين التعليم والتوظيف.

[2] ـ المسح الوطني حول التشغيل، المعهد الوطني للإحصاء، إحصائيات 2012.

3المعهد الوطني للإحصاء، النشاط والشغل في تونس، مؤشرات إحصائية تونسية نشرية 2015.

[4] ـ برنامج الاصلاح الهيكلي بدأ العمل به منذ سنة 1986 إثر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها البلاد وأدت بها إلى الإفلاس مما استوجب تدخل البنك الدولي من خلال تقديمه إعانات مشروطة وتتمثل أساسا في الخوصصة والانفتاح على الرأس مال العالمي.

[5] ـ منظمة العمل الدولية، ” التشغيل والبطالة في الدول العربية، نحو سياسات وآليات فاعلة”، موجز التقرير العربي الأول لمنظمة العمل العربية، القاهرة، جوان 2008.

[6] ـ مصطفى محسن، “تمهين التعليم والتكوين: مقاربة سوسيولوجية نقدية للخلفية والسياق والآفاق” من البيئة المجتمعية للعمل، مقاربة نفسية ـاجتماعية، (مؤلف جماعي) منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 161، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2009، ص ص 7ـ29.

[8] ـ وزارة التكوين المهني والتشغيل، “الاستراتيجية الوطنية للتشغيل 2013 ــ2017( مشروع)”، ديسمبر 2012، ص6.

[9] ـ وزارة التكوين المهني والتشغيل، “الاستراتيجية الوطنية للتشغيل 2013 ــ2017( مشروع)”، ديسمبر 2012، ص12.

[10] ـ نقصد بمفهوم “المهننة”(la professionnalisation) أو “التمهينية” عملية ربط مصير التعليم العالي من حيث البرامج والمناهج والشُّعب (المسالك) بتحقيق معرفة أكاديمية ومهارات أوكفايات مهنية وتقنية/ فنية بالأساس من أجل الاستجابة إلى مطالب المحيط السوسيو ـ اقتصادي والثقافي.  ومفهوم “المهننة” أو “الاحترافية” مستقى من عالم الاقتصاد والشّغل. وتتنزّل هذه المقاربة الجديدة في المهننة في إطار إعادة بناء منظومة التعليم حتى تقوم على منطق التخصص المهني المحدد أو الحِرَفِي للطالب ومن أجل تكوينه للقيام بأشغال وأعمال معينة في زمن محدد.

[11] -صالح المازقي، دعوة إلى فهم التشغيلية، الدار المتوسطية للنشر، تونس، الطبعة الأولى 2012، ص 78.

[12] ـ الأمر عدد 98 لسنة 1960 القاضي بإحداث وتنظيم الجامعة التونسية المؤرخ في 31 مارس 1960.

[13]– محمد باشوش، ” مساهمة في دراسة وظائف الجامعة التونسية”، المجلة التونسية للعلوم الاجتماعية، السنة الثانية والعشرون، مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية، تونس 1985، ص ص 5ـ 38.

15ـ الحبيب درويش، ” أي دور للعلوم الإنسانية والاجتماعية داخل المؤسسات الاقتصادية” مقال منشور على الموقع التالي: www.yemnitta.com

[15] – أنظر، القانون عدد 19 لسنة 2008، المؤرخ في 25 فيفري 2008 المتعلق بالتعليم العالي، الرائد الرسمي للجمهورية التونسية 4مارس 2008.

[16]ـ  ورد في : مذكرة إطارية لاعتماد ” أ.م . د” عدد 30 لسنة 2006، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الإدارة العامة للتجديد الجامعي.

[17] – François Partant, La fin du développement, Paris, Eds François Maspero, 1982.

[18] ـ أنظر تقرير التنمية البشرية للعام 2016: الشباب وآفاق التنمية في واقع متغير، نوفمبر2016، ص68.

[19] ـ المرجع السابق، ص131.

[20] ـ عبدالله جمعة الكبيْسي و محمود مصطفى قمبر، دور مؤسسات التعليم العالي في التنمية الاقتصادية للمجتمع، (سلسلة ابداعات تربوية) دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، الدوحة، قطر، الطبعة الأولى، 2001، ص 29.

[21] ـ التعليم العالي بالأرقام، التعليم العالي بالأرقام السنة الجامعية 211ـ2012، عن ” مكتب الدراسات والتخطيط والبرمجة”، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، تونس.

[23] ـ أنظر، التعليم العالي وبناء مجتمع المعرفة، مركز النشر الجامعي 2005، تونس 2005. وكذلك ، التعليم العالي بالأرقام السنة الجامعية 2011ـ 2012، مكتب الدراسات والتخطيط والبرمجة، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، تونس  2012.

[24] ـ مايكل شاتوك، المهدّدات الداخلية والخارجية لجامعة القرن الحادي والعشرين، عالم المعرفة، المجلد 24، العدد 201 ديسمبر،1995، ص ص 35ـ50.

[25] ـ عبدالله جمعة الكبيْسي و محمود مصطفى قمبر، دور مؤسسات التعليم العالي في التنمية الاقتصادية للمجتمع، المرجع السابق، ص53.

[26] ـ حامد عمار، بناء الإنسان العربي، دراسة في التوظيف القومي للفكر الاجتماعي والتربوي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1988، ص 228.

[27] ـ وزارة التكوين المهني والتشغيل، “الاستراتيجية الوطنية للتشغيل 2013 ــ2017( مشروع)”، ديسمبر 2012، ص12.

[28] ـ الطيب بوعزة، نقد الليبرالية، تنوير للنشر والإعلام، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 2012، ص22.

[29] ـ هورست أنهيلد، اقتصاد يغدق فقرا: التحول من دولة التكافل الاجتماعي إلى المجتمع المنقسم على نفسه، ترجمة عدنان عباس علي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 335، يناير 2007، ص21.

[30] ـ ورد في، أحمد الصّياد، اليونسكو رؤية للقرن الواحد والعشرين، دار الفارابي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1999، ص 204.

مقالات أخرى

أيّ نموذج إيتيقي للإنسانيّة المعاصرة

معطّلات الفهم في الشعر العربي المعاصر

شعريّة اللّباس

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد