طوماس هوبز

طوماس هوبز

الملخص:

نهدف من خلال هذا البحث إلى توضيح فكرة أساسية سادت ولا تزال، مفادها أن “طوماس هوبز” قد أسَس للاستبداد السياسي، بدل الاستبداد الديني، بينما الأمر عكس ذلك، فهوبز وضع أُسس الدولة الحديثة، القائمة على القانون كأساس لسلطة الدولة، وفوض للحاكم السهر على تطبيقه، من أجل ضمان السلم والأمان، وتجنب العودة للحرب الأهلية والدينية التي ذاق قسوتها، (حرب الكل ضد الكل). وما يؤكد قولنا هذا كون “هوبز” قد شرع للمحكومين حق مقاومة الحاكم، إذا هدد حقوقهم الجوهرية كالحق في الحياة والملكية…، لكن هذه المقاومة (الرفض السلمي) لا تهدف إلى القضاء على الدولة والعودة إلى حالة الفوضى، وإنما تصحيح أخطائها، بإعادة النظر في العقد الذي تم من خلاله التنازل للحاكم من أجل تدبير شؤون الناس، لأن هذه السلطة المخولة له مفوضة من الشعب، وليس من الله، وبالتالي يحق للشعب أن يراقب، ويقاوم، ويصحح، كل خلل يمس العقد الاجتماعي (علاقة الحاكم بالمحكومين).

وقد تناولنا هذا الموضوع من خلال أربعة محاور:

1_ ما يبرر القول بالسلطة المطلقة

2_ السلطة المطلقة ليست استبدادا

3_ الطاعة الطوعية ورفض الاستبداد

4_ الحق في مقاومة السلطة المطلقة وعصيانها (التسلط)

الكلمات المفاتيح: الدولة الحديثة، الفوضى، السلطة المطلقة، الاستبداد، العصيان، السلم

Abstract:

Through this research, we aim to make clear of a basic idea, which prevailed, and still prevailing, which is Thomas Hobbes has established political tyranny instead of religious tyranny, but the reality is vice versa. Hobbes put the foundations of the modern state, based on law as the basis for state authority and delegated the ruler to ensure its implementation in order to guarantee peace and security, as well as to avoid a return to the civil and religious war because he experienced the hardness of war (the war of all against all). What confirms our saying is that Hobbes legislated the right to the governed in order to resist the ruler if he threatens their fundamental rights such as the right to life and property…, but this resistance (peaceful rejection) does not aim to eliminate the country and return to a state of chaos, but rather to reforms its mistakes by reconsidering the contract through which the ruler was abdicated in order to be head of people’s affairs, seeing that this authority granted to him is delegated by the people, not God. Therefore, the people have the right to monitor, resist and correct any flaw that affects the social contract (the relationship of the ruler with the ruled).

We have covered this issue through four axes:

  1. What justifies the saying by the absolute authority?
  2. The absolute authority is not a tyranny.
  3. Voluntary obedience and refusing of tyranny
  4. The right in resistance and disobedience the absolute authority (authoritarianism)

Keywords: modern state; Chaos; absolute power; Tyranny; disobedience; the ladder


1- مقدمة:

لعل السمة الأبرز للحداثة السياسية تكمن في حصر مجال السياسي في ذاته، أي عبر النظر فيه ومحاولة استجلاء خصوصيته داخل الطبيعة البشرية وضبط آلياته المؤسسية. فلم يعد مجرد تجمع فطري طبيعي، تطور من العائلة والعشيرة كما كان الشأن في تفسيرات “أرسطو”، وإنما أصبح نتيجة اتفاق وتعاقد حر بين الأفراد.

الدولة ليست تجمعا قائما على ما هو عرقي أو ديني أو عقدي، ولم يسبق لدولة خاضعة لقانون متعال عليها أن حققت السلم والأمن لأفرادها، يقول عبد الله العروي في هذا السياق: ” كل ما نلاحظ في وقائع التاريخ هو وجود دول تستعمل أهداف الدين لتغطية أهدافها، هي، التي لا تتغير أبدا[1]. وفي هذا السياق أيضا يستشهد “العروي” بقول “ماكيافلي” أن النبي الأعزل دائما مهزوم، ويؤكد أن النبي هنا يدل على كل “مصلح ثوري”، كل من أراد إسقاط الدولة بدون احترام منطقها، منكسر لا محالة في مطمحه. فالدولة ليست سلطة مفروضة على المجتمع من فوق، وإنما هي ثمرته ونتيجة عمله. هذا ما عبرت عنه الحداثة السياسية منذ “طوماس هوبز”، وجعلنا نقر أن البوادر الفلسفية للرفض السلمي للسلطة (العصيان المدني) صاحب ظهور الحداثة السياسية، وأنه آلية من آليات الديمقراطية الحقيقية. لا يهدف إلى زوال الدولة بالاستفادة من منطق غريب عنها، بل يرمي إلى الحفاظ عليها وتصحيح أخطائها من داخلها، تلك الأخطاء التي قد يقع فيها من يمثل إرادة الشعب من “الحكام” و”القوانين”، لأن الطبيعة البشرية تبقى أميل إلى الأنانية وحب الذات والتملك. من هنا يتحدّد هدفنا في هذا العمل من أجل تحري الشروط النظرية للرفض السلمي للاستبداد (السياسي والديني) داخل الفلسفة السياسية الحديثة في الإشكاليات الآتية: كيف ساهم ظهور الدولة الحديثة في ضبط الأفراد قانونيا وأخلاقيا؟ وكيف ساعدت المدنية الفرد على رفض الظلم والاستبداد والقيام بثورات حاسمة، كالثورة الفرنسية؟ وكيف سيدفع مآل تلك الثورات المسلحة المحفوفة بالفوضى والعنف، إلى التفكير في سبل الرفض السلمي وجعله شرط التقدم على درب المدنية والحضارة؟ ونوّد بهذه المناسبة مساءلة طريقة هوبز الخاصّة في معالجة فكرة الحق في مقاومة السلطة الحاكمة من عدمها، على خلاف ما هو متداول كون “هوبز” أسس للاستبداد السياسي؟

2- ما يبرر القول بالسلطة المطلقة:

افتتح طوماس هوبز(Thomas Hobbes) كتابه “اللفيتان”[2] بالقول الآتي: ” إن الطبيعة (أي الفن الذي صنع به الله العالم ويحكمه) يقلدها فن الإنسان، كما يقلد أشياء أخرى، إلى حد إمكانية صنع حيوان اصطناعي”[3]. فقدم، بقوله هذا، فهما جديدا للدولة لم يسبقه إليه أحد قبل، جاعلا منه مفتاح الدولة الحديثة. فلم تعد الدولة، حسب تصوره، أمرا طبيعيا، ولم يعد الحاكم ممثل الله في الأرض، إنما أصبح يمثل الشعب الذي في الأرض ويرأس الدولة التي صنعها الشعب. “ذلك أنه بواسطة الفن، يخلق ذلك اللفياتان الضخم المدعو جمهورية، أو دولة – باللاتينية -والذي ليس سوى إنسان اصطناعي، وإن كان يتمتع بقامة وقوة أضخم من تلك التي يتمتع بها الإنسان الطبيعي الذي من أجل حمايته والدفاع عنه تم خلقه وفيه تشكل السيادة روحا اصطناعية للدولة، فهي تعطي الحياة والحركة للجسم كله، ويكون القضاة وغيرهم من مسؤولي القضاء والتنفيذ مفاصل اصطناعية”[4]. ويضيف قائلا: “أما الثواب والعقاب (اللذان يحركان كل مفصل وعضو مرتبط بمقعد السيادة ليؤدي واجبه) فهما الأعصاب التي تقوم بالعمل نفسه في الجسم الطبيعي. إن ثراء كل الأعضاء وغناهم هو القوة، وسلامة الشعب هي شأنه، والمستشارون الذين يشيرون إليه بكل الأشياء التي يحتاج أن يعرفها هم الذاكرة، والمساواة والقوانين هي عقل وإرادة اصطناعيتان (كذا)، والوئام هو الصحة، والعصيان هو المرض، والحرب الأهلية هي الموت”[5].

حاول “هوبز” أن يضع نظرية سياسية راسخة الأسس بمقدورها القضاء على البلبلة والاضطراب الفكري الذي ساد الحياة السياسية الانكليزية في وقته، فأسس “علم السياسة ” بشكل يختلف عن محاولات من سبقه من المفكرين. فإذا عقدنا مقارنة بينه وبين “ماكيافيلي” الذي عاش قبله بقرن تقريبا، لوجدنا الأخير يؤكد، وكما هو معروف، الحقائق القاسية للقوة، ويسهب في كيفية ممارستها وظروفه. ويستدعي التجارب الرومانية وتجارب الإمارات الإيطالية القريبة منه للتدليل على صحة كلامه في قوله: ” كلنا نعرف مدى الثناء الذي يناله أمير يحفظ عهده ويحيا حياة مستقيمة، دون مكر وخداع. لكن تجارب عصرنا) يقصد هنا بعصرنا التجارب المعاصرة له، وكما هو معلوم أن عصر ماكيافيلي عرف حروبا وصراعات بين دويلات) هذا تدل على أن أولئك الأمراء الذين حققوا أعمالا عظيمة، هم من لم يصن العهد إلا قليلا، وهم من استطاعوا أن يؤثروا على عقول الناس بالمكر والخداع، كما تغلبوا في النهاية على أولئك الذين جعلوا من الأمانة أساسا لأعمالهم”[6]

كان “مكيافيلي” قد سبق “هوبز” إلى عدم تناول السياسة من المنظور الأخلاقي أو الديني، والنظر إليها باعتبارها صراعا دنيويا محضا. غير أنه لم يقدم، مثل “هوبز”، فلسفة سياسية شاملة، واكتفى بإسداء النصح “للأمير” في شأن ما ينبغي القيام به لإدامة سيادته والبقاء في السلطة. وهو أمر نراه أقل شأنا مما قدمه “هوبز” من نظرية متكاملة قائمة على أسس نظرية ومنطقية متماسكة، جعلته المؤسس الفعلي للفلسفة السياسية الحديثة.

وإن كان الكثير من المهتمين بالفكر السياسي الحديث لا يقبلون أطروحته حول السلطة غير الخاضعة للمساءلة، فإنه ينفيها هو نفسه بقوله:” يبدو جليا، أنه، وفي الهيئات السياسية، التابعة والخاضعة للسلطة المطلقة، يكون مشروعا، بل مفيدا للفرد أن يعترض علنا على قرارات المجموعة التمثيلية، وأن يسجل اعتراضه، أو يدلي به”[7]. يفهم من قول هوبز (Hobbes) أنّ التفويض المتبادل للحقوق هو ما يسمى عقدا”[8] وأن الأمر يتعلق بتفويض وتبادل حر للحقوق، وليس بإكراه أو ما شابه. وأن الغاية منه هي وضع حد للفوضى العارمة التي عرفها عصره[9]، لم يتوقف طموح “هوبز” عند الرغبة في “القضاء على الاضطراب” وحسب، بل إنه أراد أن يضع نظرية علمية راسخة في السياسة، بوصفها جزءا من مسؤوليته كمفكر للقضاء على الاضطراب السياسي في بلاده. لأن سبب الاضطرابات يعود، حسب اعتقاده، إلى سوء فهم فكري، وأن القضاء عليه رهين بمدى توفرنا على أفكار يقينية واضحة حول الشأن السياسي وسبل الوصول بالمجتمع إلى الاستقرار و”إعادة السلام للجميع”.

انطلق هوبز من مشكلة كيفية تنظيم سعي الأفراد والجماعات إلى مصالحهم الخاصة وسعادتهم، بشكل يضمن شروط الأمن والسلم، فوجد أن المجتمع يحتاج إلى مجموعة من القواعد والضوابط التي تضعها سلطة سياسية قوية، وأن فعل المجتمع المدني لا يمكن أن يكون بدون سلطة عامة، وإلا ستكون الفوضى النتيجة الطبيعية التي تجعل من الحياة نفسها أمرا مستحيلا، سينتهي اعتماد كل فرد على عقله الخاص، وهنا المفارقة العميقة، التي ستؤدي سريعا إلى وضع غير محتمل بالنسبة للجميع.

تمثل نظرية “هوبز” انعكاسا للحظة مفصلية في تاريخ الحضارة الغربية؛ حين بدأ المجتمع الأوربي في التحول إلى الفردانية وظهرت كيانات تدعي الاستقلالية لنفسها، وأدى اتساع الأسواق إلى نشوء نظريات في الميدان الاقتصادي المحمي والمنظم ذاتيا والمستقل عن الدولة، أو الأسمى منها. ودفع “هوبز” إلى إعلان قضيته الدقيقة والحاسمة التي تقول إن تحديد الأهداف الخاصة والسعي وراءها يستلزم سلطة عمومية قوية تسود المجتمع، وتحميه في الوقت نفسه. إن الإصرار على عدم تجزيء سلطة الدولة، الذي يتيح قيام المجتمع المدني، يجب ألا يشوش علينا رؤية نظريته في السيادة، وإدراك أهميتها لضمان خير أعضاء المجتمع وأمنهم.

فنظرية “هوبز” السياسية لا تؤيد الاستبداد، كما قد يبدو، والحكم المطلق لا يسعى فقط إلى تحقيق مصلحة الحاكم الخاصة. يقول:” إذا قام عدد كبير من الرجال بمقاومة السلطة المطلقة، بإجحاف أو ما إذا ارتكبوا جريمة كبرى، ينتظر كل منهم إعدامه بسببها، هل يتمتع هؤلاء بحرية التجمع، وبمؤازرة بعضهم البعض، وبدفاع بعضهم عن بعض؟ لا شك أنهم يتمتعون بهذه الحرية، لأنهم لا يدافعون إلا عن حياتهم، وهو أمر يقوم به المذنب كما البريء”[10]. عندما لا يفرض الحاكم المطلق أي قانون، يحق للفرد التصرف وفق ما تمليه حريته وتقديره الخاص للأمور، وهذا النوع من الحرية واسع النطاق، ومتغير بتغير الظروف ومن يملكون السلطة المطلقة وتقديرهم لفائدتها.

يضرب “هوبز” هنا مثالا بإنجلترا؛ حيث كان، خلال فترة معينة، بوسع مالك الأرض دخولها بالقوة (لطرد شاغليها على غير وجه حق)، ولكن وفي فترة لاحقة، سيلغى هذا الدخول بالقوة بموجب قانون الملك في البرلمان. فإذا كان الفرد في حالة نزاع مع حاكمه المطلق بشأن دين أو حق حيازة على أرض أو أموال، أو بشأن خدمة مطلوبة منه، أو بشأن عقوبة جسدية أو مالية استنادا إلى قانون سابق، فإنه يتمتع بحرية إثبات حقه بقدر الحرية التي يتمتع بها حيال أي فرد آخر. يقول “هوبز” (Hobbes): إذا ما قام الحاكم بإعطاء أمر ما، أو بأخذ شيء ما، متذرعا بسلطته، حينئذ، يكون القانون مفتقدا لأي أساس، لأن كل ما يحصل بموجب سلطة الحاكم المطلق، إنما يحصل بموجب سلطة كل فرد[11].

3- السلطة المطلقة ليست استبدادا:

يعتقد أغلب الباحثين أن نظرية “هوبز” السياسية تنتهي إلى الاستبداد السياسي وأنها عوضت الاستبداد الديني بآخر لا يقل عنه تخلفا. انتهت نظرية التعاقد السياسي لدى “هوبز”، رغم جاذبيتها السياسية إلى نتيجة تفقدها كل قيمة فلسفية حداثية، والأمر يبدو وكأنها صيغت لأجل اضفاء الشرعية على شكل للحكم المدني لا يقل استبدادا عن استبداد ” الأمير” كما تصوره ماكيفللي”[12]. والحال أن “هوبز” يحاول تميز السلطة الاستبدادية عن سلطة السيادة التي يمتلكها الحاكم، فهذا الأخير في نظره يسود بغرض حفظ الحقوق الطبيعية، ليس لخدمة مصالحه ورغباته الخاصة كما هو حال المستبد. والدفاع عن نظام الحكم الملكي لا يعني القبول بالاستبداد، كما قد يفهم البعض، فهو لا يقوم على أساس القوة والعنف والحرب، إنما ينطلق من تعاقد سياسي يحدد حقوق والتزامات كل الأطراف.

يطابق النظام الملكي، كما تصوره “هوبز”، المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، ويقيم ثروة الملك وسلطته وجاهه على أساس ثروة الرعايا وقوتهم، وحسن سمعتهم. إذ لا يمكن لأي ملك بالفعل أن يكون غنيا أو عظيما وآمنا ورعاياه فقراء ومعرضين للاحتقار، ولا يحق له إضعافهم من أجل تمويل الحرب ضد الأعداء. ربما كانت هذه النزعة البرغماتية بالذات هي ما جعلت هوبز يخلط، في نظر “كانط”، بين التعاقد السياسي وباقي التعاقدات الاقتصادية الأخرى. وهذا يعني أنه جعل منه (التعاقد السياسي) مجرد صفقة تقوم الدولة على أساسها بتوزيع الأدوار بين الحاكم صاحب الحق المطلق في السلطة والسيادة، وبين المحكوم الذي يتوجب عليه الطاعة التامة دون حق المقاومة. مقابل ضمان الحاكم حقه في البقاء والحياة والملكية[13]. تعيدنا ملاحظة كانط إلى مسألة تبرير الاستبداد السياسي انطلاقا من التعاقد السياسي. أفلا يدل تطابق المصلحتين الفردية والعامة في شخص الحاكم على عدم تمييز “هوبز” بين “الإرادة الخاصة” و”الإرادة العامة”؟، وهو التمييز الذي أصبح قاعدة للمجتمع الليبرالي الحديث.

إذا كانت المصلحة الفردية هي مبعث السلوك الإنساني البشري، فإنه من الواجب اعتبار المجتمع وسيلة مؤدية إليها. لقد كان “هوبز” الممثل الأوّل لمذهب المنفعة وللمذهب الفردي في آن واحد. فسلطة الدولة، سلطان القانون، ليس لهما من مبرر إلا أنهما يسهمان في أمن الكائنات البشرية، وليس من سبب معقول للطاعة واحترام السلطة سوى التوقع بأن يسفر هذان عن ميزة تزيد مما تُتحيه أضدادهما”[14]. ويعتقد “جورج سباين” أن هذه الفردانية الواضحة المعالم هي التي تجعل فلسفة “هوبز” أكثر النظريات ثورية في ذلك العصر، وأن دفاعه عن الملكية سطحي، فالدولة وحش حسب “هوبز” وما من إنسان يقبل باحترام وحش. إنّ (سلطة الدولة) في نهاية التحليل، تعود إلى دورها في جلب المنفعة وضمان المصالح وخدمة أمن الأفراد.

لا تعتبر الطاعة، تبعا لوجهة النظر هذه، مجرد فعل يفرض ذاته من الخارج باسم سلطة ثيولوجية معينة، بل إنها فعل مبرر سياسيا، ونوع من الالتزام الذاتي بمقتضيات التعاقد السياسي، وطاعة ضرورية يتصورها “هوبز” في كتاب ” المواطن” كواجب[15].وجود الدولة ووجود الحاكم لدى “هوبز” شيء واحد يستلزم من الرعايا، بحكم التعاقد السياسي الخضوع والطاعة”[16].

أما النقطة الأخيرة ذات الأهمية بالنسبة إلى القائلين بالاستبداد الهوبزي، فهي قوله إن القانون العرفي الإنجليزي لا يلزم الحاكم؛ يقول: “إن الحاكم هو المصدر الوحيد للقانون، نظرا لأن إرادته هي الإرادة الوحيدة – يخلط كما سينتبه كانط لذلك بين الإرادة الخاصة والعامة، كما أشرنا للتو-وهذا ما ينتج عنه رأي هوبز المتعلق بمسألة فقه القضاء (jurisprudence) وما ينتج عنه تاليا من تصور للإنصاف، فهو يرفض وبحدة حجة حكمة القضاة ورويتهم (prudence) التي تمنحهم في دعواهم حق التصرف وفق ضمائرهم ووفق ما يرونه متماشيا مع العدل، لأن العدل في دعوى فيلسوفنا، ما يراه الحاكم عدلا، وبالتالي يكون التأويل الوحيد للقانون إنما تأويله بالضرورة”[17].

والحال أن دوام الحاكم في حكمه رهين بمدى حمايته لمصالح الأفراد وحرصه على أمنهم. وإلا كيف يمكن فهم قوله: إنّ التزام الأفراد حيال الحاكم المطلق، مرتبط بالمدة التي يقضيها الأخير في السلطة، ويكون قادرا من خلاها على حمايتهم”[18]؟ فإذا لم يقدر الحاكم المطلق على حماية الأفراد من جميع الأخطار، بما فيها خطر البطالة مثلا، فإنه يحق لهم عصيانه.

كان “هوبز” موقنا أن المحافظة على الذات ليست مسألة بسيطة ووقتية، وأن الحياة لا تسمح بفترة لالتقاط الأنفاس ولا بلحظة راحة يمكن فيها إدراك الغاية مرة واحدة وإلى الأبد، وإنما هي سعي دؤوب وراء وسائل الوجود المستمر. ولما كانت وسائل الأمن معرضة للتهديد باستمرار، فإنه لا شيء يحد من الرغبة فيه والنضال من أجله، إذ الأمن هو الحاجة الأساسية التي تستشعرها الطبيعة البشرية. ذلك أنّ “المقاومة ستقع في الحقيقة حينما يخفق الحاكم في توفير الأمن الذي هو السبب الوحيد في خضوع الرعايا، فالحجة الوحيدة في تأييد الحكم هي أنه يحكم. ومن ثم إذا نجحت المقاومة وفقد الحاكم سلطته فإنه لا يعود بصورة آلية حاكما ولا يعود رعاياه رعايا[19].

يرى “جورج سباين” أن فلسفة “هوبز” السياسية أروع بنيان أنتجته فترة الحروب الأهلية الإنجليزية، يقوم على وضوح الحجة المنطقية واتساق الاستدلال. رغم أنه لا ينفي التحيز إلى الملكية المطلقة، كونه ربط مصالح الأفراد كلها بالحزب الملكي، واعتقد بإخلاص أنها أكثر أنواع الحكم استقرارا وانتظاما.

والحق أن “هوبز” وجد أن الناس قد سئموا حال القتال الطبيعي وأدركوا أن الحرب أسوأ الشرور، فاجتمعوا على التنازل عن حقوقهم كافة، والاتفاق على جعل السلطان الاجتماعي كله بيد رجل واحد لا يترتب عليه إلا واجب واحد هو صيانة الأمن. وبذلك غدت الحياة في المجتمع خيرا، على الرغم من أن الإنسان يخسر فيها استقلاله، ولكنه يكسب لقاء ذلك ما هو أفضل من الاستقلال، يكسب الأمن والطمأنينة، والأمن خير لأنه ينقذنا من بؤس حال الطبيعة، حال الحرب، وينقلنا إلى حال السلام والنظام وهكذا يقوم المجتمع وتقوم الدولة[20].

ولما كان الأفراد متساوين تقريبا في القوة والدهاء، فإن أمنهم يبقى مهددا ما لم توجد سلطة مدنية تنظم سلوكهم وتدفع بعضهم عن بعض، وإن حالتهم ستبقى حال “حرب كل إنسان ضد كل إنسان”، التي لا تتفق مع أي نوع من الحضارة، ولا تسمح بوجود مقوماتها، من صناعة وملاحة وزراعة إلخ. ستكون حياة الناس مقفرة عقيمة، بهيمية وقصيرة، ولا تعرف معنى الصواب ولا الخطأ، ولا تميز بين العدل والجور. فخير أعضاء المجتمع وأمنهم رهين بوجود قوة صاحب السيادة، وواجب طاعتها يحقق قدرا من الفائدة الفردية، أكثر بكثير مما كان يمكن تحقيقه في حال الفطرة أو حالة الطبيعة، وأكثر من الخضوع لسلطان الكنيسة.

أخضع )هوبز( الكنيسة لسلطان الدولة، فذهب إلى أن أولئك الذين يجتمعون للعبادة بدون أمر الحاكم وعلمه ليسوا رجال دين أو كنيسة، ولكنهم يكونون هيئة غير قانونية، يجوز القضاء عليها. كما هاجم هوبز فكرة الكنيسة العالمية، وقرر أن الكنيسة العالمية لا يمكن أن توجد، لأنه لا توجد دولة عالمية”[21]، فجعل الحكومة واحدة، والسلطة واحدة، هما سلطة حكومة الدولة[22].

يمكن أن نميز في سياق نظرية هوبز بين نوعين من الطغاة: الأول يمثله أولئك الذين يستولون على الحكم بالبطش والقوة وإراقة الدماء، والثاني يمثله أولئك الذين تعاقدوا مع الشعب وتعهدوا بالحكم العادل وإتباع القانون ثم نكثوا بالعهد. وكلاهما يعطي للشعب حق المقاومة؛ النوع الأول يقاومه كل فرد مستعينا بالقانون المدني أو بالقانون الإلهي أو بقانون الشعوب. أما النوع الثاني، فإن حق المقاومة )فيه( يكون منوطا بالشعب كله الذي تعاقد واتفق معه قبل أن يصبح طاغية”[23]، وهو الذي جاءت به الحداثة السياسية وسمي “بالرفض السلمي”. يقول “علي عبد المعطي” في هذا السياق: “أما فيما يتعلق بالعقد الثاني (الطاغية الثاني)، فإنه إذا أخل الملك بالتزاماته وتعهداته التي قطعها على نفسه أمام الشعب، والتي اشترطها عليه الشعب، فإن من حق الشعب أن يعلن الثورة عليه ويطيح به”[24]. بمعنى أن وجود الحاكم مرتبط بوجود الشعب وموافقته، وأن هذا الأخير هو صاحب السيادة الحقيقية والأصلية، ما دام الناس أحرارا، وما بقي اتفاقهم على التنازل عن جزء من حرياتهم يبتغي تحقيق خير أعظم ومصلحة أكبر.

لقد كان الهدف من بسطنا لوجهة نظر بعض الباحثين المهتمين بفلسفة هوبز السياسية، وعرض النقاش الذي ساد حول علاقته بالاستبداد، هو إبراز كيف أنه فتح النقاش السياسي على مصراعيه ومهّد الطريق أمام الانتقال من الطاعة العمياء إلى الطاعة الطوعية التي ستجد في العقد الاجتماعي أبهى تجلياتها ومظاهرها.

4- الطاعة الطوعية ورفض الاستبداد:

سنعرض فيما يلي وجهة نظرنا حول فكرة أساسية، تؤكد ما قلناه بخصوص دفاع هوبز عن الطاعة الطوعية، ومن ثمّ الحق في العصيان، ورفضه الطاعة السلبية العمياء، وبالتالي استمرار الاستبداد. فالرجل لم يضع نظرية في الاستبداد السياسي، بقدر ما وضع اللبنة الأولى لفلسفة الحق، بما فيها الحق في الرفض السلمي للظلم بشتى أنواعه. يقول في كتابه المواطن: إنّ “أن الطبيعة قد منحت لكل فرد منا الحق ذاته بخصوص الأشياء جميعها، أقصد أنه في حالة خالصة للطبيعة، وقبل أن يدخل البشر في تعاقدات فيما بينهم، كان مسموحا لكل واحد منهم أن يعمل ما يحلو له ضد أي شخص آخر… وعلى أنه لدينا حق الطبيعة بموجبه نقوم بكل ما يساعدنا في الدفاع عن ذواتنا والمحافظة على أعضاء جسمنا، وينتج عن ذلك أنه في حالة الطبيعة يكون لكل واحد منا الحق في أن يفعل وأن يمتلك كل ما يرغب فيه، وعن هذا يصدر الرأي المشترك الذي يقتضي بأن الطبيعة قد سخرت كل الأشياء للجميع، وهو ما ينتج عنه أنه في حالة الطبيعة تكون المنفعة هي قاعدة الحق”[25].

ارتكز البعض على المقطع السابق في قولهم إن نظرية “هوبز” تخلط بين المصلحة العامة والخاصة، وبين التعاقد الاقتصادي والسياسي. غير أن “هوبز” في الواقع يذهب عكس ذلك تماما؛ فلسان حاله يقول: هل يعقل أن يتنازل الفرد عن حريته الطبيعية بهذه البساطة دون أن يكون ما سيربحه أكبر مما سيفقده؟ لا شك أن الجميع يتفق أن الأمن والسلم، والحفاظ على الممتلكات، أهم من كل ما قد يتم خسرانه. يؤكد “هوبز” مبدأ بالغ الأهمية في التعاقد، وهو المنفعة، فإذا كانت المنفعة هي قاعدة الحق في حالة الطبيعة، فإنه من البديهي أن يراعيها الناس في تعاقدهم السياسي والاقتصادي. يقول:” يجب أن نخلص إلى أننا لا نبحث عن رفقاء بأية غريزة طبيعية، بل بسبب ما نستفيده منهم من جاه ومنفعة، فنحن لا نرغب في أشخاص نعيش معهم إلا بسبب هاتين المصلحتين اللتين تعود علينا بالنفع”[26]. فعملية التنازل عن الحق الطبيعي ليست مجرد وسيلة عقلية غايتها النهائية الحفاظ على الذات، بتحديد فضاء خاص تتم فيه ممارسة الحرية الفردية، بل تسعى كذلك إلى رسم فضاء معين من الاتفاق والتفاهم هو فضاء المجتمع المدني[27].

لا يصح التعاقد إلا إذا استكمل جملة من الشروط، وبخاصة إذا أوصل الناس إلى بعض العقود والمواثيق التي تنظم العلاقات فيما بينهم، تراعي منفعة الأطراف المشتركة في العقد وتكون ملزمة لهم، غير أن القوة الملزمة في العقد من نوع خاص، إلزام عقلي يكاد يكون أخلاقيا. يعود الإلزام عادة إلى مصدرين: أحدهما إلزام خارجي إزاء الآخر والموضوعات الخارجية، لا يعمر طويلا. والآخر داخلي وإزاء الذات، أبقى وأكثر نفعا. فالإنسان في نظر “هوبز”، كمن يلقي بما لديه في البحر خوفا على سفينته من الغرق، ويفعل ذلك بمحض إرادته رغم أنه يستطيع أن يمتنع عن القيام بذلك، إنه فعل إنسان يتمتع بالحرية. فالالتزام، إذن، عقلي أخلاقي وحر إزاء الذات، إنّه التزام تجاه المجتمع والدولة ورفض للظلم تمليه القوة العاقلة قبل كل شيء. وهو أيضا التزام بإنقاذ سفينة “الدولة” من الغرق، بالعمل على إصلاح عيوبها دون أن تتوقف.

5- الحق في عصيان ومقاومة السلطة المطلقة (التسلط):

من الواضح أن الانتقال من فضاء الصراع إلى فضاء المجتمع المدني “الدولة” ضرورة عقلية يمليها منطق الحفاظ على الذات في إطار المنفعة المتبادلة، وفي إطار الاتفاق والتفاهم والالتزام الحر. خاصة بعد فشل الوسائل الأنانية التي تم اللجوء إليها في زمن “هويز” لأجل الحفاظ على الذات وانتهت إلى أهوال وكوارث. ورغم أن هذا الانتقال يعود كذلك في جزء منه على الأقل، إلى بعض الاستعدادات التي ترتبط بالنسق الانفعالي، ويتعلق الأمر على وجه الخصوص بانفعال الخوف”[28]. فالدولة إذن نتيجة حتمية لفكرة الحفاظ على الذات والمنفعة، وتجنب الخوف من العودة للفوضى. ولا يتأتى ذلك بشكل فردي، إذ العقل ينصح بالبحث عن بدائل جديدة جماعية يشكل الآخر جزءا أساسيا منها.

إن النتيجة الحتمية التي تستفاد من التحليل هي أن نظرية “هوبز” أبعد ما تكون عن الاستبداد، وأن ما يسميه ب “الشخص المدني” وهو شخص يتمتع بإرادة ويستخدم السلطة الطبيعية للجميع لضمان السلم والدفاع المشترك. فالخضوع للقانون المدني أي لإرادة السلطة ذات السيادة المطلقة، يظل خضوعا نسبيا ومشروطا بتحقيق الفضاء التبادلي الذي يضم طرفين إثنين: هما الخضوع والدفاع المشترك”[29].

يميز “هوبز” في كتابه “المواطن” بين نوعين من المقاومة: الأول يتعلق بالحق في المقاومة بوجه عام. والثاني يهم الدفاع المشروع عن الذات. يحاول التوفيق بين الحقوق التي لا يمكن التنازل عنها لدى الفرد، وبين الالتزام بعدم مقاومة السلطة ذات السيادة، الذي ينطوي على تحويل الحق من الذات إلى الدولة”[30]، ويظل واجب عدم المقاومة لدى المواطنين واجبا سلبيا، لأن الالتزام بعدم المقاومة ليس إلزاما بفعل شيء ما. من هنا فإنّه إذا كان عدم المقاومة يعني الامتناع عن وضع القيود والعراقيل في وجه السلطة ذات السيادة، فإن السبب الذي يجعل عدم المقاومة قادرا على تأسيس الإلزام الإيجابي في الفعل، يظل غير واضح. إن عقد الخضوع الذي لا يخول أي حق ملزم بالفعل، يسم قول “هوبز” بنوع من الغموض، إذ يجعل من واجب عدم المقاومة حقا من حقوق صاحب السيادة، ويدعي في الوقت نفسه أنه إلزام إيجابي. ويتضح ذلك من قول هوبز (Hobbes): “أن الشعب (الرعايا) خير من يدرك حاجاته، وعليه فإن من يطلب شيئا يخالف حقوق السلطة المطلقة الجوهرية، يجب الإصغاء إليه بانتباه، لأن الدولة لا تستطيع أن تستمر على الإطلاق دون الحقوق الجوهرية”[31]. غير أن تأكيد “هوبز” المستمر على الحقوق الجوهرية للحاكم راجع للأسباب عينها التي حركت السؤال في نفسه أول مرة، وأقصد الرغبة في وقف الفوضى والحروب الدينية والأهلية. إن الذين يعتقدون أن عدم إطاعة الحاكم المطلق هو أمر أقل خطورة، من إطاعته، سوف يعصون القوانين ويبادرون على الفور إلى قلب حكم الدولة. كما سينشرون الفوضى والحرب الأهلية[32]. ولتفادي الفوضى جرى تأسيس الحكم المدني على أساس التفويض الشعبي، وليس الحكم الديني الذي يعتمد على تفويض إلهي. سيقوم “هوبز” بالقطيعة مع الماضي عبر إزاحة الله تماما من مجتمع مدني يقوم (الأن) على وجود مركز واحد للسيادة السياسية ما يجعل الحرب الأهلية مستحيلة إلى الأبد، ويحمي نوعا جديدا من الفرد المصلح[33].

لقد كان لظهور كتاب “اللفيتان”، حسب “إهرنبرغ”، أهمية بالغة في إدراك ارتباط المجتمع المدني بنظرية الدولة وسلطتها، فالجهد القوي الذي بذله “هوبز” من أجل إظهار “قلب” و”أعصاب” و”مفاصل” الجسم السياسي سينتهي بالضرورة إلى دمج الأعضاء في مصدر مهيمن واحد، إذا أريد للمجتمع أن ينتظم وللسلم المحلي أن يستقر. فمخطط “هوبز” واضح ومعروف كفاية: دور المجتمع المدني في منع الظلم وانعدام الأمن المستشري نتيجة حتمية لرغبة الإنسان الدائمة في حيازة السلطة وحماية نفسه ومصلحته.

يذهب “هوبز” بالتحليل إلى أقصاه مبينا أن السيادة الفعلية لا تستمد شرعيتها من القوة؛ بل من العقد الذي يتلو الانتصار ويؤسس الثقة الدائمة بين طرفي العلاقة السلطوية، فيجعل استعمال القوة ومنع الحرية غير مقبولين. وتصبح الثورة وحق المقاومة بوجه عام أمرا مسموحا به، باعتبار أنّ السجن أو غياب الفضاء الخاص لممارسة الحرية البدنية من جملة الأمور الضرورية التي لا يمكن التخلي عنها مهما كانت الظروف. إن استعمال القوة الذي هو من حقوق السلطة ذات السيادة لا يعني أنها تلجأ إلى هذا الحق في كل لحظة، نظرا لأن الإسراف في استعماله قد يؤدي إلى نوع من العصيان المدني، أو العودة إلى حالة الحرب”[34]. لا يوجد أي باعث يدفع صاحب السيادة إلى التصرف على هذا النحو وإلحاق الضرر برعاياه.

تتجلى حرية المواطنين داخل الفضاء السياسي في الحقوق التي لا يمكن التنازل عنها، فصاحب السيادة ليس له الحق في أن يأمر مواطنه بقتل نفسه بنفسه أو في أن يمتنع عن الغذاء أو التنفس أو أية وظيفة أخرى من الوظائف الحيوية. وإلا فإن المواطن يتمتع بحق العصيان، أو الدفاع المشروع عن الذات”[35]. وعندما نمعن النظر فيها نلاحظ أن قيمة الحياة لا تتحقق إلا في ظل الحرية، أي الاستمرار في الوجود والحركة دون عوائق، وأنها تتعلق بالسياسة وليس اللاهوت، فما يتوصل إليه البشر أنفسهم من عقود والتزامات هو وحده معيار الحكم على الأفعال البشرية من زاوية العدل أو الظلم، مثلما أنّ الثواب والعقاب من مشمولات السلطة السياسية وليس الكنيسة العالمية التي تنزع عن البشر حريتهم.

6- خاتمة:

إن السعي إلى تحقيق السلام، ونبذ العنف والاستبداد والظلم، ليعتبر القاسم المشترك للبشر جميعا، إنه منغرس في طبيعتهم وفي طموحاتهم، فأرسطو يقر أن الخير غاية كل الناس، وأن الغاية من كل علم أو فن هي تحقيق خير ما، وأن أسمى العلوم والفنون هي السياسية، لأن الخير السياسي في نظره لا ينفصل عن العدل والمنفعة العامة، وتحقيق المساواة. وما دامت الحقوق والامتيازات تختلف من شخص إلى آخر، فإن الاعتماد على الأخلاق وحدها لا يكفي لتربية الإنسان على المعاملة الجيدة، فمعظم الناس مشدودون إلى عواطفهم لا إلى عقولهم، وطبيعة الناس العاطفية أميل إلى الخضوع للعنف أكثر منه لقوة البراهين العقلية. وتشكيل الإنسان الجيد ليكون مواطنا جيدا، رهين بوجود مجتمع جيد وقوانين ضابطة، فالإنسان العادل هو الذي يطيع القوانين، والظالم هو الذي لا يخضع لها، وإذا كان من يتبعها عادلا فمن المؤكد أن جميع الأمور القانونية أمور عادلة.

لم يستمر التشديد على طاعة القوانين مع “النظرية التيوقراطية” التي سادت في العصور الوسطى، والتي جعلت مصدر الطاعة دينيا. وقد بلغ الأمر بأصحاب نظرية “الحق الإلهي” إلى تأليه الملك أو الحاكم وتقديسه حتى بعد وفاته، فكما أن الإله واحد فلا بد أن يكون هناك إمبراطور واحد. فاعتبروا تسلط الأمراء عقوبة من الله، وعدوا الأمور التي أقرتها الإرادة السماوية أمورا مقدسة لا يمكن أن تطالها عجرفة بني البشر. ففقدت القوانين البشرية معناها، وخسر الشعب الحق في تغيير القوانين والتشريعات المعمول بها في “الدولة”، والتي ترجع في أصلها للإرادة الإلهية، وعلى الرّغم من أن الملك هو الذي يسنها، فإنها مستمدة في حقيقة الأمر من سلطة إلهية يجسدها الملك، خليفة الله في الأرض.

لكن سرعان ما دب الشقاق والخلاف بين أصحابها، وبينهم وبين السلطة الزمنية، انتهى إلى استحالة قيام دولة مسيحية موحدة، تجتمع فيها سلطتان؛ سلطة دنيوية يرأسها الإمبراطور، وأخرى دينية يرأسها البابا. فنشبت الحروب الدينية الطاحنة التي ستمهد طريق الانعتاق من سلطة الكنيسة ومن الطاعة العمياء، والعودة إلى طاعة القوانين البشرية الناتجة عن التعاقد. حيث ذهب كل مفكري الحداثة وفلاسفتها، وعلى رأسهم “هوبز” إلى جعل الإرادة، إرادة البشر وليس إرادة الله، مصدر السلطة والحق، وتكريس الطابع السياسي للدولة والحق. وصار ممكنا الحديث عن دولة القوانين، الدولة المدنية الديمقراطية، التي تكفل للجميع الحق في الحرية، بما فيها الحرية الدينية، وفي رفض القوانين الظالمة رفضا مدنيا يحترم التعاقد ويصححه.

فالمقال ليس دعوة لتبني تصور هوبز بالحرف، وإنما محاولة لإنصاف هذا الرجل واستقراء بعض مقومات فلسفته السياسية _ على خلاف ما هو متداول حول فلسفته السياسية_ التي تمكن من إرساء دعائم الدولة في أفق تطويرها عبر تبني تصورات أكثر قربا من التصورات الديمقراطية المعاصرة.


المصادر والمراجع:

المصادر:

  1. هوبز (توماس):”اللفيتان”، ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب، مراجعة وتقديم رضوان السيد. الطبعة الأولى-أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة، ودار الفارابي، 2011.

المراجع العربية:

  1. إهرنبرغ (جون):(Ehrenberg. John)، “المجتمع المدني، التاريخ النقدي للفكرة”، ط 1، ترجمة علي حاكم صالح، حسن ناظم، المنظمة العربية للترجمة، بيروت،2008.
  2. سباين (جورج): “تطور الفكر السياسي”، ج 3، ترجمه حسن جلال العروسي، راجعه وقدم له محمد فتح الله الخطيب، الهيئة العامة المصرية للكتاب.
  3. صالح (مصباح): “فلسفة الحداثة الليبرالية الكلاسيكية من هوبز إلى كانط”، ط 1، جداول للنشر والتوزيع، لبنان.
  4. عبد الحق(منصف): “الأخلاق والسياسة، كانط في مواجهة الحداثة بين الشرعية الأخلاقية والشرعية السياسية، إفريقيا الشرق، المغرب، 2001 .
  5. العروي (عبد الله):”مفهوم الدولة”، ط1، المركز العربي الثقافي العربي، الدار البيضاء-بيروت، 1981.
  6. محمد (علي عبد المعطي): “الفكر السياسي الغربي”، دار المعرفة الجامعية للطباعة والنشر، 2000.
  7. مكيافيلي (نيقولا) “الأمير”، ترجمة، أكرم مومن، مكتبة ابن سينا، القاهرة.
  8. ولد عبد المالك (البكاي): “العقل والحرية في فلسفة هوبز السياسية”، ط1، جداول للنشر والتوزيع، لبنان، 2013.

المراجع الأعجمية:

  1. Hobbes )Thomas(: du citoyen – traduction modernisée par : Samuel sobiére; librairie générale Française 1996- paris
  2. Hobbes (Thomas): Leviathan, prepared for the McMaster University Archive of the History of Economic Thought, by Rod Hay.

[1]– عبد الله العروي، مفهوم الدولة، ط1، المركز العربي الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت، 1981، ص29.

[2]– ملاحظة: لقد اعتمدت ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب لكتاب اللفيتان، مراجعة وتقديم رضوان السيد. الطبعة الأولى-أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة، ودار الفارابي، 2011.

[3]– طوماس هوبز، اللفيتان، ص17.

– Thomas. Hobbes, Leviathan, Prepared for the McMaster University Archive of the History of Economic Thought, by Rod Hay. Introduction, p 7.

– Leviathan or the Matter, Forme, & Power of a Common-wealth Ecclesiastical and Civil. Printed for Andrew Crooke, at the Green Dragon in St. Paul’s Church-yard 1651. London.

[4]– طوماس هوبز، اللفيتان، مرجع سابق، ص 17.

[5] المرجع نفسه، ص 18.

[6]نيقولا مكيافيلي، الأمير، ترجمة، أكرم مومن، مكتبة ابن سينا، القاهرة، ص89.

[7]– طوماس هوبز، اللفيتان، مصدر سابق، ص 233.

[8]– المصدر نفسه، ص142.

[9] هذا الأمر يشبه في كثير من تفاصيله ما يقع في عالمنا العربي الإسلامي (الصراع بين السنة والشيعة، ما يسمى بالربيع العربي، داعش…) وكأننا نعيش في ذات العالم الذي توجه إليه هوبز بنظريته. عالم ما تزال فيه إشكالية السلطة والمجتمع قائمة وبحاجة إلى التبرير، عالم لم تزل فيه السلطة الدينية تطرح إشكالية جدية.

[10]– طوماس هوبز، اللفيتان، مصدر سابق، ص 225.

[11]– المصدر سابق، ص 226.

[12]– منصف ع الحق، الأخلاق والسياسة، كانط في مواجهة الحداثة بين الشرعية الأخلاقية والشرعية السياسية، إفريقيا الشرق، 2001، المغرب، ص 270.

[13]– المرجع نفسه، ص 272.

[14]– جورج سباين، تطور الفكر السياسي، ج 3، ترجمه حسن جلال العروسي، راجعه وقدم له محمد فتح الله الخطيب، الهيئة العامة المصرية للكتاب. ص 197.

[15]– Thomas. Hobbes : du citoyen – traduction modernisée par : Samuel sobiére – librairie générale Française 1996- paris p : 1116- paragraphe : 8.

– عن عبد الحق منصف، الأخلاق والسياسية، مرجع سابق، ص270.

[16]– المرجع نفسه، ص269.

[17]– مصباح صالح، فلسفة الحداثة الليبرالية الكلاسيكية من هوبز إلى كانط، ط 1، جداول للنشر والتوزيع، بيروت، 2011، ص57.

[18]– طوماس هوبز، اللفيتان، مصدر سابق، ص 227.

[19]– جورج سباين، مصدر سابق، ج3، ص201.

[20]– علي عبد المعطي محمد، الفكر السياسي الغربي، دار المعرفة الجامعية للطباعة والنشر، 2000 ص 229.

[21]– المرجع نفسه، ص 238.

[22]– يمكن أن نقارن ما سماه العروي “طوبي دولة الخلافة” بفكرة الكنيسة العالمية التي عمل هوبز على القضاء عليها. وندرك أننا نعيش نفسه الظروف السياسية التي توجه إليها بالنقد وبشهادة جميع من شرح نظريته، سواء وافقوه الرأي أو لم يوافقوا، ويعطينا الحق في استلهامها للخروج من الانتكاسة السياسية التي يحملها مد الإسلام السياسي _الرجعي في أغلب الأحيان_ الذي لا يقبل الاختلاف ويضعنا أمام سلطة “سياسية” فوضها الله، ولا يمكن أن يحاسبها إلا هو.

[23]– علي عبد المعطي، مرجع سابق، ص 208.

[24]– المرجع نفسه، ص 206.

[25]-Thomas. Hobbes: du citoyen. Op. cit. p65-66. Paragraphe.10.

– عن عبد الحق منصف، الأخلاق والسياسية، مرجع سابق، ص264

[26]– Thomas، Hobbes، Du citoyen. Op. cit. P. 59. Paragraphe: 2.

– عن عبد الحق منصف، الأخلاق والسياسية، مرجع سابق، هامش ص 262.

[27]– البكاي ولد عبد المالك، العقل والحرية في فلسفة هوبز السياسية، ط1، جداول للنشر والتوزيع، لبنان، 2013، ص 237.

[28]– المرجع نفسه، ص 263.

[29]– المرجع نفسه، ص 324.

[30]– المرجع نفسه، ص 279.

[31]– طوماس هوبز، اللفيتان، مصدر سابق، ص 346.

[32]– المصدر نفسه، ص 520.

[33]– جون إهرنبرغ (Ehrenberg. John)، المجتمع المدني، التاريخ النقدي للفكرة، ط 1، ترجمة علي حاكم صالح، حسن ناظم، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008، ص 149.

[34]– البكاي ولد عبد المالك، العقل والحرية في فلسفة هوبز السياسية، مرجع سابق، ص 294.

[35]– المرجع نفسه، ص317.

مقالات أخرى

ملامح السّرد المقاوم

التّعليم عن بعد

إشكاليّة العدالة والدّيمقراطية

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد