الإيمان من مراصد مختلفة

الايمان من مراصد مختلفة

في دراسة لافتة نشرتها وكالة الشؤون الثقافية والأديان في اليابان Agency for Cultural Affairs وهي هيئة حكومية رسمية، تبين أن عدد المسجلين في المعابد اليابانية في الشنتو والبوذية والمسيحية والإسلام يبلغ 190 مليون ياباني!! وهو أكثر من سكان اليابان كلها بمرة ونصف!

وعادة ما يكون هذا الرقم مثاراً للتندر في بلادنا، ولكن الأمر لا يحتاج لتأمل طويل، فالياباني عموماً لا يعرف فكرة الدين الواحد الحصري الموصل إلى الجنة والمنقذ من النار، بل لديه فهم ديمقراطي بسيط وهو أن هذه الأديان مدارس روحية تقدم خدمات للمجتمع في الأخلاق والمحبة والمودة، ومن الطبيعي أن يستفيد العاقل من كل هذه المؤسسات، وهكذا يكون للياباني دينان أو ثلاثة وربما أكثر.

ليس الشعب الياباني غبياً بكل تأكيد، ولا يمكن وصفه بالشعب الجاهل أو المنفصل عن الواقع، بل هو شعب يصنع بكفاءة الواقع والمستقبل ويمارسه عن وعي وبصيرة، وقد اختار هذا المنهج في التسامح، وبذلك فإنه قضى نهائياً على فكرة الحدود الدموية للأديان، وبات يراها أشجاراً في حديقة واحدة، يستظل بما يشاء ويقطف من الثمار ما يشاء، وينتقل فيها رغداً حيث شاء دون أن يقع في خاطره للحظة أن دينه يمثل الطهارة فيما يمثل الآخرون الدنس، وأنه يمثل الحق فيما يقيم الآخرون على الباطل!!

حين كتبت كتابي إخاء الأديان تلقيت سيلاً من الخطاب الرافض لهذا العنوان من مسلمين ومسيحيين! على أساس أن المسألة محسومة في هذا الشرق البائس، وأنه لا وجود إلا لدين واحد يمثل الحق فيما تمثل باقي الأديان الكفر والضلال والشر، وتبدو المسألة محسومة بشكل صارم في الديانات الإبراهيمية فلن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، ولن يرضى المسلم عن اليهود ولا النصارى ولا البوذية حتى يتبعوا ملته، والصراع قائم إلى يوم القيامة لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر.

ولكن لماذا لا ندرس الحالة اليابانية بروح نقدية واقعية؟

ولماذا نفترض أصلاً أن السلوك الإقصائي الرامي بالآخر في جهنم هو موقف الديانات الإبراهيمية الثلاث؟

وأعتقد أن القارئ الكريم لا يزال يفحص كلامي هذا ليلقي على الفور بالأدلة النصية التي يحملها، فاليهودي لا زال متمسكاً بنص التوراة ضد الغوييم (الكافرين): سيسقطون سقوطاً مهيناً، ويكونون عاراً بين الأموات مدى الدهور، ويكونون في العذاب وذكرهم يهلك (سفر الحكمة 4-19)

والمسيحي لا يزال يرتل نص الإنجيل ضد أعداء المسيح: أيها الحيات أولاد الأفاعي! كيف تهربون من دينونة جهنم! (متى 33-23).

فيما يرتل المسلم نصاً نهائياً حاسماً: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.

ولا يهتم هؤلاء بعد ذلك أين أخذتنا هذه الثقافة الإقصائية الصارمة، وما ترتب عليها من حروب طاحنة في التاريخ وتراث من الكراهية والتربص والريب، فالنصوص صحيحة وهكذا فهمها السلف يهودياً ومسيحياً وإسلامياً، وأي انحراف عن هذا الفهم لن يكون إلا بدعة مرذولة في المسيحية واليهودية والإسلام.

ومن العجيب أن هذا الفهم الإقصائي الحاد يحظى بإعجاب كل فريق من المتعصبين، وعلى الرغم من الصيغة الهمشرية التي يحتفظ بها كل فريق عن الآخر، ولكن يصرح المتعصبون في الأديان الثلاثة بأنهم يفضلون هؤلاء المتشددين لأنهم واضحون متمسكون بمبادئهم، أما نحن الذين ندور الزوايا ونبحث عن المشترك فإننا نميع النصوص ونحرف الدين ونمارس النفاق الديني في سبيل أهداف اجتماعية.

ولكن هل هذا الموقف هو بالفعل الموقف الاتفاقي في الأديان الإبراهيمية، وهل يعتبر موقفنا في التسامح في العقائد والإعذار في الاختلاف زندقة وكفراً؟

في عام 1996 حضر وفد من الأوموتو وهي ديانة حديثة في اليابان أسستها عائلة ديكوشي اليابانية، ويقدر أتباعها اليوم ينحو مليون شخص، ولديهم مقر رئيس في منطقة أيابي بمقاطعة كيوتو، وحظي هؤلاء الضيوف وعددهم أربعة بعناية خاصة من الشيخ أحمد كفتارو المفتي الراحل، وقد اجتهد الرجل بكل حماس أن يدفعهم إلى النطق بالشهادة بعد خمسة عشر يوماً أمضوها في مجمع أبو النور في أجواء روحية غامرة، وبالفعل فقد تحدث السيد كيتارو باسم الجماعة ونطق الشهاديتن أمام جمع يزيد عن خمسة آلاف متابع، وحرص الشيخ أن يأخذهم إلى العمرة بنفسه، وقدمهم للحكومة السعودية كمسلمين جدد بعد أن نطقوا الشهادتين أمام مفتي الجمهورية.

وشهدت الأسابيع التالية لهذا الإعلان فرحاً غامراً في الجماعات الدينية في بلاد الشام، واعتبر ذلك انتصاراً هائلاً للدعوة الإسلامية في مواجهة الحضارة اليابانية، وخطب مئات الواعظين عن هذا التحول المصيري في اليابان نحو الإسلام.

بعد سنوات وجهت لي جماعة الأوموتو دعوة لإلقاء محاضرات في جامعة الحب والسلام كأستاذ زائر، وقال لي أصدقائي: إنها فرصة لمعرفة جهادهم وصلابتهم، ومتابعة ما فعلوه في مواجهة العقائد الشركية البوذية والكونفوشية والشنتوية، وكيف حطموا معابدهم الشركية وآلهتهم المزيفة، وكيف مزقوا كتبهم القديمة وراحوا يرتلون القرآن!

كنت أعلم أن الواقع غير هذا، وأن عصر التحولات الحادة قد انتهى، ولكن مان علي ان أرى وأسمع، وقبل أن أشرع بتقديم محاضراتي طافوا بي على معبدهم الجميل، وحدائقه الغناء وشاهدت أروع التحام للطبيعة والإنسان في الأرض، ورأيت في ركن من المعبد صورهم في العمرة في مكة المكرمة بلباس الإحرام، ولكن ذلك لم يكن إلا إعلاناً للحب والاحترام للديانة الإسلامية، ولم يخطر ببالهم للحظة أنهم يكفرون بمبادئهم وعقائدهم وأنهم على وشك هدم معابدهم وبناء مساجد بدلاً عنها، ولا طرد كهتنهم واستقدام مشايخ من الأزهر، لقد بدا المشهد مختلفاً تماماً، وببساطة وجدت على أركان المعبد صوراً أخرى لقادتهم مع البابا في روما ومع الدالاي لاما ومع مراجع هندوس ويهود، وهم يعتزون بكل ما أضافوه من حكمة ومعرفة إلى تراثهم الروحي الجميل.

لم يخطر في بالهم للحظة أنهم حين نطقوا الشهادتين سيواجهون غضبة مضرية ماحقة من تلاميذهم، يتهمونهم بالردة عن الدين وتمييع أصوله والعبث بثوابته، لقد فرح الجميع بهذا الإنجاز الثقافي وأضافوه إلى خبراتهم واعتبر السيد كيتارو وأصحابه الأربعة رواد محبة وسلام وحوار بين الأديان، واعتبر ذلك تعزيزاً لروح التسامح والمحبة في الثقافة اليابانية، وفي ثقافة الأوموتو بوجه خاص.

لم يعد اليابانيون الأربعة بعد نطقهم بالشهادتين ليتحدثوا عن الخروج من الظلمات إلى النور، ولم يصفوا ماضيهم بالجاهلية السوداء، ولم يصنفوا الكتب في شقائهم وضلالهم وانحرافهم كما يتصور رجال الدين في بلادنا المنكوبة بالإقصاء والتعالي، والمنغمسة في ثقافة الشعب المختار الذي ظهر في الديانات الثلاث بصور متقاربة.

ولحسن الحظ فإن اليابانيين لا يعلمون أن فتوى مشايخنا فيهم أنهم مرتدون كفروا بعد إيمانهم، وأنهم يستتابون وإلا قتلوا ولا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً!!

ولا شك أن قرائي ستصيبهم الحيرة من هذا الطرح، فهذه مسلمات عقائدية لا يجوز فيها أدنى تساهل، وفي أقل من هذا تطايرت رؤوس الزنادقة خلال التاريخ، وأنت تلعب بعدّاد عمرك، فالعقائد محسومة صارمة والعبث بها عدوان على الله وأنبيائه، ولا احترام لمن يتنازل عن حرف من اعتقاده ولو أدى ذلك إلى الإخاء الإنساني ونهاية الحروب واتحاد العالم ونشر السلام في الأرض.

هنا بالضبط مربط الفرس، وهذا هو السؤال المحوري، هل أقام الله هذا العالم بالضبط لتسود عقيدة واحدة ويلقى بالآخرين في الجحيم؟

قناعتي أن الإسلام دعا بوضوح إلى احترام الخلق وبذل السلام للعالم، وظهر من أعلامه في التاريخ من يرفض بشجاعة وبصيرة كل أشكال احتكار الحقيقة، والحال نفسه في الحركات التنويرية في المسيحية واليهودية، لقد بذل التنويريون جهداً هائلاً في تقديم النموذج الياباني في الإسلام والمسيحية، وهذا ما رصدته بدقة وعناية في كتابي إخاء الأديان.

على أنني متمسك تماماً بأن رائد هؤلاء التنويريين هو النبي محمد نفسه، فهو من جاء بالنص الديني الساطع: “إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون”، وهو من توجه بصلاته نحو قبلة أهل الكتاب، وهو من نص صراحة في أربعة عشر موضعاً أنه جاء مصدقاً لما بين يديه، مصدقاً وليس مبطلاً ولا ملغياً ولا ناسخاً ولا مدمراً، وهو من دعا أصحابه بوضوح للاستفادة من علم أهل الكتاب، فدائرة المشترك في الدين كثيرة وكبيرة، وهو الذي أصر على اعتبار كل أنبياء المسيحية واليهودية أعلاماً مقدسين في الإسلام، حتى أولئك الذين لم يذكروا في القرآن الكريم، فقد جاءت السنة بالثناء عليهم ومنحهم مكان القدوة والريادة، مثل دانيال وحزقيال ويوشع بن نون وصمويل، ولم يذكر في تاريخ التراث الإسلامي نبي ملعون، بل ذكر الجميع بأعلى قدر من الاحترام والمحبة.

للأسف لقد توقف التسامح كله عند عصر النبوة، ولم نكرر أبداً ما فعله الرسول مع أسلافه من دعاة الخير، فلا يوجد في رجال الدين الإسلامي مثلاً من يذكر باحترام بولس الرسول مثلاً، ولا يوحنا الذهبي الفم ولا القديس أوغسطين ولا فرنسيس الأسيزي، ولا موسى بن ميمون المصلح اليهودي، ولا مارتن لوثر الإصلاحي المسيحي، ولا جوزيف سميث نبي المورمون، ولا غورو ناناك نبي السيخ، ولا حسين النوري مؤسس البهائية، كما أنه من النادر أن تجد في الكهنوت المسيحي أو اليهودي من يقف إجلالاً للرسول محمد عليه الصلاة والسلام، أو لأبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي عليهم جميعاً رضوان الله.

يقدم اليابانيون نموذجاً مختلفاً لاحترام الأديان، بعيداً عن تراثنا الإقصائي في الشرق الأوسط، وينشئون أجيالهم على احترام كل فكر نبيل وكل قيمة روحية وكل ديانة مقدسة.

ببساطة فإن اليابانيين ليسوا فقط تكنولوجيا وعجائب، إنهم أيضاً مدرسة في الأخلاق، ولا شك أن نموذج التسامح الأخلاقي الياباني لا يقل روعة عن النموذج الياباني في التكنولوجيا الذي أجمعت الأديان كلها على عظمته وتفوقه وتألقه الحضاري.

إنه نموذج تدل له آية عظيمة في كتاب الله لا تحتاج أي تفسير: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم.

مقالات أخرى

تعدّد الطّرق الصّوفيّة

جماليّة التّناصّ في الشّعر الصّوفيّ

“زيارة” الضّريح بإفريقيّة مطلع العصور الوسطى

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد