ماذا لو عاد أبطال الاستقلال ليسألوننا عن سوريتنا؟

سوريا

قبل مغادرته دمشق، لملاقاة المستعمر الفرنسي أوصى يوسف العظمة بالحفاظ على سورية، حفظ السوريون الأمانة، ناضلوا من أجل طرد المُحتّل وتشبثوا بوحدة البلاد بالنواجذ، حتى نالوا استقلالهم في ١٧ نيسان/ أبريل عام 1946، بعدها عاش السوريون حياتهم السياسية والمدنية والبرلمانية، تتوجّت تلك المرحلة بانتخابات ديمقراطية حرة نزيهة في عام ١٩٥٤.

رغم تعدد الانقلابات العسكرية، أخذت سورية تنمو سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، بحيث يمكن القول أن البلاد عاشت في تلك الأثناء عصرها الذهبي، إلى درجة نالت دمشق في عام 1950 لقب عاصمة الأناقة في العالم، لا بل بات يُطلق سورية يابان الشرق الأوسط، لو قُدِّر لهذه المسيرة أن تستمر، وفقا لفريق اقتصادي ألماني زارها بتلك الفترة، لأصبح سعر الليرة السورية موازيا لسعر الفرنك السويسري، إلى أن جاء حكم العسكر في عام ١٩٦٣.

التاريخ لا يرحم، بين كل فترة زمنية وأخرى، يُصفِّي حساباته مع نفسه، أربعة وخمسون عاماً من حكم العسكر، مدة زمنية كانت كافية لبناء الإنسان والدولة والحفاظ على الأوطان، فيما لو اتجهّت مسيرة الاستبداد لتطبيق القانون بدلاً من التضحية به، كما فعل أتاتورك في تركيا المجاورة على سبيل المثال لا الحصر.

خلال تلك السنوات الطويلة، تمدّدت سورية عربياً وإقليمياً، فكبرت وكبرت معها أحلام السوريين، لذلك أخذت تحتفل بشعاراتها وانتصاراتها، مُتناسيةً انكساراتها على صعيد الإنسان والدولة والمجتمع، بذلك كانت سورية تكبر خارجياً في حين كانت تضعف داخلياً، خصوصاً مع زيادة حجم المظالم وسقوط القانون، وما نتج عن ذلك من عدم استقلالية مؤسستي الجيش والقضاء، وما رافق ذلك من محسوبية وفساد وهدر مال عام، حتى نخر السوس عظام الدولة، لذا باتت التحديات كبيرة جداً.

بالمقابل لم تكن الاستجابة بحجم تلك التحديات، خصوصاً بعد أن عجزت السلطة الحاكمة عن تحقيق الشعارات التي رفعتها، المتمثلة بمحاربة الفساد والإصلاح والتحديث وإطلاق الحريات، لتتكشّف عندها حقيقة قاطعة أن ذلك التمدُّد الذي شهدته سورية طيلة تلك السنوات وهذا الانتفاخ، لم يكن سوى تنفيذاً لتفاهمات دولية، وبالتالي لم تكن تلك الانتصارات، سوى محض أوهام.

سورية أمانة في أعناقكم، هكذا كانت وصية يوسف العظمة لجميع السوريين، وهكذا كانت وصايا بقية رجالات التحرير والاستقلال، والسؤال أين أصبحت هذه الأمانة اليوم، بل أين أصبح هذا الاستقلال؟

لو عاد العظمة والأطرش وهنانو والعلي والخراط وزملائهم ليسألوننا عن أمانتهم أين باتت اليوم؟ ماذا يمكن لنا كسوريين القول؟.

سنقول أن سورية التي كنتم تعرفونها لم تعد هي سورية، ما بعد ٨ آذار ١٩٦٣ غير ما قبلها، لقد تحولت البلاد لمجموعة إمارات ودويلات طائفية، وعدد من المستعمرات، وبدلاً من جيش احتلال فرنسي بلغة واحدة، أصبح لدينا جيوشاً متنوعة اللغات، وبدل القاعدة العسكرية أصبحت لدينا قواعد متعددة الولاءات، فضلاً عن انتشار الميليشيات الطائفية، الوحدة العربية التي نادى بها الرفاق، بدلاً من تحقيقها أخذوا يُفرطِّون بالوحدة الوطنية، التضامن العربي الذي تغنوا به ليل نهار، أول من عملوا على وئده، بانحيازهم في حرب الثمان سنوات إلى جانب إيران.

