تمهيد:
تعتبر دراسة قضايا التعليم من المسائل البحثية المعقدّة من حيث ماهيتها ومنهج دراستها، وبما يؤثر فيها من دوافع ذاتية للفاعلين الاجتماعيين وعوامل موضوعية من مختلف حقول المجتمع؛ فكل الحقول المجتمعية أصبحت اليوم متداخلة وتغزوها حالة من الهشاشة و”الرّعْوَنة”، ممّا أدى إلى ضعفها والقابلية لُتفكّكها. ومن أسباب هشاشة المؤسّسة التربوية وتفكّكها داخليا تعود إلى اجتياحها خارجيا من قبل ظواهر اجتماعية مستجدّة، أصبحت من العوامل المعطّلة للعملية التعليمية ولقواعد العيش المشترك داخلها. كما باتت تهدّد انسجامية العلاقات التربوية فيها وانتظامها بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين بشكل غير مسبوق في تاريخ المدرسة التونسية.
إنّ غياب الاندماج المدرسي لدى بعض المتعلمين وفشلهم في التكيف مع العملية التعليمية في الوسط المدرسي يعدّ من الأسباب المباشرة في ظاهرة الانقطاع عن الدراسة. فالتّجربة المدرسية بالنسبة إلى المتعلمين تعد تجربةً اجتماعية مهمّة في حياتهم الشخصية والاجتماعية، ولكن طبيعة العلاقات داخل المدرسة لا يمكن أن تكون على وتيرة واحدة لدى الجميع. إذ يمكن أن تشكل هذه العوامل عائقا نفسيا وتربويا وصعوبة في الاندماج وفشلا في مواصلة الدراسة لدى بعضهم فيتخذون الانقطاع عن الدراسة سبيلا. هؤلاء المنقطعون عن الدراسة ليسوا بالضرورة أقل ذكاء أو كفاءة من زملائهم الذين واصلوا تعليمهم؛ ولكنهم قد يكونون في الغالب من الذين فشلوا في الاندماج في الوسط المدرسي بكل مكوّناته: الاجتماعية والنفسية والتعليمية والمادية..الخ.
نعتقد أن خطورة هذه الظاهرة وكثرة انتشارها بحسب الاحصائيات الرسمية التي تتجاوز آلاف الحالات من الانقطاع في السنة، خاصّة بعد 2011، قد حولتها إلى هاجس ومصدر توتر مجتمعي عام، وإلى استحقاق بحثي علمي لا يمكن تأجيله. لهذا، ينبغي علينا كباحثين اجتماعيين عدم الانسياق في فهمها لهذه الظاهرة وراء معالجاتها التجزيئية والسطحيّة دون الاهتمام بأسبابها الداخلية والخارجية العميقة والمركّبة، وتعريتها بشكل علمي من خلال وضعها على محك التشخيص الموضوعي والبحث الميداني للوقوف على أسبابها الحقيقية وكشف مختلف أبعادها وتجلياتها عسى أن نظفر بمعالجتها في المستقبل، ونحد من انتشارها ونتجنب آثارها السلبية على الأسرة والمجتمع.
في هذا إطار، وإيماننا بأهمية الأبحاث الميدانية في معالجة وتشخيص الظواهر الاجتماعية التي باتت تهدّد استقرار المجتمع وتطوره، أنجزنا بحثا ميدانيا في تونس حول “ظاهرة الانقطاع المبكر عن التعليم في تونس”، وهي دراسة مقارنة بين عينة من “المنقطعين” وأخرى من “غير المنقطعين” بمشاركة فريق بحثي سنة 2018([1]). وكانت مساهمتنا الشخصية حول “الانقطاع عن الدّراسة وعلاقته بالعملية التعليمية في الفضاء المدرسي في تونس”، ولتعميم الفائدة حول هذه الظاهرة وراهنيّتها، نقدم في هذه الورقة أهم ما توصلنا إليه ضمن هذه الدراسة، مع إدخال بعض التغييرات الجزئية والمنهجية في عرض النتائج والاستنتاجات التي اقتضتها عملية النشر.
1- تأثير علاقات الصداقة في الانقطاع المدرسي:
إن وجود العلاقات بين المتعلم وبقية أقرانه مهمة في بناء شخصيته سواء كانت هذه العلاقات ذات قيمة دامجة له في المدرسة أو مُنفّرة؛ فالإنسان مدني بطبعه مثلما يقول ابن خلدون، ولا يمكن أن يعيش في معزل عن الأخرين. إنّ التجربة المدرسية بالنسبة إلى التلميذ مهمّة من أجل بناء ذاته، سواء كان هذا البناء تحت تأثير العلاقات السلبية أو الإيجابية، مع الناجحين أو الفاشلين في الدراسة.
كشفت نتائج الدّراسة الميدانية عن وجود علاقة ذات دلالة إحصائية بين انقطاع التلميذ عن الدراسة وبين وجود أصدقاء مقرّبين له منقطعين عن الدراسة، حيث أكد 66% من مجموعة المنقطعين عن وجود “أصدقاء مقربين لهم منقطعين عن الدراسة” مقابل 56% بالنسبة إلى مجموعة غير المنقطعين. بينما لم تكشف هذه النتائج عن وجود علاقة بين انقطاع التلميذ عن الدراسة وبين وجود أصدقاء مقربين له ناجحين في دراستهم. وتؤكد هذه النتائج تأثر المتعلم سلبا بأصدقائه المنقطعين، وربما الاقتداء بهم وسلوك مسلكهم في الحياة بصفة عامة إلى الحد الذي يمكن معه الحديث عن “عدوى الانقطاع”؛ وهو أمر بديهي يؤكّده الواقع، خاصة لما يتصدر الصديق المقرّب للمنقطع زعامة شلّة الأصدقاء. كما بينت الاحصائيات أنّ 86.4% من مجموعة المنقطعين عن الدراسة قد أشاروا إلى أنّ لديهم أصدقاء مقربين ناجحين في دراستهم مقابل 91.6% بالنسبة إلى مجموعة غير المنقطعين. وهذا ما من شأنه أن يجعلنا نستنتج أنّ تأثير الأصدقاء المنقطعين يُعدّ عاملا دافعا ولو بنسبة ضعيفة على الانقطاع عن التعليم.
2- فقر في العلاقات الإنسانية وعدم القدرة على التكيف مع المحيط المدرسي:
إنّ عدم القدرة على التواصل مع الآخرين، وبناء صداقات جديدة يؤدي إلى العزلة الاجتماعية. وفي كثير من الأحيان يتجلى ذلك في ضعف علاقات التلميذ بزملائه وأساتذته والإطار الإداري بل قد يطال الفضاء الأسري؛ فتسوء علاقة التلميذ بأسرته، ويفقد بذلك سندا مهما في نجاحه المدرسي وتحقيق مستقبله. فعدم القدرة على تكيف المتعلم مع المحيط المدرسي، بكل مكوّناته وعناصره، يقود إلى الفشل الدراسي، وقد يكون سببا مباشرا في انقطاعه المبكر عن التعليم.
وقد حاولنا في هذه الدراسة الميدانية استكشاف طبيعة العلاقة بين ضعف العلاقات الإنسانية ومهارات التواصل الاجتماعي من ناحية، وبين الانقطاع المبكر عن الدراسة من ناحية أخرى، من خلال إجراء مقارنة بين إجابات مجموعة المنقطعين وإجابات مجموعة غير المنقطعين.
أ- علاقة التلميذ مع الأساتذة:
كشفت نتائج البحث الميداني عن وجود علاقة بين الانقطاع المبكر عن الدراسة، وبين علاقة التلميذ بأساتذته داخل الفضاء المدرسي، نجد أنّ 81.6% من أفراد عينة البحث الذين اختاروا الإجابة: “كانت علاقتي داخل المدرسة مع الأساتذة سيئة” ينتمون إلى مجموعة المنقطعين مقابل 18.4% ينتمون إلى مجموعة غير المنقطعين. كما كشفت الدراسة الميدانية أنّ نسبة الذين اختاروا الإجابة: “متوترة” أو “سيئة” لم تزد عن 6.8% لدى مجموعة غير المنقطعين، بينما وصلت النسبة إلى 16.4% لدى مجموعة المنقطعين.
تعتبر العلاقة بين المتعلم والمدرس في الفصل ركنا أساسيا من أركان نجاح العملية التعليمية، وغياب التوافق بينهما قد يكون أحيانا سببا مباشرا في عدم اندماج المتعلم في المدرسة، ويقوده إلى الانقطاع عن التعليم. واستنادا إلى نتائج الدراسة الميدانية يمكن القول إنه كلما ساءت علاقة التلميذ بأساتذته كلما زاد احتمال انقطاعه عن الدراسة.
ب – علاقة التلميذ مع إطار الإشراف الإداري:
يعتبر دور الإدارة في المؤسّسة التربوية عنصرا مهما في نجاح المتعلم أو فشلة في الاندماج ومواصلة تعليمه؛ فالإدارة المدرسية بكل مكوناتها البشرية والمادية، وما تتضمنه من عمليات تنظيمية وطرق تسيير وإرشاد وتوجيه تقوم بدور مركزي في التعامل مع التلميذ وبالتالي، يمكن أن تؤثر في نجاحه التلميذ أو فشله الدراسي، لكنّ نتائج الدّراسة الميدانية لم تكشف عن وجود علاقة بين الانقطاع المبكر عن الدراسة، وبين علاقة التلميذ بالإداريين داخل الفضاء المدرسي، نجد أنّ نسبة الذين اختاروا الإجابة: “متوتّرة” أو “سيّئة” لم تزد عن 13.2% لدى مجموعة غير المنقطعين، و11.2% لدى مجموعة المنقطعين، أي بفارق بسيط بين المجموعتين.
أشارت عديد الدراسات الدولية حول أنماط حوكمة الأنظمة التربوية وأثرها على تسيير المؤسّسات التعليمية وضمان جودة خدماتها إلى أن الإدارة المدرسية هي جزء لا يتجزّأ من الإدارة التعليمية وصورة مصغّرة لتنظيماتها المحلية، فإنّ وضوح النّمط الذي تدار به وتحديد أبعاده وأساليب عملها وتفاعلها مع رواد المؤسّسة التربوي تمثّل العمود الفقري لنجاح المدرسة في أداء رسالتها على الوجه المنشود؛ ذلك أنّ نجاح النّظام التعليمي يتوقف على الطريقة التي يدار بها ونمط الحوكمة المعتمدة.
ت – علاقة التلميذ مع زملائه:
لم تكشف نتائج البحث الميداني عن وجود علاقة بين الانقطاع المبكر عن الدراسة، وبين علاقة التلميذ بزملائه داخل الفضاء المدرسي. وهذا المعطى يظهر من خلال مؤشر التقارب في توزيع إجابات أفراد المجموعتين: المنقطعين وغير المنقطعين. حيث نجد أنّ نسبة الذين اختاروا الإجابة: “متوتّرة” أو “سيّئة” لم تتجاوز 4% لدى مجموعة غير المنقطعين، و2.8% لدى مجموعة المنقطعين؛ وهو ما يؤشّر على وجود علاقة سليمة بين المنقطع وبقية زملائه عموما قد تشوبها بعض التوتّرات بالنّسبة إلى غير المنقطعين؛ وهو أمر يمكن أن يكون بسبب تميّز بعض المتفوّقين وعدم مسايرتهم لزملائهم في كثير من سلوكياتهم؛ ممّا يؤثر في علاقات بعضهم ببعض.
3- الفضاء المدرسي البيداغوجي والانقطاع المبكر عن التعليم:
يعتبر المجال البيداغوجي من أهم العناصر المهمّة في العملية التعليمية المؤثّرة في ظاهرة الانقطاع عن التعليم. ويشمل المجال البيداغوجي كل ما يتعلق بالبرامج المدرسية وطرق التدريس والمرجعيات المنهجية والتعليمية والتكوينية والأنشطة البيداغوجية. ومن بين النواقص التي تعاني منها المدرسة التونسية نجد ما يلي:
أ- ضعف النتائج الدّراسية وعلاقته بالانقطاع المبكر عن التعليم:
كشفت الدّراسة الميدانية عن وجود علاقة بين الانقطاع المبكر عن التعليم وبين ضعف النتائج الدراسية، حيث نجد أنّ 76.9% من أفراد عينة البحث الذين أجابوا عن السّؤال حول نتائجهم الدراسية بـ”ضعيفة جدا” هم من المنقطعين مقابل 23.1% من غير المنقطعين. كذلك، نجد أنّ 66.7% من أفراد عينة البحث الذين اختاروا الإجابة بـ” كانت نتائجي الدراسية ضعيفة” ينتمون إلى مجموعة المنقطعين مقابل 33,3% ينتمون إلى مجموعة غير المنقطعين. ويتبين من الرّسم نفسه أنّه كلما كانت النتائج الدراسية أضعف؛ كلّما زاد احتمال انقطاع التلميذ عن التعليم.
ويتضح أيضا من الرّسم رقم (8) أنّ نسبة 8.0% من مجموعة المنقطعين قد اختارت الإجابة بـ”ضعيفة جدا” مقابل 2.4% من أفراد مجموعة غير المنقطعين. كما اختار 25.6% من مجموعة المنقطعين الإجابة بـ”ضعيفة” مقابل 12.8% من مجموعة غير المنقطعين.
إنّ ضعف النّتائج الدراسية تجعل المتعلم غير قادر على مواكبة نسق البرامج الدراسية، خاصة عندما ينتقل من مستوى تعليمي إلى آخر؛ فقد يتعرض في هذه الحالة إلى القلق والتوتر؛ ممّا قد يؤثر سلبا في تراجع نتائجه التعليمية. لهذا، أكدت النتائج أنّ للفشل المدرسي أثر واضح في انقطاع التلميذ عن الدراسة.
ب – التغيب وعلاقته بالانقطاع عن الدراسة:
لم تؤكّد نتائج الدّراسة وجود علاقة بين الانقطاع الدراسي والتغيّب عن الدراسة عند مستوى الدلالة المحدّد، إذ أنّ نسبة من عبروا من مجموعة المنقطعين بـ”دائما” أو “غالبا” بلغت 18.4% مقابل 13.2% بالنسبة إلى غير المنقطعين. كما أنّ ظاهرة الغياب لا تقتصر على المنقطعين فقط، بل تشمل أيضا غير المنقطعين مثلما بيّنت نتائج البحث الميداني؛ حيث عبّر 52% من غير المنقطعين بأنّهم “دائمًا” أو “غالبًا” أو “أحيانًا” ما يتغيّبون عن الدّراسة. وهذه الاحصائيات تؤكّد أنّ الغياب عن الدّروس، وعدم الانضباط أصبح سلوكا منتشرا في مؤسّساتنا التعليميّة، بل يمكن القول أنّه أصبح يمثّل القاعدة وليس الاستثناء.
ت ـ الرّسوب وعلاقته بالانقطاع عن الدراسة:
كشفت نتائج الدّراسة عن وجود علاقة بين الانقطاع عن الدراسة وعدد الرسوبات لدى المتعلمين؛ فنسبة من رسبوا مرتين فأكثر من مجموعة المنقطعين بلغت 52.4% مقابل 21.2% بالنسبة إلى غير المنقطعين، وحوالي 22% فقط من مجموعة المنقطعين أجابوا بـ” لم أرسب مطلقا” مقابل 51.6% من مجموعة غير المنقطعين. فكلما ارتفعت حالات الرّسوب كلما زاد احتمال انقطاع المتعلم عن الدراسة. هذه الإجابات ذات دلالة سوسيولوجية مهمّة يمكن التعبير عنها بـ”الانقطاع التدريجي” الذي ينشأ عن غياب الأسباب المحفّزة للدراسة. فحالة الإحباط واليأس من الدراسة عادة ما تتم بشكل تدريجي وعبر مراحل يمر فيها المتعلم بحالات رسوب سابقة. وقد يكون لتدني مستوى الدافعية نحو التعليم، ولتأثيرات رفاق السّوء دور في مثل هذه الحالات، خاصة بالنسبة إلى الذين لم يرسبوا سابقا.
إنّ ضعف الدافعية للدراسة لدى المتعلم تعود إلى أسباب مختلفة قد تكون ذاتية(شخصية) أو موضوعية أهمّها ذات علاقة بالبيئة المدرسية والنظام التربوي والظروف العامة للدراسة؛ فعدم توفر الأنشطة البيداغوجية المناسبة والكافية لاندماج المتعلم في العملية التعليمية، وعدم استجابتها لميولاته وقدراته قد تؤثر في عدم دافعيته للدراسة وعدم انضباطه؛ مثلما تؤثّر جماعة الرفاق وأصحاب السّوء في غيابه وهروبه وتمضية أغلب أوقاته خارج المدرسة للترفيه داخل الفضاءات العامة مثل: المقاهي والأنترنت وغيرهما.
4- المواد التعليمية وعلاقتها بالانقطاع عن الدراسة:
حاولنا في هذا العنصر أن نقف على أسباب ضعف نتائج التلميذ في بعض المواد التعليمية لمعرفة العوامل الكامنة وراء عدم حبه لهذه المواد وأثر ذلك في انقطاعه عن الدراسة.
- المواد التي لا يحبها التلميذ تشكل عائقا لمسيرته التعليمية:
يبدو من خلال الإجابات عن هذا السؤال – كما تظهر في الرّسم رقم (12) – أنّ هناك تدرج منطقي في صعوبة المواد التعليمية لدى التلاميذ؛ فمادة الفرنسية جاءت في المرتبة الأولى من حيث الصعوبة بنسبة 46.0%، تليها مادة الرياضيات بنسبة 37.2%، ثم مادة العربية بنسبة 16.7%؛ إذ غالبا ما تكون اللغات الأجنبية أكثر المواد صعوبة في الفهم من قبل المتعلمين خاصة في ظلّ قدامة طرق التدريس، وأساليب التعليم لهذه المواد. ويلقي الضعف في مادة اللغة الفرنسية، واللغة العربية ايضا بظلاله على النتائج الدراسية للتلميذ؛ سيما وأنّ اللغات، إضافة إلى أنّها مواد تعليمية في حدّ ذاتها، فهي تعدّ مدخلا أساسيا وأداة لفهم بقية المواد باعتبارها لغة التدريس؛ ومن ثم، فعدم تمكّن التلميذ من الكفايات اللّغوية يؤثر سلبا في نتائجه الدراسية عامّة.
بيّنت دراسات مشاريع التعلّم المصمّمة على نحو جيد حول اهتمامات المتعلمين وشغفهم بوسائل التّحفيز للتعلّم، أنّ الحافز الداخلي يمكن أن يساهم بدرجة كبيرة في تشجيع المشاركة النشطة والفهم المتعمق والرّغبة في تعلم المزيد”([2]). ولكن في كل مسألة معرفية أو نشاط تعلمي وفي كل مستوى تعليمي، يجب أن يحافظ التدريس والتعلم الالتزام بجوهر المعرفة، وتركيز عال على التفكير والاستخدام النّشط للمعرفة، لأنّ تركيز التّعليم التقليدي على الحقائق والحفظ والمهارات الأساسية والاختبارات لم يكن جيدا لتنمية الابتكارية والابداع”. إن هذا الوضع أخذ في التغير في القرن الحادي والعشرين، وبدأت نظم التعليم من فلندا إلى سنغافورة في إعطاء الابتكارية والابداع أولوية قصوى في المخرجات المرغوبة من تعلم طلابهم“([3]).
- عوامل عدم رغبة التلميذ في بعض المواد التعليمية:
بناء على البيانات الواردة في الدراسة الميدانية، يمكن القول إنّ توزيع الإجابات عن هذا السّؤال كانت منطقية باعتبار أنّ أكثر من نصف عدد المنقطعين عن الدّراسة، أي 60.2% قد أشاروا إلى أنّ السبب في عدم رغبتهم (الميول والارتياح) للمواد التعليمية يعود بالدرجة الأولى إلى صعوبتها، ثم تليها في مرتبة ثانية طرق التدريس بنسبة 30.3 %، أما النّسبة المائوية المتبقيّة فتعود إلى أسباب أخرى.
فعندما ننطلق من واقع مؤسساتنا التعليمية في تونس اليوم، في زمن الرّقمنة والتعليم عن بعد، ونبحث في الطرق البيداغوجية المتبعة، وفي العلاقة بين المدرس والمتعلم، نجد أنّ طريقة التقليديّة التي تعتمد مقاربة “الإلقاء والتلقي” المهيمنة على العلاقة التعلمية والمناهج البيداغوجية. وهذه الطريقة التقليدية في التّرديد لا تحفّز المتعلم، ولا تدفعه إلى المشاركة في بناء المعرفة، أو إنجاز الأنشطة المطلوبة منه؛ مما يؤدّي به إلى عدم استيعاب بعض المواد التعليمية وخاصة اللغات الأجنبية والرياضيات. فمن محفّزات اندماج المتعلم في المدرسة عموما، وفي الفصل خصوصا، هو نوعية التدريس فيها ومهارات معلميها وحماسهم والتزامهم بأخلاقيات التعليم وأساليبه المتطورة. فتأمين انتفاع الأطفال بما فيهم الأطفال الأشد حرمانا بخدمات معلمين يمتلكون القدر الكافي من التدريب والحماس هو أمر أساسي لتوفير تعليم جيد قائم على الإنصاف. فهؤلاء يحتاجون إلى الدّعم كخطّة أو تدخّل بيداغوجي يتكوّن من تقنيات وإجراءات ووسائل، ترمي إلى سدّ الثّغرات ومعالجة الصّعوبات، وذلك من أجل الرّفع من مردوديّة وجودة العمليّة التّعليميّة – التّعلميّة، وتفادي الإقصاء والتّهميش وتعزيز فرص النّجاح ومحاربة الفشل الدّراسي.
باعتبار أنّ العملية التعليمية والتربوية تقوم على أسس وأبعاد متعدّدة )نفسية واجتماعية وبيداغوجية)، فإنّ هذه الأبعاد تشكل كلاًّ متكاملاً، وتتدخّل جميعها في نتائج التحصيل الدراسي للطفل، وفي نجاعة العملية التعلميّة أو فشلها بالنسبة إلى المعلم والمتعلّم معا. كما تمثّل العملية البيداغوجية عاملا أساسيا في تحقيق اندماج التلميذ ــ نفسيا واجتماعياــ في المدرسة أو نفوره منها. فـإذا كانت المؤسّسة المدرسيّة تشكل نظاما يؤدي وظائف تربوية محدّدة، فإنّ درجة التفاعل التّربوي بين أقطاب العلاقة التّربوية تشكل مؤشرا على سلامة العمل التّربوي وفاعليته، ومؤشرا لمدى تأدية هذه المؤسّسة لوظيفتها ومهمتها على نحو محدّد”([4]).
5- الاستنتاجات:
أهم ما توصلنا إليه في حدود هذه الدراسة يمكن حصره في النقاط التالية:
1ــ ضرورة أن ينتفع التلاميذ في المدرسة بمواد قراءة بلغات يفهمونها، لأنّ هذا الأمر حاسم بالنسبة إلى اكسابهم المهارات الأساسية للقراءة والكتابة. وقد أثبتت عدة عمليات دولية ووطنية لتقييم التعلم أنّ ارتفاع أداء التلاميذ في تعلم اللغات يرتبط بمدى توافر الكتب وغيرها من المواد المطبوعة في قاعات الدّرس والمكتبات المدرسية المجهزة بحسب تطور تكنولوجيات التعليم وتقنياته.
2ـ دور بيئات الأسرة والمجتمع المحلي: فهذه البيئات عندما تكون مشجعة على التعليم والتعلم الجيدين تضمن نتائج فعالة فيهما. فكثيرا ما تتلازم المشكلات السلوكية للتلاميذ والمعلمين مثل التأخر في الوصول إلى المدرسة والتغيب، مع ضعف أدائهم ونتائجهم مع بيئتهم الاجتماعية الخارجية.
3ــ ضبط الزمن المدرسي على أساس عدد الساعات الفعلية وليس الرسمية: مثلما أشار تقرير منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو لعام 2004) إلى عدم الخلط بين وقت التدريس المبرمج نظريا والعدد الفعلي لساعات التدريس التي يتلقاها الأطفال فعليا. فعلى سبيل المثال، يقدر أن وقت التعلم الفعلي في عدة دول عربية يقل في المتوسط بنسبة 30% عن وقت التدريس المزمع. ففي تونس، تكاد تتحول “السنة المدرسية” إلى :”عٌطلة مدرسية تتخلّلها بعض الدّروس”، حيث تضيع أيام دراسية كاملة بسبب تغيب المدرسين في بداية كل سنة دراسية تصل إلى أشهر أحيانا، أو نتيجة التدريب الذي يتلقاه المدرّسون أثناء الخدمة، أو بسبب الإضرابات المهنية أو بسبب استخدام المدارس كمراكز اقتراع أو مراكز للامتحانات وغيرها. وهذه تمثل خسارة كبيرة في وقت التدريس والاستخدام غير الفعال لوقت الدراسة، وهو مؤشر على سوء نوعية التعليم في مجتمعنا، وما يترتب عن ذلك من آثار ضارة على نتائج المتعلمين وعدم انضباطهم وانحراف سلوكياتهم.
4ــ قاعات تدريس آمنة وغير مكتظة بالتلاميذ وحسنة الصيانة: حينما يحضر التلاميذ الدروس في مبان متهالكة أو مكتظة بمن فيها، أو في بيئات تعج بالضجيج أو تكتنفها الأخطار، أو بالأخص في قاعات درس غير مزوّدة بلوازم الدراسة أو ضعيفة الإضاءة أو سيئة التهيئة المورفولوجية، فإن ذلك يقوّض فرص اندماجهم في هذه المدارس ويعرقل تعلمهم. وفعالية أي نظام تربوي في أية دولة، مهما كان مستوى تقدمها وتطوره، مرتبط بمدى قدراتها على مواجهة الاخفاق المدرسي الذي يعد عاملا أساسيا من عوامل التسرب المدرسي وأحد أسبابه الرئيسية المسبّبة في إهدار الامكانيات المادية والبشرية دون تحقيق النتائج المرصودة.
5ــ البعد الاجتماعي للمدرسين: إن عمليتي التعليم والتعلم إنما تجريان ضمن سياق اجتماعي وسياسي معين. وأصبح يشار إلى أوجه الضعف التنظيمي في المدارس باعتبارها تشكل السّبب الرئيسي في انخفاض مستوى التحصيل الدراسي، لا سيما في المدارس الحكومية في البلدان النامية. ويقوم المفكرون والباحثون بالدعوة إلى إدخال تغييرات جذرية على بنية الحوافز للمعلمين، وذلك باعتبارها وسيلة من وسائل تعزيز نتائج التعلم.
إنّ سوء التوافق بين مختلف هذه الأبعاد من شأنه أنّ يؤثر في المسار التعليمي للمتعلم، وقد يؤدي به أحيانا إلى الشعور بالقلق والانطواء وعدم الاندماج مع أقرانه ومع مختلف الفاعلين الاجتماعيين الآخرين بالمدرسة؛ فتتراجع نتائجه الدراسية في مرحلة أولى، ثم يرسب في مرحلة ثانية، ويلتجئ إلى الغياب وعدم المواظبة لينتهي به الأمر في الأخير، إلى الانقطاع عن الدّراسة نهائيا وبشكل إرادي أحيانا. وتتفاعل المدرسة مع بيئتها الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وترتبط بالمقاصد العامة لهذه المتغيرات المتدخلة فيها بشكل مباشر. لذلك، “ينظر مفكرو العلم التربوي النقدي إلى البحث الاجتماعي بوصفه تعبيرا عن التزام إنساني قيمي من ثلاثة أوجه على الأقل. أولا، يقع البحث الاجتماعي والتربوي في إطار مجتمعي يعمل على الحفاظ على القواعد الراهنة للبحث وعلى استمرار تطورها. ثانيا، يعبر البحث العلمي عن إدراكنا للظروف الثقافية والاجتماعية؛ فالدراسات التربوية تعكس الاهتمامات الخلقية والسياسية للدارسين، وتطرح بدائل لفض المشاكل الراهنة. وثالثا، يعبر البحث العلمي جزء مهني يرتبط بنيويا بالمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة”([5]).
لعلّ من أهم هذه الأسباب نجد ظاهرة عدم التوافق وغياب التواصل بين المؤسّسة التربوية ومحيطها المجتمعي، خاصّة في ظلّ تدفق وسائل الاتصال الحديثة، وتعدّد فضاءات التسلية والترفيه خارج المدرسة. فحضارة الصورة التي يعيشها المتعلم اليوم، وثورة الاتصال والمعلومات، تجعله منجذبا بشكل كبير إلى منتجاتها، ومستسلما لمغرياتها؛ نظرا لما تقدمه من متعة وفرجة وتسلية يفتقدها في المؤسسة التربوية التي تحوّلت عند بعض التلاميذ إلى “سجن” يُقبِلون عليها مكرهين ومرضاةً لوالديهم. كما إنّ لموقع المؤسّسة التربوية من الناحية الجغرافية والعمرانية، وما يحيط بها من فضاءات عامة ترفيهية “جاذبة” للطفل لها تأثيرات مباشرة في ظاهرة الانقطاع المبكر عن التّعليم. فكلّ مظاهر الانحلال الأخلاقي في المدرسة وخارجها مثل الحروب والفتن المشتعلة محليّا وعالميّا، والنّزاعات الأسريّة وانتهاكات العنف الأسري، والنّسب المرتفعة لحوادث الطّلاق… تسبب في الاضطرابات الشّخصيّة النّفسيّة التي يعاني منها العديد من النّاشئة وفي ضعف تحصيلهم المدرسي..”([6])، التي تؤدي إلى تراجع الثّوابت المعياريّة والقواعد الاجتماعيّة النّاظمة للسّلوك المدرسي وتدفع بالأطفال إلى عدم الاستمرارية في الدراسة في سن مبكّرة.
الخاتمة:
تقتضي التربية المدرسية السّليمة والنّاجعة اعتماد مناهج دراسية علمية تراعي شخصية المتعلمين وأعمارهم، وتراعي أيضا خصوصية جميع أصنافهم ومداركهم العقلية، كما تعمل على تنمية الكفايات التعليمية والسلوكية والقيم التي تؤهلهم للاندماج الفاعل في القسم أولا، وفي الوسط المدرسي ثانيا. ولهذا، فإنّ الاهتمام بجودة العلاقات الإنسانية أمر ضروري لنجاح العملية التربوية والتعليمية، وبلوغ أهداف المؤسسة التربوية. ومن ثم، ينبغي على مختلف الفاعلين التربويين والمتدخلين والمشاركين في النسق المدرسي أن يعملوا على تنمية هذه العلاقات من أجل خلق بيئة مدرسية تكون محفّزة للتلميذ على المواظبة وتساعده على الاندماج فيها قبل البحث في نجاحه أو فشله في مسيرته التعليمية.
يعاني التعليم في تونس، على اختلاف مستوياته التعليمية من الجمود المؤسساتي سواء في مستوى تجديد البرامج والمناهج التعليمية، أو في مستوى الاستجابة إلى التغيرات التنظيمية لمؤسساته التربوية. إذ مازالت هذه المؤسسات تحكمها منظومة مركزية في التسيير والرقابة المطلقة من قبل وزارات التعليم التي تستخدم المعايير الكلاسيكية في البناء والتنظيم والتشغيل، والمقاربة السياسوية “الأيديولوجية” في رسم التوجيهات والبرامج والمناهج البيداغوجية التي تسبّب في العطالة المؤسساتية وتنتج أشكالا متعدّدة من ّالأنوميا الاجتماعيةّ(Anomie sociale) لدى مختلف الفاعلين الاجتماعيين المنتمين إليها.
[1] ـ أنظر، مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية بتونس، الانقطاع المبكر عن التعليم: دراسة ميدانية في المجتمع التونسي، كراسات المركز، عدد34، 2018.
[2] ـ بيرني ترلينج وتشارلز فادل، مهارات القرن الحادي والعشرون: التعلم للحياة في زمننا، ترجمة بدر بن عبدالله الصالح، جامعة الملك سعود، النشر العالمي والمطابع، 2013، ص 34.
[3] ـ بيرني ترلينج وتشارلز فادل، مهارات القرن الحادي والعشرون: التعلم للحياة في زمننا، المرجع السّابق، ص 57.
[4] – علي أسعد وطفة وعلي جاسم الشهاب، علم الاجتماع المدرسي: بنيوية الظاهرة المدرسية ووظيفتها الاجتماعية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2004، ص98.
[5] ـ محمد الطيب وآخرون، مناهج البحث في العلوم التربوية والنفسية، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، مصر، 2005، ص 389.
[6] – محمد زياد حمدان، “تربية الناشئة في القرن الواحد والعشرون، تكوين هوياتهم الخلقية بالمعرفة والقيم والاستقلال المشترك”، المجلة العربية للتربية، المجلد 25، العدد الأول، جوان 2005،ص ص.9-40 .