الملخّص:
حظي الخطاب السّرديّ بأهميّة بالغة في الدّراسات الأدبيّة المعاصرة الّتي وضعت الأسس العامّة لتحليل مكوّناته وبنياته ومظاهره. ولئن انقسم الدّارسون قسمين في مستوى مقاربتهم لهذا الخطاب بين مهتمّ بالسّرديّة اللّسانيّة في مستوياتها التّركيبيّة والعلائقيّة المتحقّقة بين عناصر السّرد، وبين مهتمّ بالسّرديّة الدّلاليّة التي تمحورت حول البُنى العميقة التي تشكّل الخطاب وصولا إلى تحديد أهمّ قواعده السّرديّة ووظائفها، فإنّنا سنعمد في قراءتنا لنموذج من المدوّنة القصصيّة في تونس إلى الإحاطة بهذا الخطاب في كلّيته بناء فنيّا وأبعادا فكريّة ودلاليّة، إذ لم تعد القصص مجرّد سرد، بل أصبحت لحظات مكثّفة ودفقات قصصيّة تتشكّل في صورة وحدة عضويّة جامعة لمختلف مكوّناتها. وهذا من شأنه تحقيق شكل من أشكال التّناسق والتّكامل لمتون النصوص من خلال جملة من التّفاعلات والعلاقات الدّاخليّة بين الأبنية الجزئيّة التي تشكّل البنيّة الكليّة للنصّ انطلاقا من منظور تخييليّ وضمن مسار سرديّ وتصوّر جماليّ يتبلور من خلال علاقة جدليّة مع البعد الدلاليّ.
كلمات مفاتيح: الخطاب السّرديّ- المدوّنة القصصيّة في تونس- البناء الفنّي والأبعاد الفكريّة والدلاليّة.
Abstract:
Narrative discourse has been of great importance in contemporary literary studies which laid the general foundations for the analysis of its components, structures and manifestations. In their approach to this discourse, scholars have been divided in two main streams: those interested in the linguistic narrative with its compositional and relational levels among the narrative elements, and those interested in the semantic narrative that revolves around the deep structures that make up the narrative discourse in order to define its fundamental bases and functions. In our approach to a model from the Tunisian narrative literature, we will deal with this discourse as a whole artistic structure with its intellectual and semantic dimensions. Stories are no longer mere narratives, but dense moments and narrative flows that form an organic unity which combines its various components. This could achieve a form of harmony and complementarity of the text bodies through a set of interactions and internal relationships between the partial structures that make up the overall structure of the text from an imaginative perspective and within a narrative process and an aesthetic conception that crystallizes through their dialectical relationship with the semantic dimension.
Key words: Narrative discourse- Tunisian narrative literature- artistic structure with its intellectual and semantic dimensions.
1- المقدمة:
القصّة القصيرة أدب نثريّ يتّسم بجماليات تميّزه عن غيره من الأجناس الأدبيّة السرديّة. فرغم كثرة تقاطعها مع جنس الرواية في مستوى مكوّنات السرد، فإنّها استوت جنسا أدبيّا مستقلّا يتّسم كغيره من الفنون النثريّة بخصائص تميّزه كالإيجاز والاختزال وكثافة السّرد. وقد حظي هذا الفعل الإبداعيّ باهتمام نظريّات السّرد الحديثة. وتمثّل الكتابة القصصيّة في تونس فنّا أدبيّا حديثا تمتدّ جذوره إلى بدايات القرن العشرين. وقد شهد هذا المجال الإبداعيّ زخما في مستوى مدوّنته النصيّة إذ بلغت المجموعات القصصيّة المنشورة ضمن هذا الجنس الأدبيّ ما يزيد عن الثّلاثمائة، امتدّت على مستوى القرن العشرين وبدايات الألفيّة الجديدة. هذا دون اعتبار النصوص القصصيّة التي نُشرت في المجلّات الأدبيّة والصّفحات الثّقافيّة للجرائد[1]. وقد مثّلت هذه المجموعات تيّارات أدبيّة وفكريّة مختلفة. كما تباينت فنّياتها وأساليبها ومضامينها، إضافة إلى تباين اتّجاهاتها التي توزّعت بين الوطنيّ والتراثيّ والواقعيّ والتاريخيّ والعجائبيّ. وقد بنت القصّة القصيرة في تونس أواصر وثيقة مع قارئها. فمقروئيّتها لا تكتمل دون استفادة المتلقّي من ثقافته ومعارفه وخبراته للإحاطة بالنصّ القصصيّ في جميع جوانبه فهما وتأويلا[2]، إضافة أن لا مجال للوقوف على دلالاتها وعمق معانيها دون مقاربة حقيقة النصّ السّرديّ عبر مقاربة مكوّناتها بوصفها مفاهيم أساسيّة لقراءة النصّ وفهمه وتأويله[3].
– الخطاب السّرديّ للمجموعة القصصيّة من حكايات هذه الربوع:
حظي الخطاب السّرديّ بأهميّة بالغة في الدّراسات الأدبيّة المعاصرة التي وضعت الأسس العامّة لتحليل مكوّناته وبنياته ومظاهره. ولئن انقسم الدّارسون قسمين في مستوى مقاربتهم لهذا الخطاب بين مهتمّ بالسّرديّة اللّسانيّة في مستوياتها التركيبيّة والعلائقيّة المتحقّقة بين عناصر السرد، وبين مهتمّ بالسرديّة الدلاليّة التي تمحورت حول البُنى العميقة الّتي تشكّل الخطاب وصولا إلى تحديد أهمّ قواعده السّرديّة ووظائفها، فإنّنا سنعمد في قراءتنا للمجموعة القصصيّة من حكايات هذه الربوع إلى الإحاطة بهذا الخطاب في كلّيته.
و من حكايات هذه الربوع مجموعة قصصيّة للقاصّ والروائي أحمد مال. وتُعدّ هذه المجموعة إصداره الأوّل ضمن الفنّ القصصيّ. وقد صدرت في طبعتها الأولى سنة 2018 عن دار المنتدى للثّقافة والإعلام[4]. كما أصدر في أواخر سنة 2019 روايته الأولى الحبّ في رقّادة[5]، إضافة إلى ثلاث روايات ومجموعة قصصيّة لم تُنشر بعد. وقد تكوّنت هذه المجموعة القصصيّة من أربع وعشرين قصّة على امتداد إحدى وثمانين ومائة صفحة توزّعت بين النّصوص بشكل مختلف تراوح طولا وقصرا. وسنعمد إلى قراءتها، في مستوى بنية خطابها السّرديّ الذي صيغت وفقه فنيّا ودلاليّا، باستقراء مكوّنات نصوصها قصد استكشاف خاصّياتها الجماليّة وتحديد سماتها الفكريّة، لما يمتلكه الفنّ القصصيّ من مقوّمات فنيّة وأبعاد دلاليّة ميّزته عن غيره من الأجناس الأدبيّة من جهة، وجعلته موضع بحث من قبل المناهج النقديّة المعاصرة البنيويّة والأسلوبيّة والسيميائيّة من جهة أخرى.
2- البناء الفنّي:
تهتمّ مقاربة النصوص القصصيّة من هذا الجانب بتحديد أهمّ التقنيّات الفنيّة الّتي اعتمدها القاصّ حتى يُتاح له اخراج نصّ سمته الانسجام والتماسك والوحدة العضويّة لعناصره. فالنصوص القصصيّة تُبنى بناء سرديّا يُشترط فيه تماسك مختلف مكوّناتها بشكل يحقّق اكتمال العالم القصصيّ. ويُعرّف البناء الفنّي بأنّه “التحليل الذي يتناول هيكل البنية بكشف أسرار اللّعبة الفنيّة لأنّه تحليل يتعامل مع التقنيّات التي تستخدمها الكتابة” [6]، ليمثّل هذا البناء الشّكل القصصيّ بمختلف مكوّناته من أمكنة، أزمنة، شخصيّات، أحداث، سرد، حوار وبناء لغويّ. وسنقسّم هذا الجزء الخاصّ بالبناء الفنّي إلى جزئين: البناء القصصيّ والبناء السرديّ.
2- 1- البناء القصصيّ:
سنحلّل في هذا العنصر البنية الحكائيّة في مستوى العناصر المحقّقة لسرديّة النصّ القصصيّ. وتتكوّن هذه البنية من “مجموعة من العناصر التي تتفاعل في ما بينها وتتآزر في مجملها لتشكيل جملة الأحداث السرديّة التي تقوم بها الشّخصيّات داخل المكان أو الحيّز الذي يُعدّ بؤرة البنية السرديّة. والزمن الذي تتحدّد وفقه كلّ مجريات القصّة وأحداثها”[7]، لتتمثّل هذه المكوّنات البنائيّة في المكان، الزمان، الشخصيّات والأحداث.
2- 1-1- المكان:
يُعدّ المكان مكوّنا أساسيّا من مكوّنات السّرد القصصيّ وعنصرا هامّا في عمليّة القصّ. فعناصر القصّة القصيرة تخضع لمؤشّرات مكانيّة توجّه الفعل القصصيّ وتتحكّم في مسار الحبكة. وهو عنصر يحقّق أهمّيته من خلال ما ينسجه من علاقات مع سائر المكوّنات الحكائيّة. ويكتسب المكان في مجموعة من حكايات هذه الربوع مكانة هامّة باعتباره مكوّنا فنيّا قصصيّا يضطلع بدور وظيفيّ منحه معان ودلالات ورموز مختلفة. فساهم في تشكيل الحدث وتحديد سيرورته وتوفير الاطار المناسب لحركة الشخصيّات. وتختلف الأمكنة في من حكايات هذه الربوع باختلاف القصص، يجمعها مكان أشمل وأوسع حُدّد في العنوان بـ “هذه الربوع” الّتي تمثّل هويّة مكانيّة مركزيّة، ويقصد بها الجنوب الغربيّ من البلاد التونسيّة. وتتناسل من هذا المكان أماكن أخرى تشكّل مجتمعة هذا الفضاء وتنتمي إليه. ولقد تعدّدت الأمكنة واختلفت حسب طبيعة الأحداث وتنوّعها، فحضرت منطقة أمّ العرائس إطارا مكانيّا لعدد من النّصوص مثل قصّة –ابن الأرملة- “كانت أمّ العرائس القرية المنجميّة في ضحى ذلك اليوم الرّبيعي شبه مقفرة”[8]. وقصّة -إلى سيّدة لن أنساها- “ساقني القدر ذات عام إلى البلدة الطيّبة أمّ العرائس”[9]. ودارت بعض أحداث قصّة –كتاب الرياضيات- في منطقة الرديف “ووصلنا إلى سوق الرديف البلدة النظيفة وذات الثّقل رمزيّا واجتماعيّا وتاريخيّا”[10]. وجعل قفصة إطارا لبعض نصوصه من بينها قصّة- مساحة تجاريّة- “سافرت إلى قفصة في يوم إربعاء”[11].
وتمتدّ بعض القصص مكانيّا إلى خارج تونس. فنرى الجزائر وتحديدا منطقة بسكرة التي دارت فيها بعض أحداث قصّة –ابن الأرملة- “ولكن وجهته كانت الجزائر وتحديدا مدينة بسكرة ” و “وصل بكّار مساء إلى مدينة بسكرة”[12]. ونرى طرابلس في أجزاء من قصّة -سنوات عجاف- “وحين بدأت ضربات النّاتو على طرابلس الغرب فرّ وبحوزته أزيد من خمسين ألف دينار”[13]. ودمشق في قصّة – عائد من دمشق-“سافر إلى دمشق. قُبل بجامعتها. وحصل على منحة للدراسة هناك”[14].
كما تتكوّن البنية المكانيّة في مجموعة حكايات من هذه الربوع من عدّة أمكنة تنضوي جميعها ضمن الفضاء الكلّي الذي يؤطّر العالم القصصيّ للنصوص. وهي أمكنة اختلفت مستوياتها في شكل ثنائيّات ضديّة. فنجد:
2- 1-1-1- الأماكن المغلقة:
هي الأماكن التي “تعكس قيم الألفة ومظاهر الحياة الداخليّة للأفراد الذين يقطنون تحت سقوفها”[15]. وتمثّلت في الغرفة في قصّة –إلى سيّدة لن أنساها- “كانت الغرفة طويلة وتكاد تكون بلا عرض وكان بابها أزرق متداعيّا وأشعّة شمس أفريل تتسلّل بحياء بين شقوقه”[16]. وقد تحوّلت الغرفة إلى مكان لتذكّر الصبّي موقف السيّدة معه حين تجاهله الجميع. وتجسّد المكان المغلق في قصّة -في انتظار الطبيب- في قاعة الانتظار الّتي كانت مجالا لاسترجاع ذكريات خمسين سنة استحضر من خلالها الشّيخ عبد الكريم قصّة حبّه للهانيّة الّتي التقاها من جديد وهي عجوز سبعينيّة.
2- 1- 1 -2- الأماكن المفتوحة:
توحي عادة بالاتّساع والحريّة. وقد تعدّدت في مجموعة من حكايات هذه الربوع واختلفت الأحداث الّتي كانت إطارا لها. فنجد البطحاء في قصّة –ابن الأرملة-. وقد مثّل هذا المكان حلبة للنّزال بين شباب الباديّة والشّاب الحُزقّة الذي أطاح بالجميع باستثناء بكّار الابن الذي لم يكن منافسا هيّنا. فانتصر عليه ليظفر بقلب حبيبته التي اشترطت على من تقبله زوجا أن يطيح بجميع الخصوم في صراع حقيقي. كما تمثّلت في الشّارع أمام مقرّ الاتّحاد العامّ التونسي للشغل في قصّة -دماء أبكت الرديف وأمّ العرائس-وقد حمل هذا المكان/ الشارع دلالات الثورة والمطالبة بالحريّة والكرامة.
ورغم أنّ المكان بناء لغويّ ذهنيّ يخضع لأغراض التّخييل[17]، ويُوظّف رموزا لغويّة تضطلع بوظائف فنيّة وتحيل على دلالات فكريّة، فإنّ أحمد مال جعل لأحداث قصصه أطرا مكانيّة تحيل على العالم الخارجيّ بما هو معطى موضوعيّ وحقيقيّ. وتراوحت هذه الأماكن بين أطر حاضنة للحدث وأخرى ورد ذكرها في سياق الأحداث. وتستمدّ هذه الأماكن واقعيتها من أسمائها كأمّ العرائس، الرديف، قفصة، المتلوي، صفاقس، بئر الحفيّ وحفوز من ولاية القيروان راسما بذلك صورة للواقع موهما القارئ باحتمال وقوع الأحداث. فتعيين “المكان يعمل نصيّا على الإيهام بواقعيّة المكان الذي يحتضن الحدث”[18]. كما يؤكّد العلاقة الوثيقة التي ينسجها الأدب مع الواقع بشكل يثبت أنّ “المتخيّل نوع من الممارسة لهذا الواقع”[19]. فالكاتب يخلق عالما خياليّا يرتبط بالعالم المرجعيّ ارتباطا وثيقا. ويتحقّق ذلك من خلال إعادة خلقه تخييليّا و تشكيله من جديد عبر اللّغة بطريقة تخضع لمتطلّبات الفنّ القصصيّ. فالمكان في القصّة القصيرة ليس هو المكان المرجعيّ الخارجيّ، بل هو المكان القصصيّ الذي أبدعه القاصّ وصاغه صياغة فنيّة. فالكاتب يشكّل مكانا قصصيّا يستمدّه من الواقع غير أنّه في الآن ذاته يختلف عنه اختلافا جوهريّا.
لئن حضر المكان في النّصّ القصصيّ باعتباره مكوّنا فنّيا جماليّا، فإنّه اكتسب بعدا دلاليّا دلّ على تجاوزه المفهوم الضيّق للإطار الذي يُحدّ مساحة وتركيبا ليحضر فعلا واعيا يستعين به القاصّ للتعبير عن شواغل وقضايا. فيمنح أحداثه التّأثير الجماليّ من خلال عدد من الدّلالات المكانيّة النّفسيّة، الاجتماعيّة والسياسيّة”[20]. وقد استعان أحمد مال بالمكان عنصرا مقاربا للواقع والتاريخ فرسم أمّ العرائس رمزا دالّا على المستوى التاريخيّ والوعي الوطنيّ. ولعلّ استشهاد الشّابين دليل على هذا المعنى.
ويتجاوز المكان دلالته الجغرافيّة نحو دلالة أوسع تلامس البيئة في مفهومها الشامل من أشخاص ووقائع وعادات وتقاليد وقيم. فيتمّ بذلك استحضار البعد المكانيّ للقصّ في مستوييه الإنسانيّ والمجتمعيّ. ويشكّل الريف أحد الأمكنة الأساسيّة التي ساهمت في تشكيل الأحداث وفي رسم الشخصيّات القصصيّة وصياغة مفاهيمها وعاداتها وتقاليدها. فهو يحتلّ مكانة متميّزة في العالم القصصيّ لمجموعة من حكايات هذه الربوع.
ويعمد القاصّ إلى نقل ملامح الريف ليعكس معاني البساطة واستسلام أهله للخرافة. فبدا المكان حاملا لمعتقدات المجتمع الريفيّ كما تجسّد ذلك واضحا في قصّة –ابن الأرملة- الّتي وُصفت فيها زيارة أهالي القرية والقرى المجاورة لمقامات الأولياء الصالحين مصحوبين بالذّبائح. ونجد نفس التصوّر في قصّة- زردة- “كانوا أربعة من أولياء الله الصالحين: جدّ كبير هو سيدي سليمان وحفيدان هما الحاج أحمد والحاج صالح ورابعهم سيدي عليّ بن عبيد”[21]. وكان الاعتقاد في قدرتهم على إتيان الخوارق راسخا في الأذهان “ولا أنسى كلام جارتنا الطيّبة العمّة غزالة عن مشايخنا الذين يملكون مصفاة تصفّي مياه الأمطار”[22]، ممّا يحيل على بساطة التّفكير وسذاجة التصوّر.
تنوّعت صورة المكان داخل العالم القصصيّ لمجموعة من حكايات هذه الربوع. وقد قاربناها قراءة وتحليلا وتأويلا. فوقفنا على المكان في بعده المرجعيّ الواقعيّ وفي بعده التّخييليّ بشكل أطّر لجماليّة مكانيّة ملائمة لحركة الشخصيّات ولسيرورة الأحداث. واهتمّ القاصّ بعلاقة المكان بالشخصيّات دون إيلاء أهميّة لجزئياته وصفاته بشكل دلّ على البعد الدلاليّ الرمزيّ للمكان اطارا حاضنا للأحداث والشخصيّات.
2- 1- 2- الزّمان:
تعتبر البنية الزمانيّة أحد أهمّ المكوّنات الفنيّة للقصّة القصيرة، وعنصرا فاعلا في بنائها السّرديّ يؤسّس لعلاقات مع سائر عناصر العالم القصصيّ ممّا يمنح النصّ تماسكا وانسجاما. وتخضع تقنيّة النظام الزّمنيّ لتقنيّات السّرد الحديثة القائمة أساسا على تداخل الأزمنة بشكل يحقّق تجاوز نمطيّة السّرد لننتقل من مستوى المحكي الأوّل الذي تمثّله المقاطع السرديّة في حاضر السّرد إلى المحكيّ الثّاني الذي تمثّله المقاطع السّرديّة المقترنة بالزمن الماضي. وسنقرأ تشكّل البنية السّرديّة زمنيّا في مجموعة من حكايات هذه الربوع في مستوى المفارقة الزّمنيّة ومستوى حركة السّرد:
2- 1- 2- 1- المفارقة الزّمنيّة:
يُقصد بالمفارقة الزّمنيّة مفارقة زمن السّرد مع زمن القصّة[23]. وتقوم على مقارنة نظام ترتيب الأحداث في الخطاب القصصيّ بنظام تتابعها في القصّة. و يعمد أحمد مال في مجموعته القصصيّة إلى تجاوز زمن الحكاية بما هو زمن منطقيّ يسير وفق تسلسل متتال من الماضي نحو الحاضر إلى المستقبل. ويستبدله بزمن سرديّ غير خاضع لتسلسل كرونولوجيّ متّسق. فيتمرّد بذلك على رتابة التّتابع ويؤسّس في المقابل لجماليّة نصوصه عبر المفارقة الزّمانيّة التي برزت في مستويات مختلفة:
أ- الاسترجاع: يُعدّ أحد أهمّ التّقنيّات السّرديّة الزّمنيّة. يعتمده الكاتب لخرق تسلسل الزّمن السرديّ عبر قطع زمن السّرد الحاضر واستدعاء الماضي بمختلف درجاته القريب منه والبعيد. فالاسترجاع يقوم على إيقاف مسار السّرد والعودة إلى الماضي لاستحضار أحداث سابقة للنّقطة الّتي بلغتها القصّة. فكلّ “عودة للماضي تشكّل، بالنسبة إلى السّرد، استذكارا يقوم به لماضيه الخاصّ. ويحيلنا من خلاله على أحداث سابقة عن النقطة التي وصلتها القصّة”[24]. وقد حضر هذا الأسلوب في عدد من قصص المجموعة. وانقسم حسب علاقة الحدث السّرديّ الحاضر بالحدث السّرديّ الماضي إلى:
- الاسترجاع الخارجيّ: هو استرجاع يمتدّ إلى ما قبل بداية القصّة. وتحدّد في نصّ -ابن الأرملة- بمؤشّر زمني سرديّ تمثّل في أواخر الخمسينات. وتحدّد بمستويين. أمّا المستوى الأوّل فتمثّل في حكاية ثراء والد بكّار قبل أن يتسبّب أحد الفاسدين في نفوق كلّ مواشيه ممّا نتج عنه تغيّر حال الأسرة ووفاة عائلها حسرة. وأمّا المستوى الثّاني فتمثّل في قدوم بكّار للعمل صانعا في دكّان التّاجر البسكري الجزائريّ. ثمّ تعرّفه على فتحية ابنة صاحب العمل ونشوء قصّة حبّ بينهما انتهت بعد عامين بهروبهما من القرية وزواجهما بعد أن أبدت عائلتها الرغبة في تزويجها من ابن عمّها. ثمّ تعرّض بكّار بعد أشهر قليلة إلى حادثة سقوط في عمله نتج عنها وفاته وترمّل فتحية الحامل بابنهما. كما تضمّنت قصّة –سنوات عجاف- استرجاعا خارجيّا من خلال الحديث عن حياة كمال قبل 14 جانفي وتوجّهه نحو ليبيا للعمل. وامتدّ هذا الاسترجاع في قصّة – في انتظار الطبيب- لما يزيد عن الخمسين عاما حين تعرّف الشّيخ على هويّة العجوز الهانية بومعروف التي أحبّها وهو لايزال شابّا حين شيّد منزلا لأسرتها. ولم تتجاوز علاقتهما مجرّد النّظرات والابتسامات وكلمات قليلة وحين عاد لخطبتها وجد قومها يحتفلون بعرسها.
- الاسترجاع الداخليّ: ويتمثّل في ماض لاحق لبداية القصّة. ونستدلّ عليه في نصّ -ابن الأرملة- بولادة بكّار الابن بعد وفاة والده وما تعرّض له من قسوة من قبل عشيرة والده. وأصبح في السابعة من عمره راعيا بمقابل لدى أهل المضرب ليزاحم بعد ستّ سنوات كبار مالكيّ الماشية. واحتوت قصّة – مقامات- استرجاعا داخليّا حين ذكّرت زوجة الطبيب عمران صديقتها برأيها حول زواج ابنيهما الذي اقترحته قبل سنوات “أخّيتي بنت الطبيب ما تاخذش ولد موظّف بسيط يشهق ما يلحق”[25]. وتحدّد هذا الاسترجاع في قصّة – نهاية ظالم- بحكاية نعيم سيّد العشيرة الذي فرّت به عمّته وهو لا يزال رضيعا في اللّيلة التي قرّر فيها الوردي افتكاك الذّكور من حجور أمّهاتهم وفصل رؤوسهم عن أجسادهم. ولجأت إلى فارس الذي استغاثت به فتولّى حمايتها. وقد ساهم الاسترجاع في سدّ الثغرات الّتي يخلقها السّرد الحاضر عبر فهم مسار الأحداث وتفسير دلالاتها، إضافة إلى إضاءة جوانب من الشّخصيّة بإبراز ملامح تحوّلها بين الماضي والحاضر. وحقّق على المستوى الفنّي التّوازن الزّمنيّ في النصّ عبر تجاوز الرّتابة والخطيّة.
ب- الاستباق: هو خاصيّة حكائيّة وتقنيّة فنيّة زمنها المستقبل تتضمّن ما هو متوقّع حدوثه في القصّة. فتروي أحداثا سابقة عن أوانها. ولهذا البعد الزمنيّ دور وظيفيّ إذ تُعدّ “هذه الاستشرافات بمثابة تمهيد أو توطئة لأحداث لاحقة يجري الإعداد لسردها من طرف السّارد. فتكون غايتها في هذه الحالة حمل القارئ على توقّع حادث ما أو التكهّن بمستقبل إحدى الشخصيّات، كما أنّها قد تأتي على شكل إعلان عمّا ستؤول إليه مصائر الشخصيّات”[26].
وقد تعدّدت مواطن الاستباق في مجموعة من حكايات هذه الرّبوع. فقد توقّع بكّار في قصّة – ابن الأرملة- أنّ انتصاره على الحُزُقّة سيقوده إلى قلب حيزيّة الّتي أحبّها منذ الطّفولة. وقد تحقّق ذلك لاحقا بعد أن أطاح بخصمه “وليلتها زارته و أمّها بمنزل لم يعد كوخا. وجلست حيزيّة على مقربة منه. وبكلام كسر مأثور سلوك النّاس، أعلمت والدة حيزيّة والدة بكّار بحكاية قسم حيزيّة: سأتزوّج من يصرع الجميع. وأعلمتها بأنّ ابنتها رأت في المنام بكّارا يصرع الجميع”[27]. وتضمّنت قصّة – إلى سيّدة لن أنساها- ملمحا استشرافيّا حين تنبّأت السّيدة التي عطفت على الطفل بمستقبله عندما أبدى تخوّفا بعدم نجاحه وانقطاعه عن الدراسة “باش تنجح وتولّي أستاذ وتقرّيلي بنتي”[28]. وهو ما تحقّق “وبعد سنوات حدث ما استشرفته…وفّقني الله في دراستي ودرّست ابنتها”[29]. لقد مثّلت المفارقات الزّمنيّة التي صاغ وفقها القاصّ البنية السّرديّة لنصوص مجموعته القصصيّة شكلا من أشكال خرق النّسق الخطّي للزّمن، وتجاوز ترتيب وقوع الأحداث في زمن القصّة.
2- 1- 2- 2- الإيقاع الزّمنيّ:
يتحدّد الإيقاع الزمنيّ بتقنيّات سرديّة اختلفت في مستوى وظيفتها بين بعدين تمثّلا في تسريع السّرد عبر تقنيتيّ الخلاصة والحذف من جهة، وإبطاء الحركة السّرديّة عبر تقنيّة الوقفة من جهة أخرى.
- الخلاصة: تمثّل شكلا من أشكال التّسريع الذي يلحق القصّة في بعض أجزائها. فيتمّ الايجاز في فترات زمنيّة يرى القاصّ أنّها غير ذات أهميّة. فيختزل ويُجمل ما جرى على امتداد زمني يُقاس بالأشهر والسّنوات في بضع أسطر دون توقّف عند التفاصيل. فيكون زمن السّرد أقصر من زمن الوقائع. ويبرز ذلك في قصّة – سارح سمونة- الّتي تروي جوانب من بخل الشّخصيّة الرّئيسيّة من بينها علاقتها برعاة مواشيها “يقضي الراعي جميع الفصول وهو يقود مواشيها من مرعى إلى مرعى. ويتحمّل القرّ والحرّ والجوع والتّعب وفي نهاية المطاف تقنعه سمونة بأنّه مدين لها بالبقاء على قيد الحياة”[30]. فالقاصّ اختصر في هذا المقطع فصولا أربعة وما عُرف فيها من تعب ومعاناة دون تفصيل لأحداث تدوم على امتداد العام. وتحدّد الإجمال في نفس القصّة في موضع آخر في مقام خطبة بدور لابن عشيرة بوجرّارة “وكان حديث الحاضرين متنوّعا. فخاضوا في نتائج الحرب العالميّة الأولى وتحدّثوا عن الخيل والكباش والجمال…. وأخبروا عن مجتمع ذكوري وبيئة ذكوريّة. وما أخبروا عن الأنوثة إلّا وهي مقترنة بموقعها المفعوليّ مصدرا للّذة والتكاثر”[31]. فقدّم القاصّ إجمالا الأحاديث دون الخوض في تفاصيلها.
وتضمّنت قصّة-كيس مجلّات وقصص- عنصرا موجزا “أسمع برحلاته إلى أوروبا وبأصدقاء من جنسيّات فرنسيّة و إنقليزيّة يزورونه”[32]. واكتفى القاصّ بتقديم هذه المعلومة العامّة عن ابن خالته المنصف دون حديث عن رحلاته ولا تحديد لبلدان بعينها. وضمّت الخلاصة سنوات طويلة في قصّة -مقامات- شملت مراحل مختلفة من حياة الشّخصيتين دراسة فتخرّجا فعملا وزواج وإنجابا. أمّا صديقه سعد فقد نجح بامتياز في البكالوريا ووُجّه لدراسة الطبّ، تخرّج سعد وانتدب طبيبا عامّا لدى وزارة الصحّة وفي ذات العام تزوّجا…أنجبت زوجة عمران ولدا وأنجبت زوجة سعد بنتا”[33].
ب- الحذف: الحذف تقنيّة فنيّة تُوظّف لتسريع وتيرة السّرد من خلال تجاوز فترات زمنيّة دون الاشارة إلى الوقائع الّتي حدثت فيها. ويدلّ الحذف على عدم القدرة على الالتزام بتتبّع سرد الزمن الكرونولوجيّ ضمن حيّز نصّي محدود. فيلغي القاصّ سنوات وأشهر من الأحداث. وبرزت هذه التقنيّة الفنيّة في قصّة -حبّ مغاربي- الّتي تروي حبّ تونسيّ لجزائريّة تعذّر عليهما الارتباط نتيجة عوائد خمسينات القرن الماضي الّتي ترفض مصاهرة الأباعد. ورغم زواج كلّ منهما وعودتها إلى بلدها بعد استقلاله، فإنّ حبّها ظلّ عالقا في ذاكرته. وبعد عشرين سنة تسنّى له رؤية شقيقتها. وعمد القاصّ إلى إسقاط فترات زمنيّة طويلة عُدّت بعشرين سنة لم يُفصّل أحداثها وما شهدته حياة الشّخصيّات خلالها. كما تضمّنت قصّة –مقامات- حذفا إذ لم يُفصّل القاصّ سنوات الدّراسة الجامعيّة بالنّسبة إلى عمران الذي أعلن نجاحه في البكالوريا وتوجّهه إلى كليّة الطبّ وانتقل مباشرة إلى التّصريح بتعيينه طبيبا “ومرّت الأعوام وأصبح طبيبا ثمّ طبيبا مختصّا”[34]. ففي هذا الحذف يقفز القاصّ على سنوات طويلة دون الإشارة إلى ما وقع فيها.
ج- الوقفة: تمثّل هذه التقنيّة التّوقّف في مسار السّرد واعتماد الوصف بشكل يفضي إلى انقطاع السّيرورة الزّمنيّة. وتضمّنت قصّة -زردة- شكلا من أشكال الوقف “اقتربنا من المشايخ وشدّني لونان قباب وأبواب شديدة الخضرة وجدران ناصعة البياض. وبلا شكّ، فإنّ الخضرة كانت ترمز إلى الجنّة، أمّا البياض فإنّه يرمز إلى القلوب البيضاء والتّسامح. وكانت حشود هائلة تسجّل حضورها بين واقف وجالس ومارّ”[35]. وافتتحت قصّة – في انتظار الطّبيب- بمشهد وصفي اضطلع بدور تأطيريّ للأحداث اللّاحقة “في القاعة عشرون نفرا بين مريض ومرافق. وهم من أعمار مختلفة، فأصغرهم طفلة في حدود عامها السّابع وأكبرهم شيخ وعجوز في حدود السّبعين”[36]. كما توقّف السّرد في قصّة -كيس مجلّات وقصص- حين عمد القاصّ إلى وصف توني المحامي الانجليزيّ الذي قدم رفقة زوجته مونيكا وابن خالة السّارد “كان المحامي الانجليزيّ عظيم الجسد ويلبس سروالا قصيرا يسع حمارتي وربّما نعجتي السّوداء القرناء المشاكسة…وكان يلبس قميصا يمكن أن يكون جبّة لرجل ربعة. وكان أحمر سمين الوجه يفتح عينا وبالكاد يفتح الأخرى ثمّ يغمضها”[37].
امتدّت قصص من حكايات هذه الربوع في اتّجاهات زمنيّة مختلفة ساهمت في إثراء مستوى الحكي من خلال تنويع الزمن وإيقاعه بشكل ساهم في صياغة العالم القصصيّ. وقد وُسمت البنية الزمنيّة بالتّداخل والتّقاطع بشكل كسر رتابة الزّمن وتجاوز نسق الخطيّة من خلال المفارقات الزمنيّة الاسترجاعيّة والاستباقيّة. وتباينت اتّساعا ومدى بإبطاء السّرد عبر الوقفة وتسريعه عبر تقنيتيّ الخلاصة والحذف بشكل أسّس لبنيتها الزمنيّة من جهة، وضمن تماسك بنيتها الحكائيّة من جهة أخرى.
2- 1- 3- الشخصيّات:
تُعدّ الشخصيّات عنصرا هامّا وأساسيّا في تكوين البناء القصصيّ لما تنسجه من علاقات وروابط مع مختلف المكوّنات الفنيّة. وهي عنصر مشارك في الأحداث يختلف حضورها سلبا وايجابا. وتتشكّل صورتها من خلال الأفعال والأقوال الواردة عنها في النصّ بشكل يجعل منها وحدة دلاليّة تُولد من وحدات المعنى. ومن ثمّ “تمّ الانتباه إلى الشخصيّة وإعطائها مكانتها في السّرد بنيّة أساسيّة لما تحمله من معنى في تأديّة معاني وأفكار النصّ”[38]. وقد تعدّدت شخصيّات من حكايات هذه الربوع. فكانت شخصيّات إنسانيّة مختلفة متباينة في مستوى انتمائها الاجتماعيّ والثقافيّ والقيميّ بشكل انعكس على أساليب عيشها وتصرّفاتها. ويمكن مقاربة هذا العنصر الفنّي حسب:
2- 1- 3- 1- أنواع الشخصيّات:
يمكن تصنيفها عبر مستويات مختلفة:
أ- مستوى كثافة الحضور: تباينت الشخصيّات في مستوى كثافة الحضور على امتداد مساحة القصّ فتفرّعت إلى:
- الشخصيّة الرئيسيّة: تُصنّف وفق الدّور المسند إليها في السّرد. فهي الشّخصيّة الّتي تحتلّ مركز كثافة القصّ، إذ تهيمن على الخطاب السّرديّ الذي يتمحور حولها. فتكون مدارا للأحداث، بها ترتبط الأفعال ومن خلالها يُحدّد البعد الحكائيّ للنصّ. ويُعتمد عليها لتحقيق وحدة العمل القصصيّ. وتتحدّد هذه الشخصيّة من خلال مستويين: أوّلهما يُستدلّ عليه بحضورها الطّاغي على مساحة القصّ، وثانيهما بمدى مساهمتها في الأحداث. وقد جعل الكاتب لكلّ نصّ قصصيّ شخصيّة رئيسيّة لها حضور مركزيّ على امتداد السّرد. فمثّل بكّار الابن الشخصيّة المركز في قصّة -ابن الأرملة-. وقد أغفل القاصّ تقديمه عبر تحديد ملامحه. وعمد إلى جعل القارئ يعرفه من خلال أفعاله و تبلور صورته تدريجيّا خلال القصّة وتطوّرها بتطوّر أحداثها. فتجسّد حضوره وقد اقترنت به صفة الفاعليّة الّتي توزّعت بين مستوى فرديّ وآخر جماعيّ مثبتا قدرته في صنع الحدث والمساهمة فيه. أمّا الفرديّ فبدا في نجاحه في تحدّي ظروفه الاجتماعيّة السيّئة ليصبح على بسطة من الرّزق، وأمّا الجماعيّ فبرز في توجّهه إلى بسكرة للبحث عن عائلة والدته التي رفضت رجوعها بعد هروبها مع بكّار الأب رفضا لزواجها من ابن عمّها. وقد شاركه في هذه المرحلة جدّه وجدّته وأخواله الذين قبلوا الرجوع معه لمقابلة أمّه ولمّ شمل العائلة. فبدا بطلا ايجابيّا قادرا على صنع الحدث والمشاركة في تطوّره والـتأثير في الشخصيّات القريبة منه.
وتعدّدت الشخصيّات الرئيسيّة في نصّ -سارح سمونة- وتباينت في طبيعة أدوارها، كما اختلفت صفاتها وطبائعها. فهي من جهة سمونة التي بدت شخصيّة فاعلة ساهمت في بناء الحدث وتطوّره. فقد اتّصفت بالبخل حدّ التقتير بشكل جعلها تستغل الرعاة. وهي، من جهة أخرى، شخصيّة عبد المجيد الّتي تميّزت بقدرتها على صنع الحدث والمشاركة فيه. وبرز ذلك في كثير من المواقف لعلّ أهمّها حين أصرّ على اصطحاب بدور رغم رفض والدتها.
- الشخصيّة الثانويّة: يوظّفها القاصّ لاستكمال أبعاد رؤيته الفنيّة من خلال مساهمتها في إضاءة الشخصيّة الرئيسيّة. وتنفعل بالأحداث من حولها دون أن تكون فاعلة فيها إلّا في حيّز ضيّق. ويمكن الاستدلال بعدد من الشخصيّات لتحديد بعض صفاتها وملامحها. فشخصيّة بدور في قصّة -سارح سمونة- لم تُحدّد أبعادها ولا تفاصيل حياتها إلاّ بالقدر الذي يساهم في تشكيل الصّورة الكليّة للشخصيّتين الرئيسيّتين اللّتين ارتبط حضورها في القصّة بهما. فرغم أنّها شخصيّة ثانويّة، فإنّ حضورها السّرديّ كان بارزا بشكل أتاح لها إظهار شخصيّة البطل وتوضيح بعض معالمها وسماتها. فمن جهة، ارتبطت بعبد المجيد الذي أحبّها في البداية سماعا دون أن يراها وتواصل معها عبر نغمات النّاي. وبعد أن كانت تعتبره مجرّد راع لا يليق بذات المال والدّل هفت روحها إليه. وقد أثّرت على عبد المجيد الذي تعلّق بها بشكل إيجابيّ وحدّدت مواقفه. فتحدّى والدتها الرافضة لارتباطهما لرغبتها في تزويج ابنتها لصاحب مال. و ارتبطت، من جهة أخرى، بوالدتها بأن تصدّت لشراسة معاملتها لعبد المجيد. وقد أضاء هذا الموقف جانبا من شخصيّة بدور. كما مثّل منعرجا حدثيّا داخل النصّ القصصيّ.
ب- مستوى النّمو و الثّبات: تباينت الشّخصيّات في مستوى النّمو و الثبات وتوزّعت بين:
- الشخصيّة الناميّة: تُقدّم للقارئ تدريجيّا على امتداد القصّة. وهي التي تتفاعل مع الأحداث وتتطوّر بتطوّرها. فتتميّز بفاعليتها وحركتها داخل الحيّز الحكائيّ. ولعلّ شخصيّة بكّار الابن شاهد على هذا الصّنف من الشّخصيّات. فقد تميّز بتطوّره وحركته داخل الحيّز الحكائيّ من خلال صراعه مع الأحداث والمجتمع لتكتمل صورته مع نهاية القصّة. وهو ما تحقّق من خلال تطوّرين مهمّين تعلّقا بالجانبين الإنسانيّ و الاجتماعيّ والماديّ.
أمّا اجتماعيّا وإنسانيّا فقد كان بكّار الابن يُعامل بقسوة من قبل أبناء عشيرة والده. وكانوا ينادونه بابن الهجّالة. وحين شهد وضعه الماديّ تغيّرا “لاحظ أنّ لهجة البعض تجاهه بدأت تتغيّر. فعبارة ابن الهجّالة التي كان يسمعها بشكل يوميّ بدأت تخفّ”[39]. وبعد أن كان منبوذا وحيدا صحبة والدته الغريبة المستضعفة، تواصل مع أهل أمّه ببسكرة بعد عقدين من الزمن “يا سيّدتي هذا حفيدك التونسيّ. قدم لزيارتنا قال الحاج مسعود. واشتمّ بكّار رائحة أمّه وهو يحتضن جدّته. وسرعان ما ازدحمت سقيفة المنزل بعدد كبير من أفراد أسرة الحاج مسعود وأقاربه. وامتزج الفرح بالدموع وبالتعبير عن الشّوق إلى فتحية”[40] .
وأمّا ماديّا فقد تدرّج من كونه راعيا بمقابل، إلى أن أصبح يمتلك ثلاث نعاج وعنزتين. وبعد ستّ سنوات من العمل لدى أهل المضرب، صار يزاحم كبار مالكيّ الماشية عددا. وأصبح على بسطة من الرّزق وغدا مشرفا على راعيين.
- الشخصيّة الثابتة: هي الشخصيّة الّتي لا تتغيّر من بداية القصّة إلى نهايتها ولا تنمو داخل البناء الحكائيّ. فتكاد تكون ثابتة في مواقفها وسلوكها. تأخذ نمطا واحدا فلا تحتاج إلى وصف أو استبطان. فشخصيّة الجدّة في قصّة -ابن الأرملة- كانت ذات صبغة واحدة لا يغيّرها السرد. لم يكن لها موقف من رفض زوجها رجوع ابنتهما بعد هروبها مع بكّار الأبّ “كانت الجدّة لا تعرف بكّارا الأبّ. ولا تعلم شيئا عن ابنتها. ولا تملك من الخيال ما يسمح لها بمجرّد تصوّر أنّ هذا الشّاب حفيدها”[41]. فلم يكن حضورها مهمّا في مستوى مسار الأحداث. كما بدت شخصيّة زوجة الأبّ في قصّة –جرح اللّسان- شخصيّة ثابته لا تنمو بنموّ الأحداث إذ اكتفت بمشاركة الطفل البكاء عند سماع استهزاء الجارين برغبة والده في الحاقه بالمدرسة.
2- 1- 3- 2- طرق تقديم الشخصيّة:
لم يلتزم القاصّ أحمد مال بطريقة واحدة في تقديم شخصيّات قصصه، بل عمد إلى تعديد الطرق وتنويعها:
أ- الطريقة التمثيليّة: تُعرف أيضا بالطريقة المباشرة. ويهتمّ فيها القاصّ بتقديم شخصيّاته عبر وصفها لغويّا وصفا خارجيّا. ويمثّل هذا الأسلوب في التقديم هو الطّاغي على أغلب قصص المجموعة. ويقوم على الإحاطة بالشخصيّة في مستوى ملامحها الخارجيّة ومثال ذلك ما ورد في قصّة -دعاء المظلوم- الّتي وُصفت فيها الشخصيّتين وصفا جسديّا بتحديد بعض ملامحهما. كما وُصف جانب من طباعهما. وهو وصف ساهم في إضاءة جانب من جوانب الشخصيّة. وأحال بطريقة غير مباشرة على صفاتها و أفعالها. وأثبت شكلا من أشكال التّماثل بين الصّفات والشخصيّات. فالأبّ كان فظّا قاسيّا مقتّرا. وكانت زوجة الأبّ ذات حسّ إنسانيّ مرهف جعلها تحنو على الأطفال اليتامى “كان بوبالة والعطرة خطّين متقاطعين خلقة وخلقا. كانت نحيفة وكان بدينا. وكان وجهها يُذكّر بشدّة حسنها أيّام الرّواء. وكان وجهه مخيفا دميما. يُذكّر بحكايات عن الأهوال والأغوال. كان جلفا وكانت رقيقة. وخصّص القاصّ مقطعا وصفيّا لتقديم شخصيّة قصّة – سارح سمونة- من خلال ضبط وضعها الاجتماعيّ “كانت عجوز أرملة تعيش بريف من أرياف بلادنا.”[42] ووضعها الماديّ “مات زوجها وترك لها ولابنتها الوحيدة مئات رؤوس الأغنام والعنز وأموالا لا تحصى بمقاييس زمانها”[43]. ومستوى اسمها “وكانت تُدعى سمونة”[44]. ومستوى طباعها “وكانت بخيلة مقتّرة ولو حايلت الجاحظ لترك شخصيّات بخلائه جانبا ولأفرد لها أخبارا بأسانيد ومتون تستلهم من سيرتها نصوصا لا تخبو دلالتها ولا تنضب حلاوتها”[45]. وهي تفاصيل ألمّت بالشخصيّة في مختلف جوانبها بشكل وظيفيّ لأنّها مهّدت للأحداث التي كانت مدارا لها.
ب- الطريقة التحليليّة: تُعرف بالطريقة غير المباشرة. وتهتمّ بتصوير العالم الدّاخليّ للشّخصيّات عبر كشف جانبها النفسيّ. وقد وظّف القاصّ هذه الطريقة في عدد من قصص المجموعة من ذلك نصّ -قصّة حبّ قصيرة جدّا- الذي استبطن فيه السّارد كوامن أعماق الفتى الذي أحبّ فتاة. فصوّر ما يعتريه من مشاعر وأحاسيس تراوحت بين الحبّ والحزن “علق بها وصار يحزن حين لا يراها. ويستعيض عن غيابها بقراءة القصص والرّوايات وبالدّعاء أن يجعلها الله من نصيبه”[46]. وكان عليما حتى بأحلامه مطّلعا على هواجسه “وصارت تزوره كلّ ليلة. فتزيّن أحلامه. وتشجّعه على الدراسة. وتعده بحبّ لا ينتهي وبوفاء سرمديّ”[47]. وكشف عن جوهر الشخصيّة وما يعتريها من خوف وهواجس كلّما همّ بالاعتراف لها بحبّه “وكان كلّما همّ ببثّها شكواه ارتبك. وقرع خوف الفقد أعاليه وأسافله. وانغرست أشواك من أخصميه إلى أصمغه”[48]. وأتاحت هذه الطريقة التحليليّة تحديد سلوك الشخصيّة وردود أفعالها ممّا ساهم في بناء ملامحها و تبرير سلوكها وتصرّفاتها و التعرّف على أبعادها.
تمثّل الشخصيّة أحد أهمّ عناصر التّشكيل الفنّي للنصّ القصصيّ، إذ تُعدّ مكوّنا أساسيّا وفاعلا في تجسيد الأحداث وتطويرها. وتعدّدت الشخصيّات في مجموعة من حكايات هذه الربوع وتباينت صورا وأنماطا وصفات. وقد أحاط أحمد مال بشخصيّات قصصه بشكل بلور رؤيته الفنيّة. فاهتمّ بتفاصيلها حياة وصفات واستبطانا. واستعان بها بوصفها شخصيّات فنيّة صاغها للتّعبير عن أفكار وأحاسيس ومواقف معيّنة. فالشخصيّة القصصيّة لا تمثّل وجودا واقعيّا بقدر ما تمثّل مفهوما تخييليّا[49]، يعتمدها الكاتب في شكل رموز قصد توليد الدّلالة. فتتمّ صياغتها في مختلف أبعادها الاجتماعيّة والنّفسيّة صياغة فنيّة، لذلك قدّم القاصّ شخصيّات قصصه من جميع جوانبها وصوّر مختلف أبعادها. فكانت عنصرا فنيّا ساهم في صنع الحدث وتطوّره من جهة، ومثّلت عنصرا مولّدا للدلالة من جهة أخرى.
2- 1- 4- الحدث:
يمثّل الحدث مكوّنا محوريّا في بنية السّرد. فهو أساس فنّي لا مجال لصياغة القصّة دونه. ويُعرّف بأنّه “سلسلة من الوقائع المتّصلة. تتّسم بالوحدة الدّالة وتتلاحق من خلال بداية ووسط ونهاية”[50]. ويُعدّ الحدث أحد أهمّ عناصر البناء القصصيّ فيه تنمو المواقف وتتحرّك الشخصيّات. وتتفاوت الأحداث في مجموعة من حكايات هذه الربوع من نصّ إلى آخر في مستوى الأهميّة لاختلاف دورها في التّشكيل البنيويّ. كما تباينت في مستوى الكمّ بين نصوص المجموعة. فنجد من القصص ما قام على حدث واحد رئيسيّ مثل قصّة -حبّ مغاربي- التي انبنت على حدث حبّ رجل تونسيّ لامرأة جزائريّة بادلته المشاعر لكن العوائد السائدة في خمسينات القرن الماضي الّتي ترفض مصاهرة الأباعد حالت دون تحقّق مرادهما. وما ورد من أحداث أخرى في القصّة، كمرضه نتيجة رفض زواجهما وما قاله فيها شعرا ونثرا وتعلّقه بها رغم ارتباط كلّ منهما ورسوخها في ذاكرته رغم رجوعها إلى وطنها بعد استقلال الجزائر، إنّما تمثّل أحداثا ثانويّة متعلّقة بالحدث الرئيسيّ.
وقامت قصص أخرى على أكثر من حدث رئيسيّ مثل نصّ -ابن الأرملة- الذي مثّل حدثه الرئيسيّ الأوّل قصّة حبّ بكّار و فتحيّة الذي نتج عنه هروبهما من القرية وزواجهما. ثمّ يبدأ الحدث في النمو داخل النصّ القصصيّ بالتدرّج عبر الزمن نحو أحداث أخرى على قدر من الأهميّة بعد وفاة الزّوج وانجاب بكّار/الابن الذي تلقّى معاملة قاسية من أبناء عشيرته، غير أنّ ذلك لم يحل دون أن يصبح على بسطة من الرّزق. ويتطوّر الحدث الدراميّ ليصير بكّار/الابن صاحب مكانة ماديّة لمزاحمته كبار مالكيّ الماشية، واجتماعيّة بعد تغلّبه على خصم شرس ومخيف. لتنتهي القصّة بحدث رئيسيّ آخر بعد أن اتّخذ البطل قرار التوجّه نحو بسكرة بالجزائر بحثا عن عائلة والدته بعد عقدين من الزمن. كما تضمّنت قصص المجموعة أحداثا ثانويّة تُسهم في تجسيد بنية الحدث وسيرورته في النصّ. ففي نفس القصّة -ابن الأرملة – نجد إلى جانب الحدث الرئيسيّ الحدث الثانويّ الذي يكتسب أهمّيته من خلال دوره في إثراء الحدث الأساسيّ مثل مصارعة بكّار/الابن للحزقة وانتصاره عليه الذي كان سببا في تعزيز مكانته بين أهله من جهة. وأتاح له، من جهة أخرى، الفوز بحبيبته الّتي كانت مدار تنافس بين جلّ أبناء العشيرة. وكانت قد اشترطت على من تقبله زوجا أن يطيح بجميع الخصوم في صراع حقيقيّ. وساهمت بعض الأحداث الثانويّة في إضاءة بعض جوانب شخصيّة بكّار/الابن من ذلك ذكريات طفولته مع حيزيّة ومساعدة والدتها لأمّه، وزيارته للأولياء الصالحين أيّام الجمعة لمشاركة الزوّار ذبائحهم. وهي أحداث منها ما يمكن الاستغناء عنه دون أن تتسبّب في حدوث خلل في البناء العامّ للقصّة.
صاغ أحمد مال نصوص مجموعته اعتمادا على تقنيّات فنيّة تمثّل مكوّنات محوريّة في تشكيل بنية السرد القصصيّ. فلا وجود لحكاية دون أمكنة محدّدة أو أزمنة معيّنة ودون شخصيّات فاعلة أو أحداث ترصد الوقائع. وتتكامل العلاقة بنائيّا بين عناصر المادة الحكائيّة لتشكّل نسيجا سرديّا يقوم على تفاعل خطابيّ مزجا وتنويعا بين مكوّناتها الأساسيّة ضمن تشكيل بنيويّ سمته الانسجام والتناسق.
3- البناء السّرديّ:
3- 1- السّرد:
يُعدّ السّرد مكوّنا هامّا من مكوّنات البناء القصصيّ. ويُعتمد لتجسيد الأحداث القصصيّة. وقد اقترن السّرد بعنصر السّارد الذي يتكفّل بدورين أساسيين في العالم القصصيّ: أمّا الأوّل فيتمثّل في تنظيم مكوّنات هذا العالم وعناصره “ففي القصّة القصيرة هناك عناصر تنتظم داخلها من خلال شخص مهمّته تنظيم هذه العناصر وتقديمها للقارئ. وهذا الشخص يُدعى الرّاوي. فالرّاوي هو متكلّم يروي الحكاية ويدعو المستمع إلى سماعها بالشّكل الذي يرويها به. وهذا المتكلّم هو الرّاوي أو السّارد”[51]. وأمّا الثّاني فيتمثّل في روايته للأحداث تصويرا ومراقبة ووصفه للشّخصيّات وتحديده لعلاقاتها. فهو “ينقل الأحداث من زوايا متنوّعة. وقد يكون واحدا من شخوص القصّة. وقد يكون ناقلا يحكي ما سمعه وحفظه. وقد يكون باحثا يستقصي أطراف الخيوط ويفحص العلل ويعالج الأحداث”[52]. وقد تعدّدت صور السّارد في مجموعة من حكايات هذه الربوع:
3- 1-1- السّارد الخارجيّ:
هو سارد من خارج الحكاية ولا ينتمي إليها. ويُعدّ غريبا عنها[53]. يسرد القصّة للمرويّ له ويصوّر الأحداث ويصف الشخصيّات بضمير الغائب. ويمتلك حريّة التّنقّل زمانا ومكانا. وهو سارد كلّي العلم، إذ يتعرّف على دواخل الشخصيّات ومصائرها[54]. ويعتمد هذا السّارد رؤية خارجيّة فتكون درجة معرفته أكثر من الشخصيّة الحكائيّة. ويفرض صوت الغائب هيمنته على السرد في مجموعة من حكايات هذه الربوع ويُعتمد في قصص مثل “ابن الأرملة- بداهة- حبّ مغاربي- سارح سمونة- سنوات عجاف- عائد من سوريا- في انتظار الطبيب- قصّة حبّ قصيرة جدّا- مقامات- مهنة غير شاقّة”.
وسنقارب في هذا المستوى نموذجين من قصص المجموعة اعتمد فيهما القاصّ أحمد مال ساردا من خارج القصّة. يمتلك القدرة على تقديم الشخصيّة ووصفها وتحديد علاقاتها، إضافة إلى قدرته على تتبّع الأحداث وتأطيرها زمانيّا ومكانيّا، تعاقبا وتداخلا. وقد اختار الكاتب لقصّته – نهاية ظالم- ساردا خارجيّا يحتلّ موقع سارد كلّي العلم ليتتبّع حياة الشّيخ الوردي وأولاده الذين لم يسلم من شرّهم الخصوم والأصدقاء “كانت أخبار الشيخ الوردي قد بلغت أقاصي البلاد جنوبا ووسطا وشمالا. فبعد صراع دمويّ ولسنوات ضدّ بني عمومته، استطاع أن يسحق خصومه وينكّل بهم. ظلّت النّصال نديّة بالدّماء لأيّام. ودفنت الجثث بشكل جماعي…واقترف من موبقات الذنوب ما يشيب له الولدان ويتضعضع له الصّخر”.[55] وقد وظّف الكاتب ضمير الغائب صيغة أساسيّة لسرده. وراوح فيه بين غائب مفرد مذكّر “اتّسعت مرابضه وثقل أبيضه وأصفره. وجهّز كتيبة جند للغزوات. ونكث عهودا مع قبائل ساعدته حين كان مستضعفا. وبثّ الرعب داخل القبيلة وخارجها”[56]، وبين غائب مفرد مؤنّث “وكانت خيمة العجوز قريبة إلى درجة أنّه كان يسمع كلامها وتناهى إلى مسمعه صوت فتاة تخاطب جدّتها العجوز بصوت خفيض يشبه عزف ناي”[57]، وبين غائب جمع مذكّر “كانوا ثمانيّة يقتحمون أرضا تعجّ بالطرائد، ومحجّر الصيّد فيها على غير آل الشيخ الوردي. وكانت قهقهاتهم تخترق سماء لا تظلّلهم بالسّحب”[58].
ولقد استغلّ السّارد الموقع الذي يسرد منه لينتقل بحريّة بين الأماكن والشخصيّات. فتجوّل في أرجاء القبيلة وحتى خارجها لينقل للقارئ مواقف الآخرين من الشيخ الظالم. وبدا ساردا كلّي العلم من خلال استبطان دواخل بقيّة الشّخصيّات التي امتزج فيها الخوف والكره بالنسبة إلى أولئك الذين طالهم ظلم الشيخ “ومثّل كابوسا حقيقيّا في نفوس الأقارب والأباعد. وكان الحذر ميسم الجميع. وغابت الطمأنينة وانعدم الاحساس بإنسانيّة الإنسان. فكلّ ما يقول بهذه الإنسانيّة اغتصبه سيّد الزمان والمكان”[59]. ومشاعر الخجل بالنسبة إلى زايد ابن الشيخ “سمع دعاء على والده بقطع النّسل وحرق الزرع وبوار التّجارة. وسمع دعاء بالنّماء والسّتر والبركة والمطر لعشيرتها…وتيقّن زايد أنّ هذه العشيرة قد سلّط عليها ظلم من قبل والده. وبدأ يجتاحه خجل بكونه ابن الشيخ الوردي”[60].
واعتمد هذا السّارد الخارجيّ الرؤية من خلف. فكانت درجة معرفته أكثر من الشخصيّات، إذ تبيّن أنّه يدرك أفكارها وما يجول بخاطرها. فأمعن في وصف مشاعر شخصيّة زايد ونقل أفكاره “و أدرك أنّه بحاجة إلى فهم العالم من حوله وإلى فهم نفسه. ورأى في جميع مكوّنات هذا المكان أنوارا تتسلّل إلى خافق ملمّ. وترجّ عقلا كان يرى في والده الشيخ الوردي وأشقّائه وإخوته نموذجا يُحتذى في فهم الوقائع وتسييرها وفي رؤية دونيّة للآخر”[61]، كما اختار أحمد مال لقصّة – من حكايات هذه الربوع- ساردا من خارجها يتجاوز الشخصيّات إدراكا وعلما. ويتعامل مع العالم القصصيّ بكلّ مكوّناته من أمكنة وأزمنة وشخصيّات وأحداث من موقع السّارد كلّي العلم. فتمّ توظيف السّرد الموضوعيّ عبر ضمير الغائب الذي نستدلّ عليه بجملة من الأفعال “ظلّ- يتذكّر- ذهب- عاد- اتّجه- قاده…” وقد سيطر هذا السّارد على مسار الأحداث فروى ووصف من وجهة نظره دون أن يكون مشاركا في القصّة. وكان ملمّا بأحداث سنوات متعاقبة إذ رافق شخصيّتيّ القصّة منذ نشأتهما “خرج على الدنيا بولدين أزهرين في مستوى الملامح”[62]. إلى سنّ الشباب “وحين شبّا صار حين ينظر في سيرة أكبرهما يرفع يديه شكرا لخالق الكون وحين يستحضر سيرة أصغرهما يتذكّر قيمة الصبر على الابتلاء”[63]. وإلى سنّ الكهولة “وأنت يا شقيقي ورائحة والديّ بلغت الأربعين وبعض من في سنّك أصبح جدّا”[64].
3- 1- 2- السّارد الداخليّ:
يقترن بالخطاب السّرديّ الذاتيّ الذي يحيل على مستويين: إمّا أن يكون السارد شاهدا على الأحداث ينقلها دون أن يشارك فيها، وإمّا أن يكون شخصيّة رئيسيّة في القصّة[65]. فيكون ساردا مشاركا في الأحداث يقوم بوظيفة الفاعل في بناء الحدث القصصيّ الذي “يتحدّث فيه المتكلّم عن ذاته وعن أشياء تمّت في الماضي، أي أنّ هناك مسافة بينه وبين ما يتحدّث عنه”[66]. ولاحظنا تميّز الصوت السّرديّ في المجموعة القصصيّة بصوت أساسيّ ومركزيّ هو صوت الأنا/الشّخصيّة المشاركة في الأحداث التي تروي الأحداث بضمير المتكلّم. فتحضر الشّخصيّة في قصص أحمد مال في مستويين: مستوى الشخصيّة الرئيسيّة التي تتجسّد صوتا فاعلا في بنية القصّة من خلال سرد تجربتها الخاصّة من جهة، ومستوى السّارد الذي يمثّل صوتا ناقلا للحدث من جهة أخرى. وقد حضر الأنا- الشخصيّة/ السّارد في عدد من القصص مثل “إلى سيّدة لن أنساها- جرح اللّسان- دماء أبكت الرديف وأمّ العرائس- زردة- مساحة تجاريّة- كيس مجلّات وقصص- كتاب الرياضيات- مدرّس اللّغة العربيّة – من ذكريات عيد الاضحى- نطحتني بقرة- هديّة جدّي- يوم قرّ- دعاء مظلوم”. فتوازى المحكي الذاتيّ مع الخطاب القصصيّ ليشكّلا معا البنية القصصيّة.
ونقارب في هذا المستوى قصّة –جرح اللّسان- التي مثّل فيها السّارد الفاعل الرئيسيّ “فهو شخصيّة من الشخصيّات يحكي عن نفسه وعن علاقاته بالشخصيّات الأخرى”[67]، فكان شخصيّة حكائيّة موجودة داخل الحكي تعتمد في سردها ضمير المتكلّم “في تلك اللّيلة بكيت طويلا بكاء صامتا. بكيت يتمي وفقر والدي. وبكيت أكثر كلاما مهينا وجارحا تفوّه به جاران شقيقان تجاهه”[68]. وهو ضمير أتاح للسارد مخاطبة القارئ والتّعبير عن نفسه مباشرة. فروى قصّة التحاقه بالمدرسة للمرّة الأولى بعد أن كان قد يئس من ذلك بسبب فقر والده. وبيّن عمق أثر موقف ابن جاره “وسمح لي أحدهما برؤية ملابسه وأدواته، ولشدّة اعجابي بكتاب القراءة لامسته فنهرني وقال لي: يداك متّسختان. وانهال عليّ ضربا. وعدت باكيّا إلى والدي وزوجته”[69]. وظلّ هذا الموقف راسخا في ذاكرته “وها أنا وبعد عقود كلّما هممت بفتح كتاب النصوص ألفيني أتفقّد كفّي وأصابعي”[70]. كما روى قسوة الجارين اللّذين سخرا من والده “إيّاك أن تفكّر في الحاقه بالمدرسة. فللمدرسة أناسها. وأردف كبيرهما: “ياخي ولد ذهبيّة متاع قراية رانا معملين عليه باش يسرحلنا بالشياه”.[71] وهو موقف جعل الوالد يحرص على أن يوفّر لابنه كلّ لوازم الدخول إلى المدرسة.
ويقدّم السّارد الأحداث برؤية ذاتيّة مصاحبة. فمعرفته مساوية لمعرفة الشخصيّة، إذ يُعدّ هو البؤرة السّرديّة الأساسيّة التي من خلالها يرى وينقل العالم القصصيّ. فيصف من خلال هذه القصّة ما عاشه من ألم وانتظار حتى تحقّق أمل التحاقه بالمدرسة “وعند منتصف النّهار قرفصت في مكان عال يكشف المنطقة كلّها آملا أن أرى والدي قادما من بعيد. وكدت أيأس من ذلك. وتحت شمس خريفيّة بقيت ساعات طويلة ولم أشعر بجوع أو عطش”[72]. فتعبّر الشخصيّة عن نفسها بشكل يدلّ على أنّها مدار الحكي من جهة، و أنّها القائم بفعل السّرد من جهة أخرى.
وقد وظّف في سرد الأحداث وسيلة التذكّر التي نتبيّنها من خلال المزاوجة بين الماضي”كنت في السابعة من عمري وكنت أسمع بين الحين والآخر أنّني سألتحق بالمدرسة بعد أيّام”[73]. والحاضر “وها أنا وبعد عقود…”[74]، فكان سردا ذاتيّا ليمازج النصّ في جانب من جوانبه جنس السّيرة الذاتيّة. وقد هدف من ذلك إلى الاقناع بصدق ما يرويه والاستدلال عن واقعيّة عالمه القصصيّ.
اعتمد الكاتب على صورتين للسّارد ظاهر وخفيّ أو ما يُعرف بانشطار السّارد[75]. تمثّل الأوّل في السّارد الخارجيّ الذي كان كلّيّ العلم محيطا بمختلف مكوّنات العالم القصصيّ من أمكنة وأزمنة وأحداث وشخصيّات. فبدا ساردا ممتلكا لحريّة الحركة، ملمّا بأدقّ التفاصيل، و متعرّفا على أخفى الدوافع، وعالما بحقيقة الأفعال والأفكار، ومستبطنا مشاعر الشخصيّة وما تقوله وما تشعر به ومطّلعا على مصائر الشخصيّات. وتمثّل الثّاني في السّارد الداخليّ الذي كان هو نفسه الشخصيّة الرئيسيّة للقصّة. فيكون ساردا ممثّلا داخل الحكي. يقدّم رؤية سرديّة ذاتيّة للأحداث تحدّد نظرته إلى العالم القصصيّ الذي يرويه.
4- البناء الدلاليّ:
تنشأ القصّة القصيرة وتتطوّر لدى كلّ قاصّ في إطار بيئة محدّدة يعكسها بشكل فنّي يحيل عليها قراءة وتأويلا للواقع عبر تصويره وطرح قضاياه برصد مسار تغيّراته في شكل ظواهر ذات أبعاد مختلفة. فكانت مجموعة من حكايات هذه الربوع خلقا لواقع تخييلي يرتبط بعالم الواقع ارتباطا وثيقا ويقدّم صورة عن المجتمع. ولئن تعدّدت تيمات هذه المجموعة القصصيّة، فإنّها تلاقت ضمن مرجع نصيّ واحد يتشكّل في إطار العالم المسرود. ففعل التّخييل ينهل من مرجعيّات مجتمعيّة مختلفة اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة وفكريّة مثّلت بالنسبة إلى المتخيّل معطى قبل-نصّي. قدّمها الكاتب عبر رؤية وتصوّر ذاتيين لينقل نظرته إلى واقعه ومجتمعه عبر فعل التّخييل القصصيّ مؤكّدا بذلك علاقة الأدب بالواقع الذي يتجلّى بين ثنايا عمل فنّي سرديّ. وهي علاقة منتجة لدلالات عميقة تنسج أواصر متينة بمستويات النصّ القصصيّ المختلفة. وقد اختلفت دلالات من حكايات هذه الربوع ونقارب من بينها:
4- 1- الدلالة الاجتماعيّة:
مثّل البعد الاجتماعيّ بنية عميقة داخل المجموعة القصصيّة. فقد رصدنا دلالاتها على امتداد متونها النّصيّة. فبدت أغلب القصص ذات منحى اجتماعيّ ينهل تفاصيله من ملامح الحياة اليوميّة في مظاهرها ومواقفها الإنسانيّة الّتي يعرضها الكاتب بلغة قصصيّة بسيطة وواضحة تتناسب مع الشّخصيّات القصصيّة. وتتخلّلها بعض الألفاظ العاميّة. وتتكرّر في ثناياها الأمثلة الشعبيّة.
ويطرح أحمد مال ظاهرة الفقر في كثير من مواضع مجموعته. فحضرت هذه الدلالة في قصّة – هديّة جدّي- التي صوّر فيها السّارد وضعهم الماديّ المتردّي لدرجة عجزهم عن شراء حذاء “وذات صباح من أيّام نوفمبر وكان البرد قاسيّا، أمرتني والدتي بانتعال حذائي المطّاطي “شرماطة” ولكنّني لم أفلح في ايلاج قدمي اليمنى داخله. فقد نسيناه ذات يوم صيفيّ قائظ خارج المنزل فتقلّص حجمه…وأجبرت على الذهاب إلى المدرسة بفردة حذائي المطّاطي بقدمي الشّمال وبفردة “شلاكة بوصبع” في يميني”[76]. وبعد امتلاكه لحذاء، لم يكن حكرا عليه بل انتقل بعده إلى أخواته “انتعلته لعامين وظلّ كما هو. ثمّ انتقل إلى أقدام شقيقات ثلاث لي…وصمد لأعوام ثمانيّة”[77]، كما يرسم صورة المرأة في المجتمع في قصّة -نطحتني بقرة- التي يصوّر فيها علاقة المرأة بالرّجل من خلال حكاية زهراء مع زوجها الذي يصغرها سنّا والذي كان عاطلا عن العمل. فتولّت هي المسؤوليّة الماديّة للبيت وللعائلة. ورغم ذلك كانت تتعرّض للعنف الماديّ الذي يمارسه عليها ركلا وصفعا ولطما “سألتها إحدى زميلاتها عن ذلك التورّم بعينيها وشفتيها وعن سنّ اختفى من فيها. أجابت: نطحتني بقرة…وظلّت البقرة تنطحها بعد أن باعها بعلها بألف دينار”[78]. وهو ما يحيل على ما تعيشه المرأة من استغلال واضطهاد في ظلّ مجتمع ذكوريّ لا يمنحها حقوقها ولا يعترف بمساواتها مع الرجل، إضافة إلى التزامها الصّمت أمام ما تتعرّض له من عنف ماديّ ومعنويّ.
وتضمّنت قصّة -بداهة – دلالة اجتماعيّة تمثّلت في رغبة الابن وراثة والده وهو لا يزال على قيد الحياة. فبدون ميراث لن يحصل على تقاعد مريح وستظلّ أحواله تراوح الشدّة. وقد حاول بلوغ غايته خلال إحدى زياراته لوالده الذي قارب الثمانين “أخبره عن أصدقاء لوالده ودّعوا الدّنيا أو أصيبوا بجلطات أو زار أجسادهم المرض الخبيث. طارق الجزّار توفّي عن سنّ دون السّبعين. زهرة سنينة لوالده دخلت في غيبوبة منذ أسابيع”[79]. يتكلّم الابن دون مراعاة لمشاعر والده الشيخ رغبة منه في التّأثير عليه ليمنحه منابه من العقارات ممّا يدلّ على النزعة الماديّة التي طغت على العلاقات الإنسانيّة.
وعرض الكاتب في قصّة –مقامات- ظاهرة الطّبقيّة الاجتماعيّة من خلال العلاقة الّتي جمعت بين عمران وسعد اللّذين تصادقا منذ الطفولة. ودفعت ظروف الحياة بكلّ منهما في طريق مختلف عن الآخر. فعمران انقطع عن الدراسة ليصبح موظّفا عائلا لأسرته بعد وفاة والده، في حين أصبح سعد طبيبا. واستمرّت علاقتهما بعد زواجهما وانجابهما لولد وبنت أصبحا شديدي التّعلّق ببعضهما بعضا ممّا دفع زوجة عمران إلى القول “ما حلاهم يا ريت نهار أوخر يوخذو بعضهم”[80]، لتتلقّى الجواب الذي أحزنها حدّ البكاء “أخّيتي بنت الطبيب ما تاخذش ولد موظّف يشهق ما يلحق”[81]. وبعد مواصلة عمران لدراسته وتخرّجه طبيبا غيّرت زوجة سعد رأيها “كريمتنا ونجلكم متوائمان لماذا لا نزوّجهما”[82] ممّا يدلّ على تحكّم الوضع الاجتماعي في طبيعة العلاقات.
4- 2- الدلالة التاريخيّة:
برزت بشكل خاصّ ضمن قصّة -دماء أبكت الرديف وأم العرائس- الّتي تمحورت حول أحداث الخبز سنة 1984 التي شهدتها تونس إثر إقرار الحكومة مضاعفة أسعار الخبز ومشتقّاته. وهو قرار واجهته حركة رفض عمّت جميع ولايات الجمهوريّة للمطالبة بالتّراجع عنه. وقد أحاطت القصّة بجزئيّات صوّرت هذه المرحلة من تاريخ تونس كالمسيرات التي اجتاحت الشوارع، وانخراط جميع شرائح المجتمع على اختلاف انتماءاتهم فضمّت الماركسيّ والإسلاميّ والقوميّ العروبيّ، ومواجهة الحكومة لغضب الشّعب بعنف فانتشرت الآليّات العسكريّة في الشوارع للتصدّي للحركة الشّعبية.
كما حضر البعد التّاريخيّ عبر فعل التّذكّر في قصّة -ابن الأرملة- حين تحدّث الحاج مسعود عن لجوء آلاف الأسر الجزائريّة إلى منطقة الحوض المنجميّ. فبعد ثورة الفاتح من نوفمبر 1954 بدأت فرنسا في إبادة شعب بأكمله واتّبعت سياسة الأرض المحروقة ممّا دفع الأهالي إلى حركة نزوح قسريّ.
لقد رسم أحمد مال صورة للمجتمع التونسي وفق نسق سرديّ يعتمد التقاط الجزئيّات ومفارقات اليوميّ الّتي يقدّمها في شكل ومضات غنيّة بالدّلالة والتّرميز. فكانت قصصا نابضة بالحياة. فجمع النصّ القصصيّ بين الخيال والواقع في كشفه عن جوانب من المجتمع. ولئن زاوج الكاتب بين الواقعيّ والخياليّ، فإنّ الواقع هو الطّاغي على القصص. فهو يستمدّ منه بعض التّفاصيل والأحداث والوقائع والشخصيّات، ثمّ يعيد بناء ذلك الواقع لتشكيل عالمه القصصيّ عن طريق فعل التّخييل عبر إعادة التّركيب والتّنسيق وفق ترتيب يستجيب لأهدافه ويعبّر عن مواقفه وأفكاره.
5- الخاتمة:
تبيّن بعد دراسة مختلف المكوّنات السرديّة في مجموعة من حكايات هذه الرّبوع تميّز بناءها بالتّماسك وقيامه على الوحدة العضويّة لترابط عناصره القصصيّة تدرّجا و نموا ضمن نسيج لغويّ أسلوبيّ ساهم في اكتمال خصائص القصص بناء فنيّا وأبعادا فكريّة ودلاليّة. فقد حقّق أحمد مال شكلا من أشكال التّناسق والتّكامل لمتون نصوصه من خلال جملة من التّفاعلات والعلاقات الدّاخليّة بين الأبنية الجزئيّة التي تشكّل البنيّة الكليّة للنصّ انطلاقا من منظور تخييلي وضمن مسار سرديّ وتصوّر جماليّ يتبلور من خلال علاقة جدليّة مع البعد الدلاليّ. فلم تعد القصّة القصيرة في مجموعة من حكايات هذه الربوع مجرّد سرد، بل أصبحت لحظات مكثّفة ودفقات قصصيّة تتشكّل في صورة وحدة عضويّة جامعة لمختلف مكوّناتها. يعاضدها في ذلك ما تراكم لدى الكاتب من تجارب حياتيّة ومن التصاق باليوميّ المعيش و التقاط للمواقف واللّحظات قصد تجسيد ملامح الواقع نقلا ونقدا وقصد البحث عن البديل الذي يؤسّس لمستقبل أفضل. فبدت المجموعة القصصيّة تصويرا للواقع ومرآة تعكس المجتمع بكلّ تناقضاته السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.
لقد مثّلت مجموعة من حكايات هذه الرّبوع نموذجا من المدوّنة النّصيّة القصصيّة في تونس التي بدت فعلا إبداعيّا تميّز بخصائصه الفنيّة والفكريّة على حدّ سواء بشكل أثبت تطوّره وتغيّرت أسئلته بتطوّر الوعي بفعل الكتابة وبواقعها. فكان ممارسة إبداعيّة عاكسة للتحوّلات التي يشهدها المجتمع عبر ربط أواصر وثيقة بالواقع في مستوى تحدّياته وتناقضاته. فنقلت نصوصه ملامح المجتمع التونسي في حراكه وتحوّلاته السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والفكريّة كشفا وارتيادا لعوالمه عبر تشكيلها فنيّا. فكانت القصّة القصيرة فنّا ملامسا للواقع ومترجما لمعطيات الحياة تستكشف عتمتها بحسّ فنّي مرهف.
[1]– بوراوي عجينة: موسوعة القصص العربيّة في تونس في القرن العشرين، تونس، اتّحاد الكتّاب التونسيين، 2007- 2008.
[2]– انظر: حميد لحميداني: القصّة القصيرة في العالم العربي: ظواهر بنائيّة ودلاليّة، المغرب، مطبعة آنفو براس، ط1، 2015، ص 293.
[3]– المرجع نفسه، ص 313.
[4]– أحمد مال: من حكايات هذه الربوع، تونس، دار المنتدى للثقافة والإعلام، ط1، 2018.
[5]– أحمد مال: الحبّ في رقّادة، تونس، دار الثقافيّة للنّشر والطباعة و التوزيع، ط1، 2019.
[6]– يمنى العيد: تقنيّات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، بيروت، دار الفارابي، 1999، ص15.
[7]– عبد الملك مرتاض: نظريّة الرواية، دار الثّقافة، ط1، 1998، ص125.
– انظر أيضا: حميد لحميداني: بنية النصّ السرديّ من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافيّ العربيّ، ط3، 2000، ص55.
[8]– أحمد مال: من حكايات هذه الربوع، مصدر سابق، ص8.
[9]– المصدر نفسه، ص 28.
[10]– المصدر نفسه، ص111.
[11]– المصدر نفسه، ص93.
[12]– المصدر نفسه، ص 18.
[13]– المصدر نفسه، ص 90.
[14]– المصدر نفسه، ص 91.
[15]– محبوبة محمدي: جماليات المكان في قصص سعيد حورانه، دمشق، منشورات الهيئة العامّة السوريّة للكتاب، 2011، ص57.
[16]– أحمد مال: من حكايات هذه الربوع، مصدر سابق، ص28.
[17]– انظر: سليمان كاصد: عالم الـنصّ: دراسـة بنيويّـة فـي الأسـاليب السـرديّة، الأردن، دار الكنـدي للنّشـر والتوزيـع، 2003، ص127.
[18]– خالد حسين حسين: شعريّة المكان في الرواية الجديدة، مؤسّسة اليمامة الصحفيّة، 2000، ص424.
[19]– يمنى العيد: في معرفة النصّ، بيروت، دار الآداب، 1999، ص5.
[20]– منصور نعمان نجم الدليمي: المكان في النصّ المسرحي، الأردن، دار الكندي للنّشر والتوزيع، ط1، 1999، ص74
[21]– أحمد مال: من حكايات هذه الربوع، مصدر سابق، ص 54.
[22]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[23]– حميد لحميداني: بنية النصّ السردي من منظور النقد الأدبي، مرجع سابق، ص73.
[24]– حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي: الفضاء- الزمن- الشخصيّة، بيروت- لبنان، المركز الثقافي العربي، ط1، 1990، ص 121.
[25]– أحمد مال: من حكايات هذه الربوع، مصدر سابق، ص117.
[26]– حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، مرجع سابق، ص 132.
[27]– أحمد مال: من حكايات هذه الربوع، مصدر سابق، ص15.
[28]– المصدر نفسه، ص30.
[29]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[30]– أحمد مال: من حكايات هذه الربوع، مصدر سابق، ص59.
[31]– المصدر نفسه، ص ص73-74.
[32]– المصدر نفسه، ص 100.
[33]– المصدر نفسه، ص116.
[34]– أحمد مال: من حكايات هذه الربوع، مصدر سابق، ص118.
[35]– المصدر نفسه، ص 55.
[36]– المصدر نفسه، ص 95.
[37]– المصدر نفسه، ص104.
[38]– فيليب هامون: سيمولوجيّة الشخصيّة الروائيّة، ترجمة سعيد بنكراد، الجزائر، دار كرم الله، ط1، 2010، ص 34.
[39]– أحمد مال: من حكايات هذه الربوع، مصدر سابق، ص12.
[40]– المصدر نفسه، ص 22.
[41]– أحمد مال: من حكايات هذه الربوع، مصدر سابق، ص22.
[42]– المصدر نفسه، ص 58.
[43]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[44]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[45]– أحمد مال: من حكايات هذه الربوع، مصدر سابق، ص58.
[46]– المصدر نفسه، ص98.
[47]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[48]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[49]– انظر: محمد سويرتي: النقد البنيوي والنصّ، افريقيا الشرق، 1990، ص70.
[50]– جيرالد برنس: المصطلح السردي ، ترجمة: عايد خزندار، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، ط 1، 2003، ص 19.
[51]– لطيف زيتوني: معجم مصطلحات نقد الرواية، بيروت- لبنان، مكتبة ناشرون، 2002، ص95.
– انظر أيضا:
. Yves Reuter: Introduction à L’analyse du roman, Paris, édition Bordas, 1991, P 37.
[52]– عبد الرحيم الكردي: الراوي والنصّ القصصي، القاهرة، مكتبة الآداب، 2006، ص18.
– انظر أيضا:- محمد الباردي: إنشائيّة الخطاب في الرواية العربيّة، تونس، مركز النشر الجامعي، 2001، ص3.- عبد الله إبراهيم: السرديّة العربيّة: بحث في البنية السرديّة للموروث الحكائي العربي، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1992، ص11.
[53]– Gérard Genette : Figures III, Paris Seuil, collection. « Poétique », 1972, P 252
[54]– انظر: حميد لحميداني: بنية النصّ السردي، مرجع سابق، ص 47-48.
[55]– أحمد مال: من حكايات هذه الربوع، مصدر سابق، ص147.
[56]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[57]– المصدر نفسه، ص 151.
[58]– المصدر نفسه، ص163.
[59]– المصدر نفسه، ص148.
[60]– المصدر نفسه، ص153.
[61]– المصدر نفسه ص 156-157.
[62]– أحمد مال: من حكايات هذه الربوع، مصدر سابق، ص119.
[63]– المصدر نفسه، ص 119.
[64]– المصدر نفسه، ص124.
[65]– انظر:
– حميد لحميداني: بنية النصّ السردي، مرجع سابق، ص49.
– Gérard Genette, Figure III, ibid., P-P 238-239 .
[66]– سعيد يقطين: تحليل الخطاب الروائي (الزمن- السرد- التبئير)، بيروت، المركز الثقافي، ط1 ،1989، ص197.
[67]– يمنى العيد: في معرفة النصّ، مرجع سابق، ص233.
[68]– أحمد مال: من حكايات هذه الرّبوع، مصدر سابق، ص34.
[69]– أحمد مال: من حكايات هذه الرّبوع، مصدر سابق، ص34-35.
[70]– المصدر نفسه، ص37.
[71]– المصدر نفسه، ص35.
[72]– المصدر نفسه، ص36.
[73]– المصدر نفسه، ص34.
[74]– المصدر نفسه، ص37.
[75]– انظر:
Oswald Ducrot + Tzvetan Todorov: Dictionnaire encyclopédique des Sciences du langage, paris, édition seuil, 1972, p 412.
[76]– أحمد مال: من حكايات هذه الربوع، مصدر سابق، ص166.
[77]– المصدر نفسه، ص ص167-168.
[78]– أحمد مال: من حكايات هذه الربوع، مصدر سابق، ص146.
[79]– المصدر نفسه، ص32.
[80]– المصدر نفسه، ص117.
[81]– المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[82]– المصدر نفسه، ص118.
المصادر والمراجع:
العربيّة:
المصادر:
- مال (أحمد): من حكايات هذه الربوع، دار المنتدى للثّقافة و الإعلام، تونس، ط1، 2018.
المراجع:
- إبراهيم (عبد الله): السرديّة العربيّة: بحث في البنية السرديّة للموروث الحكائي العربي، بيروت، المركز الثّقافي العربي، 1992.
- الباردي (محمد): إنشائيّة الخطاب في الرواية العربيّة، تونس، مركز النّشر الجامعي، 2001.
- بحراوي (حسن): بنية الشكل الروائي: الفضاء- الزمن- الشخصيّة، بيروت- لبنان، المركز الثقافي العربي، ط1، 1990.
- حسين حسين (خالد): شعريّة المكان في الرواية الجديدة، مؤسّسة اليمامة الصحفيّة، 2000.
- زيتوني(لطيف): معجم مصطلحات نقد الرواية، بيروت- لبنان، مكتبة ناشرون، 2002.
- سويرتي (محمد): النقد البنيوي والنصّ، افريقيا الشرق، 1990.
- العيد (يمنى): -تقنيّات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، بيروت، دار الفارابي،1999.
- العيد (يمنى): في معرفة النصّ،بيروت، دار الآداب، 1999.
- كاصد (سليمان): عالم الـنصّ: دراسـة بنيويّـة فـي الأسـاليب السـرديّة، الأردن، دار الكنـدي للنّشـر والتوزيـع، 2003
- الكردي (عبد الرحيم): الراوي والنصّ القصصي، القاهرة، مكتبة الآداب، 2006.
- لحميداني (حميد): بنية النصّ السردي من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، ط3، 2000.
- مال (أحمد): الحبّ في رقّادة، دار الثقافيّة للنّشر والطباعة و التوزيع، ط1، 2019.
- محمدي (محبوبة): جماليات المكان في قصص سعيد حورانه، دمشق، منشورات الهيئة العامّة السوريّة للكتاب، 2011.
- مرتاض (عبد الملك): نظريّة الرواية، دار الثّقافة، ط1، 1998.
- نعمان نجم الدليمي (منصور): المكان في النصّ المسرحي، الأردن، دار الكندي للنّشر والتوزيع، ط1، 1999.
- يقطين (سعيد): تحليل الخطاب الروائي (الزمن – السرد – التبئير)، بيروت، المركز الثقافي، ط1،
المراجع المعرّبة:
- برنس (جيرالد): المصطلح السردي، ترجمة: عايد خزندار، القاهرة، المجلس الأعلى للثّقافة، ط 1
- هامون (فيليب): سيمولوجيّة الشخصيّة الروائيّة، ترجمة سعيد بنكراد، الجزائر، دار كرم الله، ط1، 2010.
الأجنبيّة:
- Ducrot(Oswald) + Todorov(Tzvetan) : Dictionnaire encyclopédique des Sciences du langage, paris, édition seuil, 1972.
- Genette (Gérard) : Figures III, Paris Seuil, collection. « Poétique », 1972.
- Reuter (Yves) : Introduction à L’analyse du roman, Paris, édition Bordas, 1991.