يندرج هذا الكتاب في إطار علم الاجتماع الثقافيّ la sociologie culturelle الذي ظهر في تسعينات القرن الماضي مشدّدا على أنّ الثّقافة متغيّر مستقلّ وبرنامج قويّ strong program . و يترجم المؤلّف رؤية مؤلّفه – أستاذ علم الاجتماع في عدد من الجامعات العربيّة (تونس، المملكة العربيّة السعوديّة، الجزائر، عُمان) والعالميّة (كندا، ماليزيا) – لكيفيّة بناء علم اجتماع عربيّ مستقلّ بذاته يجد جذوره في الفكر الخلدونيّ، ويعالج الظواهر الاجتماعيّة في المجتمع العربيّ المعاصر بآليات نشأت في ذات البيئة. بمعنى أنّ هذا المصنّف يعمل على تبيان الأسس التّي يُفترض أن يقوم عليها علم الاجتماع العربيّ، فضلا عن العوامل الدّاعية إلى ذلك ومنها تلك الأسبقيّة التّي كان العلاّمة ابن خلدون قد منحها للمهتمّين والباحثين في العمران البشري والتّي تشكّل حافزا لهم لتأصيل علم اجتماع عربيّ. ولتقديمه ارتأينا تقسيم التقديم لقسمين أوّلهما تقديم مادّي وثانيهما قراءة في المضمون.
1- القسم الأوّل:
صدر الكتاب بتونس العاصمة عن مجمع الأطرش للكتاب المختصّ في أواخر سنة 2018. وقد تضمّن 293 صفحة وُزّعت على ثلاثة أبواب تلت تقديما للكتاب حمل عنوان “أضواء على معالم الكتاب”. ونقف في هذا التّقديم الذي امتدّ من الصفحة 5 إلى الصفة 25 على ما يشبه الملخّص لمختلف الأبواب وعلى الأطروحة التّي انطلق منها المؤلّف في بناء الكتاب، وهي أطروحة توماس كون T. Khun. التي تقول إن “دراسة تاريخ العلوم وسيلة رئيسيّة لتطوير أسس العلوم ونظرياّتها وإثرائها وتوسيع نطاق مشكلاتها وإمكاناتها المعرفيّة” (ص12).
وتضمّنت أبواب الكتاب الثلاثة تسعة فصول. فجاء الباب الأوّل المُعنون “الواقع والفكر ومشروعيّة تأصيل علم اجتماع عربيّ” مشتملا على ثلاثة فصول. وتضمّن الباب الثّاني الموسوم ب “دور منظور إسلاميّة المعرفة في توطين علم الاجتماع العربيّ” بدوره ثلاثة فصول. وكذلك كان الشأن بالنّسبة إلى الباب الثّالث الذي حمل كعنوان “ميلاد وتطوّر تسمية نظريّة الرّموز الثّقافيّة”. ليكون مجموع فصول الكتاب تسعة.
2- القسم الثّاني:
بعد قراءة الفصول التسعة لهذا الكتاب يمكن تلخيصها والتعليق عليها في مثلها من المحاور:
أولا: تتمثّل أطروحة صاحب الكتاب في دعوة صريحة وملحّة لعلماء الاجتماع العرب لأجل تأصيل علم الاجتماع العربيّ (ص 11). وتعكس هذه الأطروحة افتقاد مجتمعات الوطن العربيّ لعلم اجتماع خاصّ بها وذلك على الرغم من أن النشأة الأولى لهذا العلم كانت عربيّة خالصة دشّنها ابن خلدون بتأسيسه لعلم العمران البشريّ؛ وعلى الرغم أيضا من الوعي المتزايد بأهميّة توطين هذا العلم في المجتمع العربيّ مثلما يتجلّى ذلك من إصدار مركز دراسات الوحدة العربيّة ببيروت لمؤلّفَيْن هما على التّوالي “نحو علم اجتماع عربيّ” (1986) ومستقبل العلوم الاجتماعيّة في الوطن العربيّ (2014). وهو ما يعني أنّ الكاتب يوجّه دعوة للمختصّين في علم الاجتماع عساهم يبادرون إلى توطين هذا العلم في المجتمع العربيّ مراعاة لخصوصيّته.
ثانيا: قُسّم الكتابُ إلى ثلاثة أبواب، حمل أوّلها عنوان “الواقع والفكر ومشروعيّة تأصيل علم الاجتماع العربيّ”. تضمّن ثلاثة فصول عُنوِن أوّلها بـ “ضرورة تأصيل علم الاجتماع العربيّ في ثقافة المجتمعات العربيّة”، وفيه تمّ تبيان كيف أن المجتمعات العربيّة «كبقيّة المجتمعات البشريّة حُبلى بالمعطيات والظواهر الاجتماعيّة التّي تنتظر اهتمام الباحث الاجتماعيّ للغوص في دراستها وتحليلها لتأسيس فكر اجتماعيّ عربيّ يتّصف بالرّوح العلميّة والموضوعيّة والمصداقيّة المعرفيّة” (ص 29). وهو ما يعني أن المجتمع العربيّ يشكّل فضاء لدراسة ظواهر اجتماعيّة تساعد على تبيئة علم الاجتماع العربيّ. أو بلغة أخرى، إن الأرضيّة ممهّدة لتأسيس علم اجتماع عربيّ نظر ا لتعدّد الظّواهر الاجتماعيّة وتنوّعها في المجتمع العربيّ.
تسترعي الاهتمام – في هذا السياق – الملاحظة التّي أوردها المؤلّف ومفادها، مقابل ثراء الواقع الاجتماعيّ العربيّ يبدو علم الاجتماع في طابعه الغربيّ عاجزا عن دراسة تلك الظواهر لأن هذا العلم ومثلما صرّح رئيس الجمعيّة العالميّة لعلم الاجتماع الرّاحل ايمانويل والرستاينImmanuel Wallerstein في مؤتمر مونتريال (كندا/ 1998) علم يعيش وضعا صعبا يعبّر عن هشاشة الأمر الذي يحتّم قيادة حركة تصحيح وتجديد ، وهو ما يحفّز علماء الاجتماع العرب على “ألا يقفوا كالمتفرّجين على ذلك المشهد لفكر علم الاجتماع الغربيّ دون أن يستفيدوا من عِبر ملاحظات والرستاين فيصلحوا شأن علم الاجتماع في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة…كما فعل ابن خلدون في إصلاح علم التاريخ العربيّ المأزوم وذلك باستنباط إطار فكريّ جديد/بردايغم (علم الاجتماع البشريّ) في مقدّمته الشّهيرة”(ص34). وفي هذا الفصل يشدّد صاحب الكتاب أيضا على أن من العوامل المساعدة على تأصيل علم الاجتماع العربيّ، تلك التي تتعلّق بالدعوات المتزايدة من طرف العديد من العلماء في الغرب إلى “توحيد الرؤية المعرفيّة لعلوم الطبيعة والعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة” (ص34). وقد أكّد المؤلّف أنّ هذا الاتّجاه ينسجم مع “الثّقافة الإسلاميّة العربيّة التّي كانت سبّاقة على المستويين الفكريّ والتطبيقيّ إلى تبنّي الرؤية المعرفيّة التوحيديّة للمعارف والعلوم” (ص 35). وعليه فإن توطين علم الاجتماع العربيّ يساعد على رتق/جسر الهوّة بين ما اصطلح عليه الثقافتين. رغم نقد “والرستاين” لهذا الفصل بين الثقافتين المضرّ ببناء علم الاجتماع الغربيّ ورغم توفّر عوامل مساعدة على ذلك (الظواهر الاجتماعيّة والرّغبة في توحيد الثقافتين)، إلا أنّ موقف عالم الاجتماع الأمريكي هذا تضمّن نوعا من الحذر في التّفاؤل، ذلك أن “تغيير البنيات الأكاديميّة التقليديّة وعقليّات العاملين بها لا يتمّ بين عشيّة وضحاها حتى إن توفّرت الظّروف المناسبة وحسنت نوايا كلّ الأطراف. فمثل هذا التحوّل الجادّ على هذين المستويين لا ينبغي انتظاره قبل منتصف هذا القرن وذلك في أحسن الأحوال”. لكن يبقى التّساؤل مطروحا – في اعتقادنا – حول ما علاقة علم الاجتماع العربيّ بعلم الاجتماع في المجتمعات النّامية وبعضها يدين بالإسلام مثل مجتمعات افريقيا جنوب الصّحراء (النيجر، مالي، التشاد)؟ لم يثر المؤلّف هذه الإشكاليّة التّي نقدّر أنّها مركزيّة، لأن التخلّص ممّا يمكن تسميته بالهيمنة الغربيّة قد تطرح إشكاليّة التّكامل مع دول الجنوب أو دول العالم النّامي، تماما مثلما نقدّر أنّ هذه الاستقلاليّة لا تعني القطيعة التّامة مع علم الاجتماع الغربيّ.
ثالثا: حمل الفصل الثّاني من الباب الأوّل العنوان الآتي: “طرح منهجيّ في تأصيل علم الاجتماع العربيّ وكسبه للرّوح العلميّة”. وضمنه اعتبر المؤلّف أن تأصيل علم الاجتماع العربيّ يجد له مشروعيّة في كون القوانين والقواعد التّي تتوصّل إليها بحوث العلوم الاجتماعيّة لا يمكن تعميمها،” وعلى خلاف تلك المتّصلة بدراسة الظّواهر الطبيعيّة، لا يمكن تعميم نتائج دراسة الظواهر الاجتماعية بجرّة قلم من مجتمع إلى آخر، ومن حضارة إلى أخرى نظرا للحضور القويّ للاختلافات الثقافيّة بين المجتمعات والحضارات” (ص53) بما يعني أن علم الاجتماع العربيّ يجد له مشروعيّة في دراسة خصوصيّات المجتمعات العربيّة وبالتّالي في قدرته على تناول الظواهر والوقائع الاجتماعيّة اللّصيقة بالمجتمعات العربيّة، ومن ثم الاستفادة من تلك الخصوصيّات المنبثقة من المخزون الثقافيّ العربيّ الإسلاميّ.
كما تجد الدّعوة إلى تأصيل علم اجتماع عربيّ بدورها مشروعيّتها في مقولة ضرورة القطع مع التّبعيّة الفكرية السوسيولوجية. وهنا يشير المؤلّف إلى أنّه وإن كثُر الحديث عن تلك التّبعيّة في المجالات الاقتصاديّة والسّياسيّة والثّقافيّة، فإنّ الحديث عنها في المجال الفكريّ والأكاديميّ يبدو شبه غائب. بمعنى أن استمرار التبعيّة الفكريّة والأكاديميّة تجعل الباحثين الاجتماعيّن العرب في وضع اغتراب، باعتبار أن مفاهيمهم وآليات تحليلهم في مجملها صُمّمت في فضاء اجتماعيّ مغاير لفضاء البحث. ولعلّ الدّليل على ذلك أن أغلب ممّن يتبنّون المقاربات الغربيّة يتبنّون الفصل بين الدّين والعلم وذلك على خلاف المقاربة الخلدونيّة التي لم تر عداء في العلاقة بينهما. لذلك كانت تلك المقاربة مترجمة لواقع العقل العربيّ المسلم الجامع بين النّقل والعقل، وهو ما يعني أن “طريق العقل الغربيّ الحديث هو أحد الطّرق وليس الطّريق الوحيد لكسب رهان المعرفة والعلم، ومنه يُفسَح المجال للتّرحيب بمدى مشروعيّة العقل المسلم الجامع بين النّقل والعقل لكي يعتدّ بنفسه أو ربّما ينافس العقل الغربيّ في ميدان كسب المعرفة وإنشائها” (ص73). وضمن هذا السّياق يعتبر المؤلّف أن مساهماته الشخصيّة والتي بنت سجلّا مفاهيميّا تضمّن التخلّف الآخر والفرانكو آراب الأنثويّة والثّنائيّة اللّغويّة اللّوامة والأمّارة والتعريب النفسيّ والشخصيّة التونسيّة المستنفِرة…..، تشكّل محاولة لتجسيد علم اجتماع عربي يجمع بين دراسة الواقع العربيّ والجهاز المفاهيميّ الخاصّ الذي توصّل إليه. لكن ما يلفت الانتباه في هذا السّياق هو غياب الإشارة إلى نماذج من مجتمعات أخرى قطعت – إلى حدّ كبير- مع المقاربات الغربيّة، لأنّ من شأن ذلك أن يساعد على الانتصار لهذا التوجّه العلميّ “المستقلّ”.
رابعا: عُنون الفصل الثالث من الباب الأوّل بـ “القواعد والأعراف التّي يطيعها الجميع في المجتمعات العربيّة”. وضمن هذا الإطار تطرّق المؤلّف إلى ظاهرتين هما: “الحظر الكامل لتربية ماشية الإناث من الحمير والخيول والبغال في مناطق الشّمال الشّرقيّ التّونسيّ” و “وجوب ختان جميع الأطفال الذكور المسلمين في المجتمعات العربيّة”. ويُعدّ غياب السّلوك المنحرف في هاتين الظّاهرتين القاسم المشترك بينهما حيث يطيع كل النّاس بدون استثناء ما تمليه القواعد والأعراف السّائدة حول الظّاهرتين.
في تحليله لهذا الامتثال التامّ للقواعد والأعراف استخدم المؤلّف مصطلح “التأثير الثّقافيّ الكامل” ليشرح من خلاله تأثير الأعراف والقواعد الثقافيّة الجماعيّة على كلّ سكّان منطقة الشّمال الشّرقيّ التونسيّ حيث تربية إناث الماشية ممنوعة ثقافيّا لأنّها ضرب من العار في ثقافتهم” (ص87).وكذلك الأمر بالنسبة إلى العرف الثّقافيّ لختان جميع الأولاد الذّكور المسلمين حيث يشمل العرف مختلف الشّرائح الاجتماعيّة متعاليا بذلك عن المكانة الاجتماعيّة والدخل الماليّ والأصل …الخ، فيترجم بذلك من ناحية “التأثير الثّقافيّ الكامل” ومن ناحية أخرى مدى اهتمام النّاس وتقديرهم للذكورة، وهو قاسم مشترك مع المثال الأوّل. بمعنى احترام “صدارة قيمة الذكورة كقيمة اجتماعيّة مركزيّة في النّسق الثّقافيّ الاجتماعيّ للمجتمعات العربيّة المسلمة” (ص88).
يعزّز مفهوم “التّأثير الثّقافيّ الكامل” الدّعوة إلى تأصيل علم اجتماع عربيّ يهتمّ بدراسة الظّواهر الاجتماعيّة في المجتمع العربيّ آخذا بعين الاعتبار السّياق السوسيو-ثقافيّ لتلك الظواهر. ولكنّنا نتساءل مرّة أخرى عن دور القواسم الثقافيّة بين البشر بمعنى أيّ معنى للتأثير الثقافيّ الكامل في ظلّ تقارب ثقافيّ كبير بين عديد المجتمعات والجماعات نتيجة التأثير المتبادل النّاجم عن الاختلاط ونتيجة انتشار وسائل الإعلام بشكل لا نظير له في تاريخ الإنسانيّة؟
خامسا: حمل الباب الثّاني كعنوان “دور منظور إسلاميّة المعرفة في توطين علم الاجتماع العربيّ، وتضمّن ثلاثة فصول عُنون أوّلها الرّموز الثقافيّة وطول أمد حياة أفراد الجنس البشريّ في رؤية العقل والنّقل”. وقد عمِل المؤلّف على تفسير “الظواهر وسلوكيّات الأفراد وحركية المجتمعات والحضارات البشريّة من خلال الرّؤية الإسلاميّة التّي يحتضنها القرآن والسنّة أو ما يسمّى في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة بالنّقل”(ص117).
كان البحث عن إجابة عن السؤال الآتيّ: لماذا يتمتّع البشر بأمد حياة أطول من معظم الحيوانات، مثلا؟ المنطلق في دراسة الرّموز الثّقافيّة حيث تقدّم رؤية البيولوجيا والموروثات إجابة تشدّد على التركيبة البيولوجيّة التي يختصّ بها الجنس البشريّ التي تمنحه نوعا من المناعة ضد الشيخوخة السّريعة التي تتّصف بها الحيوانات. لكنّ المؤلّف لم يطمئن لهذا التّفسير. ومن ثم، راح يبحث عن إجابة أخرى، فكان تركيزه على تفرّد الإنسان بـ “امتلاك الرّموز الثّقافيّة”. فقدّم شرحا وتفسيرا لتلك الرّموز متوسّعا في الإطار الإسلاميّ فتساءل: لماذا يُقدَّم السمع ُعلى البصر في الآيات القرآنيّة؟
يجيب صاحب الكتاب أن السمع هو بوّابة ميلاد منظومة الرّموز الثقافيّة التي هي مصدر التفكير والمعرفة والعلم لدى الإنسان. وهكذا، فسيادة الإنسان للكون مستمدّة من الرّموز الثقافيّة التي تعطي الإنسان لا طول العمر فقط، وإنّما أيضا الخلافة على الأرض، أي سيادة الكون. وفي الواقع يبدو هذا التّفسير المقدّم ضربا من التّجديد في تبيان خصوصيّة الكائن البشريّ من ناحية وفي إبراز أسباب تفرّده بالخلافة على الأرض. بمعنى أنّ هذا التّفسير يرد مخالفا – إلى حدّ كبير – للتفسير الذي يرجع ذلك إلى طبيعة الإنسانيّة باعتباره كائنا مفكّرا homo sapiens .
سادسا: حمل الفصل الثّاني من هذا الباب عنوانا “نظرية عربيّة إسلاميّة للرّموز البشريّة ومساهمتها في تأصيل علم الاجتماع العربيّ”. ووضّح المؤلّف أن هذه النّظريّة تندرج في إطار علم الاجتماع الثّقافيّ الذي يعتبر الثقافة متغيّرا/عاملا مستقلاّ عن العوامل الأخرى المؤثّرة في سلوك الإنسان. بمعنى أنّ الثّقافة ينبغي أن تكون منطلقا لفهم سلوك البشر ومقاربة التغيّر الاجتماعيّ. وبعبارة أخرى، لا يمكن أن تكون الثّقافة متغيّرا تابعا لعوامل أخرى مثل الاقتصاد، أو هي ممارسات ترتبط بالانتماء الاجتماعيّ للأفراد.
أما الفصل الثّالث من هذا الباب فوُسِم ب “مشروعيّة الإطار الفكري لإسلاميّة المعرفة في العلوم الاجتماعيّة”، وفيه عمل المؤلّف على إبراز ما يتيحه علم الاجتماع العربيّ من مصالحة بين العقل والنقل على نحو ما قام به ابن خلدون.
قامت هذه النّظريّة على مسلّمة مفادها أن الإنسان كائن ثقافيّ بالطبع وأن ذلك يتطلّب من البحوث الاجتماعيّة تبنّي المنهجيّة الكيفيّة لفهم تميّز النّاس، ومن ثمّ عدم المبالغة في الانتصار للنزعة الامبيريقيّة مثلما ذهبت إلى ذلك المقاربات الغربيّة. ولكن يبدو من الوجيه التّساؤل عن حدود المقاربات الكيفيّة في دراسة الظواهر الاجتماعيّة، وعمّا إذا كانت في حاجة في مرحلة من مراحل البحث إلى المقاربات الكميّة. بعبارة أخرى ما مدى وجاهة فصل الكيفيّ عن الكمّي في دراسة الظواهر الاجتماعيّة والحال أنّ هذه الأخيرة مركّبة وتستدعي مقاربات متعدّدة الزوايا ومتنوّعة التقنيات؟
سابعا: جاء الباب الثّالث معنونا “ميلاد وتطوّر تسمية نظريّة الرّموز الثقافيّة ومعالمها”. وتمحور فصله الأوّل حول خصوصيّة مقاربة المؤلّف للرّموز الثقافيّة، مستندا في ذلك على نقد عالم الاجتماع الفرنسيّ آلان تورين للمقاربات الغربيّة التي اهتمّت بالأنساق الكبرى مثل المجتمعات الصّناعيّة، فهمّشت بذلك الجانب الذّاتيّ والشّخصيّ للفاعل الاجتماعيّ.
اهتمّ الفصل الثّاني بالبعد الثّالث للإنسان باعتباره مفهوما عربيّا خالصا يساعد على توطين علم الاجتماع العربيّ. فعاد المؤلّف إلى ظروف ميلاد نظريّة الرّموز الثقافيّة ومركزيّة اللّغة فيها. وبيّن أنّ لهذا البعد أهميّة خاصّة بالنسبة إلى الأمّة العربيّة باعتباره يتجسّد في اللّغة والدّين ويؤسّس بين المجتمعات العربيّة “بطريقة عفويّة وتلقائيّة وحدة ثقافيّة قويّة سابقة للوحدة السّياسيّة الهشّة…” (ص 255)، مشدّدا في الوقت ذاته على الأخطار التي تتهدّد هذا البعد وفي طليعتها العولمة اللّغويّة. ولكن المؤلّف لا يشير من قريب أو بعيد لواقع اللّغات غير العربيّة التّي تنتشر بين ساكنة هذه المنطقة: ما منزلتها في هذه النّظريّة؟ هل هي عامل إثراء مثلا؟ كيف يمكن تنزيلها ضمن السّياق الثقافيّ العامّ للمجتمعات العربيّة؟
ثامنا: تناول المؤلّف في الفصل الثالث من الباب الثالث ظاهرة الرّبيع العربيّ، فقدّم طرحا جديدا منطلقه أن الإنسان كائن ثقافيّ بطبعه، وعليه فإن ما حدث في دول الرّبيع العربيّ يندرج ضمن “نظريّة الدومينو الثّقافي” (ص 267). بمعنى أن اشتراك أغلبيّة شعوب تلك الدّول في العنصريين الثقافييّن الرئيسيّين (اللّغة العربيّة والدّين الإسلاميّ) أثبت أنّه عامل حاسم في نشر ظاهرة الرّبيع العربيّ في المغرب والمشرق العربيّين. ولعلّ الملفت الانتباه في هذا المجال هو تغييب المؤلّف للعوامل الاقتصاديّة والاجتماعيّة التّي تشترك فيها شعوب المنطقة العربيّة (الفقر، غياب العدالة الاجتماعيّة، بطالة أصحاب الشهادات الجامعيّة.، الفساد..) والتّي لعبت دورا في تأجيج تلك الانتفاضات العربيّة، ولا أدلّ على ذلك من الشعارات التّي رفعها المحتجّون في تونس “الشغل استحقاق يا عصابة السرّاق” وفي مصر “عيش حريّة عدالة اجتماعيّة”.
تاسعا: يُفصح هذا الكتاب عن حاجة لتوطين علم الاجتماع العربيّ الذي يتواصل مع الطرح الخلدونيّ ويقارب الظّواهر الاجتماعيّة بالمجتمع العربيّ من منظور يُراعي خصوصيّات هذا المجتمع الكبير ويقطع مع التبعيّة لعلم الاجتماع الغربيّ التي تندرج فيما سمّاه عالم الاجتماع الماليزي سيد حسين العطاس ” العقل السّجين” الذي يجب التحرّر منه. ولكنّه في المقابل يفرض سؤالا محوريّا ألا وهو: هل لا نخشى من مقاربة اختزاليّة للظواهر الاجتماعيّة في المجتمع العربيّ تقتصر على التركيز على البعد الثقافيّ لوحده؟
3- خاتمة:
يشكّل الكتاب محاولة جادّة لتبيئة علم اجتماع ثقافيّ عربيّ، ينكبّ على القضايا والظواهر الاجتماعيّة بالمجتمع العربيّ، وبرؤى ومقاربات بقدر ما تؤمن بالنزعة الإنسانيّة لتلك العلوم تؤمن بضرورة مراعاة الخصوصيّة. فالمجتمع العربيّ شأنه شأن بقيّة المجتمعات يعرف ظواهر اجتماعيّة ذات طبيعة كونيّة من قبيل الجريمة المنظّمة وقضايا مجتمع الاستهلاك، لكنّه يعرف أيضا قضايا خاصّة ترتبط بالأساس بثقافته المتمحورة حول الدّين الإسلاميّ واللّغة العربيّة.