الملخّص:
نشتغل في هذه الورقة على المشروع المركزي الذي سخّر له أركون مسيرته العلمية، ونعني به الإسلاميات التطبيقية، باعتباره إطارا نظريا جديدا رمى من خلاله المفكر الجزائري إلى تدارك نقائص الإسلاميات الكلاسيكية كما تبدت له في المدونة الاستشراقية حيث طغت النزعة الانتقائية والحياة الباردة ولم تتوفّق إلى تبيّن الكثير من الجوانب والأبعاد التي تزخر بها الثقافة الإسلامية، مهملة أشكال التعبير الشفوي والمعيش غير المكتوب والتعبيرات الكتابية غير الرسمية والأنظمة الرمزية غير الشفاهية. وهي جوانب على أهميتها ظلت مقصاة، حبيسة دائرة اللامفكر فيه. تركيب طويل جدا
الكلمات المفاتيح: أركون، الاستشراق، النقد، الإسلاميات التطبيقية، اللامفكر فيه.
Abstract:
We focus in the paper on the basic project that Arkoun devotes his scientific career to: that is on applied Islamic since the latter is considered as a new theoretical frame through which the Algerian intellectual tried to the overcome the flaws of classical Islamic as perceived in the orientalist chronicle. In this chronicle, the thinker noticed a trend of selectivity and cold neutrality. A failure in revealing many sides and dimensions that characterize Islamic culture also noticed while neglecting and disregarding the forms of oral repression, the ours written and spoken non-oral symbolic systems despite their importance.
Key terms: Arkoun; orientalism, criticism, Applied Islamic; the neglected.
1- المقدمة:
يعد نقد الخطاب الاستشراقي في محطة محورية في فكر محمد أركون[1]فقد مثلت أرضية خصبة لتأسيس مشروعه الفكري المركزي الموسوم “بالإسلاميات التطبيقية” باعتباره إطار عمل جديد يتغيا تلافي هنات الإسلاميات الكلاسيكية وتقديم مقاربة مغايرة لقراءة الإسلام، تهجر المألوف المتداول.
ولا يشقّ على المتتبعّ لأعمال أركون الإقرار بأنّه قد انتدب نفسه لبلوغ عدّة غايات لعلّ أظهرها إعادة التفكير في الكثير من الظواهر التي لم تنل حظها من الاهتمام على امتداد تاريخ الحضارة العربية الإسلامية. وفي مرحلة موالية تجاوز المطبّات التي وقع فيها الخطاب الاستشراقي، هذا الخطاب الذي تراجع الطلب على بضاعته غداة انعتاق الشعوب العربية من ربقة الاستعمار حيث بات لزاما على الباحثين العرب مساءلة المعرفة الغربية عن الإسلام والعالم العربي ومضارعة عدّتها المعرفية والنقدية بأخرى من شأنها أن تعيد ترتيب فهمنا للإسلام ثقافة وتاريخا[2].
ومن المعلوم أنّه بعيد حروب التحرير الوطنية، اشتدّت الحاجة إلى صياغة فهم جديد للدين، لا سيما بعد أن برزت شوكة الحركات الإسلامية التي انطلقت في عملها معزّزة برأسمال رمزي ديني معتبر أتاح لها تحريك سواكن الكثير من الفئات الاجتماعية المعدمة واجتذاب الأنصار الذين التفوا حول خطابها، مشكّلين جبهة معارضة وازنة، بلغت أوج إشعاعها يوم نجاح الثورة الإسلامية في إيران، حيث تكثّفت الدروس والحلقات العلمية بغرض الشحذ الإيديولوجي وإقناع الجماهير بأهمية الإيديولوجيا الدينية وقدرتها على الارتقاء بواقع المسلمين[3].
لقد نجح المدّ الأصولي العاتي في استثمار الرأسمال الديني على أحسن وجه، إذ توفّق في استمالة الكثير من الفئات المنحدرة إلى أوساط اجتماعية متواضعة في وقت عجزت فيه النخب الحداثية عن التأثير في الجماهير، لأنّ خطابها ظلّ متعاليا، بعيدا عن هموم السّواد الأعظم من الناس.
في ضوء ما تقدّم، يرى المفكر الجزائري أنّه من الضروري الانخراط في مشروع فكري جديد يتخطى برودة الخطاب الاستشراقي وحياديته المعرفة، وهي المهمة الموكولة إلى الإسلاميات التطبيقية. لذلك حري بنا أن نتساءل عن أهمية هذا المشروع.
2- في أهمية الإسلاميات التطبيقية:
يصادر تعبير لا ينسجم مع الفكرة أركون على ما يكتسيه مشروع الإسلاميات التطبيقية من أهمية من أجل كشف المنزلقات الإيديولوجية التي تتهدد فهم الظاهرة الدينية وهو ما يفسّر تمسّكه بالحياد إزاء مختلف التشكيلات الإيديولوجية التي كونت معالم المشهد السياسي الإسلامي. وقد سمحت له هذه المسافة النقدية بإعمال أدواته المنهجية في قراءة طبيعة تشكّل العقل الإسلامي واشتغاله، أو بعبارة أجلى تيسّر لأركون إجراء مسح إبستيمي للعقل الذي تلقى الرسالة المحمدية من خلال فحص الثقافة السائدة عصرئذ والتي اتسمت بـ “خلط بين الأسطوري والتاريخي وبوضع تصنيفات دوغمائية للقيم الأخلاقية والدينية وباقتناع ثيولوجي يقضي بأفضلية المتعالي والمتواطئ لكلام الله كما شرحه وحفظه ونقله العلماء، وبعقل أزلي عبر تاريخي (Transhistorique) بحكم تجذره في الكلام الإلهي وامتلاكه لأساس أنطولوجي يتعالى على كلّ ضروب التاريخية[4]
من الّبين أنّ المهّمة المنوطة بالإسلاميات التطبيقية هي كسر السياج الدوغمائي الذي كبّل العقل الإسلامي وحرمه من أن يطوّر وعيه الإبستمولوجي بما يسمح له بتغيير فهمه للكثير من الظواهر وتحيينها بما يتلاءم والطفرة المنهجية التي شهدها حقل العلوم الإنسانية. فالانفتاح على المكتسبات المعرفية الجديدة ضرورة لا محيد عنها لأي مسعى يتقصد تعصير فهم التراث والنصّ القرآني المؤسس، بعد أن بانت حدود الإنغلاق الدوغمائي وتواضع المجهود الاستشراقي الذي أفرز خطابا مغلقا جافا، لا يسعف بالإحاطة بمختلف جوانب الفكر الإسلامي.[5]
إذن توكل للإسلاميات التطبيقية مهمّة نسج علاقة نقدية مع التراث الإسلامي من خلال تبيّن تصاريف الإسلام في الواقع المعيش وفي وعي المسلمين أنفسهم. وهي مهمة تغاير نوعيا ما استقام في الأدبيات الإسلامية التبجيلية التي كانت أحرص على الامتثال إلى ما سطّرته المؤسسة الرسمية. وتستمد الخطوة الأركونية فرادتها من أسلوب المعالجة وأدوات البحث، بما أنّ صاحب” نقد العقل الإسلامي” تسلّح بعدّة منهجية متينة سداها جملة ما توصلت إليه حقول البحث في الأركيولوجيا والتأويلية والبنيوية من نتائج طريفة أتاحت للباحثين الغربيين مباشرة النصوص الدينية والتاريخية من منطلقات غير مألوفة، فضلا عن تدشين مساحات جديدة في البحث، لاسيما في مجال الثيولوجيا والنصوص التي تعني بالمقدس عموما فقد “استثمر بعض المفكرين المقاربة الألسنية التفكيكية التي أبانت عن الأبعاد الرمزية الثاوية وراء ذلك النص(الديني)، صادرين في ذلك عن رؤية تاريخية مقارنة قادت إلى إبراز تاريخيته وما يستدعيه ذلك من تحليل فلسفي لمشكلة المعنى والرمز الديني[6].
ليس من شكّ في أنّ المسعى الأركوني يتنزّل في إطار الحرص على الاستفادة من الجدل المستفيض الذي وسم المشهد الفكري والفلسفي الغربي، حيث استأثرت فلسفة الدين بنصيب غزير من اهتمام فلاسفة الدين، وقد باشروها من خلال تفعيل معول الهيرومونيطيقا الدينية، لذلك رأى فيها أركون نموذجا زاهيا حريّ بالفكر الإسلامي الاقتداء به. وقصد إدراك هذه الغاية، صوّب الباحث الجزائري اهتمامه نحو مفهوم الوعي، معتبرا إياه جوهر المسار التجديدي في الإسلام برمّته، قياسا بالمنزلة الأثيرة التي يحتلّها في الضمير الجمعي الإسلامي، حيث تركت الطمأنينة مكانها للقلق وبات هذا الضمير يعيش على وقع كوكبة من الأسئلة والإشكالات المحرجة التي لم يعثر لها عن جواب يشفي غليل المسلم المعاصر لذلك، طفق أركون يعمل على الإحاطة بظاهرة الوحي معتبرا إياها ظاهرة إنسانية مرتبطة بالشرط الديني للإنسان[7].
في المقابل، لم يتردّد أركون في توجيه نقد حاد للحداثة الغربية التي اتخذت موقفا عدميا من الظاهرة الدينية، وزجّت بها خانة الخرافة على الرغم من الجهود السخية التي بذلها جمهرة من الباحثين على غرار ليفي ستروس Levistrauss وغيرتز geerts ودومون dumont ابتغاء رد الاعتبار للجانب غير العقلاني من الثقافة الإنسانية للسرد والحكاية والمعيش في التجربة الدينية، كما للعقل الشفاهي في مقابل العقل المكتوب[8].
والرأي عند محمد أركون “أن الثقافة الحديثة بكلّ أنواعها(…..) تجعلنا ننفر أكثر فأكثر من الموضوعات المؤسّسة للأديان التوحيدية. وأقصد بهذه الموضوعات الوظيفية النبوية والخطاب النبوي ثم الوحي ثم تدخل الله في التاريخ ثم الكتابات المقدسة، ثم الكتاب المقدس كوعاء لكلام الله ثم التراث الحي ثم كتاب السلف الصالح الذي نقل إلينا تعاليم الله عن طريق وساطة أنبيائه ثم أسرار الإيمان ثم الحياة الأبدية والخلود[9].لذلك تستقيم مهمة الإسلاميات التطبيقية استكمالا لما بدأه الاستشراق، الذي على الرغم من قيمة إنجاز بعض أعلامه، ظلّ برّانيا وتعذّر عليه تفكيك العقل الإسلامي، وهو ما حال دون تطوير النتائج التي توصل إليها المفسّرون القدامى وارتياد آفاق جديدة. لذلك، قمين بنا أن نتساءل عن الرّوافد النظرية التي متح منها المشروع الأركوني.
3- الروافد النظرية للإسلاميات التطبيقية:
استند أركون في إقامة صرح مشروعه الفكري إلى ما يصطلح عليه المنهجية التعدّدية، حيث أنّه لا يركن إلى منهجية بعينها، لذلك تحفل أعماله بتقاطع المنهجيات الألسنية والتاريخية والاجتماعية والأنثروبولوجيا، وهو ما يعكس تشعّب هذا المشروع وغزارة اطّلاع صاحبه وتكوينه الموسوعي المتين. فاستدعاء أكثر من حقل معرفي والانتصار لتظافر المنهجيات والتخصّصات، يؤكد أنّ المفكّر الجزائري يحاول جديدا بالانعتاق من إسار الالتزام بمنهجية بعينها والاكتفاء بتطبيقها آليا على النص وهو ما يمكن أن نعده، بلا مواربة ثورة ابستيمية في المشهد الفكري العربي. ذلك أن المتأمّل في مناهج النقد يلفيها على قدر من التشعّب والاتّساع عظيم. وهي تتناسل من بعضها وتنهل من عدّة تخصصات، بما يجعل توظيفها مجمّعة أمرا محمودا، يفضي إلى غنم معرفي ذي بال. إنّنا مع أركون بصدد التأسيس للعقل الاستطلاعي المنبثق الذي ينشد خلخلة الكثير من مكتسبات العقلين الوسيط والحديث باستخدام معول الحفريات المعرفية بغرض تفكيك بنية ذينك العقلين إذ “على الإسلامولوجي أن يكون عالم لسانيات(…..) كما أنه لا يمكن أن يختزل الإسلام من حيث هو دين إلى منظومة من الأفكار المجرّدة التي تمتلك حياتها الخاصة كما لو أنها ماهيات ثابتة”.[10] فالإسلام ظاهرة مركبة، فهو ظاهرة اجتماعية تعبّر عن سيرورة تطوّر المجتمعات الإسلامية. وهو ظاهرة ثقافية تتضمن مختلف الأشكال التعبيرية الرمزية من فن وأدب وفكر[11].
إنّ تبني هذه المنهجية الشاملة، يشي لا فقط بعسر تناول الظاهرة الإسلامية وإنّما أيضا بالوعي الحاد الذي سكن أركون وأفصح عنه في مختلف أعماله بضرورة الانخراط الجدي في مسار التفكير النقدي’ لأنّه العاصم من موجات الصخب الإيديولوجي الذي ملأ المشهد الفكري العربي، حيث التخندق المذهبي على أشدّه، ووطيس الإيديولوجيا قد بلغ ذروته مفرزا وعيا شقيا عمّق الجمود الفكري وعزّز الفوات الحضاري الذي تتخبّط فيه الشعوب العربية والمسلمة، ممّا عطّل إمكانية استنشاق هواء فكري نقدي نقيّ يساعد على تجاوز الانسدادات الفكرية القائمة.
كما شكلت الأنثروبولوجيا مجالا ثرّا متح منهأ أركون، حيث لم يخف تأثره بأعمال روجيه باستيد، لاسيما كتابه العمدة ” الأنثروبولوجيا التطبيقية “، كما أعجب بمجهود الأنّاس الفرنسي كلود ليفي ستروس، رغم الفوارق الجوهرية التي تفضل مجالي اهتمامهما. فبينما اتّخذ ستروس من المجتمعات البدائية مادّة لدرسه، يمّم أركون وجهه شطر الثقافة الإسلامية[12].
ومشروع الإسلاميات التطبيقية مدين لمكتسبات علم الاجتماع، حيث لا يندر في المتن الأركوني تواتر مفردات مستقاة من مجال السوسيولوجي، إذ يبرز تأثير عالم الاجتماع الفرنسي بورديوBourdieu صريحا من خلال الحضور المكثّف لمفاهيم من قبيل الهيمنة، الرأسمال الرمزي، الحسّ العملي ألا تحتاج تعريفا في الهامش. كما أن بصمة السوسيولوجيا الفرنسي جورج بالاندبية george Balandier تبدو جليّة، إذ يعود له الفضل في صياغة التصوّر الدينامي للمجتمع، بما أنّ مجهوده البحثي تمحّض للتنقيب عن معنى الدولة والسياسة في المجتمعات البدائية مؤكدا متانة الوشائج بين الدولة والمجتمع والسياسة حتى في هذه المجتمعات المصنّفة بدائية من المنظور الاثنوغرافي.[13]
كما اغتنت المدوّنة الأركونية بمنجزات مدرسة الحوليات الفرنسية، تلك المدرسة التي سعت انطلاقا من أعمال ثلّة من أعلامها إلى بلورة مفهوم جديد للتاريخ عماده التحقيب، وذلك من خلال التقاء نظرة شاملة متفهّمة على كل مرحلة باستحضار الدور الذي تلعبه كل مكوّنات الرّوح الإنسانية، وعبر التسليم بتمايز الحقبة من منظور الفرد عن معناها من منظور التاريخ[14].
لقد توطّدت قناعة أركون بمحدودية مقاربة تاريخ الأفكار وعجزها عن استيعاب مختلف مكونات التاريخ الإسلامي، لذلك لم يخف صاحب “نقد العقل الإسلامي” امتعاضه من هذا التمشي، في المقابل اجتذبه أسلوب فوكو ومنزعه الابستيمي الطريف في تحليل تاريخ المنظومات الفكرية. وهو ما يسمح لنا بالمجازفة باستنتاج أنّ المشروع الأركوني هو توسيع لأركيولوجيا فوكو ولتفكيكية دريدا لتشمل التاريخ الثقافي الإسلامي.[15]
كما لا يعزب عنا أن نشير إلى الأثر الجليل لمرجعية فلسفة الحداثة الغربية وما بعدها ممثلة في أبرز أعلامها، كانط، ريكور، هابر ماس، ديريدا، فوكو…إذ يعود لهم الفضل قي تأسيس العقل الاستطلاعي المنبثق وهو العقل المابعد حداثي الآخذ في التشكل والمنحدر من الحداثة[16].
إذن تآزرت العديد من المرجعيات من حقول معرفية متنوّعة في إقامة صرح المشروع الفكري الأركوني الذي ابتغى صاحبه من ورائه تجاوز هنات الطرح الاستشراقي واستيعاب مكتسباته، أملا في إحاطة أشمل بالتاريخ الإسلامي وقراءته قراءة منصفة. فيستحيل هذا المنجز الفكري استكمالا للشوط الاستشراقي رغم التعنّت الذي أبداه المستشرقون في قبول الإصلاحات التي اقترحها أركون وتمسّكهم بموقف “احتقاري من أي محاولة تجديد منهجية(…) لهذا السبب، فإن المرء يأسف لأن علماء الإسلاميات الغربيين (أو المستشرفين) الذين اعتادوا على نقد النزعة المحافظة لدى المسلمين الخاضعين لهيبة تراث غير منقود، أي الخاضعين للتقليد يفعلون الشيء نفسه تماما عندما يتحدّثون عن أشياء تخصّ الإيمان[17].
لا مراء في أنّ مشروع الإسلاميات التطبيقية هو خيار استراتيجي انتصر له المفكر الجزائري انطلاقا من قناعته بأنّ مساحات هامة من الفكر الإسلامي مازالت مستغلقة وعصيّة عن الدرس و بالتالي فإن انكماش قارّة اللاّمفكر فيه مرتهن بتطوير أدوات مباشرة هذا الفكر و توسيع مجال النقد على أمل إدراك نتائج طريفة تساهم في زعزعة البديهيات التي اطمأنّ لها الوعي الجمعي الإسلامي طوال قرون .
4- مهمّة الإسلاميات التطبيقية:
لا يعسر على المتتبّع الوفي لإنتاج محمد أركون الفكري أن يقرّ بأنّ المهمّة الجوهرية لمشروع الإسلاميات التطبيقية هي تحرير الفكر الإسلامي من العوائق المعرفية و التابوهات و الأفكار الأسطورية التي رانت على عقول أهل الملّة الإسلامية وقد تغوّل هذا المنحى الميثي في أجواء حامية بالصّراعات الإيديولوجية حيث اكتسحت التيارات الأصولية المشهد السياسي بفضل تنامي عدد مؤيديها و دخلت في صراعات مباشرة مع السلطة القائمة وقتها، أملا في الوصول إلى الحكم وفرض عقيدتها .
ولا شك في أنّ أول خطوات الإصلاح هي إشاعة قيم التنوير و التفكير العقلاني الحرّ و المسؤول بدءا بنقد التراث نقدا علميا رصينا نظير هجر المنزع التبجيلي ودرء خطر التقوقع في قراءة انغلاقية، أي بعبارة أركون نزع السّياج الدوغمائي الذي يكرّس قراءة أحادية للتراث فرضتها المؤسسة الرسمية لقاء إقصاء ما عداها من القراءات التي لا تنسجم مع إيديولوجيتها.
تبدو مهمة ” الإسلاميات التطبيقية ” دقيقة لأنّها مدعوّة إلى دحض الأطروحات المتشدّدة حول الإسلام و إلى تخليص التراث من التوظيفات الإيديولوجية التي أفقدته زحمه، وهو ما من شأنه أن يوفّر أرضية خصبة تساعد على قراءة التراث قراءة متروية و على إقامة حوارية مثمرة بينه و بين الحداثة[18].
ومع تفهّمنا لثراء المشروع الأركوني و تراكب مستوياته، فقد استصفينا ثلاثة مسائل نحسب أنها تمثل قطب الرّحى في هذا المشروع ، وهي التوالي : التراث و الدّين و اللاّمفكّر فيه و غير القابل للتفكير فيه و المتخيّل و المهمّش و المنسي .
4- 1- التراث و الدّين:
تنشد الإسلاميات التطبيقية مقاربة الدين و التراث من منظور إناسي ثقافي وهو ما يستوجب تصحيح النّظر إليهما على اعتبار أنّهما لا ينتميان إلى لحظة تاريخية مضت و بمضيّها ولّت صلاحيتهما، بل على العكس من ذلك إنهما مستمرّان في الحاضر بقوة و يفرضان سلطة على ممارسات الناس ويكّيفان نظرتهم إلى النماذج العليا والمتعالية في التفكير السليم و السلوك القويم وهذا الحضور المتجدّد لسلطة التراث والدين ليس ظاهرة خاصة بالمجتمع الإسلامي بل يميّز سائر الشعوب التي تدين بعقيدة دينية أخلاقية عليا، كما هو الحال في مجتمعات الشرق الأقصى . وقد ظل حضور التراث و الدّين كسلطة توجيه و تكييف لافتا في المجتمعات الإسلامية لأسباب تاريخية وسياسية على أساس أنّ هذه المجتمعات لم تعش على غرار نظيرتها الأوروبية قطيعة تاريخية حاسمة انفصل بموجبها الديني عن الدنيوي [19].
والرّأي عند أركون أن التراث يستمدّ حيويته في مجتمعات الإسلام انطلاقا من الشعور الديني بوجود استمرارية تاريخية، لا انقطاع فيها في تاريخ الإسلام . و يتغذّي هذا الشعور من ذاكرة جماعية ترسخ فيها عبر أجيال متطاولة نظام من القيم مشدود إلى أصل متعال هو النص الديني و تجربة الجيل الإسلامي الأوّل.[20]
وهكذا، فإنّ النصّ الذي يتلى في الصّلوات اليومية يعاش من قبل المؤمنين كما عيش لأول مرة، والسلوك النموذجي المعياري للصّحابة يعاد إنتاجه من طريق الاقتداء به بما هو السلوك الوحيد القويم الذي يتحقّق به نصاب الإيمان. بيد أنّ هذا التراث الحي المتعالي أصلا يتعرّض في الوقت نفسه لأنواع مختلفة من الاستخدام الإيديولوجي الهادف إلى تحصيل مغنم سياسي أو سلطوي [21].
يتجلّى مما سبق تحمّس أركون لإعادة قراءة تراث الإسلام بصفة لامشروطة بهدف اقتحام المساحات المغلقة التي أوصدتها المؤسّسة الرسمية أمام الفكر الحرّ و المقصود بذلك اجتهادات المتكلمين و الفقهاء التي ارتقت إلى مصاف الحقائق الثابتة و المقدّسة حتّى أمست تمثّل الحقيقة الوحيدة الممكنة و النّاطق الرسمي باسم الإسلام الصحيح
و يمكن اختزال الغاية الأساسية التي ابتغاها أركون في هدفين جوهريين هما:
-احترام تراث الإسلام من ضمن احترام التراثيات جميعا .
تحرّي الموضوعية و التزام الحياد المعرفي تجاه تعبيراته الفكرية المختلفة .
ففيما يتعلّق بالجانب الأوّل، فإنّ احترام تراث الإسلام عند المفكّر الجزائري يتّخذ شكل اعتراف بكّليته
وإصغاء لمختلف أصواته، لنستمع إليه يقول ” إنّي لا أدين أيّ نوع من أنواع الأعمال الفكرية بما فيها التفاسير الدينية الجادة على الرغم من اختلافها في ما بينها إلى حدّ التناقض و التصارع كلّ ما أنتج من إبداعات فنّية أو أدبية أو علمية أو مؤلّفات دينية خلال مسيرة التاريخ يستحق أن نصغي إليه و نعطيه حق الكلام [22].”
يستبطن هذا التمشي الدّاعم للتعامل مع التراث في كلّيته رفضا لكلّ ضروب الانتقائية الإيديولوجية و المذهبية.
و اعترافا بتاريخيته وهي خطوة عمليّة جدّية على طريق فهم مقاصده و إدراك المطلب المعرفي من خلال عمليات القراءة و الفهم و التحليل و التأويل والتفكيك و النقد وهو مجهود يشكّل مختلف أبعاد الممارسة الفكرية التي يمكن للباحث أن يقيمها مع التراث فضلا عن التحلي بالحياد و الموضوعية، على ما في هذه الخطوة من صعوبة إجرائية، ذلك أنّ الحياد متى تعلّق الأمر بعلوم الإنسان و المجتمع مطلب عزيز لكن لا مناص من توفّره [23].
4- 2- المفكّر فيه و غير القابل التفكير فيه:
لشدّ ما يميّز النقد الأركوني، جذريته و الشاهد الأبرز على ذلك هو أنّه لم يقنع بمجرد معالجة مشاكل السّطح التي ظل الفكر الإسلامي يثيرها على امتداد قرون، بل إنّه آثر أن يسلك الطريق الوعرة و أن يحفر داخل طبقات هذا الفكر . فله الفضل في إخراج الكثير من المسائل من دائرة الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، أو بعبارة أخرى من دائرة المنسي واللاّ مفكّر فيه إلى دائرة المفكّر فيه، مقتديا في ذلك ببعض رؤوس الاستشراق وفي طليعتهم فولها وزن حيث يتعلّق الأمر برفع جميع الموانع السياسية و الثقافية و الدّينية التي تحول دون التفكير الحيّ في الكثير من المسائل التي كان غير متاح التطّرق إليها بما في ذلك موقف الكنيسة الكاثوليكية الرافض مطلقا لمبدإ البحث العلمي في الشأن الديني ناهيك عن مناخ الديمقراطية الذي وفّر أرضية خصبة للتفكير الحرّ فضلا عن الثورة المعرفية التي هي إحدى أبرز ثمرات الحداثة، حيث أضحت حرّية الفكر هي القاعدة التي لم تستثن أيّ مجال بما في ذلك مجال التفكير الديني [24].
ويحسن بنا أن نشير في هذا الإطار إلى أنّ اللاّمفكر فيه هو كلّ موضوع أو مسألة حجب الاهتمام بهما موانع فكرية سياسية في المجال الإسلامي، من قبيل الافتقار إلى الأدوات النظرية و المنهجية الملائمة أو الاكتفاء بمعطيات المعرفة التقليدية و ترديدها بوصفها الممكن المعرفي الوحيد المتاح أو من قبيل انشداد الفكر إلى المحصّلة النّاجمة عن إعادة إنتاج اليقينيات المجمع عليها و المقبول من الدّولة [25].
أما ما ليس قابلا للتفكير فيه فهو كلّ موضوع يقع خارج نطاق الممكن المعرفي أو الممكن التاريخي و خارج نطاق المسموح به سياسيا أو اجتماعيا أو دينيا أي هو الموضوع الذي تنعدم فيه أسباب و شروط التفكير فيه و يصبح التفكير فيه في حكم الممتنع موضوعيا [26].
فالمأمول من مشروع الإسلاميات التطبيقية، هو فسخ المجال أمام البحث العلمي لتفعيل آلية النقد التاريخي في مختلف القضايا التي ” طمست أورميت في سياحة المستحيل التفكير فيه من قبل الإسلام الرسمي[27]” من خلال التعويل على عدّة مفاهيمية ثرية تسهل إعادة التفكير في المواضيع المغيّبة او المنسية وهو ما يعني التوفّق في تخطّي أحد العوائق الابستمولوجية ممثّلة في الإسلاميات الكلاسيكية نحو إسلاميات جديدة أكثر انفتاحا و أقدر معرفيا على فكّ مستغلقات جزيرة اللامفكرّ فيه[28].
ومن مزايا المقاربة الأركونية، عدم حصرها المشكلة في نطاقها المعرفي، بل تتجاوزها إلى الإلحاح على دور العامل السياسي الحاسم في مفاقمتها، فإذا كان ” كلّ شيء مسموح التفكير فيه، ماعدا الشيء الأساسي الذي ينبغي التفكير فيه ” فمعني ذلك أنّ هناك عقبة سياسية كأداء تحول دون انفراج المشهد الفكري، أية ذلك، أنّ شروط المعرفة قد توافرت منذ منصف القرن المنصرم دون أن يتغيّر الكثير في المشهدين السياسي و الديني[29].
يبدو ممّا تقدم أنّ أركون قد وضع إصبعه على موضع الداء، حيث أنّ الانسدادات التي عاشتها المجتمعات العربية الإسلامية لاسيما التي عاشتها المجتمعات العربية الإسلامية لاسيما بعد حروب التحرير ترجع بالأساس إلى السياسات المتوخّاة من قبل الأنظمة المدعوّة وطنية و التي عملت ما في وسعها لتكميم الأفواه وقمع المعارضة بشتى الوسائل وفرض الواحدية في التفكير .فكان المناخ ملائما كي تتراكم المسائل اللّامفكر فيها، وهو ما أنتج بعد عقود انسدادت هائلة سرعان ما تحوّلت إلى انتفاضات اجتماعية و سياسية. و بالنتيجة، أقحم الدّين في معترك اللّعبة السياسية وأشهر كسلاح مضاء في معارك لا صلة له بها فقد استخدم الإسلام كقوّة لتعبئة الجماهير من أجل التحرير الوطني في الأربعينات و الخمسينات وبالتالي، لم يتعرض تراثه لأيّ نقد ابستمولوجي جذري بسبب ذلك [30].
من الجلّي أنّ مسألة اللّامفكر فيه قد ظلّت مرتبطة أشدّ الارتباط بجدلية الدّيني و السياسي التي هي محرّك الأوضاع في البلاد العربية بدرجات متفاوتة بما أنّ النخبة المتنفذة و بحكم حاجتها الملحّة إلى المشروعيّة الرمزية و التي من خلالها تزكّي وجودها و تعوّض بها عن مشروعية سياسية مهترئة أو ضعيفة، كانت تلجأ إلى المؤسّسة الدّينية فمنذ منتصف السبعينات و بعد هدوء فورة النشوة بالاستقلال الوطني بدأ السؤال عن مشروعية الأنظمة القائمة في التداول وارتفعت الكثير من الأصوات من مشارب إيديولوجية مختلفة تنادي بضرورة ضخّ دماء جديدة في الحياة السياسية مع ما يعنيه ذلك من فسح المجال أمام التنظيمات الحزبية و الجمعياتية و الإعلام الحرّ أي خلق ديناميكية في المشهد العامّ تحضّ على تكريس سنّة التداول السلمي على الحكم عبر اللّجوء إلى صناديق الاقتراع لكن يوم شعرت السلطة القائمة بالخطر الذي يتهدّدها سارعت إلى قمع المعارضين بتمتين صلتها بالمؤسّسة الدينية على اعتبار أنهّا المجسّد للسيادة العليا للدين الذي هو بلسم السواد الأعظم من المجتمع.
5- المتخيّل، المهمش، المنسي :
يمكن القول بلا مواربة أنّ مساحة المتخيّل و المهمّش و المنسي تضاهي مساحة اللامفكر فيه في الثقافة الإسلامية، إن لم تتجاوزها بدليل أن الثقافة الشفوية و السرد و المجاز ظلّت مبخوسة الحظ، مستبعدة. فالمتأمّل في تاريخ الإسلام الديني و الثقافي يتفطّن دون كبير عناء إلى أنّ المؤسّسة الرسمية قد اصطفت ضروبا من التعبير الثقافي و أقصت أخرى وفي أحسن الأحوال همّشتها، لأنّها لا تنسجم و ايديولوجيتها.
وقد حاول أركون اقتحام هذه الجزيرة المنسية و احتفل في أغلب أعماله بمفاهيم المتخيّل و المنسي و المدهش و المهمّش. وقد ثبت عنده أنّ المتخيل هو جملة الصور الذهنية و الاعتقادات العامّة التي تترسّب في الذهنية الجماعية و تعبّر عنها الثقافة الشعبية بأشكال مختلفة من الطقوس و الممارسات الثقافية و الفنية و الدينية فـ “متخيّل فرد أو مجموعة اجتماعية أو أمّة هو مجموع التمثلات الرائجة عبر ثقافة مشبعة popularisé ” وهي صارت كذلك عن طريق الملاحم و الشعر و الخطاب الديني وحتّى الخطاب الوطني الحديث. [31]فالمتخيّل بهذا المعنى يفصح عن نفسه من طريق المكتوب كما في التاريخ و كتب السّير (سيرة النبيّ، الصّحابة، الائمة و الصّالحين) وكذلك من خلال التعبيرات الثقافية الشفوية .
ويرى أركون أنّ المتخيّل أو المخيال ليس الذاكرة-التراث لأنه يعيد إنتاج الذّاكرة و التراث بشكل انتقائي و يضيف إليهما من الواقع التاريخي المتجدّد وقد يتجند أو يجيّش لأعمال و وممارسات لا تقبل الاندراج في تاريخ الجماعة[32].
ويبقى المتخيّل الدّيني بلا منازع هو الأكثر تأثيرا في المجتمعات وهو ما يفسّر الإقبال المتزايد في أوساط الباحثين في العلوم الاجتماعية على دراسة وتبيّن سرّ تقلّد النفسي والتاريخي والثقافي والاجتماعي[33].
وليس من فائض القول الإقرار بأنّ النزعتين الوضعانية و العلموية قد أزرتا بمبحث المتخيّل الخصب و عملتا على محاصرته، فـ ” المسلّمات الضمنية للاشتراكية العلمية على الطريق الشيوعية السوفياتية و كذلك المسلّمات الضمنية للعلمانوية الفرنسية المتطرّفة توهمتا بأنه يمكن القضاء كليا عن المخيال الديني عن طريق تدريس الإلحاد الرسمي في ما يخصّ الأولى أو عن طريق حذف الظاهرة الدينية من برامج التدريس الثانوية و الجامعية في ما يخصّ الثانية ” [34]دع عنك العلوم الاجتماعية التي لا تعتدّ بالخيال موضوعا للدّراسة و لا هو يستحوذ على حيّز لافت من اهتمامها، فهي ” تميل إلى الاشتباه بالخيال و اعتباره مصدرا متاهات صرفة لانهاية لها وترى بأنه ينبغي على العقل أن يستأصلها كلّيا آو يرميها في ساحة التصوّرات الأسطورية”.[35]
يستشف ممّا تقدّم، ألاّ حظّ للمتخيّل كي يتموقع في أي مجال من مجالات الدراسات الفكرية والنقدية، لذلك كان موقعه الهامش قياسا ببنيته و خصوصياته التي تتلاءم مع ورشات البحث العلمي بمختلف شعبها و التي تحتكم في منهجها إلى ثلاثة أركان هي : الموضوع والمنهج و الجهاز المفاهيمي، أركان لا يمكن دراسة المتخيّل في ضوئها، و لا مطمع في بلوغ نتائج تثري البحث العلمي و تطوّره.
لقد اقترن تجاهل مركزيّة المتخيّل، لا سيما المتخيّل الديني في تراث الإسلام بتجاهل مساحة المجاز، إذ لم يعتدّ مطلقا بقيمته الدّلالية لحظة مباشرة النصّ الديني، ممّا أفقد قراءة هذا النصّ رافدا بارزا لاستكناه مستغلقات المعنى المتوارية بين طبقاته، بالمحصّلة ظلّ الفهم أحاديا، مبتورا.
لا مندوحة عن الإقرار بقيمة المجاز و طاقته التعبيرية الجبّارة، وقد تنبّهت الإسلاميات التطبيقية الأركونية إلى قيمته، فصيّرته رافدا أساسيا من روافد قراءة النص الديني بصفة خاصّة و عنصرا فعالا في إغناء الفكر و الثقافة في الإسلام على اختلاف تعرّجاتها و تنوّع قسماتها لأن المجاز محطّة تأويلية واجبة الوجود، كلّما تعلّق الأمر بمحاولة تجلية معاني النصّ الديني ورفع اللّبس الذي يكتنف بعض مفاصله .
فضلا عن المتخيّل و المجاز ، فقد تنبّه أركون إلى ركيزة مهمّة من ركائز المشهد الثقافي الإسلامي طواها النسيان، تلك المتعلّقة بالثقافة الشعبية و الثقافة الشفوية فلطالما بقيت هذه الثقافة مقصاة، خارج الأفق الفكري لأغلب الباحثين الذين قصروا جهودهم على الثقافة الرسمية المدونة و تنوسيت الثقافة الشعبية الشفوية التي هي سياق اجتماعي مخصوص , ممّا أدخل الضيم على هذه الثقافة التي كان من المفروض أن تكون معينا ثرّا تمتح منه ثقافة الحواضر, لذلك سارع أركون إلى تبني مقولة التضامن الوظيفي بين الثالوث السلطة المركزية العقل الأورثودوكسي
و الثقافة المدينية العالمة. وهو ما يعود بالانفصال القاطع بين العقل الكتابي و العقل الشفوي إلى جذوره القرآنية، حيث الانفصال بين المجتمع الإسلامي المديني الذي تقوم فيه دولة مركزية و كتاب ديني و ثقافية عالمة من جهة، والمجتمع الجاهلي الشفوي البدوي المتزوع من أي سلطة أو كتاب من جهة أخرى[36].
لا شك في أنّ الخطوة الأركونية تعدّ حاسمة على اعتبار سعيها إلى الحدّ من سطوة العقل الأورثودوكسي الاسلامي الذي فرض فهمه للنصّ في سياق سياسي و تاريخي موات، وألاّ مخرج من هذا المأزق إلّا باعتماد معول النقد
و اجتراح أدوات منهجية جديدة أتاحتها المباحث اللّسانية و الأنثرويولوجية والسيميائية والسوسيولوجيا ,بما يشكّل إطار عمل جديد للدراسات الإسلامية يؤهلها كي تجدّد أدوات قراءتها للتراث من خلال الإقبال على كلّ أجزائه بما فيها المهمّش و المنسي , أملا في كتابة صفحة جديدة في تاريخ الإسلام الديني و الثقافي ,صفحة تجبّ ما قبلها و تكون أحوط بكلّ مكونّات هذا التاريخ و أكثر تعبيرا عن مضامين ماذا و مراحله لذلك تستقيم الإسلاميات التطبيقية بمثابة الخط المنهجي الهادف إلى تأسيس خطاب جديد ورؤية معاصرة للإسلام تاريخا و تراثا , رؤية تأخذ بعين الاعتبار مسألتين أساسيتين ,هما الواقع العلمي و الآفاق المعرفية التي تفتحها كلّ يوم علوم الإنسان والمجتمع و الواقع الاجتماعي للإنسان العربي المعاصر[37].
6- الخاتمة:
هكذا بدت لنا معالم المساهمة الأركونية الموسومة بالإسلاميات التطبيقية في إضاءة الفكر الإسلامي. وهي مساهمة تتوسّل بأدوات منهجية طارفة و أفق تأويلي رحب و اطّلاع عميق على تاريخ الإسلام الرسمي و غير الرسمي، المدّون و الشفوي، لذلك نعدّها مقاربة جامعة غير إقصائية تتغيا رسم معالم خارطة جديدة للثقافة الاسلامية
و ذلك بردّ الاعتبار إلى رصيد الثقافة غير الرسمية وهي بلا شك خطوة مهمّة أضفت على هذا المشروع طرافة غير مفتعلة و فسحت المجال لاقتحام مجالات اللامفكر فيه على أمل إضاءة جوانب من التراث طواها النسيان سواء لأسباب سياسية أو عقدية. لذلك لا نملك إلّا أن نثمّن المجهود الأركوني الذي لا يكتفي بنقد الإسلاميات الكلاسيكية بل كان أحرص على بناء مشروع بديل ينهض على تدارك هنات مجهود المستشرقين و تعبيد مسالك جديدة من أجل تجويد النظر في التراث و تعميق الإحاطة به .
7- المراجع
العربية:
- أركون (محمّد) : القرآن، من التفسير بالموروث إلى تحليل الخطاب، ط 2، تع، هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، 2012.
- أركون ( محمد): الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، ط3، تع، هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، 2008.
- أركون (محمد): الفكر الإسلامي : نقد و اجتهاد، ط 4، تع، هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، 2007.
- أركون (محمد): الهوامل و الشوامل، حول الإسلام المعاصر، ط 1، تع هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، 2010
- أركون (محمد) : قضايا في نقد الفكر الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم ؟ ط 3، تع. هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، 2004.
- بلقزيز (عبد الإله) : نقد التراث، ط 2، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2016.
- فازيو(نبيل): الإسلاميات التطبيقية، هاجس التنوير، مدخل إلى فكر محمّد أركون، ط1، منتدى المعارف، بيروت، 2017.
- مسرحي (فارح): المرجعية الفكرية لمشروع محمّد أركون الفكري، أصولها وحدودها، ط1، إصدارات الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، 2015.
الأعجمية:
- Arkoun (Mohamed) :Pour une critique de la raison islamique ,édition Maisonneuve, Paris, 1984 .
- Arkoun (Mohamed) :ABC de l’Islam. Pour sortir des clôture dogmatiques , Edition ceconcher, Paris , 2007.
- Arkoun (Mohamed) : la construction humaine de l’Islam, Al bin Michel, Paris ,2012.
[1]– محمد أركون(1928-2010) مفكر جزائرية، باحث في الإسلاميات، أمسك بناصية المناهج الحديثة، تميّز بمشروعه المركزي “نقد العقل الإسلامي” من أهم أعماله، الفكر العربي، الفكر الإسلامي، قراءة علمية، نافذة على الإسلام، الآنسة في الفكر العربي.
[2]– نبيل فازيو، الإسلاميات التطبيقية، هاجس التنوير، مدخل إلى فكر محمد أركون، ط1، منتدى المعارف، بيروت، ص 42-43.
[3]– راجع محمد أركون القرآن، من التفسير بالموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ط2، تع، هاشم صالح، بيروت، دار الطليعة، 2012، ص55.
[4]– Mohamed Arkoun, pour une critique de la raison islamique, Paris Edition Maisonneuve, 1984, p 50.
[5]– فازيو، الإسلاميات التطبيقية، هاجس التنوير، مدخل إلى فكر محمد أركون، مرجع سابق، ص50.
[6]– المرجع نفسه، ص 52.
[7] المرجع نفسه، ص 52.
[8] المرجع نفسه، ص 52.
[9]– أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، تع، هاشم صالح، ط3، بيروت، دار الساقي، 2008، ص268.
[10]-Arkoun, pour une critique de la raison islamique, op. cit. p 53.
[11]-Ibid, p 54.
[12]– Arkoun, La construction humaine de l’Islam, Paris, Albin Michel, 2012,p 48.
[13]– George Balandier , Anthropologie politique, Paris, PUF, 1967, p 26.
[14]– Fernand Brawdel, grammaire de la civilisation, Paris, Flammarion, 1993, p 26.
في هذا الإطار يقول أركون ‘إنها (مدرسة الحوليات) توسع معرفتنا لتشمل انتاجات الروح في كل لحظة من لحظات التاريخ، حيث تتبلور أنساق من التفكير. لقد استطاعت أن تكشف عن وجود دينامية مستمرة صادرة في ذلك عن اهتجاسها غير المنقطع المحكوم بواقع التفاعل الدائم بين أهم ملكات الروح (الخيال، المخيال، المتخيل، الذاكرة الجماعية…..إلخ) والسياقات (التاريخية) واللغات حيث تتحدد أفضلية هذه الملكة عن الأخرى، فتارة تعطي الأولية للعقل وتارة أخرى للخيال الخلاّق، وفي حالة أخرى تتدخل الذاكرة لتفرض حكاياتها الخاصة. إن هذه الدينامية تمثّل طاقة فكر يشتغل على سياقات اجتماعية وتاريخية(مختلفة).
– M. Arkoun , la construction humaine de l’islam, p 49.
[15]– فازيو، الإسلاميات التطبيقية، هاجس التنوير، مرجع سابق، ص64.
[16]– المرجع نفسه، ص65.
[17]– أركون، من التفسير بالمأثور إلى تحليل الخطاب، مصدر سابق، ص43.
[18]– فازيو الإسلاميات التطبيقية هاجس التنوير، مرجع سابق، ص 70 .
[19]– عبد الإله بلقزيز، نقد التراث ط 2 , مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 2016، ص 376 .
[20]– Arkoun, pour une critique de la raison islamique p 112.
[21]– Ibid, p 113.
[22]– أركون، الفكر الإسلامي ، نقد واجتهاد، ص 4 ترجمة و تعليق، هاشم صالح، بيروت دار الساقي، 2007 ص 245.
[23]– بلقزيز، نقد التراث، مرجع سابق، ص 379.
[24]– المرجع نفسه، ص 379 .
[25]– بلقزيز، نقد التراث، مرجع سابق، ص 380.
إنّ اللاّمفكر فيه حسب أركون هو ذلك العالم الشاسع من المهملات و المنسيات في تاريخ الإسلام، أي جملة الموضوعات غير المطروقة في الدراسات الإسلامية حتى الآن مثل المتخيل الديني و التعبيرات الثقافية المكتوبة (الشفوية و الشعبية) و العلاقات بين الميثي و التاريخ و الحقيقة، ثمّ العلاقة بين عناصر المثلث الأنثروبولوجي العنف، المحرم، الحقيقة.
Arkoun : ABC de l’Islam pour sortir des clôtures dogmatiques , paris , guachet , 2007.
[26]– بلقزير، نقد التراث، مرجع سابق، ص 380 .
يرى أركون أنّ الممتنع التفكير فيه هو تلك الطّائفة الواسعة من الموضوعات التي نوقشت في الماضي في إطار شروط موضوعية مواتية أمكن خلالها إثارة مثل هذه الإشكالات، ثمّ بات في حكم المتعذّر التطرق اليها بسبب منع السلطة الدينية أو السلطة السياسية طرحها او الاقتراب منها لمجافاتها ما أجمع عليه من عقائد وقيم.
محمد أركون، الفكر الأصولي و استحالة التأصيل، نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، مصدر سابق، ص 10.
[27]– أركون الفكر الإسلامي، نقد و اجتهاد، مصدر سابق، ص 19.
[28]– اركون، العوامل و الشوامل ، حول الإسلام المعاصر ط 1 ترجمة و تعليق هاشم صالح، بيروت دار الطبيعة 2010 .
[29]– راجع، بلقزيز، نقد التراث، مرجع سابق، ص 381 .
28 المرجع نفسه، ص 381.
[30]– اركون قضايا في نقد الفكر الديني كيف نفهم الإسلام اليوم ؟ ط 3، ترجمة، و تعليق هاشم صالح، دار الطبيعة، بيروت، 2004، ص200.
[31]– Arkoun, ABC De L’islam, P 34.
[32]– Arkoun , pour une critique de la raison Islamique. Op. cit.
[33]– Ibid., p. 24.
[34]– راجع، أركون، الفكر الأصولي و استحالة التأصيل، مصدر سابق، ص24.
[35]– اركون، قضايا في نقد العقل الديني، مصدر سابق، ص 200.
[36]– راجع ، بلقزيز، نقد التراث، مرجع سابق، ص 384.
[37]– مسرحي (فارح): المرجعية الفكرية لمشروع محمّد أركون الفكري، أصولها وحدودها، ط1، إصدارات الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، 2015.، 2015، ص 168.