سورية التي دفعتم دمائكم لأجلها لم تعد سورية العظيمة، المستعمر الذي حكم عليكم بالملاحقة والسجن والنفي والقتل، بات اليوم هو نفسه من يوزع النياشين والشهادات الوطنية على جميع السوريين، دستور البلاد الذي نحتوه بدمائكم وعرقكم، بتنا اليوم نستورده من كل الجهات.

ماذا بعد؟ من حاول السير على خطاكم من أطفال ونساء ورجال، من أجل دوام رفعة البلاد وعزتها، قضوا في سجون الرفاق أكثر مما قضوا في سجون العدو، سجن المزة الذي وعدوا بتحويله لمقصد سياحي، باتت البلاد اليوم سجناً كبيراً.

الرئيس الذي كان يملك بعض السلطات أصبح هو أبو السلطات، البرلمان الذي كان يحاسب الرئيس بات الرئيس يحاسبه، المحكمة الدستورية العليا التي يمكن لها أن تسأله، وبدلاً من أن يُقسم الرئيس أمامها، أصبحت تُقسم هي بحياته، المؤسسة العسكرية التي كانت صمّام البلاد بمواجهة الأخطار الخارجية والتنافسات السياسية الداخلية ومراقبة نزاهة الانتخابات، باتت هي من تهندس صناديق الانتخابات.

مجلس الشعب، الذي كان أول برلمان عربي يسير في طريق الديمقراطية منذ عام 1932، انتهى به المطاف لقبة لا تتجاوز مهامها المديح والتصفيق، والتوقيع على القرارات بلا جدل، هذا المجلس لا يثق بكفاءته (65%) ممن انتخبه من المواطنين السوريين، وفقاً للاستبيان الذي أجرته مجلة الاقتصادي السورية بالعام 2007.

الصحف التي كان يُغلقها المحتل الفرنسي، والتي ما تلبث أن تستهل صدورها بعد أيام، أغلقها الرفاق حتى قيام الساعة، التأميم الذي حكم على الاقتصاد السوري بالإعدام، بهدف إعادة توزيع الثروة بين الأغنياء والفقراء، ذهب اليوم بتلك الثروات لجيوب رفاق العشيرة وأصحاب النفوذ.

المدينة التي كانت تحكم نصف العالم، أيام الحكم الأموي، حينما كان يتوافد عليها الأدباء والشعراء، كالفرزدق وجرير والأخطل وعمر بن أبي ربيعة وجميل بثينة ومجنون ليلى وليلى الأخيلية، والتي لم يرَ العرب في تاريخهم عزاً كعزهم في زمنها، على حد وصف مؤسس دار الهلال (جورجي زيدان) بزيارته لها عام ١٩١٤ باتت اليوم لا تحكم نفسها وإنما يتحكم فيها الغرباء.

ثم ماذا سنخبركم عن شعبنا اليوم؟ الشعب الذي كان يستهل يومه بعمت صباحاً يا جار، بات يستهله هل تعرف مهرباً، الشعب الذي كان يقبل بمسيحي رئيسا للوزارة السورية ووزيراً للأوقاف، ومندوبا عن سورية في الأمم المتحدة، ورئيسا لنقابة المحامين السوريين، لم يعد هو الشعب نفسه، الشعب الذي كان يكره الظلم والاستبداد، بات يتمسك به بالنواجذ، الشعب الذي كان يستبسل بمقاومة الاستعمار، بات اليوم يرحب به ويأخذه بالأحضان.

أما عن أبطالنا اليوم فلا تسألون، لا زلنا نستوردهم مرة من الشرق ومرة من الغرب، ثم مرات من أعماق التاريخ، للأسف لم نتعلّم من عبر الدروس، لا من تجربتنا المرة مع الحاج “عبدالله فيلبي” ولا من “لورنس العرب” صانع ملوكنا وأحد قادتنا بمواجهة العثمانيين، ولا من مسرحية “غلوب باشا” قائد جيوشنا في حرب النكبة 1948 ولا من مرشحنا لوزارة الدفاع السورية الجاسوس “إيلي كوهين” لذلك جئنا بكلٍ من أردوغان، وترامب ونصرالله والرفيق “أبو علي فلاديمير بوتين”.

باختصار لم يحافظ السوريون على وصايا رجالات الاستقلال، بل لم يحفظوا لهم عهداً! لقد منعوا هذا الشعب من تذكر أبطاله، من كان يتوجه لبلدة سلطان الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى لإحياء ذكرى وفاته، كان يتعرض للمسائلة، أو الاعتقال، لا بل منعوا عودتهم إلى تراب الوطن حتى وهم أموات، لقد رفضوا عودة أكرم الحوراني حتى دفن هناك في منفاه الأردني، من جهته حمود الشوفي روي أنهم أعادوا جثمانه على نفس الطائرة.

 شردوا نزار قباني، وبدلاً من أن يحولوا بيته المُخضّب برائحة الياسمين الشامي، لمتحف يرتاده العاشقون، سمحوا ببيعه بأزهد الأثمان، محمد الماغوط سبق أن شردوه إلى بيروت، ومثلهما كل من زكريا تامر وصادق جلال العظم وبرهان غليون، كذلك كان ولا يزال حال سوريون آخرون، من جهته باع حنا مينا أثاث بيته ليستُر عُريهم قبل أن يستر عُريه، أما الفريق عبد الكريم زهر الدين، قائد القوات المسلحة أيام الوحدة مع مصر، فقد مات وحيداً في مأوى للعجزة في حمص، ومثله المفكر فاخر عاقل في حلب، ومثلهم أيضاً عدد من المبدعات والمبدعين السوريين.

ماذا بعد؟ لقد أصبح كل شيء رخيص لدينا نحن العرب، فبعد أن ضاعت منّا كل من فلسطين وإسكندرونة والجولان، وعربستان، ها هي اليوم تضيع منا الأوطان، لتندحر أمام قبليتنا وطائفيتنا وتخندقنا المذهبي وحكم العائلة وعنتريات الأنظمة الحاكمة، في خطاب للرئيس أمين الحافظ قبل حرب النكسة 1967 بأيام قليلة قال فيه: “سنجعل الأسطول الأمريكي السادس طعاما للأسماك” كانت النتيجة بعد ستة أيام فقط من ذلك أن الجولان هو من كان طعاما للغاصب المحتل، ومثله كانت بالطبع وعود من جاء بعده من حكام.

شموع العلم التي أوصى بها العالم والطبيب الدمشقي (ابن النفيس) 1213- 1288 بوجوب إضاءتها بعد وفاته، كانت بفضل سياسة العسكر وحكم الاستبداد ضحية السياسة ومقبرة الأوطان، كذلك كانت حقوق الناس، فبدلا من أن تنظم سورية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أدرجت في قائمة أكثر الأنظمة شراً وأسبقها بالطغيان.

ختاماً، إنه زمن الجراد السوري، أكثر من 12 مليون سوري اليوم يكابدون حياة القهر والذل والبرد في العراء، فيما الباقون معلقون بين الأرض والسماء، إما يكونوا أو لا يكونوا! شعوب تبحث عن سعادتها اليوم، بينما السوريون باتوا يعتقدون بأن السعادة ليست من نصيب أهل الأرض، وإنما من نصيب أهل السماء، لذلك ها هم اليوم يستعجلون الرحيل إليها بالجملة، بعد أن تحوّلوا لمتسكعين مكلومين على موائد اللئام والآخرين.

مقالات أخرى

ثورات الرّبيع العربيّ بين الصّعود والانحدار

حبذا لو يُحاكمون على سياساتهم الخارجية!

دور الدين والهُويّة في الحياة العربية

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد