الإعاقات الأبستيمية في العقل العربي المعاصر

Tabú

 دراسة تحليلية نقدية لطبيعة التابوهات الفاعلة في الواقع العربي

لعل أهم ما يُظهر حقيقةَ مجتمعٍ ما ، ليس ما يؤمن به ويمارسه ويقوم بفعله ..بل ما يمنعه ويخفيه ويحرمِّه..فالتابو[1]  ليس مجردَ مجموعة من المحرمات .. إنه انعكاسٌ بنيوي للمجتمع بأسره، يلعب على المستوى الوظيفي دورَ الضامن لاستمرارية وراهنية الحالة الاجتماعية بما فيها من سلبيات وإيجابيات على السواء، ومن هذا المنظور لا بد في دراسة تطور المجتمعات البشرية ..من دراسة التابوهات الفاعلة فيها، لتبيان ميكنزمات الضبط المتحكمة بوقع حركيتها عبر التاريخ  ..

وبتحليل أوليّ لأشكال التابوهات في المجتمعات يمكن استقصاء عامل موحد بينها، فما يجمع بين التابو الطقسي والاجتماعي والسياسي ..  هو منعُ التفكير بطريقة مخالفة لِما هو متواطَأ عليه اجتماعياً، تكريساً لاستمرارية حالة اجتماعية سياسية دينية ما. فالمنع السلوكي يرافقه ويسبقه منعٌ في التفكير، وكل فكرة، تجد طريقها عبر العقل الجمعي، تفرز ممنوعاتٍ ومحرمات، هي بمثابة ميكانزمات ضابطة وضامنة لاستمرارية الفكرة ذاتها اجتماعياً، وتقوم في الوقت ذاته بوظيفة معرفية، إنها لا تقف عند كونها السلب اللاحق على كل تحديد.. كما ذهب هيغل ، بل إنها السلبُ الذي يعرِّف التحديدَ ذاته ويؤكده، ويقدم التبريرات النظرية لاستمرارية تموضعه اجتماعياً، ومن هنا، فإن تغييرَ أي أيديولوجية أو حالة اجتماعية ما يبدأ أولاً من خلال تغيُّر التابوهات المنبثقة عنها..إنها أي ـ التابوهات ـ كلمة السر المسكوت عنها والمتواطأ عليها ..ما إن تُفَك رموزها حتى تبدأ صيرورة التغيُّر بالنفاذ في بنيات الوعي أولاً، ومن ثَم في سلوكيات أفراد المجتمع ثانياً، لتبدأ فكرةٌ أخرى جديدة بالحلول في الوعي الجمعي ذاته، وما تلبث هذه الفكرة الجديدة أن تفرزَ ميكانزمات المنع والتحريم[2]، ومن هنا، فإن تغييرَ أي بنية يبدأ أولاً من تغيير ما تسلبه وتنفيه، فكسرُ تابو مجتمع من المجتمعات واختراقه هو الأساسُ الجذري لأي تغيير في هذا المجتمع.

لذلك عانى كبارُ المبدعين لكونهم أسهموا في تكوين وعي ومعرفة جديدة عملت على إزاحة و كسر واختراق محرمات مجتمعاتهم التي عاشوا فيها. لقد تمردوا على ما هو متواطأ عليه وتكلموا بما هو مسكوت عنه وأباحوا ما هو ممنوع ومحرَّم.  وما تجرُّع السم سقراطياً وصلب المسيح ومحرقة كوبرنيكوس إلا أمثلةٌ قليلة على سطوة التابو في التاريخ .

وفي مجتمعاتٍ مضطربة، كالمجتمعات العربية المعاصرة، هنالك تابو مثلث الأقانيم عمل على إغلاقية البنية الاجتماعية تاريخياً، ومن ثمّ، تعذّرَت أي محاولة للإصلاح والتغيير..لأن تلك المحاولات وقفت دون اقتحام المحرم ، ومن ثَم بقيت تلك المجتمعات في حالة رثّة تتقاذفها الدكتاتورية السياسية والتعصب والانغلاق والجهل الديني والمذهبي وسيطرة عاداتٍ تحجم دورَ الإنسان الفرد وحريته. كلُّ ذلك في ظل تغيب التفكير العقلاني والنقدي على المستويات كافةً، المؤسساتية والاجتماعية والدينية، لتسودَ حالةٌ فريدة من تواطؤ الدين والاستبداد والتجهيل والإفقار المادي والروحي للأفراد والمجتمع.

إذ تسيطر، والحال كذلك، على المجتمعات العربية المعاصرة مجموعةٌ من المحرمات، تشكل تاريخياً أكثرَ التابوهات سطوة ونفاذاً، عملت على استمرارية الانغلاق  البنيوي للواقع العربي  وتعذر أي محاولة للانفتاح على منجزات العصر الراهن، وتعرّف بالوقت ذاته عن المشكلات المركزية  في المجتمعات العربية.. التي يستحيل على تلك المجتمعات أن تتقدم وتتحرر من أغلال تخلفها الراهن إلا بحلها، ومن ثَم وضع محرماتها على محك التفكير والنقد وإحداث ثغرة في منظومتها المعرفية والقيمية تتمثل بالتفكير بما هو لا مفكَّر فيه واختراق بنيوي لتابوهات المنع والتحريم بإحداث نقلة نوعية في طبيعة المحرمات وذلك بإعمال العقل فيها، عبر دراسات تحليلية نقدية للمشكلات التي تكرسها، من أجل خلق الفضاء الفكري النظري لآفاق الحلول المقترحة، حتى يتم تجذيرها في الوعي الجمعي كقيم بديلة فاعلة وخلاَّقة  تشكل على المستوى الوظيفي الرافعةَ القيمية لراهنية الانحطاط المزمن المحدق بواقعنا العربي .

فالتابو العربي يرتكز على ثلاث محرمات تعكس ثلاثَ مشكلات بنيوية في الوعي الجمعي للإنسان العربي، هذه المحرمات في مجالات الدين والسياسة والجنس، والتي تعكسُ المشكلةَ السياسية المتمثلة في الاستبداد، والمشكلة الدينية المتمثلة بالتعصب والانغلاق والجهل في صفوف المؤمنين، والانحراف وتغيب العقل في التعامل مع نصوص التراث الديني، والمشكلة الجنسية التي تحجم قدراتِ الأفراد وتحرفها وتقوض الفعاليةَ الخلاقة لأفراد المجتمع، وذلك بكبت طاقاتِ الفرد، ومن ثم، تشويهها وإلغائها، ولا يغيب  (عنا) مقدار المخاطرة من خلال المساس بهذا التابو “المثلث الأقانيم”[3]، وما يتهم به كل من يتناولهم بقلم النقد والتفكير، فالكفر والخيانة وانحلال الأخلاق  هي القيم السلبية الكبرى التي أفرزتها تلك التابوهات، وهي ذاتها ما يتهم بها كل من حاول المساسَ بتلك المحرمات.    

ولنا أن نقدم دراسةً نقدية تحليلية لواقع المجتمعات العربية من خلال دراسة محرماتها والمشكلات المنبثقة عنها:

أولاً : المشكلة الدينية:[4]

تتجذر المشكلة الدينية في ثلاث تابوهات تمّثل إعاقات أبستيمية عملت على كبح حركية الواقع الاجتماعي، وتعطيل الديناميات الفاعلة فيه، هذه التابوهات هي ذاتها القيم السلبية النقيضية للقيم التي قامت عليها حركة الإصلاح الديني[5]، حددت موقف المؤمنين من – التراث/النص/ – والواقع المتغير/المصلحة العامة للأفراد/ – وحرية الاعتقاد فتبلورت في التراث الفقهي الثقيل عبر طبقات متراكمة من التفسيرات والتأويلات  والاجتهادات  ثلاث ثنائيات:

– ” حرية الاعتقاد والتكفير”

ـ “العقل و النقل /النص/”

– “الواقع المتغير والنص “

ثمة ترابط صميمي بين تلك المواقف والثنائيات المنبثقة عنها ، إذ أن العقل يدخل في علاقة نقيضية مع النص من الوجهة النظرية وبذات العلاقة مع الواقع المتغير من الوجهة العملية والواقعية، وبذلك يمكن إرجاع  تلك المواقف والثنائيات  الى موقفين:

ـ ” حرية الاعتقاد ، التكفير”

-” النص، العقل، الواقع المتغير “

وسأعمد فيما يأتي على تبيان الأسس الجذرية للانزياحات الأبستيمية التي تشّكلت في بنية الوعي الجمعي للمؤمنين والتردّي المتمثل في الشروط المعرفية  للانتماء الإيديولوجي التي رافقت تكوُّن الإيديولوجيات عموماً، والإيديولوجية الميتافيزيقية الدينية خصوصاً، والتي كرّست الانغلاق الاعتقادي والأرثوذكسية المذهبية الضيقة وعملت على تردّي الحالة الاجتماعية وإغلاقيتها وتعذُّر التغيير فيها.

أ-” حرية الاعتقاد ، التكفير “

ترتبط جدلية حرية التفكير والتكفير صميمياً بالانزياح الحاصل في مفهوم  الإيمان باعتباره حالة معاشة على المستوى الذاتي للأفراد المؤمنين  إلى بعده الأيديولوجي الجمعي.إذ تتأسس الظاهرةُ الدينية عموماً انطلاقاً من تساؤل فلسفي رافق الوعي الإنساني منذ نشأته، إنه التساؤل عن غائية الوجود وغائية الموت.. غائية الذات الإنسانية المتفرّدة، فما برح ذاك الوعي الحائر من إسقاط غائية ما على وجوده وفنائه[6] في رحلته الزمانية القصيرة والقسرية ، ولسنا بصدد دراسة المشروعية العقلية لهذا التساؤل من عدمها،إذ سأقتصر كما أسلفت على تبيان التردي الأبستيمي الذي تشّكل في بنية الوعي الجمعي للمؤمنين والمتمثل في الشروط الأولى للانتماء الإيديولوجي و التي رافقت تكوُّن الإيديولوجية الميتافيزيقية الدينية على وجه الخصوص.

لقد تكون الوعي الميتافيزقي الديني كوعي فردي[7] انطلاقاً من الأسئلة الفلسفية الكبرى التي طرحتها العقول الفذّة  في المجتمعات البدائية، ولكن ما تلبث هذه الأسئلة أن تستثيرَ في الوعي  أجوبةً تستمد مشروعيتها العقلية من مدى القبول الاجتماعي لها، وهذه اللحظة الأولى في انتقال الوعي الديني من كونه نتاجَ معاناة فردية ـ حالة معاشة على مستوى الوعي الذاتي ـ إلى وضعيته الإيديولوجية ذات الصبغة الجمعية، إذ يمثل ذاك الانتقال التردي الأولاني، القائم على مقولة السلب اللاحق لأي تحديد، فالقبولُ الاجتماعي يفرض بطبيعته موقفاً نقيضياً من الآخر المختلف، إذ يتدّرج الموقف الإيديولوجي الجمعي من فكرة ما مخالفة في مستويات من السلب تبدأ معرفيةً وتنتهي أنطلوجية وجودية، فالمستوى الأول للسلب هو الإقرار الجمعي بيقينية وصحة المعتقدات، هذا الإقرار يُؤسس لأخطر موقف بلورته البشرية في مسيرتها المعرفية، إذ قدَّم لاحقاً المبرراتِ النظرية والفكرية والمعيارية لكل أشكال الإلغاء والحروب المدمرة، إذ إن الإقرار بصحة ويقينية أفكار بعينها سيفرز موقفاً معرفياً [8] يؤكد أن هذه المعرفة هي الوجه الوحيد للحقيقة، بمعنى عدم المشروعية العقلية لأي فكرة أخرى مخالفة، ومن ثم يتأسس عليه سلبُ أكثر تطرّفاً هو الأساس الجذري للتابوهات الفاعلة في التاريخ، هذا السلب يمتلك صيغتين تتأسسان على الموقف من الذات والآخر، الأولى تمنع وتحرم على أبناء الانتماء الواحد الخروجَ عن ما هو متواطأ عليه، والثانية تمنع على الآخر المختلف حقه في تبني واعتناق رأي ومعرفة مخالفة، ليبدأ سلبٌ ثالث  يؤسس لتردي نهائي وأخير يتمثل في الإلغاء الوجودي للآخر المختلف، وهذا الإلغاء أيضاً يمتلك الصيغتين ذاتهما، القائمتين على الموقف من الأنا والآخر، الأولى تشرّع قتلَ المرتد والثانية تشرّع قتلَ الكافر[9].

وفق التنظير السابق تبدو الإعاقةُ الأولى في تطور المجتمعات التي كرسها الوعي الميتافيزيقي والديني هي الانتقال من كونه إيماناً فردياً إلى كونه إيديولوجيةً اجتماعية، هذا الانتقال هو التردّي الأبستيمي الذي أسس لكل أشكال الإلغاء الدينية وما نشأ عنها من حروب سفكت الكثير من الدماء على مرّ التاريخ.

وفق هذا المنظور يبدو الحل الذي طرحته الحضارة في عهدها الحداثي الجديد، حلاً جذرياً أصيلاً للمسألة الدينية عموماً المتمثل في نقل المجال الديني من مستواه الإيديولوجي الجمعي بصيغته الكنسية  القروسطية[10] إلى المستوى الإيمان الفردي كحق مشروع من الوجهة الحقوقية والعقلية، على أن يحدَّد بمنظومة قيمية تتأسس على الحرية الفردية التي تعلن أن الإنسانَ الفرد قيمةٌ قصوى في المجتمع، إذ عملت والحال كذلك، قيمةَ تقديس الإنسان في حياته وعقله وحريته ومعتقده ومصلحته كرافعة قيمية للمجتمع الغربي الحديث.

ب ـ ” النص، العقل، الواقع المتغير ” [11]

ترتبط جدلية النص والعقل والواقع  بالانزياح الحاصل في مدلول المقدّس[12] هذا الانزياح يتجسد في موقف العقل من النص على المستوى النظري وتطبيقات النص  العملية على مستوى علاقة العقل بالواقع المتغير.

إذ ارتبط انتقال الوعي الإيماني الذاتي  إلى البعد الإيديولوجي الجمعي[13]

بإلغاء الآخر على مستوى علاقة جماعة المؤمنين بالآخر، وفي علاقتهم بعقيدتهم تكرّس الانغلاق الإيديولوجي وتغييب العقل وذلك في سبيل حماية الدين ومنع الانحراف ودخول ما هو جديد ومخالف لعقيدة الملة على اعتبار أن كل ما هو يخص العقيدة والشريعة والنص الديني مقدّس وبالتالي متعالي عن أمرين أساسيين متعالي عن الخطأ  على المستوى النظري ، ومتعالي على التغيّر على المستوى الواقعي والمعاش، ويتبدى الانزياح في دلالة المقدس من خلال العلاقة التي يقيمها المؤمن به..إذ ثمة نمطان من العلاقة يقيمها المؤمنون مع مقدساتهم، النمط الأول :

 ـ التقديس الايجابي : وهو نمط الإيمان الذاتي[14] ففي حال الايمان الذاتي يدأب المؤمن على تمثّل النص المقدس والتماهي مع معانيه المنزّهة عن كل سوء وعن أي نقيصة  ، فيغدو التقديس من خلال أفعال المؤمن الخيرة المنزهة عن الشر والخطأ، فالتقديس بهذا المعنى  هو التفعيل الدائم في الواقع المعاش من قبل المؤمنين  لخيرية المعاني وصحتها التي تنطوي عليها  النصوص المقدسة، فهو والحال كذلك يستمد أي المقدس قيمته  من الواقع ، فبقدر مايكون تعامل المؤمن  تعاملا أخلاقياً نزيهاً ومتعقلاً، يثبت المؤمن في تعامله ذاك أنه يؤمن بكتاب مقدس و منزه عن الخطأ والشر.

أما النمط الثاني:

ـ التقديس السلبي: هو هو نمط  الإيمان عن تقليد للجماعة التي ينشأ بها  الإنسان [15]والذي ينظر للمقدسات على أنها صحيحة متعالية عن الخطأ  فيحرم التفكير فيها على المستوى النظري، وثابتة  متعالية عن التغيّر فيجعلها صالحة لكل زمان ومكان على المستوى العملي، فيغدو المقدس والحال كذلك  منافياً للعقل متعالي عن الواقع ومخالف له.    

ثانياً: المشكلة السياسية:

تخضع المجتمعات العربية في غالبيتها لأنظمة استبدادية متسلّطة عملت على إفراغ الحياة السياسية من مضمونها وتحييد دور الأحزاب والنقابات إن وجدت، ومنعت إسهام أفراد المجتمع من ممارسة حقهم في العمل السياسي وفي المجال العام باستثناء من يخدم مصلحة تلك الأنظمة ويكرّس حكمها  وتسلطها، كما عملت تلك الأنظمة على نهب ثروات البلاد العربية وإفقار متعمد للمواطنين لإشغالهم في تحصيل قوت يومهم، وارتبط وجود هذه الأنظمة بتحقيق مصالح دول أجنبية معادية لمصلحة الشعوب العربية في التحرر من الاستبداد وقيام نهضة حقيقية في البلاد العربية بقيام أنظمة ديمقراطية تمثل مصلحة شعوبها، كما عملت هذه الأنظمة على إعاقة المؤسسات التعليمية والأكاديمية من القيام بدورها التعليمي والتنويري    فكرست الجهل بين فئات واسعة من المجتمع من خلال وسائل تعليم بدائية وصورية  وعززت الأميّة الثقافية بين الخريجين والأكاديميين، وعمدت إلى توظيف كل وسائل الإعلام في تشويه الوعي المجتمعي وذلك لتكريس سطوتها واستمرارية حكمها، ومنعت الانتخابات الحرة الممثلة لإرادة المجتمع، وأقامت حكومات بمهمات ومناصب شكلية تعمل على تسيير شؤون البلاد بحالة من الفساد والإفساد بما يخدم مصلحة الرئيس أو الملك والمقربين منه وذلك لضمان استمرارية نهب خيرات وثروات البلاد وإفقار الأكثرية مما أدى إلى تغييب وجود طبقة وسطى قادرة على حمل مشروع اصلاحي وطني ينهض بواقع المجتمعات العربية ، كما وضبطت كل مرافق الدولة بأجهزة مخابراتية قمعية مارست إرهاب الدولة على مواطنيها وأشاعت الفساد الاداري والمالي في كل مؤسسات الدولة، ووظفت قدرات جيوشها القتالية على محدوديتها لحماية النظام القائم وذلك بربطه بالمنظومة الأمنية وبتحالفات إقليمية ودولية ،  كما وظفت الدين الرسمي لتثبيت عرش الدكتاتورية ونشر فهم سطحي للدين عزز التعصب والطائفية بين فئات المجتمع، كما وانتشرت فئات من المتسلقين التي تمجد المستبدين لتنال منهم المكتسبات والامتيازات غير المشروعة على حساب تهميش أغلبية أفراد المجتمع وحرمانهم من حقوقهم الأساسية في الانتخاب والتمثيل والإدارة.   

هذه السياسات التي مارستها تلك الأنظمة أفقدت أفراد المجتمع شعورهم بالمواطنة وقزّمت قدراتهم وشوهتها، وأوجدت في الوعي الجمعي تابو سياسي أعاق أفراد المجتمع من ممارسة حق التفكير النقدي فيما يخص الواقع السياسي وإدارة أمور حياتهم بما يعكس مصلحتهم وتطلعاتهم وتمثلت تلك الإعاقة بالجهل السياسي المطبق في الحقوق الأساسية للأفراد وحالة الرهاب المستشرية بين أفراد المجتمع من تناول أي قضية سياسية بالنقد لما تستجلب لصاحبها من ويلات السجن التعسفي والمترافقة بتهم التخوين أو النيل من هيبة الدولة أو التعامل مع أعداء الوطن والتي تؤدي في كثير من الأحيان إلى فقدان المرء لحياته وفي أحسن الأحوال السجن في ظروف مذرية لسنوات طويلة.

ثالثاً: المشكلة الجنسية:

تعتمل في المجتمعات العربية بالإضافة إلى مشكلتي الدين والسياسة ثمة مشكلة ذات طابع اجتماعي هي المشكلة الجنسية[16] تفاقمت مؤخراً في المائة العام الأخيرة بعد التغيرات الحضارية المتسارعة التي رافقت النهضة الأوربية وتحول تلك المجتمعات لنمط الإنتاج الصناعي بشكل هائل مما أدى إلى ارتفاع مستوى المعيشة وتغير كبير في متطلبات الحياة وضرورة عمل كل من الرجل والمرأة لساعات طويلة ، فانعكس ذلك إلى تأخر سن الزواج واستحالة تكوين أسرة في سن النضج الجنسي لكلا الجنسين،  مما أدى لتغيير في منظومة القيم المتعلقة بالعلاقة بين الجنسين، إذ أوجدت  المجتمعات الغربية أنماط جديدة مشروعة اجتماعياً وقيمياً وحتى كنسياً[17] فاستطاعت تجاوز المشكلة الجنسية التي نجمت عن التعقيدات المرتبطة بتكوين الأسر[18] ، وفيما يخص مجتمعاتنا رغم أن البلدان العربية عموماً لم تشهد نهضة صناعية كتلك التي حدثت في أوربا منذ مئات السنين إلا أنها ونتيجة الطفرة النفطية والثروات الخام التي تمتلكها معظم البلدان العربية عمدت الى الاستيراد مما أدى إلى رفع مستوى المعيشة وازدياد في المتطلبات الأساسية للحياة، وهذا دفع بدوره إلى التأخر في سن الزواج وذلك لصعوبة تأمين متطلبات الزواج المترتبة على الشباب، فتفاقمت المشكلة الجنسية المتمثلة بمنع أي علاقة الجنسية إلا في ظل العلاقة الزوجية ومؤسسة الأسرة، ودخل الشباب في معتركات مشكلة بددت قدراتهم النفسية والعقلية والروحية ، وتشكّل تابو اجتماعي لا تقل سطوته عن التابوهات الأخرى السالفة الذكر، عمل على منع التفكير بإيجاد حلول لتلك الصعوبات الناشئة من الكبت، فتشوهت إدراكات الجيل الشاب وانحرفت أهدافهم الحياتية وأصبح جلّ هدفهم الوصول لبيت الزوجية، وذلك في ظل جمود وتحجر على مستوى القيم الراسخة في المجتمع وانعدام القدرة على التجديد فيها بدون إحداث قطيعة مع تراث ثقيل متخم بمفاهيم من قبيل العيب والشرف والحرام، وفق هذا المنظور ثمة مسؤولية كبرى على مفكرينا ورجال الدين وفقهائه ومؤسسات المجتمع المدني الاجتماعية والتربوية والفكرية والإعلامية برعاية وإشراف الإدارة السياسية في العمل على إيجاد منظومة قيمية منسجمة مع تراثنا وأخلاقنا ومنفتحة مع معطيات ومتطلبات العصر الراهن تعمل على تذليل الصعوبات النظرية والقيمية والاجتماعية لحل المشكلة الجنسية في المجتمع.

……………………………………………………………..  

[1] التابو: كلمة بولينيزية تطلق على المحظور أو المحرم  في نظر المجتمع .

[2] ترتبط تابوهات المنع والتحريم بنيوياً بالإيديولوجية المنبثقة عنها, فبقدر ما تحقق إيديولوجيةٌ ما معاييرَ العصرنة والعقلانية والحداثة تكون التابوهات المنبثقة عنها خاضعةً لتلك المعاير ومعبرة عنها.

[3] اسمي التابو الثلاثي / الدين ، السياسة ، الجنس/ بالتابو العربي

[4] أحيل القارئ لمقالة بحثية نشرت في موقع الآوان بعنوان “العلمانية والدين في القول الفلسفي”

[5] إذ قامت حركة الاصلاح الديني على ثلاث محددات موضوعية ذات بعد معياري تتمثل في :

ـ العقل  /العقلانية/

ـ مصلحة الإنسان بما هو إنسان / مصلحة الإنسانية/

ـ حرية الاعتقاد /الحرية الفردية/

[6] يُعد الموت الظاهرة الفيزيقية التي شكلت الصدمة الأولانية التي أحالت الوعيَ الانساني إلى الدين والميتافيزيقيا عموماً، إذ تنطلق الفلسفات الميتافيزيقية  من مشروعية عقلية في التساؤل الفلسفي عن الغائية  المنبثقة من التساؤل عن ظاهرتي الوجود والموت التي فرضت على الوجود البشري.

[7] إن مؤسسي الأديان هم أفراد سواء اعتبِرو أنبياء مرسلين, كما هي حال القائلين بفكرة الأديان السماوية، أو مفكرين أو فلاسفة أو مصلحين كما تقرر الدراسات التاريخية والأنثربولوجية والسوسيولوجية. 

[8] نظّرله هيغل وأسس له فلسفياً بقوله “كل تحديد سلب”

[9] يحضر الإلغاء الوجودي للآخر المختلف في كل المستويات الإيديولوجية دينية وسياسية واجتماعية، فتختلف المنظومات القيمية باختلافها بطبيعة محرماتها “كالمرتد والكافر ” دينياً ، “والخائن والعدو” سياسياً، في حين كانت الانتماءات الاجتماعية في كثير من الأحيان أقل وطأة وأقل سطوة في تحديداتها القيمية بعلاقتها مع الخارجين عن الأعراف المجتمعية وعاداتهم.

[10] حيث كانت السلطة السياسية مستمدةً من السلطة الدينية الكنسية في إطارها العام في ظل علاقة البابا بملوك وأمراء يستمدون سلطتهم الدنيوية من السلطة الباباوية.

[11] كُتِبَت  مئات الكتب فيما يخص العلاقة بين العقل والنقل وصلاحية النصوص في كل زمان ومكان، وأجد من العقم تناول تلك العلاقة  بنفس المنهجية ونفس الأدوات. 

[12] يعود معنى مفهوم المقدس الى المنزه عن النقائص والسوء.

[13] ان حتمية الانتقال من الوعي الديني الفردي الى وعي ديني جمعي ينبثق من مبدأ فلسفي يستند في التحليل الأخير على الفرضية التماثلية الضامنة لإمكانية التواصل بين أفراد البشر على اعتبار الوعي الذاتي هو وعي إنساني يستمد مشروعيته الانسانية من مدى قبول الآخر لتحقيق النقلة من الأنا إلى الآخر.

[14] اميل لتسمية الايمان الصوفي بالإيمان الذاتي الذي يقوم على التماهي بالمعاني المقدسة للإله وللكتاب المقدس من أجل الوصول لرضاه، فيكون الله هو غاية المؤمن وليس الثواب او تجنب العقاب .

[15] وهو ايمان اصحاب المذاهب والمدارس الفقهية، وهو ايمان قائم على الخضوع لأوامر ونواهي بغية الحصول على ثواب النعيم واجتناب عقاب الجحيم.

[16] تعرف المشكلة الجنسية  في المجتمعات العربية على أنها عدم القدرة على اشباع الحاجات الجنسية لفترة طويل بسبب تأخر سن الزواج نتيجة صعوبات تكوين الأسرة ، في ظل وجود منظومة قيمية تقرر أن الزواج هو العلاقة الوحيدة المشروعة في إشباع الدافع الجنسي.

 [17]اذ اضطرت الكنيسة بقبول التغيرات الاجتماعية والانفتاح على القيم التي افرزتها النهضة الصناعية فاعترفت بمشروعية العلاقة الجنسية خارج مؤسسة الاسرة

[18] إن الحلول التي أوجدتها المجتمعات الغربية خصوصاً تنسجم مع ثقافتهم ، ولابد أن تكون الحلول في المجتمعات العربية متسقة مع ثقافتهم وخصوصيتهم الثقافية والدينية .

مقالات أخرى

الحرّيّة في الحقليْن الثّقافيّيْن العربي والغربي عند عبد الله العروي

في لاهوت الأخلاق

دوائرُ اللّامعقول

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد