حفريات سوسيولوجيَة في الأمية الأكاديمية العربية

الأمية الأكاديمية

1- المقدَمة:

لا شكّ أن علم الاجتماع من العلوم الإنسانية الأكثر قدرة على إنتاج المقاربات النظرية وتطوير المفاهيم العلمية، فهو ينطلق دائما من زاوية نقدية وأخلاقية إنسانية في دراسة الظواهر الاجتماعية وتعرية مختلف زواياها وأبعادها الخفية. إن المنطلق المنهجي للمقاربة السوسيولوجية في دراسة أية ظاهرة مثلما بيّن “آلان توران”، ليس ما هو ماثل أمام أعيننا، بل ما هو مخفي باستمرار.

ضمن هذه القاعدة السوسيولوجية العامة، يتنزل كتاب: الأمية الأكاديمية في الفضاء الجامعي العربي: مكاشفات نقدية في الجوانب الخفية للحياة الجامعية[1] للمفكر السوري والباحث المتميز المختص في علم اجتماع التربية والتعليم الأستاذ الدّكتور علي أسعد وطفة الذي يعد من أبرز أعلام الفكر، ومن الباحثين العرب المتميّزين، لا في مستوى نوعيّة كتاباتهم النّقدية فحسب، بل كذلك في مستوى غزارة منتوجهم العلمي في حقل علم الاجتماع عامة ،وفي علم الاجتماع التربية والتعليم خاصة.

يعتبر هذا الكتاب تتويجا لمئات الأعمال والأبحاث السابقة للكاتب، فهو نص أو “درس” في أسلوب التفكير أولا، وفي إحدى السجالات “الخفية” الملتهبة التي تعيشها جامعاتنا العربية، مثلما تعيش أمتنا العربية حالة غليان في مختلف مستوياتها وحقولها المجتمعية الأخرى. فأزمة جامعاتنا العربية تعد من أبرز المواضيع والإشكاليات الحارقة التي تحتاج إلى النبش فيها، و”فضح بداهاتها” كما يقول علي حرب: تعريةً ونقدًا.

سوف نحاول في هذه الدراسة المتواضعة وضمن حدود الملامسة المنهجية، أن نقف على بعض ما ورد في هذا المؤلّف العميق، ونحن على يقين أن بنية النص وهيكلته النقدية وأرضيته المفاهيمية لا تحتاج إلى من يتعقب آثارها، إلا من زاوية المساهمة في الإضاءة والتحفيز لقراءته، فهو من الإنتاجات المضيئة في زمن العتمة المعرفية العربية المظلمة. هذا الكتاب استفز وعينا وتمثلنا “النخبويّ” حول ما يمتلكه الحقل الأكاديمي الجامعي عن ذاته. فقد نبهنا إلى إعادة طرح عديد الأسئلة التي لا شك أنها تندرج ضمن الروح الابستيمية للفكر السوسيولوجي؛ فهو نصّ ينخرط ضمن مراجعة تمثلات أهل العلم والمعرفة حول كفاءاتهم المنهجية ومعاييرهم الأكاديمية التي تختفي وراءها ملامح “الأمية الأكاديمية” وآثارها التدميرية واختلالاتها النسقية والذاتية التي لم تخطر ببال أغلبيتهم!

تعتبر قضية “الأمية الأكاديمية” إحدى أهم مفارقات أزمة المشهد الأكاديمي والعلمي في جامعاتنا العربية. ولعل من أسباب تراكمها وتجذّرها في فضاءاتنا الجامعية، أنها بقيت من القضايا المسكوت عنها على الرّغم من أنها تمثّل أحد مظاهر التخلف المعرفي، وعلامة دالة على الانهيار الأخلاقي والثقافي في مجتمعنا العربي بشكل عامّ. ومثلما يذكر الكاتب، لقد حاولت جميع القوى السياسية والاجتماعية في منطقتنا العربية تكريس هذه الحالة المرضية التي أفرغت جامعاتنا العربية من دورها الاجتماعي والثقافي والتنموي، وعزّزت هذه الظاهرة، بل جعلتها خارج التداول، وبعيدا عن التناول النقدي. فهذه القوى المتحكمة في المشهد التعليمي العربي، حولت التفكير في هذه المؤسسات ومشكلاتها إلى تابو محرّم، يمنع تناوله وتداوله بل حتى التفكير فيه”[2].

2- أولا: في منظومة الأمية المستحدثة أكاديميا:

في مستهل المدخل التمهيدي لدراسة هذه الظاهرة، وفي إطار تهيئة القارئ نفسيا ومعرفيا لاستيعاب إشكالية الكتاب التي تعتبر من الهواجس البحثية النادرة في إرثنا العربي ضمن دراسات علم الاجتماع، طرح الباحث مجموعة من الأسئلة “التراجيدية”، من أهمّها: مدى مشروعية طرح السّؤال عن وجود أمية في العلم، ولدى العلماء في جامعات يفترض فيها أن تدفع العلم إلى غايته في مجال الإبداع والابتكار!

لهذا، استهل المؤلّف كتابه بمقدّمة طرح فيها المبرّرات الابيستمولوجية والمعرفية التي تشرّع التساؤل حول هذه المفارقة التي يتميز بها الحقل الجامعي العربي، حيث كان من المفترض أن تكون الجامعات مصدرا للإبداعات العلمية التي ما فتئت تتحول إلى قوة حضارية تنهض بمجتمعاتها وتعمل على تغييرها”[3]. ومن بديهيات البحث العلمي الرّصين أن كلّ دراسة لموضوع ما لا تستدعي آليّا تدقيق الشبكة المفاهيميّة المفاهيم المكونة له، وتعريفها. والهدف هو قبل كل شيء بسط الإشكاليات وتأصيلها نظريا، ومن أهمّ رهانات هذه الخطوة المنهجيّة “أن تكون ذات أسبقية في المعالجة”[4].

جاء الفصل الأول تحت عنوان: المثقف الأكاديمي من مفهوم المثقف إلى مفهوم المثقف الأكاديمي، ركز فيه الكاتب على مسألة الأشكلة المفاهيمية لمصطلح “المثقف” عبر التدقيق في معنى المثقف والبحث في ماهيته انطلاقا من استجواب الأعمال الفكرية للباحثين في هذا الميدان، والترحال في تضاريس النظريات الفكرية التي تناولت هذا الموضوع لاستكشاف طبيعة العلاقة التي تربط المثقف النقدي بالحياة وقضايا الثقافة. وطرح عديد الأسئلة المحورية التي تمكن القارئ من فهم أبعاد هذا المفهوم “الزئبقي”، ومنها: من هو المثقف؟ كيف نعرفه؟ ما هو المثقف العضوي أو الملتزم أو النقدي؟ وغيرها من الإشكاليات التي يثيرها مفهوم “المثقف” نتيجة غنائه المعرفي وكثرة دلالاته، سواء في الخطاب العلمي الأكاديمي أو في التداول الثقافي العام.

وقدم الكاتب في تشريحه لأصول هذا المفهوم الفلسفية والتاريخية، وأتى على أغلب منظّريه ومؤسّسيه، تعريفا جامعا ضمن دائرة القيم والجوانب الأخلاقية في الثقافة والمثقفين: في الخير والجمال والعدل.. الخ. ولم يكتف بدراسة الإرث الفلسفي والسوسيولوجي حول هذا المفهوم، بل تناول بشكل منهجي متماسك ومستفيض البحث في أصناف المثقفين: بين “المثقف العادي” و”المثقف البنيوي”، وبين “المثقف النخبة” و”المثقف النقدي، والتمييز بين مفهوم المثقف والأكاديمي من أجل رفع الإشكاليات الملتبسة المترسبة في المخيال الاجتماعي. كما أشار في هذا الإطار إلى إشكالية مهمة نادرا ما كانت موضوع دراسة أو رصد علمي سابق. هذه الإشكالية تتمثل في التمييز بين “المثقفين” و”المتعلمين” خاصة في ثقافتنا العربية. فغالبا ما يكون هناك خلط بين المفهومين، ومثلما ذكر الكاتب، لقد اتسمت هذه الصورة في أذهان كثيرين ممن يعتبرون أنفسهم مثقفين لما وصلوا إليه من مكانة وظيفية بحكم حصولهم على شهادات علمية. وفي حقيقة الأمر لا يمكن للشهادات العلمية المجردة أن تجعل حاملها مثقفا بالضرورة، بقدر ما تجعله مصابا بمرض “التّعالم” كما سمّاه مالك بن نبي”(ص66). ويخلص في هذا الفصل إلى حقيقة مهمّة على الرّغم من مرارتها، وهي أنه ليس كل أكاديمي مثقفا، إذ يمكن أن نتحدّث عن الأكاديمي الجاهل أو الأكاديمي الأمي الذي يجهل أسس الاختصاص الذي يعمل فيه. لذلك، فإنه من الضروري فك الارتباط بين المفهومين، ورفع الالتباس الذي يميز هذه الظاهرة في حقول الإنتاج الثقافي بشكل عام والحقل الأكاديمي الجامعي بشكل خاص.

أما في الفصل الثاني: في مفهوم الأمية الأكاديمية: من الأمية الثقافية إلى الأمية الأكاديمية، فقد سعى الكاتب إلى تحليل الصورة الملتبسة للمفهوم ومختلف الإشكاليات الأخلاقية التي يطرحها موصولة بقضية الأمية في مؤسساتنا الجامعية، وهي في الأصل ليست إلا إحدى التجليات الأنثربولوجية لبنية المجتمعات العربية ومن سمات تخلفها. فعلى الرغم من عدم وجود مؤشرات واضحة يمكن من خلالها قياس وتحديد الفوارق بين مختلف صور هذه الأمية (الثقافية والأكاديمية..)، فقد وصل بنا الباحث، بطريقة سلسة، وبحنكة منهجية نادرا ما نجدها في الكتابات السوسيولوجية، إلى تعريف “نموذجي” لظاهرة الأمية الثقافية مستنجدا بعدد من الدراسات والبحوث لأبرز أعلام الفكر الفلسفي والاجتماعي والثقافي في العالم. فالأمية الثقافية تعني عدم قدرة “المثقف” وأهل العلم والفكر، على مواكبة معطيات العصر الثقافية والعلمية بطابعها الفكري والفلسفي، وغياب القدرة على التفاعل مع العصر بعقلية نقدية دينامية قادرة على فهم المتغيرات والمستجدات وتوظيفها بشكل إبداعي، وهذا يعني أن الجمود الذهني والفكري يشكّل إحدى ركائز الأميّة الثقافية والحضارية (ص93). وعلى خلاف ذلك، يأخذنا فهم العمق الإيتيقي لمفهوم المثقف ودوره في المجتمع إلى الصّلة الجوهريّة بينه وبين القيمة النضالية والتوجّه النقدي، إلى درجة اعتباره عنوانا لكلّ الممارسات الثقافية التي تدافع عن المظلومين ومقاومة جميع أشكال الظلم والاستبداد.

ثم ينتقل بنا صاحب كتاب “الأمية الأكاديمية في الفضاء الجامعي العربي” إلى كشف مستودع الأبعاد المركبة لمفهوم “الأمية الأكاديمية” الذي ترسّب عن طريق بيئة عربية مخصوصة سياسيا وثقافيا واجتماعيا وأنثربولوجيا. فالأمية الأكاديمية تتضمن صيغة مركبة؛ فهي أمية أخلاقية ثقافية علمية معرفية تمارس في الوسط المهني الأكاديمي”(ص102). وهذه الظاهرة، بحسب الكاتب، لا تستند إلى علاقات متبادلة للظروف التاريخية المجتمعية المنتجة لها فقط، بل أيضا على سيكولوجيات فردية وجماعية في الوسط الأكاديمي العربي، وعن طريق هذه الظروف في مستوياتها الشّمولية  (Holistique). يقول في هذا الإطار:” إن ظاهرة الأمية الأكاديمية ظاهرة بنيوية وظيفية مركبة ومتكاملة، ولا يمكن فصل أحد عناصرها عن البنية التي ينتمي إليها على نحو شمولي. فكل عنصر يشكل سببا ونتيجة في ذاته وضمن دورة علاقته البنيوية بمختلف عناصر ومكونات هذه الأمية الأكاديمية (ضعف اللغة العربية، طريقة التدريس والتكوين..).

ثم ينتقل بنا، في الفصل الثالث، إلى تشريح الأسباب المباشرة لهذه الظاهرة ومؤشراتها من خلال عمليتي التلقين والترويض في الجامعات العربية، فالتلقين في جامعاتنا العربية تحول إلى أيديولوجيا تدميرية، وإلى قوة تجهيل استلابية، تقوم المنظومة المجتمعية بموجبها بوضع الأغلال المعرفية في رقاب الأكاديميين من خلال المؤسسات التعليمية، حيث لا يستطيعون أن يلتفتوا إلى البناء المعرفي والتكويني الحقيقي، ثم تقوم باستخدام هذه المؤسسات الجامعية لمعاودة إنتاج آلياتها في الهيمنة على المجتمع ولعرض ظلال الحقيقة، ولا يكون في وسع المجتمع ونخبته الجامعية سوى تصديق ما تراه أعينهم عن الواقع ظنا منهم أن ما يرونه هو الحقيقة المطلقة، إذ عن طريق التلقين تدمر معظم أشكال القدرة على التفكير والرؤية النقدية لدى أفراد المجتمع، وتهوي بهم في وهدة الجهل والأمية والتجهيل. هناك علاقة جدلية بين أسلوب التلقين المعرفي وبين الأمية؛ فحيثما يكون التلقين تكون الأمية. والعكس صحيح، ومن ثمّ يشكل التلقين أحد العوامل الأساسية في نشأة الجهل المعرفي وتوليد الأمية الأكاديمية”[5]. وخطورة أسلوب التلقين في إطار ترويض النشء في مؤسساتنا التعليمية، أنه لا يمثل وسيلة تعليمية تقليدية فقط، وإنّما هو “منهج استلابي اغترابي مدمر لعقل التلميذ وقدراته الذهنية”، بل إن التلقين يضاهي في مستوى خطورته على العقل مستوى “العبودية”، وهي العبودية التي تتجاوز حدود العبودية الصرفة إلى عبودية أدهى وأمر وأشد؛ إنها “عبودية العقل والمعرفة”. ويخلص في هذا الفصل حول أسلوب التجهيل الأكاديمي، إلى نتيجة مهمة حول هذه الظاهرة، وهي أنه ينبغي أن ننظر إلى الدورة الثقافية التربوية العامة التي تشكلت فيها شخصية الأستاذ الجامعي أو أي شخص آخر. فالأستاذ الجامعي وليد البيئة المحملة بأثقال الثقافة الاغترابية منذ مرحلة الطفولة حتى مرحلة الانتهاء من الدراسات الجامعية.

إنّ التداخل، في المجتمعات العربية بين المجال السياسي والمجالات الأخرى: الاجتماعية والدينية والثقافية والاقتصادية، مازال مستمرّا، وذلك دون تحديد واضح للحدود الفاصلة بينها، وهو الأمر الذي أدى إلى خلق عديد المشاكل والقضايا التي بات مستعصية على الحل. فأزمة المؤسسات الجامعية هي جزء لا يتجزأ من أزمة النظام المعرفي العربي والإسلامي الحديث. هذا النظام المعرفي الذي أخذ به كرؤية ومفاهيم وطريقة في التفكير، يتبلور ويتعمق مع الأيام داخل الثقافة [6]. ومن ثم لا يمكن أن نحدد طبيعة العطب الذي يعانيه الحقل الأكاديمي والإشكاليات التي تعوق تطوره إلا من خلال مقاربة حفرية جينالوجية ترصد كيفية تكونه وتحدد إرثه التاريخي العميق ومختلف تجليات أزمته الرّاهنة. وقد خلّفت هذه الظاهرة في السّابق، ومازالت تخلف اليوم، آثاراً مدمّرة ومُثقلة بمحاميل سياسية وأيديولوجية واجتماعية وثقافية تتعارض مع وحدة المجتمع الأكاديمي وانسجاميته، فاستشرت مظاهر الكراهيّة والنزاعات والصراعات السياسية والفساد والظلم وغياب العدالة الاجتماعية، بل والاعتراف بها ومأسستها أحيانا.

لا يمكن فهم أية ظاهرة اجتماعية ودراستها موضوعيا إلا ضمن إطارها المجتمعي العام. لكل مجتمع قيمه الشمولية، ولكلّ شعب، في كل عصر مثله وقيمه وثقافته الخاصة، وتتميز هذه الثقافة بمقاييسها الفريدة في طرق العيش وفي نظام التفكير وأسلوب الحياة، أي لكل أمة شخصيتها القاعدية الفريدة التي تتشكل من خلالها مؤسساتها وتتوجه بها سلوكيات أفرادها. وضمن هذه القاعدة المنهجية، يأخذنا الباحث إلى النبش المعرفي في إحدى مسارات ظهور الأمية الأكاديمية وزوايا تشكلاتها الخفية. وفي هذا الإطار، يتنزل الفصل الرابع حول قضية التّسييس الأكاديمي ومساراته التدميريّة، فالتّسييس للحرم الجامعي هو مصدر التّدمير المنظم للوعي الأكاديمي. لقد تأسست الجامعات العربية في النصف الأول من القرن العشرين، وكانت تشكل منارات ثقافية وعلمية ساطعة، ولكن مع بداية الاستقلال تم اختطافها من قبل الأنظمة “الوطنية الجديدة” التي سعت منذ بداية تركيز أنظمتها إلى السيطرة على هذه المؤسسات وتوجيهها. وضمن هذه البيئة العربية السياسية والثقافية الجديدة تحولت الجامعات إلى “مؤسسات بيروقراطية معسكرة سياسيا” تشكلت فيها ملامح الأساتذة الجامعيين وطلابها، لأن الإنسان الذي يقضّي جل حياته في مؤسسات تعليمية استلابية سيتشكل بالضرورة على منوال “الهابتوس التربوي الأكاديمي” السائد في وسطه الاجتماعي. هذا المنوال التسييسي للجامعات العربية هو الذي أفرز مجموعة من الأمراض والأعطاب الأكاديمية في مؤسساتنا التربوية، بل إن تسييس الجامعات، يشكل بحسب الباحث، أخطر المظاهر التدميريّة التي أصابت جامعاتنا بالفوضى واللاّجدوى، ودفعتها إلى التخلي عن أقدس واجباتها الثقافية في نشر الأخلاق والقيم الإنسانية. لقد أدى الاختطاف السياسي للجامعات العربية إلى تدمير الرسالة الإنسانية لهذه الجامعات، وتحويلها إلى مراتع للفساد والإفساد والتجهيل في المجتمع! ومن أبرز هذه الوسائل: محاصرة الجامعات وفصلها عن محيطها الاجتماعي، وترويض المنظمات والاتحادات الطلابية لخدمة الأنظمة الحاكمة وترسيخ أيديولوجياتها، والاستيلاء على وعي الأكاديميين طلبة وأساتذة. كل هذه الأساليب وغيرها، حوّلت جامعاتنا العربية إلى مؤسسات سياسية أمنية بامتياز“(ص234).

3- ثانيا: من الاستبداد إلى الفساد: مظاهر الفساد الأكاديمي في الجامعات العربية:

لم يكن الاستبداد في بلادنا العربية والإسلامية مجرد نظام حكم، بل أصبح ثقافة أكاديمية مُسيّسة ومستبطنة في الذاكرة الجماعية لدى الطلبة والأساتذة الجامعيين على حد سواء. وهذه الحالة الاستبدادية الأكاديمية فصّل فيها أستاذنا الدكتور علي أسعد وطفة القول في الفصل الخامس من الكتاب. توجد علاقة تلازمية بين متغير الاستبداد الجامعي وترسيخ الأمية الأكاديمية في الجامعة. ولهذا الأمر نتائج أخلاقية فادحة على نظام التدريس والتقييم الأكاديمي في جامعاتنا العربية، وعلى الجوهر الإنساني للأفراد. إن فعل الاستبداد يدفع الناس إلى استباحة الكذب والتحيل والخداع والنفاق والتذلل، وإلى مراغمة الحس الجمعي، وإماتة النفس ونبذ الجد وترك العمل.

من البداهة القول إنّه، حين تكون الجامعة خاضعة لسلطة سياسية ولتوجهات أيديولوجية لنظام حكم ما، لا يمكن ــ وفق أدبيات علم الاجتماع ــ أن تكون مؤسسة علمية، لأن من شروط تأسيس المعرفة العلمية هو أن يتمتع أساتذتها ومختلف مكوناتها وهياكلها الأكاديمية والبحثية بالحرية. فحرية الأكاديمي، حسب الكاتب، تشكل عمق الحياة الجامعية وجوهرها بكل ما تنطوي عليه هذه الحياة وهذه الوظائف من اعتبارات اجتماعية وإنسانية وقيمية. بل إن الحريات الأكاديمية في الجامعات والأجواء الديمقراطية هي الرّهان التاريخي لتطور العلم والمعرفة والإنسان المبدع الحر. وفي هذه الحالة، مثلما يقول عبد الرحمان الكوكبي، في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”[7] تصبح الحكومة مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفراش، إلى كناس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقا، لأنّ الأسافل لا يهمهم طبعا الكرامة وحسن السّمعة، إنّما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنّهم على شاكلته وأنصار دولته. ومن هنا يتولى المستبد عبر مختلف أذرعته ووسائله، بطبعه، تربية الناس على هذه الخصال الملعونة… فيتحولون إلى عبيد للسلطة وإلى كم بشري بهيمي غير منتج”[8].

إذا كانت المقاربة السياسية المتحكمة في إدارة المؤسسات الجامعية وتنظيمها هي منظومة الاستبداد، فلا يمكن للأشخاص أن يكونوا إلا صورة لها، وانحراف طبائعهم وفسادهم وتشكل شخصيتهم القاعدية الأكاديمية بسبب أساليب إدارة هذه المؤسسات الرديئة والفاسدة والمشوّهة لصورة نخبة المجتمع ومثقفيه والمعطّلة لدورهم الحضاري. وفي الأخير، حين تصبح النخبة المثقفة من أساتذة الجامعة منساقة خلف أهوائها وتحزباتها الفكرية والطائفية، فإنها تفقد رسالتها الأخلاقية، بل إنها تتحول إلى عامل هدام ومدمر للدور الأخلاقي الذي تقوم به الثقافة، وينهض به الفكر(ص229).

في الفصل السادس اهتم الكاتب برؤية علمية وتحليل موضوعي فيما يمكن أن نسميه بـ “أدبيات الفساد” وفي صوره في الجامعات العربية، حيث بات يشكل أحد أسس و “براديغم الطاعة” كما يقول الطاهر لبيب، للتحكّم في سلوكيات الأساتذة الجامعيين الأخلاقية والمعرفية. فطالما أن الجامعات العربية مختطفة سياسيا ومصابة بداء الاستبداد الأكاديمي وغياب الحريات الأكاديمية؛ ففي ظل هذه البيئة المعطلة للعلم والمعرفة، فإن غياب النزاهة الأكاديمية (الانتداب، والترقية، والتقييم..) أدت إلى انتشار الفساد الأكاديمي بأكثر أنواعه خطرا وتدميرا. ومن أكثر مظاهر خطورة في هذا الفساد لما يتخذ “وجوها كثيرة وأقنعة خفية يصعب إحصاؤها وتصنيفها (السرقات العلمية أو الأدبية، الشهادات الجامعية المزورة، الرشوة، التحرش الجنسي..) (ص350). كل هذه الأشكال من الفساد التي أصبحت منتشرة في جامعاتنا العربية، وبشكل مكشوف، لا يمكن أن تؤدي إلا إلى نتيجة واحدة، وهي تدمير مختلف أبعاد منظومة التعليم أخلاقيا ومعرفيا ورمزيا وجعل مؤسساته الجامعية عاجزة عجزا كليا عن مواكبة التوجهات الحضارية للعالم (ص369).

لكل مجتمع طابعه وأسلوبه الخاص في التفكير وروحه التي تكونت خلال العصور الماضية، وهذا الأسلوب في الحياة هو عبارة عن فلسفة تشكل نسيج المجتمع كله بمختلف مؤسساته وهياكله وأنظمته الاجتماعية والسياسية والثقافية والتربوية..الخ. ولمّا كان النظام التربوي العربي قد تمّت هندسته خارج إرادة أهله وفاعليه، فإنه لن يكون إلا أداة تحكم وتدمير للعقل ولإنتاج الجهالة. ضمن هذه العقلانية الاستبدادية يصل بنا الأستاذ الدكتور علي أسعد وطفة في تحليله المتناسق وبشكل مذهل إلى الحقيقة “الصادمة” في الوسط الأكاديمي الجامعي والتي يحاول بعضنا أن يتجاهلها بسبب مرارتها، وهي أنه قد يبدو صادما في الوسط الأكاديمي أن نتحدث اليوم عن الجامعات العربية، بوصفها مؤسسات منتجة للجهل والفساد في صفوف أكاديمييها وطلبتها (ص381).

في بيئة مجتمعية عربية تحكمها ثقافة الفساد والإفساد، لا يمكن للجامعات أن تكون خارج هذا التيار أو تشذّ عن باقي حقول المجتمع الأخرى من جائحة الفساد وسياسات “الجهل المقنع” أو “الجهل المركب” و”الجهل المؤسّسي” مثلما يصفه آخرون، وهو في كل الأحوال الجهل الذي تقوم به المؤسسات التربوية من خلال بثّ الأفكار الخاطئة وتأصيلها في عقلية الأبناء على أنها مفاهيم ومعلومات صحيحة. وهذا الجهل المؤسّسي، مثلما تناوله المفكر الجزائري “محمد أركون” هو الجهل الذي يُنشر بتأييد من الدولة. ويكون الهدف منه إخراج أجيال من أصحاب الشهادات لا يفقهون نقاشا ولا يعرفون حديثا ولا علاقة تربطهم بالبحث العلمي والنقاش الأكاديمي(ص400).

ضمن إطار الإشكالية الرئيسة للبحث، يعاود الباحث تذكيرنا في آخر الفصل السّابع، بالسّؤال المحوري للكتاب الذي انطلق منه: كيف يمكن لمؤسسات العلم وقلاعها العالية بقاماتها الشامخة أن تكون مؤسسات منتجة للجهل والجهالة؟

نحن نعرف أنه في بيئة اجتماعية عائلية ومؤسساتية وسياسية مأزومة ومعطبّة لا يمكن أن يسود إلا الجهل نتيجة رواسب تنشئة أبنائها منذ طفولتهم، حيث تتغذى عقولهم بمختلف أصناف المعارف الأسطورية وغير المنطقية والساذجة. لقد أصيبت مؤسساتنا الجامعية بعطب في أسسها، وتحول بعض أساتذتها دونما رجعة إلى “أكاديميين أميين” ومرتزقة في السياسة والدين والفكر نتيجة دوامة العقول الساذجة عندهم.

هذه الإشكالية أخضعها الكاتب بشكل تفكيكي وتشخيصي منهجي عبر المحاجّة العقلية الإقناعية، وعبر “مجهر الفحص السوسيولوجي“(ص405)، حيث يستند هذا المجهر إلى الرّوح النقدية والمحاجة التوثيقية التي تمكّن الباحث من تحليل مختلف أبعاد هذه الظاهرة المعتلة والحالة المرضية “الأنومية” (Anomie) التي تعيشها جامعاتنا العربية. وأكد عن ذلك بقوله:” ما تزال توجهاتنا النقدية الكاشفة تسعى إلى المزيد من التنقيب والحفر العلمي في بنية الجامعات العربية بوصفها ظاهرة اجتماعية ضمن سياق البحث الأمبريقي الميداني، وذلك من أجل الكشف عن أبعاد الخفي والمستور والمغمور واللامفكر فيه للجامعات العربية في سياق تفاعلاتها الحيوية سلبا وإيجابا مع الأطر الاجتماعية والسياسية الحاضنة لها(ص480). نعم، لقد مكننا الباحث بـ “جرعة” كبيرة من “الكفايات” المعرفية والمنهجية في أسلوبه وطرق معالجته لظاهرة الأمية الأكاديمية في جامعاتنا العربية.

بالنظر إلى الطّابع الخفيّ للقضايا الجزئية للمشهد الجامعي، وانطلاقا من سياقاتها المجتمعية الشاملة المعطوبة، لم يكن من السهل أن تتم الدّراسة على هذا المستوى من العمق والشّمول لولا العقيدة الابستيمية للباحث وروحه البحثية التنويرية التي جمع فيها بين تخصصات معرفية متعدّدة جمعت بين الفلسفة وعلم النفس والأنثربولوجيا والعلوم السياسية والتاريخ..، فضلا عن التسلّح المنهجي والموسوعية المعرفية التي وظفها جميعا في تشخيص مختلف أبعاد هذه الظاهرة العميقة والمركبة في آن معا. ولعلنا لا نبالغ عندما نقول إن الأستاذ الدكتور علي أسعد وطفة من المفكرين العرب القلائل الذين يتّصفون بالموسوعية وبالتبصر العلمي، ومن “المفكرين الرّشديين” (نسبة إلى الفيلسوف ابن رشد)، الذين يتمتّعون بقدرات منهجية كبيرة في “الرصد الإبستمولوجي” مع الجمع بين الفضيلة العلمية والفضيلة الخلقية في أبحاثهم الرائعة وأعمالهم الأصيلة وإنتاجاتهم السوسيولوجية الغزيرة التي طبعها دائما بروح التجديد والإضافة.

انطلاقا من دراسة ظاهرة “الأمية الأكاديمية في الجامعات العربية” مكّننا الباحث من معرفة الجوانب الخفية التي تتشكل عبرها الثقافة والسّلوكيات الفردية والجماعية في مؤسساتنا التعليمية، وكشف لنا تجليّات أنساقها البنيويّة العميقة التي أصبحت بدورها تمثل أحد إفرازات نظام حياة مجتمعاتنا العربية الثقافية والاجتماعية والسياسية في بعدها الماكرو سوسيولوجي  (Macro). فمن خلال الحفر في أحد أنساق المجتمع الجزئية، وهو “الحقل الجامعيMicro) (، مكّننا الدكتور علي أسعد وطفة من فهم دينامية النسق المجتمعي في كليته. هذا النّسق الذي تشتغل فيه هذه الجامعات وتتأثر به سواء في نظام تسييرها وتدبيرها أو في مستوى مخرجاتها المادية والبشرية، أوفي مستوى بنيتها الفكرية ومرجعياتها الأخلاقية والسلوكية؛ فهذه المؤسّسات، مثلما يقول الكاتب، ليست مصنعًا للشهادات، كما يخيّل لبعضهم أحيانا، ولا مركزا للامتحانات، ولا مركزا لتخريج المواطنين، بل هي صورة للمجتمع المثالي المطلوب إحداثه.

4- ثالثا: في المقاربة المنهجية وأساق الحجج للدّراسة:

لقد تعدّدت الأسئلة في هذا النص، فكانت “فضيلة ٌمنهجيةٌ” عبّرت عن روحية الفكر الإشكالي والمنهج التحليلي لصاحبه، الذي يقلَب المسائل تقليبا، ويدقَق النظر فيها تدقيقا علميا. وهذا المجهود المنهجي يدل على وجود حيرة معرفية عاشرت المؤلف وصاحبته طويلا، بل مازالت ماثلة عنده، لذلك جاء النص حاملا في ثناياه ألمًا واضحا وجليّا، مكشوفا أحيانا ومتخفيا أحيانا أخرى من وراء النَصوص والإسنادات النظرية المتنوعة في مستوى معانيها السوسيولوجية والحضارية. لهذا، نعتقد أن هذا الشّكل من “أركيولوجيا الحفر” في ميدان العلوم الإنسانية عموما والاجتماعية خصوصا، أساسيّ من أجل البحث المعمّق في متون المعيش اليومي لمؤسسات المجتمع، خاصة حين تتعلق الأمر بقضية تتميّز بالخطورة شأنَ مؤسساتنا التربوية التي يتوقف عليها بناء كينونة الإنسان ووجوده.

يعكس هذا النص “الموسوعي” شكلا من أشكال خطاب “المجتمع الأكاديمي العربي” عن نفسه، ويحدّد المعاني الحقيقية التي تقوم عليها أسس الشخصية القاعدية للأساتذة الجامعيين. فالمقاربة الحفرية التي تستهدف تعرية خفايا الحقل المدرسي ووقائعه الحقيقية هي قراءة تحاول استنطاق معنى ما كان له معنى… وإعطاء نوع من المعنى لما كان يقدم نفسه بلا معنى.. تماما كما يفعل عالم الآثار[9].

نعتقد أنّ هذه الدّراسة تندرج ضمن حفريات في الوعي الفردي والجماعي، وحفريات في الواقع السوسيولوجي والأنثربولوجي الجمعي. ذلك الواقع الذي يتجلّى في مختلف مؤسساتنا الجامعية العربية دون استثناء. وقد حمل النص أيضا مجهودا بحثيا كبيرا قام به الباحث للكشف عن المخزون الثقافي والسوسيولوجي للحياة الجامعية من خلال دراسة “الذاكرة الجماعية  (Mémoire collective) وتجلياتها في المعيش اليومي للفاعلين الاجتماعيين. فـالبشر الذين يصنعون ظواهرهم، لا يتشكلون ــ نفسيا وذهنيا وأخلاقيا ــ في الفراغ ولا دون سبب، على هذا النحو أو ذاك، وإنَما هم نتاج ما يصنعونه، فيكونون بشكل أو بآخر ذوات الظواهر وموضوعاتها في آن معا[10]. وخصائص الشخصية القاعدية للأساتذة الجامعيين تجلّت من خلال الكلمة الحية التي عبّر عنها بعضهم في الفصل التاسع في قصص ووقائع ظلّت ماثلة في مخيالهم الاجتماعي والنفسي، وأصبحت تشكّل، بفعل تكرارها، مرجعا حيا لتقاليدهم وسلوكياتهم، بل متأصلة في ثقافتهم الأكاديمية والتربوية…الخ؛ فهي عبارة عن إنتاجات مشتركة، فكانت لها هذه السمة الجماعية إنشاءً وتلقينًا وتداولاً[11].

5- خاتمة:

 نعتقد أنّ هذا العمل السوسيولوجي والأكاديمي المتميز ـ منهجا ومتنا ــ قد دشّن منطقا سوسيولوجيا جديدا في دراسة المسائل الاجتماعية والحضارية للمجتمع. لقد وجدنا في هذه الدّراسة الرّغبة في تأسيس حداثة الذّات الخاصة والانخراط في حقول الفعل المؤسّس للتّغيير المجتمعي دون القفز على الواقع، أي الانطلاق من واقع أزمة جامعاتنا العربية “كنموذج” بحثي في تفكيك الظواهر الاجتماعية وقراءتها قراءة علمية وموضوعية.

 ومن عناصر قوة المنهجية وندرتها في هذا النّص، جمع الباحث بين مختلف أنواع الإسنادات المرجعية، بدءًا بالفلسفة والتّاريخ والأنثربولوجيا الثقافية مرورا بعلم النّفس وعلم الاجتماع وصولا إلى العلوم السياسية والألسنية..الخ؛ فقد تداخلت وتكاملت من أجل فهم المحدّدات المختلفة للشخصية القاعدية للأساتذة الجامعيين، حيث سجل من خلالها أستاذنا “علي أسعد وطفة” السّبق في “النبش” الإبستمولوجي في أحد حصون الحقول المجتمعية المحرّم الكتابة فيها، فجعلنا أمام معطيات جديدة جديرة بالاعتبار والاهتمام العلميين، سواء على صعيد ممارسة التأليف والتدريس، أو على صعيد التأطير. وقد كان نصّه “درسًا” في الأخلاق والمعرفة، ومساهمة نوعية في الإجابة علي مطالب مجتمعية راهنة ومستعجلة تتوقف عليها نهضتنا العربية في المستقبل بعقلانية جديدة. كل ذلك، في إطار مشروع نهضوي حقيقي ينتقل أولا من تعرية الواقع لأجل بناء مستقبل عربي مغاير، ليس على شكل حلم فلسفي طوباوي أو مجرّد دعوة أخلاقية مجرّدة، وإنّما وفق مقاربة أبستمولوجية تنطلق من واقع الشخصية القاعدية لـ “نخبة المجتمع ومثقفيه” باعتبارها مادّة بحثية لأزمة جامعية متراكمة على مدى أكثر من خمسة عقود، ولكن تتجاوز القراءات العربية السكونية والانتقائية.

 سعى المؤلّف في هذا “الدّرس” المنهجي والأخلاقي المعرفي الاستشرافي، مثلما عودنا في دراساته السابقة، إلى إبداع نص سوسيو ـ ابستمولوجي إيتيقي جديد يقوم على معجميّة اصطلاحية تمتزج فيها ضوابط التّفكير العلمي و”المعرفة العالِمة” بالتحليل البسيط واستعمال مفردات الخطاب العادي والمألوف.، كل ذلك من أجل التّنقيب عن خصوصيات واقع جامعاتنا العربية وما تختبئ وراءها من أزمات ثقافية ورمزية، ومن نفايات ومعان ومعتقدات وسلوكيات تخريبية مازالت فاعلة في هندسة سمات شخصية الأستاذ الجامعي نتيجة هيمنة “فقه التجهيل” في مؤسساتنا التعليمية والبحثية. فقد توصل هذا النص إلى تعرية ما ترسّب في المجتمع العربي من قيم ومعايير ورموز أدمجها النّاس في ذواتهم وأصبحت تمثّل جزءا من أنظمتهم العقائدية وتمثّلاتهم الاجتماعية وسلوكياتهم اليومية.

 كما وجدنا في هذا النص حصيلة رحلة الكاتب الحافلة بالبحث والعلم والمعرفة، فتجلّت لنا، من خلاله، أنّه مؤرّخ وباحث وأكاديمي وعالم اجتماع ومعني بالاقتصاد والسياسة. فكفاياته البحثيّة التي جمعت بين مختلف هذه العلوم مكّنته من توليد الأفكار وبلورتها وتوظيفها من أجل الإقناع والاستدلال العلميين. كلّ ذلك بشكل يتجاوز فيه المألوف ويسجل من خلاله أيضا جرأة في الطرح والتّحليل وسلاسة في عرض النتائج. فجاءت قراءة السوسيولوجية وبحثيّة حية ومتطوّرة وهادفة تنهل من جميع المعارف وتقتحم جميع حقول المجتمع من أجل فهم منطق الوقائع الاجتماعية les faits sociaux)) وفهم معيش الفاعلين الاجتماعيين وفق مقاربة هادئة وحذرة في الفهم والتّفسير والتّحليل.


[1]– علي أسعد وطفة، الأمية الأكاديمية في الفضاء الجامعي العربي: مكاشفات نقدية في الجوانب الخفية للحياة الجامعية، مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية، الكويت، 2021.

[2]– المرجع نفسه، ص478.

[3]– المرجع نفسه، ص35.

[4]– Marc Michot, L’école en question : Rosa question rosam, Ou vais-Je ? Paris, L’Harmattan, 2004, p.17.

[5]– المرجع نفسه، 141.

[6]– محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 2009، ص16.

[7]– عبد الرحمان الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، الأعمال الكاملة، سلسلة التراث القومي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 19995، ص470.

[8]– المرجع نفسه، ص 499ــ500.

[9]– محمد عابد الجابري، حفريات في الذاّكرة من بعيد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة 1، 1997، ص8.

[10]– حامد خليل، أزمة العقل العربي، دار كنعان للدّراسات والنشر، دمشق، الطبعة الأولى، 1993، ص5.

[11]– محمد عجينة، حفريات في الأدب والأساطير، دار المعرفة للنشر، الطبعة الأولى، 2006، ص38.

مقالات أخرى

قراءة في كتاب: البينيّة في الأكاديميا العربية والإسلاميّة من الاختبار التقني إلى المسؤولية الحضارية

الطاقة الاستلابية للعنف الرمزي في المنظور التربوي عند علي وطفة

تقديم كتاب:”خطاب الاستعراب بتونس في عهد الحماية، الخصائص والخلفيّات” لنجاة قرفال

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد