مقاربة سيميائية لديوان “ليس يعنيني كثيراً” للشاعر محمّد إبراهيم يعقوب

ليس يعنيني كثيراً

الملخّص:

يهتمّ هذا البحث بمقاربة ديوان “ليس يعنيني كثيراً” للشّاعر محمّد إبراهيم يعقوب مقاربة سيميائيّة تسعى للوقوف على أنساق العلامات والأدلّة والرموز المختلفة في الديوان، وكشف ما هو ضمنيّ فيه، وإبراز الأيقونات المتعدّدة التي تتشكّل منها تجربة الشاعر.

وقد اختار الباحث المنهج السّيميائي إجراءً من أجل تفكيك شفرات قصائد هذا الدّيوان، اعتمادًا على كلّ ما هو دالّ بدءًا بالعنوان والغلاف والإهداء، حيث تهتمّ المقاربة السّيميائية بدراسة هذه العتبات النّصية بوصفها علامات مهمّة للدّخول إلى عالم النّص، والإنتقال في مرحلة أخرى إلى رصد سيميائيّة الأسماء والشّخصيات وما تحمله من دلالات ورموز، كما اهتمّ البحث أيضا بدراسة سيميائية الزمان والمكان، والتفت إلى سيمياء الفضاء النّصي وإلى سيمياء الصورة الفنيّة وسيمياء الألوان، كل هذا من أجل كشف أبعاد التّجربة الشّعرية للشّاعر.

الكلمات المفاتيح: سيميائيّة- إشارات- دوال- رموز- تحليل سيميائيّ.

Abstract:

This research aims to semiotically approach the collection “it does not concern me much” compiled by poet Mohammed Ahmed Yaqoub. It aims to study the patterns of signs, evidences and various symbols of the Collection to explore what is implied and highlight the multiple icons in which the poet’s experience was formulated. The researcher selected the semiotic method to decipher the codes of the poems of this Collection depending on every sign beginning with the title, cover, and dedication. The semiotic approach focuses on studying textual threshold as they are important signs to enter into the text world. The research studies the semiotics of names, characters and their connotations and symbols. The research also focused on studying the semiotics of time, place, textual space, image and colors in order to explore the dimensions of the poetic experience of the poet.

Key words: semiotics-indices –connotations-symbols- semiotic analysis.


1- مقدمة:

يُعنى هذا البحث بمقاربة ديوان “ليس يعنيني كثيراً للشاعر محمد إبراهيم يعقوب[1] – مقاربة سيميائية” حيث تعد السيميائية المجال الأرحب لتفسير النّصوص على تنوّعها وتتيح للباحث استجلاء دلالاتها وسبر أغوارها. فالسيميائية أو علم العلامات علم يدرس أنساق العلامات اللغوية وغير اللغوية أ من أدلّة ورموز، مثلما يتيح الغوص في أعماق النّص والتقاط الضّمني والمتواري منه.

هذا وقد حفّزنا تطوّر المباحث السيميائيّة وقد بلغت شأوا كبيرا ونضجا مهيبا بفكر مهندسيها الكبار في العالم العربي من طرز : عبدلله الغذامي وعبد الملك مرتاض وسعيد يقطين وعبد الفتاح كيليطو ومحمد مفتاح وسعيد بن كراد …، على إجراء هذا المنهج السيميائي على ديوان شاعرنا وآثرنا أن نفيد من مستخلصاته ونتاجاته النظريّة والإجرائيّة قصد تهيئة العدّة والأدوات السيميائية الكافية للإبحار في عالم هذا النصّ والسعي إلى القبض على دلالاته الغامضة ومعانية العميقة والآبقة في تثنياته ومعاطف أصقاعه. وما إقتبالنا في حقيقة الأمر على تناول ديوان شاعرنا بالدراسة والاستقصاء ، والفحص والتمحيص، إلا لثقة متعالية باغتناء تجربته كما تمثّلت في دواوينه الخمسة التي صدرت له رهبة الظّل 2001، تراتيل العزلة 2005، جمر من مرّوا 2010، الأمر ليس كما تظن 2013 ، وديوان ليس يعنيني كثيرا –محل الدراسة- 2015 وما يكتنزه من علامات وإشارات ورموز سيميائيّة تتيح للباحث تأويلها قصد تحصيل الدّلالات الثاوية في عمق الملفوظ.

واقتضت طبيعة البحث أن نقف على مفهوم السيميائية باعتبارها مدخلا نظريّا للدّراسة ثم الولوج إلى التّحليل السيّميائي للديوان بمقاربة المباحث الآتية:

– المبحث الأول : سيميائية العنوان والإهداء والغلاف.

– المبحث الثاني : سيميائية الأسماء والشّخصيات.

– المبحث الثالث : سيميائية الدّوال والرّموز.

– المبحث الرابع : سيميائية الزّمان والمكان.

– المبحث الخامس: سيميائية الفضاء النّصي.

– المبحث السادس: سيميائية الصّورة الفنيّة.

– المبحث السابع : سيميائيّة الألوان.

         إنّ اختيارنا لهذه المباحث لا يعني خلو الدّيوان من سيميائيات دلاليّة أخرى. كما أنّ الدارسة لاتعد القارئ باستقصاء كلّ الظّواهر السّيميائية في الدّيوان ورصد تجلّياتها ذلك أنّ هدف الدّراسة هو التّدليل والاستشهاد على السّيميائيّات الدّالة على تلك الظّواهر، إضافة إلى الاختصار وعدم التّوسّع في مباحث الدّراسة.

وقد ذيّل البحث بخاتمة تتضمّن أبرز النّتائج.

2- مدخل: مفهوم السيميائية:

تُعدُّ السيميائية Semiotics من أبرز المناهج النّقدية الحديثة التي تمثّل أفقًا واسعًا ومجالاً رحبًا لمقاربة النص واستجلاء معانيه وسبر أغواره.

وتعرف السّيميائية أو السّيميولوجيا بـ علم العلامات، أو العلم الذي يدرس أنساق العلامات والأدلّة والرّموز المختلفة، نظراً لما تمثّله العلامة من أهميّة في عملية تفسير المعنى، سواء كانت العلامة منطوقة أو غير منطوقة، وذلك بهدف الكشف عن علاقات دلاليّة غير مرئيّة عن طريق الغوص في أعماق النص والتقاط الضّمني والمتواري منه، ” إنّ السّيميائية تحلّل النّص وفق بناء ضمنيّ وبناء ظاهر مع إبراز العلاقة بينهما. أما البناء الضّمني فيقع الاهتمام فيه بالبناء الوظائفي وإبراز العلاقة بين الفاعلين، أما البناء الظّاهري فيقع الاهتمام فيه بالمستوى اللّغوي للنّص كالتّشاكل والأسلوب مع الملاحظة أنّ النّفاذ إلى البناء الضّمني لا يتمّ إلا بمر اللغة”[2].

وقد بدأت إرهاصات المنهج السّيميائي على يد العالم اللّغوي الشّهير ” فرديناند دي سوسير 1857 – 1913″، حين أعلن عن رغبته في وجود علم جديد اقترح له اسم “سيميولوجيا”، وعرّفه بقوله: «يمكننا، إذن، أن نتصوّر علمًا يدرس حياة الدّلائل داخل الحياة الاجتماعيّة، علمًا قد شكَّل فرعًا من علم النّفس الاجتماعي، وبالتّالي فرعًا من علم النّفس العام، وسوف نسمّي هذا العلم بالسّيمولوجيا من Sêma الإغريقيّة وتعني الدّليل. إنّ اللّسانيّات ليست سوى فرع من هذا العلم العام، والقوانين التي ستكشفها السّيمولوجيا ستكون قابلة لأن تطبّق على اللّسانيات»[3].

ويفهم من هذا التّعريف أنّ دي سوسير نظر إلى اللسانيات بوصفها جزءًا من السّيمولوجيا، فقد كان يطمح إلى علم يدرس العلامات كافّة منطوقة أم غير منطوقة، طبيعيّة أم صناعيّة، وقد تكون علامة بصريّة أو لمسيّة أو شميّة أو ذوقيّة، وكلّ منها يشكّل أيقونات تتطلّب فك شفراتها.

نضج هذا العلم الذي بشّر به دي سوسير واستوى على يد العالم الأمريكي “شارل ساندرس بيرس” الذي أعلن في محاضراته في جنيف عن ظهور علم جديد يسمى “سيموطيقا”[4].

و”السيموطيقا” –عند بيرس- علم يدرس جميع أنساق العلامات لغويّة كانت أم غير لغويّة، ولذلك يمكن مقاربة أي علم بوصفه دراسة علاماتيّة[5]. وهذا ما جعل الباحث السّيميائي سعيد بنكراد يذهب إلى «أنّ الكون في تصوّر بيرس يمثل أمامنا باعتباره شبكة غير محدودة من العلامات»[6].

ولئن تعدّدت تعريفات السّيميائية فإنّها تمحورت حول مفهوم موحّد يدور حول علم العلامات، فنجد من يعرفها بأنّها «علم يهتمّ بدراسة أنظمة العلامات، اللّغات، أنظمة الإشارات، التّعليمات، وهذا التّحديد يجعل من اللغة جزءًا من السّيميائيّة»[7].

وهناك تعريف آخر يرى أنّ السيميولوجيا : «ليست ..غير ذلك العلم الذي يبحث في أنظمة العلامات أياً كان مصدرها»[8].

ولا يختلف هذا التّعريف عن تعريف رومان جاكبسون الذي يرى «أنّ السيميائية تتناول المبادئ العامّة التي تقوم عليها بنية كلّ الإشارات»[9]. بينما ذهب “أمبرتو إيكو” إلى أنّ السيميائيّة هي «علم العلامات أو السّيرورات التّأويليّة»[10].

وترجع أهميّة السّيميائية إلى أنّها تمكّن محلل النّص من تقديم مجموعة من الأدوات العلميّة لتعريف النماذج اللّغوية المختلفة التي تؤدّي إلى معنى اتصاليّ محدّد أو واضح[11].

كما يؤكّد السيميائيون على وجود روابط قويّة بين العلامات والتّأويل لأن شيئًا ما لا يكون علامة إلاّ لأنّه يؤوّل[12].

وتعتمد المقاربة السّيميائيّة على دراسة النّص من خلال بنيته الدّاخلية أو بوصفه كيانًا دلاليًّا قائمًا بذاته، لا نحتاج في وصفه إلى معلومات خارجيّة عنه سواء تعلّقت بحياة الأديب، أو بالظّروف المحيطة به، أو بالأحداث المرويّة، ما دام موضوع السّيميائية ينحصر في وصف الأشكال الدّاخليّة لدلالة النّص[13].

ولا يتعارض التّحليل السّيميائي مع تعدّديّة الدّلالة، فالذي يضطلع بالتّحليل السّيميائي عليه أن يضع نصب عينيه مبدأ «أنّ النص الأدبي الواحد قد يتناوله طائفة من الدارسين جملة واحدة دون أن يكون ممتنعاً أو مستنكراً»[14].

ويعمل البحث السّيميائي على تفكيك بنية النّص الأدبي الدّاخلية ليرتدّ منها إلى الخارج، بخلاف المناهج النّقديّة الأخرى التي يرتدّ منها النّص بالاتجاه المعاكس أي من خارج النّص إلى داخله .

3- المبحث الأول: سيميائية العنوان والغلاف والإهداء:

تهتمّ المقاربة السّيميائية بدراسة العتبات النّصيّة وتحليلها، ومنها العنوان والغلاف والإهداء. وقد تعاظم اهتمام النّقاد والدّارسين بالعنوان من خلال محاولات الوقوف على ماهيّته ودلالاته وصلته بالنّص، لأنّه يمثّل «الشّفرة الذّهبيّة للدّخول إلى عالم النّص»[15].

ويُعدُّ “جيرار جينيت” أحد أبرز النّقاد الذين اهتمّوا بدراسة العنوان، إذ أصدر عام 1987م كتابًا بعنوان عتبات Seuils اتّجه فيه إلى دراسة العناصر المكوّنة للعتبات النّصّية بما فيها العنوان، واعترف بصعوبة وضع تعريف محدّد له فقال: «ربما كان التّعريف نفسه للعنوان يطرح أكثر من أيّ عنصر آخر للنّص الموازي بعض القضايا، ويتطلّب مجهودًا في التّحليل»[16].

ويُعَدُّ “لي هوك Leo Heok ” من النّقاد المؤسّسين لعلم العنونة وذلك في كتاب سمّاه سمة العنوان La Marque du titre، وأشار في كتابه هذا إلى أهمّية العنوان بوصفه موضوعًا صناعيًّا Object artificial له وقع بالغ في تلقّي كلّ من القارئ والجمهور[17].

فالعنوان –إذن- أولى عتبات النّص وأولى إشاراته، وهو العلامة التي تطبع الكتاب أو النّص، وتسمّيه وتميّزه من غيره، وهو كذلك من العناصر المجاورة للنّص الرّئيس والمحيطة به إلى جانب الحواشي والهوامش والمقدّمات والمقتبسات والأدلّة الأيقونيّة[18].

فمقاربة النّص –سيميائياً- لا تكتمل إلا بتحليل العنوان فهو «علامة ليست من الكتاب جعلت لتدلّ عليه»[19].

فالعنوان يُدرس بوصفه علامة بارزة، أو نص موازٍ حافل بالدّلالات التي تضيء العالم الشّعري ولذلك يُعَدُّ «الخطوة الأولى من خطوات الحوار مع النّص»[20].

وإذا كان العنوان –من النّاحية الواقعيّة- يدلّ على وضعيّة لغويّة شديدة الافتقار، إذ لا يتجاوز حدود الجملة إلا نادرًا، وغالبًا ما يكون كلمة أو شبه جملة، فإنّه على الرّغم من هذا الافتقار اللّغوي، ينجح في إقامة اتّصال نوعي بين المرسَل والمستقبل[21].

إنّه مفتاح إجرائيّ لفهم النّص وفك شفراته –سيميائيًّا، كما أنّه يفتح شهيّة القارئ للقراءة.

وعند دراسة العنوان يجب ملاحظة الشّكل الهندسي له ، ومكانه أو موضعه من الغلاف الخارجيّ، ونوع الخطّ، واختلاف حجمه عن متن النّص، واللّون المغاير الذي كتب به، ودراسة الصّلة بين العنوان والمتن، كما أنّ «أيّ تحليل سيميائيّ لعنوان ما يستدعي المرور بمستويين: مستوى خارجي نصّي يعنى بدراسة دلالات العنوان أولاً وتأويلاته بعيدًا عن حيّز النص وتتبّع دلالاته معجميًّا أو اجتماعيًّا أو فلسفيًّا أو تاريخيًّا في استقلاليّة تامّة عن النّص .. أما المستوى الثّاني -الذي يدرس على سبيل العنوان- فهو المستوى الداخلي بحيث لا يمكن القفز إلى تحليل النّص قبل التّطرّق إلى تحليل العنوان ليكون بمثابة المصباح الذي يضيء لنا ما يحمله النّص، أي أن يكون العنوان بنية متضمّنة في النّص له علاقة وطيدة تربطه به، ذلك أنّ النّص الشّعري يتكوّن من نصّين يشيران إلى دلالة واحدة هما: النّص وعنوانه[22].

وقد يحمل العنوان في طيّاته قيمًا أخلاقية أو اجتماعية أو إيديولوجية كما يشير إلى محتوى القصائد ويمارس تأثيره الإغرائي في القارئ.

3- 1- العنوان:

جاء عنوان ديواننا مشحوناً بدلالات ثريّة بالرغم من قصره نسبيًّا، فهو جملة منفيّة تصدّرها حرف النّفي ليس الذي قد يدلّ على النّفي في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وقد يفيد أغراضًا بلاغيّة مثل الإيجاز وإثبات النّفي وغير ذلك.

وربما آثر الشاعر صيغة النّفي ليس دون غيرها لأنّ دلالة النّفي فيها أقوى، وربما آثر أن يضفي على هذا الترّكيب ظلالاً إيقاعيّة أو شاعريّة يتردّد صداها في أذن القارئ لأن جملة العنوان ليس يعنيني كثيراً ذات إيقاع موزون، فوزنها فاعلاتن فاعلاتن ينتمي إلى بحر الرمل.

ويحيل عنوان الدّيوان إلى محذوف، كأن يكون تقديره: ما حدث أو ما يحدث ليس يعنيني كثيرًا، أو ليس يعنيني كثيرًا ما حدث أو ما يحدث وهذا يعني أنّ النفي ليس مطلقًاكما تشير إلى ذلك لفظة كثيرًا، بل يعنيه بقدْر ما وليس يعنيه كليّةً، كما تحمل أيضا دلالة النّظر إلى ما يحدث بشيء من اللامبالاة أو السّلبية.

ومن الجائز أن تكون جملة العنوان جواباًاعن سؤال افتراضي، مؤدّاه: هل يعنيك هذا الأمر؟ أو: إلى أي مدى يعنيك هذا الأمر؟ فيكون الجواب: ليس يعنيني كثيرًا، وهو ما قد يشير إلى موقف الشّاعر من حدث معيّن أو قد ينسحب ليشمل كلّ حدث، فيقال ليس يعنيني كثيرًا أن أرحل أو أن أفارق حبيبًا أو أن أفقد شيئًا، أو ليس يعنيني كثيرًا ما يحدث حولي في الواقع بمستوياته كافّة.

وهذا التّأويل أو هذه الافتراضات تندرج في إطار قراءة العنوان في مستواه الأول: خارج النّص.

أما المستوى الثّاني لقراءة العنوان وتحليله سيميائيًّا فهو المستوى الدّاخلي الذي يرتبط فيه العنوان بمتن النّص ومضمونه.

وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أنّه ليس في قصائد الدّيوان السّبع عشرة ما يحمل هذا العنوان الخارجي، ممّا يؤكد أنّ اختياره لم يكن اعتباطيًّا، بقدر ما هو اختيار مقصود جاء بعد تأمّل وتفكير.

وبالنّظر إلى الشّكل الهندسي للعنوان نلحظ أنّه كتب بشكل بارز في النّصف الأعلى من صفحة الغلاف إشارة إلى أهمّيته، كما كتب باللون الأحمر ليلفت النّظر إليه كعلامة سيميائيّة، وليترك للقارئ مساحة واسعة من التّأمل والتّفكير والتّساؤل عن كنه هذا الشّيء أو الحدث الذي لا يعني الشّاعر كثيرًا، وإن كان يومئ إلى شيء محدّد؟ ولماذا جاء متشحًا ببعض الغموض النّاجم من الحذف النّحوي؟ ولماذا جاء على هذه الشّاكلة من الاقتصاد اللغوي؟ وهل أراد الشّاعر من كلّ ذلك أن يحقّق أعلى فاعليّة تلقٍّ ممكنة؟

وإذا كان العنوان لم يُؤخذ من المادة النّصية، فإنّ ثمة إشارات في بعض قصائد الدّيوان قد تقود إلى فتح مغاليق هذا العنوان، ومن ذلك قول الشاعر[23]:

         ما لم يقل في الدفتر اليوميّ

         أقراص مهدئة لما لا يُحتملْ

         ما كنتُ أحمل في الحقيبة ليس يعنيني كثيراً

         ما تركتُ وراء ظهري

         ليس إلا ما تركتُ وراء ظهري

فها نحن نضع أيدينا على جملة العنوان ليس يعنيني كثيرًا في السّطر الثّالث من هذه الأبيات، وقد يسَّر لنا الشّاعر السّبيل إلى فك اللغز المحذوف من العنوان بأنّ ما كان يحمله في الحقيبة ليس يعنيه كثيرًا، وإن كان الغموض لم ينكشف تمامًا، إذ لابد أن نتساءل عمّا كان يحمله الشّاعر في الحقيبة؟ أهو شيء مادّي أم مجازيّ؟ وإن كانت الدّلالة تشير إلى حمل شيء ما وإخفائه وتعمّد عدم الإفصاح عنه؟

وهناك قصيدة أخرى في الدّيوان بعنوان ذاك شأنك .. ليس أكثر! [24] وهو عنوان دالّ يرتبط بوشيجة ما مع العنوان المركزي، فالشّاعر -في القصيدة ومن خلال العنوان- ينفصل عن المخاطب، ويعزو شأنه إليه فلا يعنيه شأنه. وتتقارب جملة ليس أكثر -دلاليًّا- مع لفظة كثيرًا في العنوان الرّئيس لتعمّق فكرة موقف اللاّمبالاة أو السّلبية.

كما نجد عبارة ليس أكثر تتردّد في سياق آخر في قول الشاعر[25]:

         ليس أكثر من عناوين

         امتحنت بها المسافة نحو حتفك

         فالأغاني لا تخون

وفي قصيدة نخبًا للذين مضوا نرى ظلال العنوان بدلالاته، إذ تظلّ في القصيدة صورة المسرح العبثيّ بمفرداته كمعادل موضوعي للواقع[26] حيث يواجه هذا العبث وهذه الفوضى بعدم الاكتراث.

فالعنوان –كما نرى- يمثل فضاءً واسعًا من الدّلالات كما يحمل في طياّته إيحاءات عميقة عن صورة الذّات الشّاعرة ورؤيتها للواقع المحيط بها، وبذلك يتحوّل العنوان من كونه مجرّد بنية لغويّة إلى نصٍّ موازٍ، فضلاً عن كونه بمثابة مفتاح إجرائيّ لفهم نصوص الدّيوان.

3- 2- عتبة الغلاف:

وكما جاء العنوان مشحونًا بدلالات عديدة، فالحال ذاته بالنّسبة إلى غلاف الدّيوان، فقد تصدّر اسم الشّاعر المساحة العلويّة البيضاء بخطّ أسود ليشكّل علامة دالّة على أهميّة الذّات. ونجد داخل اللّوحة الفنّيّة لوحة الغلاف مجموعة من الرّسوم والخطوط والألوان التي توزّعت بين البياض والسّواد والاصفرار، حيث تميل أرضيّة الغلاف إلى اللّون الرّمادي، أو الأسود الباهت، ويتوسّطها رسم تجريدي لرجل باللّون الأسود يضع يديه في جيبي بنطاله -في حركة لامبالاة- وهو ينظر إلى مجموعة أشجار في رسم تشكيلي تبدو وكأنّها جرداء، وهذه الأنساق -مجتمعة- تعدّ علامات أيقونيّة تحمل دلالات سلبيّة عن عالم الواقع، وتومئ إلى العالم الإبداعيّ للشاعر في الدّيوان.

3-3- الإهــداء:

اختار الشّاعر مقطعًا من شعر الراحل محمد الثبيتي ليكون إهداء، وقد وضعه مستقلاً في الجزء السّفلي من صفحة بيضاء، ولا شك أنّ لمحمد الثبيتي مكانة خاصة، فهو من أيقونات شعر الحداثة في المملكة العربيّة السّعودية، وأحد أبرز شعرائها الممثّلين لهذا الاتجاه، كما يمثّل شعره تجربة إبداعيّة ثريّة.

واختصاص الثبيتي بالإهداء يعني اعتزاز صاحب الدّيوان به، وتقديره لشاعريتّه، وتواصله مع عالمه الإبداعي، كما يعني مشاركته همومه ومعاناته، والتواشج معه في تجربته الإبداعيّة.

أما الإهداء الذي اختاره الشّاعر من شعر الثبيتي فهو:

         بين نارين أفرغت كأسي

         ناشدت قلبي أن يستريح

         هل يعود الصبا مشرعًا للغناء المعطّرِ

         أو للبكاء الفصيح ..؟

          يعبّر الإهداء عن معاناة الثبيتي وإحساسه بالاحتراق وتمزّق الذّات وتشظّيها، والهروب بالكأس -من واقع الاحتراق والمعاناة التي أرهقت قلبه الممزّق بين ماضٍ مبهج وحاضر يستدعي البكاء.

ولا شك أنّ استدعاء نصّ الثبيتي يمثّل علامة أيقونيّة يحيل على توحّد المعاناة بين الشّاعرين، وأنّ تجربة يعقوب تتماسّ مع تجربة الثبيتي، وأنّ الصّوتين الشّعريين يمتزجان ويتوحدان.

4- المبحث الثاني سيميائية الأسماء والشخصيات:

الأسماء والشخصيات رموز منصوبة، وتتمتّع بدلالات ثريّة، وحضور كثيف في النصّ الشعري، وهو مَشْغَلٌ يغري يالتقصّي، كما سنرى:

4- 1- سيمياء الأسماء:

للأسماء التي تتردّد في العمل الأدبي دلالات ورموز، ولذلك يكون اختيارها مقصودا حيث تمثّل علامات محيلة على دلالات محدّدة توظّف في سياق معيّن.

وفي ديواننا تتردّد في القصائد بعض الأسماء العربيّة وغير العربيّة، فمن الأسماء العربيّة نجد اسم معن بن زائدة يتردّد في قصيدة نخبًا للذين مضوا فيقول[27]:

ترى في المسرح العبثيّ أدواراً مهيأة فتصعد سلم الذكرى على لحن هجائي، وتجرح لذة التصفيق بالتحديق من أعلى، ترى وطناً على عكازه يمضي، ترى قدحاً ولا ندماء حول الليل في شغف، ترى معن بن زائدة على كرسيّ حكمته التي امتحنت بألف خليفة من قبل.

يشبّه الشاعر الواقع بمسرح عبثيّ يقوده إلى استدعاء الماضي ليضعه بإزاء الحاضر، فيستدعي مشاهد عديدة، منها شخصيّة معن بن زائدة القائد العربي الشّهير الذي عُرف بأنّه أوسع الناس حلمًا وجودًا وعفواًا عن زلاّت النّاس، وكان أحد أبطال الإسلام، وعين الأجواد، وله قصص مشهورة مع بعض الخلفاء، ومنهم أبو جعفر المنصور الذي توعّده بالقتل ثم عفا عنه لحكمته وحسن بلائه، فصار استدعاؤه في القصيدة رمزًا للحكمة المفتقدة في الواقع.

وتتردّد في الديوان صورة عنترة في قوله[28]:

من أصغى سيسقط في المفازة، من أضاء لـ عنتر الغرف القريبة من سياج القصر حتماً سوف يُصلب في كؤوس الليل

فـ عنتر هنا ليس هو عنترة العبسي ذلك الفارس العربي، ولكن الشّاعر أخرجه من هذا الحيّز إلى حيز آخر مشحون بدلالات عصريّة حيث يبدو محاصرًا قابعًا في غرفة مظلمة.

وفي قصيدة “أسئلة المراهن باسمه” تستحضر الذّات الفاعلة عدّة أسماء تراثيّة ومعاصرة، فيقول[29]:

  • أنا من أنا في الشمس؟!.

تاريخ يجفف كبرياء بني أمية في الطريق إلى دمشق، سماء بابل تحت ظلّ أصابع السياب ذابلة، دمٌ أعمى يفكر في الحسين على طريقته.

فالشاعر -في سياق إدانة الواقع العربي- استدعى اسم الشّاعر العراقي بدر شاكر السّياب ووضعه في سياق الواقع العراقي المؤلم، كما أشار إلى اسم الحسين بن علي موظّفًا إيّاه علامة محيلة على الواقع المحاصر بالفتن والاقتتال والصّراع الطّائفي، واضعًا هذا الحاضر الانهزامي في مواجهة الماضي العربي الرّاهن كما تومئ إليه علامة كبرياء بني أمية وسماء بابل.

ومن الأسماء الأجنبيّة التي تتردّد في الدّيوان اسم الأديب العالمي جارثيا ماركيز، كما في قوله[30]:

  • هل نزفنا كثيراً ..

تذكرتُ كانت ستقضي المساء الأخير معي

ليلة من روايات ماركيز

كنا جلسنا لنفرد أسماءنا

عُرينا

وقتنا الزئبقيّ

فاسم ماركيز يتردّد مقرونًا برواياته التي تنتمي إلى عالم الواقعيّة السحريّة، ذلك العالم الفانتازي المدهش[31]، وقد استدعاه الشّاعر بوصفه علامة في سياق تفاصيل تجربة جسميّة.

4- 1-1- سيمياء الشخصيات:

تُعدُّ الشّخصية في التّحليل السّيميائي علامة من العلامات وإشارة دالة[32].

وهناك ثلاثة أنواع من الشّخصيات تبدو علامات داخل النّص السّرديّ، وهي:

  • الشّخصيّات المرجعيّة: وهي الشّخصيّاتى المحيلة على عوالم ذات طبيعة مألوفة وتنضوي في إطار المرجعيّة الثقافيّة المنبثق منها النّص السّرديّ، فقد تكون شخصيات أسطورية ماضوية، أو شخصيات مستقطبة من الأحداث التّاريخيّة.
  • شخصيات إشاريّة: وتشير إلى ذاتيّة المؤلّف بمعزل عن العمل للتّجلّي المباشر.
  • شخصيات استذكاريّة: وهي تلك الشّخصيات التي لها دور قويّ وفعَّال في ربط أجزاء النص السّردي[33].

ويحتشد ديواننا بصور لشخصيات ذات علاقة بتجربة الشّاعر لها وظائف سرديّة، منها شخصيّات اهتمّ الشّاعر بها من حيث تصوير البناء الخارجيّ أو الملامح الخارجيّة وما تومئ إليه من علامات ودلالات، كما اهتمّ بتصوير الملامح الدّاخليّة وما تنطوي عليه من صفات نفسيّة، واجتماعيّة، وخلقيّةـ، وفكريّة.

وتستأثر شخصيّة المرأة بالنّصيب الأكبر من بين شخصيّات الدّيوان، فثمّة قصائد عديدة تحمل عناوين شخصيّات نسائيّة، ومنها سيدة الولع المستثنى، ص57 ، وهي امرأة ولكن، ص109 – حيث تزخر كلّ قصيدة بصور ومواقف لنساء أسهمن في تشكيل تجربة الشاعر، فضلاً عن حضور الشّخصيات النّسائية في قصائد أخرى عديدة. وبناء على ما تأسّس، يمكن القول إنّ شخصيّة المرأة في الدّيوان تمثّل أيقونة بارزة وعلامة من أكثر العلامات حضورًا وكثافة.

ففي قصيدة Holidayيهتم الشاعر برسم الملامح الخارجية للمرأة فيقول[34]:

         وترٌ يمرُّ الآن بين قصيدتين ..

         وربما لم أنتبه عمداً إلى عسلٍ

         على طرف الشفاه الجانبية سال فارتبكت

         على دَرَج البنفسج أسفل باب شقتها

         أضاءت موسم الحمّى

         وكانت مرَّةً أولى أراها في ثياب البيت طازجةً كما ترجو القصائد،

         كنزة صوفية زرقاء مثل سماء عينيها ..

         وشالاً من خيوط الماء

         تتركه على عنقٍ شماليٍّ بلا هدفٍ ..

         أصابعُ في كمين البرد عالقةً ..

         وكنتُ أخفّ من نردٍ على دَرَج البنفسج

         ليس يعرف من دوار البحر إلا ما تبوحُ به السفينةْ!

تطلّ المرأة بملامحها الخارجيّة ذات الجاذبيّة، وتتشكّل في صورة الأنثى الجذّابة ذات الإغراء بشفاهها العسليّة، وثياب البيت الطازجة، والعينين الزرقاوين «وهي إشارة سيميائية إلى امرأة أجنبيّة»، والكنزة الصوفية، والشال المائي، وغير ذلك من صفات حسية أضاءت موسم الحمى ،إنّها صورة تحمل شفرة جنسية تمثّل رد فعل تجاه صفات هذه المرأة الأنثى. وقد جاء عنوان القصيدة إجازة باللغة الإنجليزية بمثابة علامة سيميائية إلى طبيعة التجربة والمرأة والمكان.

وتمتزج الملامح الخارجية بالملامح الداخلية في شخصية امرأة أخرى يصورها الشاعر في قصيدة بعنوان هي امرأة ولكن يقول فيها[35]:

         هي امرأة ولكن لم تغادر بَعْدُ شرفتها، جدائل

         شعرها الصيفي قاموس طبيعي لحزن الماء، دافئة

         تحدث نفسها في الليل عن لغة بلا أسماء، عن رجل

         بلا تاريخ ميلاد، وتحزن وحدها في الليل

         هي امرأة ولكن ظلها ترف ثقافي، تخبىء وجهها

         في الغيمة السوداء، متعبة وفائضة عن الشغف الضروري

         الذي لم تستطع يوماً كتابته كما ترجو ..

         هي امرأة ولكن جازفت أقصى من المعتاد، تقفز نحو هاوية            

         لتقفز نحو هاوية، برغم تلعثم الأقداح ظلت في حواف الكأس

         مؤمنة بقدرتها على التلويح للكلمات ترقص وحدها في الليل ..

         هي امرأة ولكن .. حظها تعبان !!

         شخصية المرأة هنا محاطة باستدراك في عبارة لم تغادر بعد شرفتها بوصفها علامة على الاحتجاب والعزلة، و تبدو انطلاقا من استقرائنا لملامحها الداخلية أنّها محاصرة بالحزن تحنّ إلى الرجل وتفتقده، إذ يبدو هو بلا تاريخ ميلاد، تبدو هي محاطة بواقع ثقافي، تحاول كسر حصارها بالمجازفة والقفز نحو الهاوية، فهي بكلّ مقاييس الأنوثة امرأة، ولكنها سيئة الحظّ لما تواجهه من عواصف وأعاصير اجتماعية عبَّر الشاعر عنها بصورة لافتة في قوله هي امرأة ولكن .. حظها تعبان!! فقد أضفى بجملة حظها تعبان ظلالاً شعبية تبدو علامة لواقع مؤلم وامرأة تعيسة. وثمّة علامة بارزة تومئ إلى هذه المرأة في قوله تخبئ وجهها في الغيمة السوداء، فيضعنا الشّاعر بذلك أمام نموذجين لامرأتين تنتميان إلى ثقافتين مختلفتين كلّ الاختلاف، نموذج المرأة المتحرّرة في قصيدة Holiday ونموذج المرأة المنغلقة في قصيدة امرأة.. ولكن.

وقد يتوقّف الشّاعر أمام شخصيّات نسائيّة جماعيّة كما يتمثّل في صورة بنات الحيّ في قصيدة خطأ في الغياب إذ يقول[36]:

         العمر مرَّ كما تمرُّ صبيَّةٌ في نهر أغنيةٍ

         ويكبر سِرُّها معها

         بناتُ الحيَّ

         لم يدركن عن قَصْدٍ

         نذوري خلف باب الصدفة البيضاء

         لم يطرقن –لو عَرَضاً- سماء البال

         كي يبتلَّ إفصاحي

         بنات الحيّ يعرفن الذي يعرفن من أُمّي

         ولم يقحمن أضلعهنّ

         في القصص التي حيكت بلا داعِ

فالشاعر هنا يعبر عن تجربة ذات ملامح خاصة، تجربته التي استدعتها ذاكرته مع بنات الحيّ اللواتي يمثّلن أيقونات لمجتمعه، وقد أضفى عليهنّ صفات البراءة والنّقاء، فهنّ يأخذن الحكمة والخبرة من أمّه وحدها بعيداً عن التّرهات.

ومن الشّخصيات الذّكورية تطلُّ صورة الجدّ في غير موضع، ولعلّ ما يفسّر هذا الحضور القويّ أنّ قصائد الدّيوان تبدو أشبه بسيرة ذاتيّة للشّاعر، ولذلك فكثيرًا ما يستدعي صورة الجدّ بوصفها أيقونة للماضي. يقول[37]:

         لا تتخذ شغفاً صديقي

         قالها جدي ومال إلى الغياب

         وكنت أبحث في تراث أبي من اسمي

         في خزانة وحشتي الأولى بخور سيدة

         على قمصان أسئلتي التي في الروح لم تكبر

         وجدتُ دمي على المرآة

         متكئاً على امرأة بلا أخطاء كالحمى

تحتشد الصّورة هنا بعلامات الماضي وشخوصه: صورة الجدّ الذي رحل بعد أن نطق بلسان الحكمة والنّصيحة، وصورة الشّاعر الحفيد الذي يبحث عن هويّته في تراث الأب ثم صورة المرأة التي تبدو بلا أخطاء وتحضر علامة أو أيقونة اجتماعيّة مثاليّة.

وتطلُّ صورة الجد مرّة أخرى في القصيدة ذاتها، وذلك في قوله[38]:

         وجدتُ مسودَّات الريح

         في ورق نحاسيّ غسلت بمائها شغفي

         ولم أحفل بأغنية لجدي في الخزانة إذ أودّعها

         فجدي ليس يعرف من أنا حقاً

         ويرقد في عظامي!!

مازال الشاعر يصحبنا في سياق سيرته الذّاتية حيث الإلحاح على فكرة البحث عن الهويّة كما تشير إلى ذلك علامة الورق النّحاسي والخزانة، وإن بدت العلاقة مُنبتَّة بين الجدّ وحفيده، فهو يسكن في عظامه ولا يعرفه، وقد تكون تلك إشارة أو علامة على التّغيّر الذي طرأ على المجتمع.

وفي هذا السّياق تبرز صورة الصّبيّ بما هي إحدى شخصيّات الديوان المشحونة بالعلامات، يقول الشاعر في قصيدة بعنوان أوراق حجرية [39]:

         الأرضُ تذكار نعلّق نصفه في الشمس

         كي يقف الصّبيّ على هواءٍ فاض من رئتيه

         خلف نشيده الوطني،

         لا يدري كلون ثيابه البيضاء عن حُمّى حقيبته

         القصيدة ..

         فرصة أخرى لنقفز فوق السور!

         أول من يراوغ في الكلام هو الصّبيّ ..

         هنا صياحٌ مدرسيٌّ لم يقل شيئاً

         كراريس البلاغة لم تقل شيئاً كذلك

         والبلاد هي البلاد

تصوّر القصيدة جانبًا من جوانب السّيرة الذّاتيّة للشّاعر في صباه، وهي صورة ذات طابع محليّ شديد الخصوصيّة بما تتضمّنه من علامات وإشارات لعالم هذا الصبيّ بملابسه البيضاء ، التي تشكّل علامة سيميائيةّ، وهو يمضي حاملاً حقيبته، ثم وهو يقف مرددًا النّشيد الوطني، وإن جاءت الصورة ذات دوالّ سلبيةً تشير إلى الثّبات والجمود.

وثمّة شخصيات هامشية نقع عليها في الديوان، مثل شخصية البائع أو حامل الحقيبة في قوله[40]:

         تبدو إلى سَفَرٍ وليس بهذه الدنيا مقام

         بائع أخذ الحقيبة ثم قال:

         وما انتبهتُ لصيغة الفعل المضارع

         في كلام البائع العَرَضيّ

فشخصية البائع هنا -برغم هامشيّتها- تحمل طابع الحكمة والنّبوءة، وهو ما جعل الشاعر يستدعي عبارته مرة أخرى، وينتبه إلى ما تكتنز به من إيماءات.

5- المبحث الثالث : الدوال والرموز:

يهتمّ التّحليل السّيميائي بتتبّع الدّوال والرّموز التي يكون لها حضور بارز في النّص بوصفها علامات سيميائيّة تسهم في اكتشاف العالم الشّعري للمبدع.

وباستقراء قصائد ديواننا نجد أنّ ثمة حضورًا مكثفًا لعدد من الدّوال والرّموز ، وأبرزها:

5- 1- دالة الحقيبة:

تتردّد دالّة الحقيبة بكثافة في ثنايا قصائد الدّيوان حتى إنّها تطالعنا منذ السّطور الأولى لأولى قصائد الديوان خطأ في الغياب وذلك في قول الشاعر[41]:

         تبدو إلى سفرٍ وليس بهذه الدنيا مقامٌ

         بائع أخذ الحقيبة ثم قال

فالحقيبة هنا علامة على السّفر أو الرّحيل، وهو ما يشير إلى أنّ الشاعر على سفرٍ أو في حالة ارتحال، ويفاجئنا الشاعر بما تحمله الحقيبة فيقول[42]:

         ما كنتُ أحمل في الحقيبة ليس يعنيني كثيراً

         ما تركت وراء ظهري

         ليس إلا ما تركت وراء ظهري

فالحقيبة هنا علامة على عدم اكتراث الشاعر بما يحمل أو يتردّد به في رحلته، وكأنّه ليس هدفًا في ذاته، أو كأنّ وسائل الاستعداد للرّحلة لا تمثّل له أهميّة كبرى، إذ الهدف الرّحلة في ذاتها.

         وتأخذ الحقيبة دلالة أخرى في قوله[43]:

         ليلٌ مجازيٌّ

         فهذا الأزرق المرئي في لغتي أنا في الماء

         لا أحد أقاسمه الحديث سوى الحقائب

فـالحقيبة هنا تخرج عن كينونتها من حالة الجمود إلى التّشخيص، فتصير الصّديق الوحيد الذي يشاطر الشاعر وحدته، وفي هذا دلالة على حالة الوحدة والفقد التي تحاصر الشاعر.

وتأخذ علامة الحقيبة دلالة أخرى في قول الشاعر[44]:

         ليس من قدر يوازي

         أن تظلَّ على الحياد مع الغياب ..

         إذا ذهبت فكن سماء لا تفكر في متاع الآخرين

         إذا تعبت فلا تلم أحداً سوى قلب الصبي

         إذا اعترفت بكل شيء قبل أن تمضي

         فلا تنس الحقائب فوق ذاكرة البلاد

         ولا تثق أبداً بأسئلة الهوية، أو بأغنية الختامَ

فدالة الحقائب هنا تكتسب أهميّة بالغة، وتشغل مكانة فوقيّة إذ تومئ إلى اكتنازها بأسرار وحكايات وتواريخ وسير وأحداث، وبهذا تكتسب صورة مجازيّة إيجابيّة وتمحو الصورة السّلبية في قوله ما كنت أحمل في الحقيبة ليس يعنيني كثيراً، فالحقيبة تلك تختلف عن “الحقائب” هنا التي تعترف بذاكرة البلاد، وأسئلة الهويّة. ويلفتنا تكرار أبنية الشّرط في الأبيات التي تصدّرت بأداة النّفي ليس المحببّة لدى الشاعر والكائنة في عنوان الديوان.

وقد اقترن الشّرط بأفعال ذات دلالة ماضوية متتالية ذهبت – تعبت – اعترفت فالذهاب يعقبه تعب والتعب يفضي إلى الاعتراف ومتاع الآخرين فيه مشاكلة مع الحقائب.

وتتردّد دالة الحقيبة في قصيدة أخرى في قوله[45]:

         ليس هناك من أحد

         معي في الروح ذات حقائب الآتين

         من مدنٍ بلا أسماء

ونلحظ تردّد حرف النّفي ليس في صدارة الأبيات، ليكون أيقونة متجذّرة في الديوان بدءًا من العنوان مرورًا بتضاعيف القصائد.

وتشير دالة الحقائب هنا إلى زائري تونس من مدن لا طابع لها أو هوية مدن بلا أسماء، وتشير في الوقت ذاته إلى انفصال الذّات عن الآخرين وعدم انخراطها معهم.

وتأخذ الحقيبة دلالتها المباشرة في قصيدة أخرى حيث يقول[46]:

         أخفت في حقائبها ..

         اعترافاً لم تستطع أن لا تبوح به إليَّ ولم تقله

         فـ الحقيبة هنا تبدو في صورتها المادّية المباشرة بوصفها مكانًا لإخفاء الأشياء، ولكنها صارت هنا موطنًا للإخفاء المجازي والاعتراض.

5- 2- دالة الماء:

الماء من أكثر الدّوال حضوراً في الديوان الماء هو أصل الحياة وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ([47]. والشّاعر –بوصفه من أحفاد أجداده الشّعراء القدماء- يعرف قيمة الماء وما كان يمثلّه في حياة الإنسان.

وقد جاءت دالة الماء في الديوان غنيّة برموزها ودلالاتها، وصارت أيقونة بارزة في تجربة الشّاعر، فقد تحمل دالة الماء شفرة خصوبة، وتحيل على تجربة مادية كما في قول الشاعر[48]:

         كنتُ رفيقها في الماء

         إذ تنسى سريرتها على جسدي

         وتنزل لذة العرفان

         ويتردّد التّعبير المجازي ماء العمر في قوله[49]:

         كنت وحدك، لا سوى عينيك وامرأة

         على ذات الجدار تمس ماء العمر في وجعين

         حيث لا وطن سوى الكلمات بينكما

         وحزن محتمل

إنّ التّعبير الذي يحمله كنت وحدك يجذّر حالة الوحدة والفقد السّائدة في الدّيوان، ووجود المرأة يبدو طارئًا مرهونًا بلحظة محدّدة أو بموقف معيّن، حيث وظّفت لتؤدّي دورين مزدوجين: دور وظيفيّ حيث تمس ماء العمر، ودور المشاركة الوجدانيّة وتبادل الكلام والوجع والحزن.. مما يحيل على أنّ التّجربة هنا قد ارتبطت بـالوجع والحزن المحتمل وغياب صورة الوطن.

ويتحول الماء إلى فريسة تُقتنص في قوله[50]:

         غشَّك الوطنُ المراوغ لست فيه ولست عنهُ

         نموُّ لذتك الغريبة

         في اقتناص الماء من شجر التوتر

فدالة الماء تقترن هنا بصورة الوطن المراوغ، والانفصال عنه، وبتلك اللذة الغريبة في اقتناص الماء من شجر التوتر وهي صورة مجازيّة تعبر عن الذّات وهي تلوذ بعالم الماء المجازي لاقتناص اللذة خلاصًا من الواقع أو هروبًا منه.

ويتشكّل الماء في صور مجازيّة عديدة في قصائد الديوان، ويبدو علامة لمعان وصور كثيرة، فمن الصّور المجازيّة للماء هذه الصورة[51]:

         لوَّنت أوراقي بشيء من حديث الماء

         في يوم خريفيٍّ

         وقلتُ لها: اذهبي!

فتعبير حديث الماء تعبير مجازي يشير إلى الامتلاء والخصوبة والفاعليّة بالرغم من عدم الحضور التام لـ “حديث الماء” حيث احترز بقوله شيء من حديث الماء.

ويتردّد التّعبير المجازي خيوط الماء في قوله[52]:

         كنزة صوفية زرقاء مثل سماء عينيها

         وشالاً من خيوط الماء

         تتركه على عنق شمالي بلا هدفٍ

         فهذا الشال الذي تتلفّع به تلك المرأة منسوج من خيوط الماء إحالة على شفرة الخصوبة والامتلاء.

         ويمتاح الشاعر دالّة الماء في موضع آخر من الصّورة التّراثية القديمة فيقول[53]:

         الورود على الماء ليس عصيا كما ندَّعي

         إنما يظمأ الواقفون على الجسر

         لم يأخذوا خطوة للحنين الذي مسَّهم مرَّتين

فصورة الورود على الماء صورة تراثيّة تردّدت كثيراً في الشّعر القديم، ومنها قول
عمرو بن كلثوم[54]:

         ونشرب إن وردنا الماء صفواً                        ويشرب غيرنا كدراً وطنينا

فورود الماء قديماً مرتبطا بالحياة، وقد كان محفوفًا بالمصاعب والمخاطر، وكان من أسباب الصّراع بين القبائل، وقد استدعى الشّاعر هذه الصّورة الترّاثية ووجهها توجيهًا آخر، فجاء الورود على الماء رمزًا للاقتحام والجسارة والجرأة وارتباطًا بالخصوبة، وفي عبارة كما ندَّعي نفيٌ لفكرة صعوبة الورود، وقرن الاشتهاء والظمأ بالواقفين على الجسر أي من يتّصفون بالخوف والترّدد، وافتقاد الجسارة.

وكثيراً ما ترتبط دالة الماء بالاشتهاء والرّغبة، وتقترن بالمرأة، كما في قوله[55]:

         عرفتُ طلاء غرفتها

         صديقتها التي لم تمتحن يوماً صداقتها

         تخففها من الوتر المعلّق بين أغنيتين

         خيبة ظنها بالعابرين على ضفاف النهر

         لم يتخيلوا ماءً فمروا عبر محنتها خفافاً

         فصورة ضفاف النهر ترمز إلى خصوبة الأنثى التي خاب ظنّها بمن لم يتخيّلوا ما تكتنزه من ماء خصوبة فتركوها تعاني محنة الفقد.

5- 3- دالة الحمّى:

تتردّد دالّة الحمى بصورة لافتة في الدّيوان، لتكون إحدى العلامات المهمّة التي تشير إلى الرّغبة الشّهوانية والنّزعة الجسديّة الصارخة، كما يتضح في قول الشاعر[56]:

         أضاءت موسم الحمى

         وكانت مرّةً أولى أراها في ثياب البيت طازجةً

         كما ترجو القصائد

         فـ الحمى دالة تقترن بالمرأة، وبالإثارة الجنسيّة التي اشتعلت حين رآها بنعومتها في ثياب البيت.

         ومن الطبيعي أن تقترن دالّة الحمى بالليل حيث تتأجج الرّغبة وتشتعل[57]:

         ليس لديك ما يكفي من الأسماء

         كي تبتزَّ هذا الليل بالحمى ورمي النرد

         ليس لديك ما يكفي من الحب

         الذي قد بعثرته الريح

         فصورة ابتزاز الليل بالحمى ورمي النرد ذات دلالة على الإحساس بالسّأم والفقد، وإزجاء الوقت والخلاص بالرّغبة والتّسلية بلعب النّرد.

         وتتردّد صورة الحمّى في قصيدة أخرى بالدّلالة نفسها في قوله[58]:

         مهرة تأتي وتذهب دون قصد بين ذاكرتين

         أسئلة نربّي ظنها في الإثم مغرورين بالحمَّى

         سريرة أحرف أولى كتبناها على الجدران

ثم تسربتْ عمرا !!

         فدالة الحمّى تقترن بدوال أخرى: المهرة – الإثم.

ولم يقف الإحساس بالحمّى على الذّات وحدها، وإنّما انسحب على الطّرف الآخر كما تبدّى في التّعبير بصيغة الجمع مغرورين بالحمى.

         ونجد ارتباط دلالة الحمى بسيمياء الجسد في قول الشاعر[59]:

         لم أكن أعني تماماً رقم هاتفها

         إذ امتحنتْ تورطها

         بآخر قبلة آمنتُ

         ثم تركتُ أشيائي على العتبات ناقصة

         وكنت كآخر الركاب نحو غيابة الحمَّى

         ولم يأخذ حنينه

5- 4- دالة القبيلة:

         ويأتي استخدام الشاعر للفظ القبيلة بوصفها علامة ترمز إلى واقع اجتماعيّ أو سياسي، وتقرن الحاضر بالماضي فنجدها تتردّد في قول الشاعر[60]:

         لا سبيل لفك أحجية القبيلة.

من رأى قد ضلّ

         من أصغى سيسقط في المفازة، من أضاء

         لـ عنتر الغرف القريبة من سياج القصر حتماً

         سوف يصلب في كؤوس الليل

         فـ القبيلة هنا محاطة بالأحجية والألغاز والأسرار، وهو ما دفع الشّاعر إلى تكرار أبنية الشّرط التي توحي بأجواء صوفيّة مشحونة بدلالات التّحذير والوعيد، فالرّؤية تفضي إلى الضّلال، والإصغاء يؤدّي إلى السّقوط في الهاوية، وإضاءة الغرف للفارس تؤدّي إلى الهلاك. ومن ثمَّ، فالطريق إلى فكّ أحجية القبيلة محفوف بالمخاطر والموت.

         ويلحُّ الشاعر على هذا المعنى مرة أخرى فيقول[61]:

         فقلت، والبئر امتحان للقصيدة: هذه الصحراء محنتهم.

         وأعرف نقصهم في الماء، مرآتان في دمهم ولا يدرون من

         هذا الذي من النهر يتبعهم نهاراً، لا سبيل لفك أحجية القبيلة

         فدوالّ القبيلة هنا موصوفة بالسّلب، البئر – الصحراء – نقص الماء، كلّها دوال سلبيّة مقرونة بالامتحان، والمحنة، والشّح، والجفاف، والدماء. ومن ثمَّ، فلا سبيل إلى فكّ أحجية القبيلة التي تتجذّر صورتها السّلبية في مخيّلة الشّاعر.

5-5- دالة القصيدة:

         لدالّة القصيدة حضور كثيف في الديوان، وهي تقترن بالجمال والمال والحب وغير ذلك من المعاني السّامية.

         وكثيراً ما تقترن القصيدة بالغناء والموسيقى، كما تعبّر أحيانًا عن حالة الخلق الفنّي أو لحظة المخاض[62]:

         في أول الأمر انتظرتُ

         ولم أفكر في القصيدة مثلما خمَّنتُ،

         إذ تمشي وتتركُ للكمان غمامتين

         تمسُّ أوتاري وتذهب ..!

         فـ القصيدة هنا جاءت في بنية سرديّة حملت -فوق معناها المباشر- إيماءات وإيحاءات خاصة بتجربة الشاعر مع المرأة الأجنبيّة في القصيدة، واقترنت بدوال الموسيقى والغناء: الكمان – الأوتار بوصفهما من الرّموز المحيلة على التّجربة الحسيّة.

         وغالباً ما ترتبط القصيدة بالمرأة وبالجنس، وتكون علامة دالّة عليهما، كما في قول الشاعر[63]:

         مرَّت على مهلٍ ..

         وكنتُ ارتبتُ قبل مجيئها في العمرِ

         لم أكتب مدوَّنة تليق بفتنة الإيقاعِ

         في بهو القصيدة

         فـ القصيدة هنا مثال للجمال والفتنة والاتّساع والرّحابة، كما توحي بذلك صورة بهو القصيدة، فضلاً عن ورودها في سياق الحكي عن امرأة جذبته بجمالها، حيث تماهى الجمال الأنثويّ بجمال الشّعر وصارت المرأة أشبه بالقصيدة في الجمال والفتنة.

         والحبّ -في رؤية الشّاعر- يشبه القصيدة، فكلاهما حالة شعوريّة تأتي وتذهب، يقول[64]:

  • إن بعض الحب يبقى منه شيء ليس يمحى، حالة تأتي وتذهب كالقصيدة.

وتقترن القصيدة كذلك باللّذّة الحسّيّة[65]:

         أن تمضي إلى جسدٍ بلا معنى

         كأي قصيدة مرَّتْ على عينيكَ

         دون تفحص كافٍ للذتها التي عبرتك

         أن لا تنتمي لظلال سيدتين خائبتين

         في ذكراك..

         فذاك شأنك ليس أكثر

         فالشاعر ينتمي إلى مذهب الاستمتاع باللّذة أيّاً كانت، فلا يكفيه مجرّد الحصول على اللّذة بل يرى أهميّة الاستمتاع بها إلى أقصى حد. غير أنّ اللافت للانتباه هو ارتباط لذّة الجسد بلّذة القصيدة أو لذة النص –بحسب تعبير رولان بارت[66]– فكلاهما لذة تستحق التّأني والتّمهّل والاستمتاع الكامل، ولذلك يستوي -في رؤية الشّاعر- مغامرة الجسد التي بلا معنى مع التّلقي السّطحي للقصيدة دون سبر لأغوارها أو استمتاع كامل بما تحدثه من لذّة ونشوة. وهذه إشارة سيميائيّة إلى ثقافة الشّاعر.

         وفي هذا السّياق تتردّد صورة القصيدة العذراء في موضع آخر حيث يقول[67]:

         وجهة امرأة تميل على حواف القلب

         لم تذهب جزافاً

         بابها الورقي إذ تنساهُ عصفوراً

         على كتف اليقين الغضّ ..

         لا تدري ..!

         كأي قصيدة عذراء

         عن هذا الذي في القلب ينقصُ أو يزيد؟!

         فـــــ العذرية هنا صفة مشتركة بين المرأة والقصيدة، إذ تحملان طابع البكارة والطّهر.

         ولعلنا نلاحظ أنّ دالّة القصيدة في الأمثلة السّابقة جاءت مفردة، وهذا هو الغالب في ثنايا الديوان، عدا مواضع قليلة جاءت فيها بصيغة الجمع، كقوله[68]:

         أضاءت موسم الحمى

         وكانت مرَّة أولى أراها في ثياب البيت طازجة

         كما ترجو القصائد

         فدالة القصائد هنا علامة على الاكتمال والتّمام والفتنة التّامة، وإن اقترنت كذلك بشفرة خصوبيّة.

5- 6- دالة الأغاني:

         الأغاني .. القصائد .. الحب .. علامات دالّة تضاف إلى غيرها من العلامات التي تكشف العالم الشّعري للشّاعر.

         وثمّة قصيدة كاملة بعنوان الأغاني لا تخون تبدو فيها دالّة الأغاني علامة محوريّة مهمّة تتردّد بكثافة في ثنايا القصيدة[69]:

  • سر في الأغاني، لا تقل شيئاً لمن سمّوك باسمك

ثم قالوا ليس نعرف من يكون

  • سر في الأغاني مرَّة ..

لا تلتفت أبداً لتاريخ الزجاج

فلا يشف عن الغياب سوى الغياب

وأنت تعرف من تكون

         الأغاني دالّة تخرج عن معناها المادي المباشر إلى معان أكثر سعة ورحابة .. الأغاني هي عالم الشّاعر الأثيري الذي يكسبه هويّته ويمنحه حضوره البهيّ في مواجهة واقع الجحود والنّكران والجمود. إنّها حاضر الشاعر الصّلد في مواجهة تاريخ الزجاج الهش، فبالأغاني يعرف كنهه وكينونته، ويعرف من يكون[70]:

         سر في الأغاني ..

         خفة المعنى، سلالم باتجاه الأزرق الأبديّ

         ضوء عن يمين القبلة الأولى

         فواكه من نصيب الشمس

         يوميات عائلتين يقتسمان ظلهما

         على بابين من بُنٍّ وموسيقى

         لماذا نفى الشاعر الخيانة عن الأغاني؟ وما العلاقة -أصلاً- بين الأغاني والخيانة؟ إنّ الخيانة ضد الأمانة، بهذا تكون الأمانة صفة لازمة للأغاني.

         ويتكرّر فعل الأمر الطّلبي سرّ في الأغاني بوصفها العالم السّحري بإشعاعاته ومفرداته: خفّة المعنى، السّلالم التي يرتقي إليها إلى عالم الأبديّة الشّفاف، الفواكه السّحريّة أو الخرافيّة المشتهاة، عالم الجنّة والنّعيم علامة الاطمئنان العائليّ والأمان.

6- المبحث الرابع : سيمياء الزمان والمكان والعلاقة بينهما:

         هناك علاقة وثيقة بين الزّمان والمكان، وهذه العلاقة تقوم على التّكامل بينهما، ولا تكاد تخلو حكاية سرديّة من زمان ومكان يؤطّران الأحداث.

         ونظراً لارتباط الزّمان بالمكان وعدم وجود أحدهما بمعزل عن الآخر، فقد ظهر مصطلح الزمكان أو الزمكانية وهي «في صورها المختلفة تجسّد الزمن في المكان، وتجسّد المكان في الزمن دون محاولة تفضيل أحدهما على الآخر»[71].

6- 1- سيمياء الزمن:

       يؤدّي الزّمن دورًا مهمًّا في العمل الأدبي، فهو «محور الرّواية وعمودها الفِقريّ الذي يشدُّ أجزاءها، كما هو محور الحياة ونسيجها»[72].

         ولا تقتصر أهميّة الزّمن على النّص الرّوائي، وإنّما تمتدّ كذلك إلى النّص الشّعري، بل «إنَّ اللغة -حقاً- أداة زمنيّة، لأنّها لا تعدو أن تكون مجموعة من الأصوات المقطّعة إلى مقاطع تمثّل تتابعًا زمنيًّا لحركات وسكنات في نظام اصطلح النّاس على أن يجعلوا له دلالات بذاتها، وبهذا المعنى تكون اللغة الدّالة تشكيلاً معينًا لمجموعة المقاطع أو الحركات والسّكنات خلال الزّمن، أو في الحقيقة تشكيل للزّمن نفسه تشكيلاً يجعل له دلالة معيّنة»[73].

         وللزّمن تجليّات عديدة في ديوان ليس يعنيني كثيراً، وأولى علامات الزّمن فيه تتمثّل في التّاريخ الذي حدّده الشّاعر لكتابة قصائد الدّيوان 2013 – 2015م، وهذا الزّمن الذي يمتدّ إلى ثلاث سنوات يؤطّر أحداث الدّيوان وقصائده زمنيًّا، ويستدعي -بصورة غير مباشرة- الأحداث السّياسيّة والاجتماعيّة خلال تلك الفترة.

         ويتوزعّ الزّمن في الدّيوان، فهناك الزّمن الطّبيعي المحدّد كما نجد في قول الشّاعر[74]:

  • ما كان في وسع امرئ ترك القصيدة في نهار السبت قرب المقعد الغربي من جهة البحيرة حيث تمتحن القصيدة.

         فالزّمان هنا يمتزج بالمكان، وكلاهما محدّد معلوم، فقد ضبط الشّاعر زمن الحدث في نهار السّبت، ويرتبط هذا التّحديد بمسمّى القصيدة zell am see الذي يشير إلى مدينة في أستراليا، ذلك أنّ يوم السّبت يمثّل عطلة أسبوعيةّ حيث يخرج أهل المدينة للتّنزه، ممّا أتاح للشّاعر التّأمل في ذلك المكان الواقعي الذي حدّده قرب المقعد الغربي من جهة البحيرة، ومن ثمَّ تأطّرت أحداث التّجربة بزمان ومكان محدّدين.

         وقد يتحدّد الزمّن بفصل معيّن من فصول السّنة، كما نجد في هذا المثال[75]:

         لوَّنتُ أوراقي بشيءٍ من حديث الماءِ

         في يومٍ خريفيٍّ

         وقلت لها: اذهبي!

          يرتبط الحدث هنا بزمن الخريف الذي يوحي بالجفاف والجدب.

         ومما يعكس امتزاج الزّمان بالمكان قوله[76]:

فلقد تمرُّ غزالة عربية في ساعة الكسل الخفيفة

لم تكن نسيتْ أنوثتها تماماً تحت ظل العمر في

أجواء حمام الظهيرة، ثم تخشى أن تمرّ بلا قصيدة..

         ففي هذا المثال إشارة زمنيّة: ساعة الكسل الخفيفة أي وقت القيلولة، وهناك أيضا امتزاج للزّمان بالمكان في قوله: حمَّام الظهيرة.

 ونجد حضورًا آخر للزّمان في قوله[77]:

أو قد تمرُّ على الضفاف الجانبية قصة بيضاء

بين اثنين لم يتمكنوا من قطف خفتهم سوى في

 آخر العمر المباح ولم يبالوا، حيث كانوا كل

تاريخ القصيدة..

         فالزّمن هنا محدّد بـ آخر العمر وتاريخ القصيدة، وقد امتزج الزّمان بالمكان في الإشارة المكانيّة الضفاف الجانبية.

          ونلمح حضوراً آخر للزمن في قصيدة نخباً للذين مضوا حيث يقول[78]:

  • مجاز بين تأويلين، حزنٌ قابل للكسر، أرقام بلا عبق، قليل الحظ إذ يُغني، نهار لم يكد يأتي، وليل متاهة أخرى تبرّر ما إليه تؤول أغنية سنسكبها غداً في الرمل..

 نخباً للذين مضوا..

 يتجلّى الزّمان الاستباقي في قوله نهار لم يكد يأتي، والزمن النّفسي في قوله ليل متاهة أخرى، وهذا الزّمن النّفسي «يمثّل الخيوط التي تنسج منها لحمة النّص … فالبشر يعيشون طبقًا لزمنهم الخاص المنفصم عن الزّمن الخارجي الذي لا يطابق في إيقاعه زمنهم الخاص»[79].

         وقد يعمد الشّاعر إلى تقنيّة الاسترجاع الزّمني، وقد يعود هذا الاسترجاع إلى زمن سحيق، كما في قوله[80]:

  • أكاد أسمع عن يمين الصاعدين إلى أمانيهم عراكاً بين قافلتين من زمن الغراب!!».

فـ زمن الغرابهنا إشارة أو علامة إلى زمن الإنسان الأوّل، زمن قابيل وهابيل، واستحضار لقصة الغراب التي ارتبطت بحادثة قتل هابيل.

6- 2- سيميائية المكان:

         المكان هو الفضاء الواسع الذي تدور الأحداث في إطاره، ويعرف الفضاء بأنّه «الحيّز المكانيّ الذي تتمظهر فيه الشّخصيات والأشياء متلبسة بالأحداث تبعاً لعوامل عدّة تتّصل بالرّؤية الفلسفيّة وبنوعية الجنس الأدبي، وبحساسيّة الكاتب أو الرّوائي»[81].

         وتهتمّ سيميائية الفضاء بتتبّع الأماكن الواردة في النّص بوصفها علامات أو إشارات، وبتبيّن مدى دلالتها وصلتها بالشخصيات والزّمان.

         وباستقراء قصائد الديوان نجد حضورًا واضحًا للمكان، وكأنّ هناك كاميرا أو عدسة تصاحب الشّاعر وتنتقل معه في الأماكن المختلفة سواء بالحضور والمشاهدة أو على سبيل الاستدعاء أو الاستحضار، ومن ذلك صورة الحيّ التي وقرت في ذهن الشّاعر واحتفظت به ذاكرته في إشارة إلى زمن الماضي الجميل، زمن الصّبا، كما نجد في قوله[82]:

         لتقرأ نسوةٌ باسمي قصائد من ضفائرها

         وهذا الحيُّ يحملني لضحكتها

         على أوهام جارتها التي تهذي

         بقائمة الأسامي!

         فـ الحي هنا يحضر بوصفه علامة على الزمن الماضي الجميل، ومكان الذكريات وإشارة إلى الطّابع المحليّ حيث نسوة الحي، والجارات والحبّ الأوّل.

         وفي سياق التّذكر، تستدعي ذاكرة الشّاعر صورة بيوت الحيّ التي اندثرت في ذاكرته[83]:

         ذهبتُ أجمعُ ما تبقى فيَّ من أثر البيوتِ

         فلم يدر بابٌ،

         ولم أظفر بنافذة تطلُّ على حطامي!!

         فـ البيوت – النافذة – الباب صور تلاشت أو كادت في ذاكرة الشاعر.

         وقد يجتمع الإطاران المكاني والزماني معًا، على غرار قول الشاعر[84]:

         وهذا الوقت لا يكفي

         لمرآتين في نفس الطريق اللولبيّ

         هل اكتملتَ؟!

         وأنت أنت كآخر الغرباء في المدن البعيدة.

         فـ الوقت إشارة إلى زمن غير معلوم، وهو يرتبط بـ الطّريق اللّولبيّ دون تحديد لهذا الطريق، وكذلك بـ المدن البعيدة دون تحديد لتلك المدن، وقد يرتبط المكان بالرّحيل، كما في قوله[85]:

         ها قد ذهبت ..!

         ولم تكن تنوي مغادرة المكان ..

الوقت كان مراوغاً جداً،

         وأنت ارتبت في معنى الرحيل الآن

         فدالة المكان هنا جاءت دون تحديد لمكان بعينه، وكذلك إشارة الوقت، ووصفه بـالمراوغ وقد ارتبط المكان بالرّحيل الآني كما أشار إلى ذلك ظرف الزّمان الآن.

         ولأن السّفر والارتحال من العلامات الأيقونيّة البارزة في الدّيوان، تتردّد دالّة المطارات علامة على السّفر[86]:

         في انتظار يعلّق أغنية للبعيدِ

         اكتفيتُ بصوت الرجاءات

         ألمح منديلها غارقاً في جراحي

         المطارات قد لا تكون المكان المؤثث بالبوح،

         أعلم..

         فدالة المطارات هنا إشارة إلى الفراق والوداع والحزن المتبادل بين الشّاعر وصاحبته التي جسدها في هذه اللّمحة الدّالة “ألمح منديلها غارقاً في جراحي”، فهي صورة أخّاذة تجسّد لحظة الحب والفراق.

         وقد يشير الشّاعر إلى المكان بظروف المكان[87]:

  • أنت هناك
  • أنت هنا..

على قدمين من ولع غريزيٍّ،

وبعض رتابةٍ كبرت مع البجعات.

         فظرفا المكان إشارتان للبعيد وللقريب، وعلامتان على تشظّي الذّات وتمزّقها بين المكانين.

         وتتردّد دالة البحر في سياقات عديدة، فهناك الإشارة إلى البحر القريب في قوله[88]:

         لم تعد يوماً من البحر القريب

         سوى لتعلن هدنة أخرى مع الإيقاع ..

         فما المقصود بـالبحر القريب؟ هل هو مكان ماديّ أم مجازيّ؟

         وها هي صورة البحر تتردّد مرّة أخرى[89]:

         أحاول أن أرى رئتي

         فهذا البحر يجرحني هواء يديه

         إذ يُلقي تحيته

         فـ البحر هنا أنسنه الشّاعر وامتزج به في علاقة مودّة وبشاشة يلقي تحيّة.

         وتجدر الإشارة إلى أنّ هناك ثلاثة أماكن في الدّيوان تحمل أسماء مدن اجتذبت الشّاعر وارتبطت معه بوشائج قويّة، وهذه المدن هي: مدينة الرياض التي عبّر الشّاعر عن عشقه لها بقوله[90]:

         عاشق ليل الرّياض..

         فـ الرياض هذه المدينة السّاحرة تجذب الشّاعر بليلها السّاحر حيث الهدوء والسّمر والاستمتاع بجمال المدينة بعيدًا عن الصّخب والضّوضاء.

         وقد أعجب الشاعر بمدينة تونس وأفرد لها قصيدة كاملة في الدّيوان بعنوان تونس وحدها من ماء، عبّر فيها عن حبّه وتعلّقه بهذه المدينة، فقال فيها[91]:

         الطقس كان يميل نوعاً ما إلى نيسان ..

         لم أحمل سوى قلبي فليس هناك من أحدٍ

         معي في الروح ذات حقائب الآتين

         من مدنٍ بلا أسماء

         لا أدري لماذا كنت عاديّاً

         وغير مهيأ أبداً لهذا البحر..

         لا أدري لماذا الناس في الطرقات

         مسّوا ضرَّ أغنيتي

         ملامح خطوهم تعبٌ وموسيقى

         أنا وحدي الذي جفّت عناقيدي

         ولم أكبر بما يكفي لأنضج مرة أخرى

         أحاول أن أرى رئتي

         فهذا البحر يجرحني هواء يديهِ

         إذ يُلقي تحيته

         وتونس وحدها في الماء.

         استهل الشاعر قصيدته بتحديد زمن الرّحلة إلى تونس بالإشارة إلى شهر نيسان، زمن الرّبيع الممتدّ.

         وفي بنية سرديّة يحكي الشّاعر تفاصيل رحلته إلى تونس وحيدًا دون أن يكون مهيّأ للبحر بوصفه علامة ج جمال وسحر . ويشير إشارات عابرة إلى المسافرين والقادمين من مدن بلا أسماء، وإلى الناس وهم يسيرون في الشّوارع وقد جمعت خطواتهم بين التّعب والبهجة ملامح خطوهم تعب وموسيقى ولعل في لفظة موسيقى استدعاء لوصف الشابي لحبيبته في قصيدة صلوات في هيكل الحب * وهي تختال في خطواتها أشيه ما تكون بالموسيقى.

         وكان لتونس المكان سحره في وجدان شاعرنا، حتى إنّه ليصف تونس بأنّها –وحدها- في الماء أو من ماء، وإذا كنّا قد أشرنا -من قبل- إلى دالّة الماء وحضورها القويّ في الدّيوان، فإنّ وصف تونس بالماء هنا يمنحها كلّ ما في اللفظة من دلالات وشحنات وعلامات، فكأنّها أصل الحياة، وكأنّها السّيولة والرّقة والخضرة والنّماء، وكأنها الجمال والسّحر والفتنة، حتّى إنها لتجعله يرى الأماكن كلّها ذابلة جافة عدا تونس التي هي وحدها من ماء[92]:

         ما من حيلة أخرى أجربها

         على الكيبورد، في البهو الذي في الروح

         كنت أصف أخطائي وأسألها:

         لماذا الأرض من ظمأ ..

         وتونس وحدها من ماء؟!

         فـ الكيبورد هنا علامة سيميائيّة، وكذا الإشارة المكانيّة البهو الذي جعله الشاعر لصيقًا لروحه.

         ونجد حضورًا آخر قوياً للمكان في قصيدة بعنوان Zell am see ، وهي مدينة أستراليّة على بحيرة Zell جنوب مدينة سالزبورج في أستراليا، وبها كنيسة Hippolyte ذات البرج المميّز، وبها أيضا أماكن للتزلّج ،كما تتميّز بوجود مجموعة متنوّعة من الجبال.

         وقد ارتبطت هذه المدينة بزيارة للشّاعر، و استدعى فيها في بنية شاعريّة أخاذة صورًا للسّحر والجمال وقد احتل مكانه في نهار السّبت قرب المقعد الغربيّ من جهة البحيرة وعلى الضّفاف الجانبيّة، وقد ترقّب مرور “غزالة عربيّة” تذهب إلى حمام الظّهيرة وغير ذلك من مظاهر الجمال، كما في قوله:[93]

  • فلقد تمر غزالة عربية في ساعة الكسل الخفيفة

          لم تكن نسيت أنوثتها تماماً تحت ظلّ العمر في أجواء حمام الظهيرة.

         واللافت هو تعلّق الشّاعر بالمرأة العربيّة وكأنما لا جمال يجذبه سوى الجمال العربيّ.

7- المبحث الخامس : سيمياء الفضاء النصّي:

         يمثّل الفضاء النّصي جزءًا من رؤية الشّاعر خاصّة عند بناء نسقه الفضائي، ولذلك فإنّ البياض المتناثر في صفحات الدّيوان ليس من قبيل الصّدفة، بل هو إشارات سيميائيّة وعلامات تندرج في إطار التّحليل والتّأويل.

         وهناك من يرى أنّ «الصّفحات البيضاء بمثابة السّتار المسرحيّ حين ينسدل عند كلّ فاصل لاختلاف فضاء جديد تدور فيه الأحداث»[94]، فالمؤلّف «يضع تقنيّات للتّهدئة أو التّباطؤ ليمكّن القارئ من القيام بنزهات استدلاليّة»[95].

         وإذا توافر النّص على قدر من المناطق البيضاء أو البياضات النّصيّة [96] فإنّ فعاليّة ما تنشأ لدى القارئ تدعوه إلى استغلال خبراته الماضية كلّها وطاقاته ما أمكنه ذلك لملء تلك المناطق أو الفجوات التي يتركها المؤلف في ثنايا نصّه.

         إن سدَّ الفراغ أو الفجوة لا تحتمل طريقة واحدة عند القرّاء، بل إنهّا تتنوع تبعًا لتنوّع خبراتهم وتنوّع النّصوص وتباين فراغاتها.

         فالقارئ المتمرّس صاحب الخبرة هو الشّخص الذي يدرك بفطنته وثقافته أنّ ثمة شيئًا وراء تلك الفراغات التي يتركها الشّاعر الحديث عامدًا من خلال بعض الحيل الأسلوبية، كالتّناص والانزياح عن السّياق المنطقي[97].

         وقد كثر البياض المتناثر والفراغات والفجوات في الديوان بصورة لافتة حتى صارت علامات وإشارات سيميائيّة تشير إلى أنّ ثمّة أشياء وراء تلك الفراغات التي تتفاوت فيما بينها كثرة وقلّة، كما تتفاوت في طريقة توزيعها، فقد تبدأ القصيدة على هذا النحو[98]:

      …………………………….

      …………………………….

         ثم لم نفترق

         في الممر الأخير استرقنا لأوجاعنا معطفين

         تشبثتُ تدرين أكثر كنتِ امتحنت سواي على آخر الشارع الجانبي

         فالقصيدة تبدأ بسطرين من البياض المتناثر يعقبهما في سطر جديد عبارة ثم لم نفترق أي أنّ حرف العطف ثم يومئ إلى كلام سابق، أو جاء معطوفًا على كلام محذوف، أو لعله تصوير لموقف وداع صامت كنوع من التّواصل غير المنطوق.

         وقد تأتي الفجوة في الفضاء الطباعيّ على هذا النحو[99]:

         لو تركتَ الأمر سرّاً بيننا !!

         …………………………….

         …………………………….

إنَّ بعض الحب يبقى منه شيء ليس يُمحى، حالة تأتي وتذهب كالقصيدة، ليس في وسع الدوار كتابة البحر المجازيّ، التكهن باتجاه الريح..

         فالإشارة الأولى التي ترجو بقاء الأمر سرًّا أعقبها سطران من البياض جاءا بمثابة فجوة لكتمان السّرّ والاحتفاظ به وعدم البوح بشيء منه، ثم تواصل السّياق بعد ذلك كاشفًا عن طبيعة الحب كما يراه الشاعر.

         وتكثر الفراغات والفجوات في قصيدة Zell am See، فبعد سطرين من القصيدة يأتي فراغ أبيض بمقدار خمسة أسطر، ثم يتوزعّ الفراغ بين أعلى صفحة القصيدة وأسفلها، حيث يفصل بين كلّ مقطع وآخر حرف العطف أو [100]:

فلقد تمر غزالة عربية ….

         – أو قد تمر صديقتان تقاسما فقداً تعتّق

         – أو قد يمرُّ مراوغٌ فذٌّ على خيط البنفسج

         – أو قد تمر على الضفاف الجانبية قصة بيضاء

         ومثل هذه الفراغات أو الفجوات تبدو أشبه بستار يفصل بين هذه المشاهد، أو تبدو أشبه بمسافات زمنيّة تفصل بينمشهد وآخر، حيث يستغرق المرور المشهديّ بعض الوقت، فمرور الغزالة العربية لا يتبعه مباشرة مرور الصّديقتين أو المراوغ أو الفتاة البيضاء، وإنّما يتطلب ذلك مساحات أو مسافات من الوقت حيث يجلس الشّاعر على ضفاف البحيرة في حالة ترقّب وتأمل.

         وقد تتطلّب البنية الحواريّة مثل هذه الفراغات أو الفجوات على النّحو الذي نجده في قصيدة مرآتان لنهر واحد [101]، حيث كثر البياض المتناثر بين صيغتي الحوار: قال – قلت.

         ونجد مثل هذه الفجوات كذلك في قصيدة ذاك شأنك ليس أكثر حيث يبدأ كلّ مقطع بأنْ المصدرية[102]:

         أن تجرح امرأتين..

         أن تقسو على تاريخ سيدتين..

         حيث يفصل بين المقاطع بفجوات واسعة ليترك مساحة يشرك فيها القارئ في الحدث.

         كما تؤدّي علامات الترقيم دورًاسيميائيًّا مهمًّا بوصفها علامات دالّة، ونلحظ ورود علامات التّعجب بصورة لافتة في قصائد الدّيوان، ومن أمثلتها[103]:

         – من يدري لعل الله يحدث بعد ذلك ما يدل على دعاء مستجاب؟!!

         – قلت: انظر .. قدومك قد يجيئ،

          ولست تملك من رجالك ما تمرُّ به إليَّ!

          فقال: من يدري!..

أكاد أسمع عن يمين الصاعدين إلى أمانيهم عراكاً بين قافلتين من زمن الغراب!![104]

         فقد اقترنت علامتا التّعجّب في السّطر الأول بعلامة الاستفهام ليتعمّق الإحساس بالاستغراب، حيث شكّل هذا الحضور الكثيف لعلامات التّعجب تعبيرًا عن الدّهشة.

         والملاحظ أنّ هذه العلامة تتردّد بصورة لافتة في ثنايا القصائد، كقوله[105]:

         وأنت وحدك من يرى ضعفي

         ويُمعن في قراءة سيرتي وتراً من الوجد القديم،

         فكيف أنسى ما تمنُّ به عليّ،

         وأنت وحدك من ألوذ به

         إذا اتسعت مخيلة الذئاب!!

         فصورة مخيلة الذئاب تبعث على التّعجب والدّهشة، مثلما أنّ في كثرة توظيف علامات التّعجب –تحديداً- وحضورها أكثر من غيرها، ما يعكس إحساس الشّاعر بالدهشة إزاء العالم المحيط به.

8- المبحث السادس: سيميائية الصورة الفنية:

         ينظر التّحليل السيميائي إلى الصّورة بوصفها علامة من العلامات الكاشفة لتجربة الشّاعر وعالمه الإبداعي.

         والصّورة هي جوهر الشّعر ومبعث الجمال فيه، ويستطيع الشّاعر بخياله الشّعري «خلق قصائد ينسج صورها من معطيات الواقع، لكنه يتجاوز حرفيّة هذه المعطيات ويعيد تشكيلها سعيًا وراء تقديم رؤية جديدة متحيزة للواقع نفسه»[106].

         فالشاعر يعبرّ بالصورة عن المعاني العميقة في نفسه ويخلق منها عالمًا جديدًا من خلال توظيفه لطاقات اللّغة. ولذلك فالصّورة تؤدي «دورًا رئيسًا في بناء القصيدة حتى صارت أحد أسس الترّكيب الشعري، وانتقلت من كونها طرفًا من أطراف التّشبيه يُقصد به إيضاح المعنى وتأكيده في الذّهن، إلى أن أصبحت هي نفسها حالة شعريّة تنبع من أعماق المعاني المستوحاة من الشّاعر والمتخيّلة من القارئ، لما في الصّورة من تدفّق شعوري فيّاض»[107].

         ويُعلي السيميائيّون من شأن الصّورة فيرون أنّها «تمثيل لجميع أنواع التّجارب الحسّيّة من صوتيّة وبصريّة، تشمل اللّون والشّكل والذّوق والشّم واللّمس مثل الصّور الحواريّة والتّشكيليّة، كما تشمل أيضًا الصورة السينمائية»[108].

         وقريب من هذا المفهوم ما ذهب إليه الباحث عبد القادر القط حين عرَّف الصّورة بأنّها «الشّكل الفنيّ الذي تتّخذه الألفاظ والعبارات، ينظّمها الشّاعر في سياق بيانيّ خاص ليعبّر عن جانب من جوانب التّجربة الشّعرية الكامنة في القصيدة، مستخدمًا طاقات اللّغة، وإمكاناتها في الدّلالة والترّكيب والإيقاع والحقيقة والمجاز والتّرادف والتّضاد والمقابلة والتّجانس وغيرها من وسائل التّعبير الفني»[109].

         والصّورة في شعر محمد إبراهيم يعقوب – شأنه في ذلك شأن شعراء الحداثة- ذات طبيعة خاصة، فهي تركيبة غريبة معقّدة تتشابك في علاقات تتجاوز المنطق، وتجمع بين عناصر متباعدة متنافرة لا توجد رابطة بينها في الواقع حيث تتحوّل إلى تركيبة سحريّة تجمع المتناقضات وتضع الأشياء في علاقات جديدة، ويستخدم الشاعر في ذلك وسائل التأثير الكائنة في اللغة من استعارات وتشبيهات وتراكيب مجازيّة يلتقطها خياله من معطيات متعدّدة.

         ويحتشد ديواننا بمثل هذه الصّور التي استخدم فيها الشّاعر طاقات اللّغة وإمكاناتها في الدّلالة والترّكيب معتمدًا في ذلك على التّكثيف والترّكيز، مصورًا المعاني العميقة في نفسه، ليستكمل منها عالمًا جديدًا مدهشًا تصادفك فيه أسئلة النّوافذ – صوت الرّجاءات – هدنة الإيقاع – ذاكرة الغزالة – زمن الغراب – قصائد من ضفائرها، وغير ذلك من الصّور المجازيّة.

         وتتشكّل الصّور في لوحات كليّة تتجمع فيها الجزئياّت وتنصهر لتتشكّل تشكيلاً جديدًا، كما يبدو في هذه الصورة التي يرسمها الشاعر لامرأة، يقول[110]:

         هي امرأة ولكن جازفت أقصى من المعتاد، ترقص وحدها في الليل، تسمع رنّة المرأة في دمها وترجف مثل قنديل بوجه الريح، تفتح مرة أخرى ستائرها على اللاشيء.

         فالصورة المتناثرة تتجمع لتتشكّل صورة هذه المرأة بما تشيعه الصّور من إغراءات واشتهاء. وكثيراً ما نقع على مثل هذه الصّور المجازية[111]:

  • لم تكن السماء قريبة جداً

لأدرك حكمة الأوتار في جسد الكمان

  • هل أفرطت في ترويع ذاكرة الغزالة؟[112]
  • في خزانة وحشتي الأولى وجدت نحور سيدة على قمصان أسئلتي التي في الروح لم تكبر! [113]
  • لغة الصباح على ملامح أخوة

سرقوا من النار الفراشة [114]

  • بلا سوءة فتَّحت وردها للحقول

ولم أقتبس من فمي نكهة للنعاس البهيّ

صمتنا لنطلق أرواحنا كالحمام….[115]

  • ولست أدري هل بوسع الريح

أن تحنو على امرأة بنكهة ياسمينة؟[116]

فمثل هذه الصّور تتّسم بالجدّة وتكتنز بالدّلالات والرّموز، وتحمل نكهة الشّاعر وصوته وريشته الخاصة.

         ويعمد الشّاعر إلى طريقة خاصّة في تشكيل صوره فيما يمكن تسميته بـ مسرحة الصورة، أي إضفاء الطّابع المسرحي على الصّورة مما تتحقّق معه “سيميائية الصورة”، كما نجد في هذا المثال[117]:

         تقفز فوق منشور زجاجي لتنقذ علبة الألوان من بئرٍ معطلة، ترى في المسرح العبثي أدواراً مهيأة فتصعد سُلَّم الذكرى على لحنٍ هجائي وتجرح لذة التصفيق بالتحديق من أعلى، ترى وطناً على عكازه يمضي، ترى قدحاً ولا ندماء حول الليل في شغف، ترى معن بن زائدة على كرسي حكمته التي امتحنت بألف خليفة من قبل..

         لن تقوى على الهذيان، كل إصابة خطأ، وكل علاقة ظمأ، وهذي الأرض سرٌّ نافرٌ في الريح، تقرؤها فتخطئها، وتخطئها فتقرؤها، مجاز بين تأويلين، حزن قابل للكسر، أرقامبلا عبقٍ، قليل الحظ إذ يُغني، نهار لم يكد يأتي، وليل متاهة أخرى تبرر ما إليه تؤول أغنية سنسكبها غداً في الرمل.

         نخباً للذين مضوا ..

         فالصورة تتشكّل هنا من مسرح عبثيّ تتعدّد فيه الأدوار والصّور العبثيّة: صورة الوطن الذي يتّكئ على عكّاز، صورة القدح الذي يبحث عن ندماء – صورة هذا القابع على كرسيّ الحكمة – ما يصاحب العرض من هذيان، وما يخلعه الشاعر على الأشياء من طابع سريالي.

         ونجد مثل هذه الصّورة المسرحيّة في قصيدة أخرى يقول فيها[118]:

         إن لم تجد في المقعد الخلفي صورة آخر ثانٍ

         وتشعل في الهواء الطلق خيبتك الجديدة

         دون أن تسعى لترتيب المقاعد قبل بدء العرض

         أن تشدو بأغنية مخادعة لتقتل كبرياء الوقت

         أن تمضي إلى جسدٍ بلا معنى

         كأي قصيدة مرَّت على عينيكَ

         دون تفحّصٍ كافٍ للذتها التي عبرتك

         أن لا تنتمي لظلال سيدتين خائبتين

         في ذكراك

         فذاك شأنك ليس أكثر

         فنحن هنا بإزاء صورة مسرحية يصور فيها الشاعر شكل المسرح قبل بدء العرض ويبدو المقعد الخلفي وترتيب المقاعد – والبحث عن مقعد آخر- وبدء العرض كلها علامات سيميائية لواقع يتصف بما سماه الشاعر “الخيبة الجديدة” التي حلَّت محل إشعال سيجارة في الهواء الطلق، ثم يعرض الشاعر مشاهد وصور ذات دلالة بالحدث.

         وتكثر الصور السردية في الديوان، ومنها هذه الصورة[119]:

  • كيف لا أنزع الذكريات التي آمنت مرَّة بالجدار الذي ضمَّها كي أرى! تسمعين عن الشوق لا شك. كنتُ خيّبت ظنّ الغيابات أنَّا معاً سوف نغفر أخطاءنا، لهونا في ثوان تمرُّ كغرّين لم ينضجا، نرتدي حزننا الداخلي نسرُّ به للكنايات، نخشى على الحب أن يستبد، وأخشى على الحب أن يجنحا!!.
  • بين ركن وركن أسوّي مراياك فيَّ، الخروج من الحب. أقسى كثيراً كما تعلمين!. الليالي البعيدة تأتي وتذهب، صوت خطاك، تفاصيل تلك العباءة، تلك العباءة بالذات، موعدنا يستحيل، التشكك في لحظة قد تجيء، انحناءة كحلٍ بعينيكِ، التمسُّح باسمك قبل انتهاء الكلام، التراجع عن شقوة قطفها ممكن مرتين، الخروج من الحب أقسى كثيراً، وجُرح الحقائب أن تفتحا.

فالصور تتشكّل في القصيدة من خلال بناء سرديّ محكم يتّكئ فيه الشاعر على تقنية الاسترجاع والتّداعي، حيث تتناثر الصّور الجزئيّة التي تتشكّل منها الصّورة الكليّة ظن الغيابات – نرتدي حزننا الداخلي – نسربه للكنايات – أسوّي مراياك فيّ – انحناءة كحل عينيك – جرح الحقائب، ثمّ هذه الصّورة ذات العلامة السيميائية الدّالة تفاصيل تلك العباءة – تلك العباءة بالذات.

         وعلى هذا النّحو تسهم الصّورة في كشف تفاصيل العالم الشّعري للشّاعر.

9- المبحث السابع : سيمياء اللون:

         يعدّ اللّون «أحد المفاتيح المهمّة في فهم التّجربة الشّعريّة للوصول إلى المغزى الكامن وراء النّصوص»[120].

         ولا شك أنّ الألوان تُضفي دلالات عميقة على الصّورة الشّعرية وتمنحها كثيرًا من البهجة أو القتامة «وتناول دلالة الألوان في هذه الدّوائر تتيح للنّص الشعري جملة من الإيحاءات والرموز، إذ تتعدّى دلالة اللون نطاقها الوضعي المطابق إلى ما هو أعمّ حيث تتّسع دائرة إيحاء اللون للتّفسير والتّأويل»[121].

         والعلاقة وطيدة بين الصّور اللّونية والرّسم، فكلاهما يتداخلان من ناحية فنيّة جماليّة وكلاهما يؤسّس إبداعاً فنياً، فالشاعر يرسم المشهد بألفاظ لونيّة، فيما يسعى الرّسام إلى تصويره رسماً بالألوان، لا الكلمات[122].

         وللعالم توماس يونج Thomas Young نظريّة في الألوان، إذ يرى أنّ «أعصاب العين تستقبل وتترجم إلى المخ الإحساس بثلاثة ألوان مختلفة في آن واحد، وتشبه هذه النّظرية نظريّة العالم الألماني هلمهولتز Helmholtzالذي يقول إنّ العصب البصريّ مكوّن من ثلاث مجموعات عصبيّة، يحدث عن تأثّر الواحد منها الإحساس بأحد الألوان الأساسيّة الثّلاثة، ثم تجيء نظريةّ فرانسوا رود التي عدَّت الألوان الأساسيّة هي: الأحمر والأخضر والبنفسجي، وأثبت العالم الإنجليزي ماكسويل أنّ الألوان الأساسيّة التي ينتج عنها الضّوء هي: الأحمر القرمزيّ والأخضر الزمرديّ والأزرق البنفسجي»[123].

         وللألوان حضورٌ مكثفٌ في الديوان، ولعل الشّاعر قد أفاد من نظريّة العلاقات الرمزية، فالألوان عنده -في الغالب- ليست مدركات بصريّة مباشرة الدّلالة، بل هي مجموعة من الإيحاءات والمعاني المبهمة التي تعكس العالم الدّاخلي للشاعر.

         ويعدّ اللون الأبيض من أكثر الألوان حضورًا في قصائد الدّيوان، وهو من الألوان المحايدة، ولذلك فهو من أسخى الألوان إيحاء في نظر الشّاعر لارتباطه برؤيته المحايدة تجاه الأشياء.

         ويرمز الشعراء عمومًا باللون الأبيض للخير والجمال والطّهر والمثاليّة، كما أنّ هذا اللون يحمل أيضا دلالات الهدوء والسّكينة ،وقد يشير إلى الفراغ أو الجمود.

         يقول أحمد مختار عمر: «كان هذا اللون -الأبيض- مرتبطاً عند معظم الشّعوب -بما فيهم العرب- بالطّهر والنّقاء واستخدمه العرب القدماء في تعبيرات تدلّ على ذلك»[124].

         وقد ترددّ استخدام اللون الأبيض في صور عديدة في الدّيوان، منها قول الشاعر[125]:

         بنات الحي

         لم يدركن عن قصدٍ

         نذوري خلف باب الصدفة البيضاء

         فتعبير الصدفة البيضاء يرمز إلى الخير والنّقاء.

         ويتردد اللون الأبيض مرة أخرى أيضا في قوله[126]:

         سيرة الحب ..

         التي اقتحمت وساوسها البعيدة

         إذ تقلّب عريها في الماء

         نكهتها التي اكتملت مع النسيان

         صوت طفولة بيضاء

         إذ يطفو على جسدٍ سماوي

         فـالطفولة البيضاء رمز كذلك للطهر والنقاء.

         ويتردد تعبير قصة بيضاء في قوله[127]:

         أو قد تمرُّ على الضفاف الجانبية قصة بيضاء

         بين اثنين لم يتمكنوا من قطف خفتهم سوى في آخر العمر المباح

         فـ القصة البيضاء رمز أو علامة لقصة حبّ طاهر عفيف بين عاشقين.

         وقد يأتي اللّون الأبيض بمدلوله المباشر في قوله[128]:

         وسقطت في الورق البعيد

         نكأت جرح حمامة بيضاء

         تهجس بالبيوت الساحلية

         قرب ماء القلب

         فوصف الحمامة بالبياض له مدلول مباشر، غير أنّ صورة الحمامة البيضاء تحمل دلالة رمزيّة.

         ومن الدلالات الرمزية للون الأبيض كذلك قوله[129]:

         كنت أُغرى الحياة بنا، قُبلة لا تفكك أحجية الظامئين،

         وتدرين كانت معاركنا سكرة في كؤوس الكلام الذي خانه وطن أبيض فامّحا!!

         فالتعبير بـ الوطن الأبيض تعبير رمزي مجازي.

         ويكثر الشّاعر ، إضافة إلى اللون الأبيض، من استخدام اللّون الأحمر، وقد «ارتبطت كثير من تعبيرات الأحمر في اللغة العربية بالمشقة والشدَّة من ناحية، أخذًا من لون الدم، وبالمتع الجنسية من ناحية أخرى، وإن ظهر الأخير في الاستعمالات الحديثة فقط»[130].

         وقد ارتبط اللّون الأحمر في الدّيوان بهذه الدّلالات، فرمز به الشاعر إلى الحركة والحياة الصاخبة والدّم وشهوة الحب والنّشوة العارضة، ومن ذلك قوله[131]:

         وجدتُ دمي على المرآة

         متكئاً على امرأة بلا أخطاء كالحمى

         فقد اقترن اللّون الأحمر بلون الدّم ورمز به الشاعر إلى النّشوة الجنسيّة.

         والملاحظ أنّ اللون الأحمر يقترن -كثيراً- في قصائد الديوان بالدّم، مثل قول الشاعر[132]:

         قال امتحن شغف الغزالة

         قبل أن تحنو على دمها المقدس

         قلت: لا أجد الوسيلة كي أحاصر وحشتي

         ودمي دمي،

         لا شيء يكبر في جحيم الآخرين

         سوى الفريسة

         فالغزالة والدّم المقدّس والفريسة رموز لعالم الشّهوة والرّغبة الصّاخبة، إذ يعدّ اللون الأحمر من «الألوان السّاخنة المستمدّة من وهج الشّمس واشتعال النّار والحرارة وهو من أطول الموجات الضوئية»[133].

         هذا واستخدم الشّاعر اللون الأزرق بدلالاته المختلفة التي تشير إلى الهدوء والرّاحة، كما أخذ مدلول الحريّة والانعتاق والتّحرر من كلّ القيود، ومنه قول الشاعر[134]:

         سر في الأغاني..

         خفة المعنى، سلالم باتجاه الأزرق الأبدي

         ضوء عن يمين القبلة الأولى

وقوله[135]:

         ليل مجازيٌّ

         فهذا الأزرق المرئي في لغتي أنا في الماء

         فالشّاعر يرمز باللّون الأزرق إلى العالم الذي لا يعرف حدودًا أو حواجز ماديّة، فينطلق منه إلى عالم الأبديّة الشّفاف أو العالم الملائكيّ الذي يتخطّى العالم المادي.

         ويتردّد اللون الأخضر بنسب قليلة، ويرمز به الشّاعر إلى الوطن حيث الحبّ وصدق الانتماء، كقوله[136]:

هي امرأة ولكن ظلها ترف ثقافي .. لا تخشى من الجدران والمنفى،

لها وطن غريزيّْ، هوية طفلة خضراء من نخلٍ ومن أحزان

         فصورة الطّفلة الخضراء والنخل ترمز إلى الوطن الأرض، واللّون الأخضر له دلالة بالعلم الوطني السعودي، وسيميائة النّخلة تقود إلى مثل هذا التّأويل والتّصور.

         وقد يجتمع أكثر من لون واحد في الصّورة مثل قوله[137]:

         هذه الأسماء أعرفها ..

         على كراسة اللون الرمادي

         امتحنت ثيابها في الشمس

         فامتحنت يقيني في كتاب الظل

         فـ اللون الرمادي لون محايد وقد اجتمع مع اللونين النّقيضين: لون الشّمس – ولون الظّلّ.

         هذا ويجتمع اللون النحّاسي مع اللون الأسود في قوله[138]:

         وجدت مسودات الريح

         في ورقٍ نحاسيٍّ غسلتُ بها شغفي

         فقد اقترن اللّون النّحاسي الأصفر باللّون الأسود، حاملاً دلالات القتامة والذّبول والنّدرة.

         وتؤدّي الألوان دورًامهمًّا في التّعبير عن سيمياء الجسد، حيث تمتزج وتتداخل مشكّلة علامات وإشارات دالّة، ومن ذلك قوله[139]:

         أن تُمسك اللحظات بين مكيدتين،

         فتهبط من سماء الوردة الأولى،

         تخفف محنة التلويح آخر ليلة صفراء

         باستدراج أسئلة ستطلع من قميص النوم

         بالقبلات باردة

         تذوّب أي تعبير ضبابي بقبض الريح

         تغلق باب غرفتها إلى الأخرى

 توفّر النّص على عدّة ألوان شحنته بحيويّة متعدّدة ومتحرّكة في الوقت نفسه، وكأنّك أمام مشهد استرجاعيّ يحتاج إلى إعادة ترتيب، إذ تلحظ إشارات ضمنيّة عميقة تقود إلى قصّة آدم وحواء عليهما السلام، وما رافق تلك القصّة البشريّة من أحداث متلاحقة للبشر حتى يومنا هذا، وتُستمدّ هذه الألوان من تعبيرات تهبط من سماء الوردة الأولى – ليلة صفراء – قميص النوم – تعبير ضبابي.

         كما تعبّر الألوان عن سيميائيّة الجسد في هذا المثال[140]:

         سيرة الحب

         التي اقتحمت وساوسها البعيدة

         إذ تقلّبُ عُريها في الماء

         نكهتها التي اكتملت مع النسيان

         صوت طفولة بيضاء

         إذ يطفو على جسد سماوي

         أحاول أن أرى وجهي على مرآة لكنتها

         يد في أول الليل الحميميّ

         الذي يدنو من التفاح

         في طقس من الحمى

         انحناءة عطر ثورتها إذا انسدلت من الإيقاع

         رقتها المهيبة آن أقرأ في غواية ضعفها غمازتين

         على حنينٍ ليس تقصده تماماً

         حدسها بتعلُّقي بالريح في ليلٍ بلا ندماء

         أخسرهم على مهلٍ

         أحاول أن ألوذ بها ..

         وتمنعني تفاصيل البنفسج إذ تريدُ ولا تريدُ!!

         فالألوان تتجسد في هذه الألفاظ والدّلالات: طفولة بيضاء – جسد سماويّ – الليل الحميمي – التفاح – تفاصيل البنفسج.

         ونستشفّ من هذه التّعبيرات الألوان الآتية: الأبيض – الأزرق – الأسود – الأحمر – الأصفر ، وذلك كما يأتي:

         الأبيض = الطّفولة

         الأزرق = الجسد السّماوي

         الأسود = اللّيل الحميمي

         لون التّفاح = دالة جسديّة للمرأة

         وهكذا تسهم الألوان في التّعبير عن سيمياء الجسد من خلال دوالّها المتعدّدة، ويظهر في النّص تتبّع سيرة المرأة، حوّاء مع الرجل، آدم في هذه الحياة .

10- الخاتمة ونتائج البحث:

اختار البحث ديوان ليس يعنيني كثيرا للشّاعر محمد إبراهيم يعقوب مجالا للمقاربة السيميائية، التي تمثّل آفاقًا رحبة في تفسير النّص الأدبي والوقوف على رموزه ودلالاته وكشف أغواره، لاغتنائه بالدّلالات والرّموز والإشارات التي أسهمت جميعها في تشكيل تجربة الشّاعر الثّرية.

وقد توصّل البحث إلى النتائج الآتية :

  • شكّلت عتبات الدّيوان علامات واضحة للقارئ من أجل الفهم، وإن كانت تلك العتبات عبارة عن تهويمات وإيحاءات غامضة، وهذا ما نجده – مثلا- في عتبة العنوان التي تفترض تأويلا مسبقا يوحي بتعدّد المعنى.
  • عمد الشاعر إلى توظيف الأسماء والشّخصيات في الدّيوان، منها ما كان عربيّا، ومنها ما كان غربيا، وإن كان توظيف المرأة يعد الأبرز بوصفه علامة حضور بارزة في الديوان.
  • ظهرت في الدّيوان دوال يمكن أن نسميها – إن جازت التّسمية – بكلمات صديقة للشاعر ومصاحبة له، فقد كانت هذه الكلمات أو الدّوال تتردّد في صدى قصائد الدّيوان، ما يعطي انطباعا سيميائيّا على تعدّد معانيها حسب السّياقات الشّعرية التي ترد فيها، ومن أبرزها: الحقيبة، الماء، الحمى، القبيلة، القصيدة، الأغاني.
  • برزت في الديوان تقنيّتا الزّمان والمكان باعتبارهما علامتين بارزتين في نسيج أغلب القصائد، فكان الزّمان والمكان الماضويين الأكثر حضورا على سائر الأزمنة والأمكنة لدى الشاعر؛ وتأويل هذا يعود إلى ذاكرة الشاعر الشّعرية التي تسترجع الزّمن القديم بكل تفاصيله، والذي يحتّم بطبيعة الحال حضور علامة المكان في تلك الأزمنة.
  • تجلّت لعبة البياض والسّواد في كثير من قصائد الدّيوان؛ مما أسهم في مشاركة المتلقّي لتأويل تلك العلامات التي تشير – في أغلب الأحيان – إلى قصديّة المبدع في استخدام الفضاء النّصي للنصوص الشعرية، وإن كانت في بعض الاستخدامات تقود إلى التعمية والغموض.
  • جاءت الصور في الديوان مكتنزة بالدّلالات والرّموز الغامضة، وبرزت صورتا المرأة والوطن على سائر الصور في الديوان، ما يعني أهمّيهما : المرأة والوطن في وجدان الشاعر.
  • حضرت الألوان في الديوان بنسب متفاوتة، فطغى حضور اللون الأبيض الذي يرمز إلى الصّفاء والنّقاء والطهر، ثم تلاه اللون الأحمر الذي تذبذبت رمزيته ما بين الدم، والجنس، كما عمد الشاعر إلى مزاوجة بعض الألوان مع بعضها البعض، وهذا يعود إلى تمكّنه من لغته الشعرية والتّفنّن في نسجها شعريّا كما يعمد الرّسامون إلى التّفنن في لوحاتهم الفنية.
  • أظهرت المقاربة السيميائية أنّ الديوان حافل بالعلامات والإشارات والرموز، وأنّ هذه المقاربة استبطنت العالم الدّاخلي للديوان وأتاحت استجلاء دلالاته، كما أتاحت للباحث اقتناص الضّمني والمسكوت عنه والمتواري منه.
  • أبرزت المقاربة السيميائية ما ينطوي عليه عنوان الدّيوان من دلالات عبر استقراء مستوييه الدّاخلي والخارجي، وربط دلالة العنوان بمتن النص. كما أبرزت دور الغلاف والإهداء في التّهيئة للولوج لعالم الشاعر.
  • كشفت المقاربة السيميائية كيف للأسماء وللشخصيات الواردة في قصائد الديوان أن تصبح علامات دالّة، مثلما كشفت تعدّد الدوال والرموز فيه، والاتكاء على دوالّ بعينها ومنها: الحقيبة – الماء – القصيدة – الأغاني – الحمى – القبيلة.
  • برز في الدّيوان دور الزّمان والمكان بوصفهما من العلامات السيميائية الدّالة، كما برز دور الفضاء النصي في إنتاج الدّلالة.
  • أظهرت المقاربة السيميائية دور كلّ من الصورة الفنيّة والألوان بوصفهما علامات بارزة في تشكيل أبعاد التّجربة الشّعرية للشّاعر في ديوانه.


المصادرر والمراجع:

المصادر:

المراجع:

المراجع الأجنبية:

  1. -Chandler Daniel: Semiotics for Beginners, visual – m

 

                                                  

مقالات أخرى

الشّعر الشّعبيّ التّونسيّ

التخييل والواقع في سرد محمد حياوي أو الوطن واقعا وتخييلا

الطيب التيزيني متجلياً في الذاكرة حاضرٌ أبداً في الوجدان

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد