الممارسة الصحفية من منظور السّلطة الرمزية

الممارسة الصحفية

الملخّص:

تشتبك الصحافة بشكل مستمر مع السلطة بأشكالها المختلفة المادي منها والرمزي، ويعود ذلك لارتباطها، كمهنة كاشفة للحقائق بالسيطرة على الخطاب والمجال العام سواء بالأدوات المادية أو الرمزية. تفرض الممارسة الصحفية على الصحفيين في الكثير من الأحيان التعامل مع السلطة دائما كآخر يرتبط مع الصحافة بعلاقات ودّ أو قطيعة، دون أن يضعوا أنفسهم في مكان ذلك الآخر المنتج للسلطة أو المحرك لها. إنّ وعي الصحفي بسلطته الرمزية وقدرته على إنتاجها وتحريكها لا يقل أهمية عن السلطة المادية بشتى أدواتها سواء السياسية أو الاقتصادية. يناقش هذا المقال وعي الصحفيّ بسلطته الرمزية، وقيمة هذا الوعي في الممارسة المهنية والتفاعل الاجتماعيّ.

كلمات مفاتيح: الصحافة، الممارسة الصحفية، السّلطة، السّلطة الرمزية، أخلاقيات الصّح.

Abstract:

Journalism is constantly clashing with power in its various forms, both physical and symbolic. This overlap is due to the association of journalism as a profession for revealing facts and controlling discourse and the public sphere, whether with material or symbolic tools. Journalistic practice requires journalists in many cases to always deal with power as another that is linked to the press in friendly relations or estrangement, without putting themselves in the place of that other that produces power or moves it. The journalist’s awareness of his symbolic power and his ability to produce and animate it is no less important than material power with its various tools, whether political or economic. This article discusses the journalist’s awareness of his symbolic power, and the value of this awareness in professional practice and social interaction.

Key words: Journalism, journalistic practice, power, symbolic power, journalism ethics.


1- تمهيد:

يكتب الصحفيّ عن “السلطة” وحولها، ويكتب أحيانا كثيرة لها، لكنه يكتب بها أيضا؛ إلا أن السؤال يظل ملحّا عن وعي الصحفيّ بسلطته، وقيمة هذا الوعي في الممارسة المهنية والتفاعل الاجتماعيّ. نسمع كثيرا عن “سلاح الصحفيّ” دون أن نسمع أكثر عن إمكانية سقوط “ضحايا” بهذا السلاح، سواء في صفوف مستخدميه أو من المتعرّضين له. فالصحفيّ صاحب سلطة مثله مثل أي صاحب سلطة آخر، إلا أنّ اشتباك الصحافة المستمر مع السلطة بتجلياتها وأجهزتها المادية ظلّ يصرف الأنظار عن ملاحظة أشكال السلطة الرمزية التي تتمتع الصحافة بنصيب وافر منها.

2- الصحفيون كنخب رمزية:

 إن سلطة الصحفيّ لا تُقَاس بالدرجات لنعتبرها “سلطة رابعة” في درجة تأثير أدنى من غيرها. لقد تجاوزت المفاهيم الجديدة للسلطة مفاهيم إلحاق الصحافة بأجهزة الدولة. فالسلطة بالمفهوم الجديد توجد في كل مكان، وتنبع من أسفل، وتستحيل على التملّك والحصر كما في مقولات ميشيل فوكو [1]، كما تدخل السلطة في أجواء هذا المفهوم الجديد في كل علاقة، ولديها القدرة على اختراق كل الحقول، وبإمكانها أن تتحوّل إلى سلطة رمزية مثلما تتحوّل إلى سلطة مادية، كما في مقولات بيير بورديو التي تفهم السلطة باعتبارها حقلا لتبادل علاقات الصراع والهيمنة وتبادل أشكال رأس المال في المجتمع[2].

 إن علاقة الصحفيّ بالسلطة لا تتحدد بعلاقته مع أجهزة الدولة ومحرّكاتها ومجالاتها، لأنها تتحدّد بالأساس بعلاقته بقوته الرمزية والتزامه المهنيّ بخدمة الحقيقة. لقد حان الوقت لإتاحة مساحة أكبر بقضايا الوعي بالسلطة الرمزية عند الصحفيين، ودور هذا الوعي الذاتيّ في تدعيم أخلاقيات الصحافة للوصول إلى ممارسة مهنية محترفة وخادمة للحقيقة والمجتمع. إن الصحفيّ في النظرية النقدية، وفي نظرية السلطة الرمزية بالذات، ليس وسيطا وناقلا للواقع فحسب، بل هو صاحب سلطة مؤثرة وخطيرة، لأنّها سلطة تؤثر في بناء الرموز والمعاني التي تشكّل العالم. وبما أن الوعي بالشيء يبدأ من معرفته، يلزم الصّحفي أن يتعرّف على السلّطة الرمزية قبل أن يُطالَب بالوعي بها.

يدرس عالم اللسانيات الهولندي توين فان دايك تأثير وسائل الإعلام وفقا لدورها في السيطرة العقلية ضمن الإطار الادراكيّ الاجتماعيّ الواسع، ويكرّر دائما أن “التأثير الحاسم في عقول الناس مهيمن عليه رمزيا وليس اقتصاديا”[3]، ولهذا فهو يهتم بتحليل الخطاب بجميع أبعاده العلاماتية للوصول إلى طبيعة السلطة الرمزية التي يتمتع بها الإعلام. ويؤكد فان دايك أن السلطة لا تظهر في الخطاب أو عبر الخطاب فحسب، لكنها كقوة اجتماعية، تكون وراء الخطاب أيضا[4].

 وفقا لفان دايك، فإن السلطة الرمزية يتم التحكم فيها عبر السيطرة على الخطاب، ويطلق فان دايك على من يتحكّمون بالخطاب العام وصف “النخبة الرمزية” مثل الصحفيين والكتاب والفنانين والمخرجين والأكاديميين وغيرهم من المجموعات التي تمارس السلطة على أساس رأس المال الرمزي. وبحسب فان دايك تمتلك هذه النخب الرمزية سلطة اتخاذ القرار في نوع الخطاب وتحديد الموضوعات والأسلوب بل وتعمل على السيطرة على الخطاب العام والتحكّم في ترتيب أهمية الموضوعات الخاضعة للنّقاش العام في المجتمع[5].

3- تحويل الخطاب إلى سلطة:

تقول نظريات السلطة إن هناك دعما تبادليّا تكامليا للآليتين الرئيسيتين لصياغة السلطة: العنف والخطاب. ويرى عالم الاجتماع الإسباني مانويل كاستلز أن المشروعية التي تقوم عليها السلطة تعتمد في الغالب على القبول النابع من بناء المعاني المشتركة، ويتشكل المعنى في المجتمع من خلال عملية الفعل الاتصاليّ[6].

وفي السّياق نفسه، يشير عالم اللسانيات الإنجليزيّ نورمان فيركلف إلى أن تكرار معالجة الأحداث والوقائع يحوّل الخطاب إلى سلطة، ويعتقد فيركلف أن من يمتلك حق إنتاج الأفكار يمتلك سلطة إعلامية، حيث تُملِي عليه هذه السلطة فرض شكل معين من المحتوى في الخطاب.  ويرى فيركلف، على سبيل المثال، أن الجرعات الثابتة من الأخبار الي يتلقاها معظم الناس يوميا تعتبر عاملا مهما من عوامل السيطرة الاجتماعية، وهي تشكل نسبة كبيرة من المشاركة اليومية للشخص المتوسط في الخطاب، ولكن ازدياد الاعتماد على السيطرة من خلال الرضا ربما يكون معلما آخر من معالم الخطاب المعاصر الذي يركز على خطاب السيطرة الاجتماعية للإيحاء بمساواة زائفة، وإزالة كل ما يدلّ على السلطة والنفوذ[7].

لطالما اعتمدت الصحافة، ولا تزال، على المعلومات وطرق الوصول إليها.  يرى عالم الاجتماع الإيطالي ألبرتو ميلوتشي أن السلطة الناشئة تعتمد بشكل متزايد، ليس فقط على القوة المادية، ولكن على إنتاج المعلومات وتداولها أيضا[8].  يرى مانويل كاستلز أن وسائل الإعلام تشكل المصدر الرئيسيّ للاتصال القادر على الوصول للمجتمع، فتأطير عقل الجمهور يتمّ إلى حدّ كبير عبر عمليات تحدث في وسائل الإعلام.  وتقوم علاقة السلطة – بنظر كاستلز – إلى حدّ كبير على تشكيل العقل البشريّ من خلال بناء المعنى عبر صنع الصورة والرمز ولهذا، فالإعلام هو الوسيلة الحاسمة في الاتّصال، ونتيجة لهذا فإنّ الرّسائل والمنظّمات والزعماء غير الموجودين في الإعلام لا وجود لهم في عقول الجمهور[9].

السلطة الرمزية بحسب بورديو لديها قدرة على التعبئة والتأثير والإقناع عن طريق تكوين المعطيات بالعبارات اللفظية. وهذه كلها وظائف يقوم بها الخطاب الإعلاميّ. بل إن السلطة الرمزية عند بورديو هي سلطة بناء الواقع، بحيث تتحوّل وسائل الإعلام إلى مصدر للمعرفة والممارسة الاجتماعية[10].

4- الاتصال والموارد الرمزية:

ينظر عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو للمجتمع بوصفه نظاما يتكوّن من حقول عديدة تتنافس فيما بينها على الموارد أو رأس المال، وإذا تعاملنا مع الإعلام كمجال وجب أن نتحدث عن أشكال الرأسمال التي يتم التنافس والصراع حولها للفوز بها. وفي هذا السياق، يبرز بشدّة رأس المال الرمزيّ، بل وحتى رأس المال الإعلاميّ، وهو مفهوم بدأ يستخدمه باتريك كامبن حيث يعتقد أنّ الرأسمال الإعلاميّ هو شكل جديد من رأس المال مثل رأس المال الاقتصاديّ الذي يمكن تطبيقه في حقل الإعلام أو غيره من الحقول.  ويقترح عالم الاتصال الإنجليزي نيك كولدري مفهوم الرأسمال البينيّ للإعلام meta-capital وهو الذي تُمارس من خلاله وسائلُ الاعلام السلطةَ على أشكال أخرى من السّلطة. ويرى كولدري أنّ هذا الرأسمال يتّسق مع رؤية بورديو الأساسية في أن الرأسمال لا يتحقّق فقط إلا عن طريق وكلاء في أشكال محددة في مجالات محددة[11].

يعمل حقل الإعلام – كما في النظرة البورديوية – بطريقة الصراع على الموارد والرساميل، وفي هذا الإطار – كما يقول مانويل كاستلز-  لا تنسى شركات الإعلام أنها تمارس نشاطا اقتصاديا قائما على رأسمال اقتصاديّ في الأساس، ورغم أنها تستثمر في الأخبار والترفيه إلاّ أنّ لها أيضا مصالحَ سياسية أوسع تستثمر في ديناميكيات الدولة التي تُعَد جزءا محوريا من بيئة نشاطها الاقتصاديّ[12].

بالإضافة إلى حيازة الرأسمال الاقتصاديّ اللازم للتحكم بالاتصال، هناك تحكّم آخر ينبني على سلطة الخطاب، أو ما يمكن أن نسميه بالسلطة الرمزية بحسب تعبيرات بورديو، فالأشكال الجديدة من الهيمنة – بحسب ألبرتو ميلوتشي- لا تعتمد سلطتها على الموارد الاقتصادية بحدّ ذاتها، ولا على حقيقة أنها تمارس نفوذًا أو تتلاعب بالنظام السياسي المحليّ: تتمثل سلطتها الرئيسية في قدرتها على تنظيم عقول الناس. وإذا كانت عملية بناء المعنى داخل العقل البشريّ – وفق كاستلز- تعتمد أساسا على تدفّق المعلومات والصور التي تعالج في شبكات الاتصال، فمن المنطقيّ أن نستنتج أن السلطة تكمن في شبكات الاتصال ومالكي شركات هذه الشبكات.

يرى ميلوتشي أنّ التحول المعاصر نحو الموارد الرمزية والمعلوماتية يؤثر على تعريفنا للسلطة وعدم المساواة أيضا. ولا يمكن قياس عدم المساواة من حيث توزيع الموارد الاقتصادية والسيطرة عليها فقط، إذ ينبغي أن يشير تحليل الاختلالات الهيكلية في المجتمع أكثر إلى التمييز بين المواقف التي تخصص لبعضها سيطرة أكبر ومحددة على الأكواد الرئيسية، على تلك الموارد الرمزية القوية التي تؤطر المعلومات[13].

من جانب آخر يرى بيير بورديو أنّ الفئات السائدة التي ترتكز سلطتها على رأسمالها الاقتصاديّ تتطلع إلى فرض مشروعية سيادتها إما عن طريق إنتاجها الرمزيّ أو بمساعدة أولئك الذين يدافعون عن الأيديولوجية المحافظة، فالرموز التي تستند عليها السلطة ليست سوى الشكل الموضوعيّ للرأسمال الرمزيّ كما يقول بورديو [14].

5- بين العنف والسلطة الرمزية:

رغم أن كل نظريات السلطة والملاحظة التاريخية، برأي مانويل كاستلز، تشير إلى الأهمية الحاسمة لاحتكار العنف أو الترويع، فإنّ ذلك يتطلّب تأطير العقول الفردية والجماعية، فعلى سبيل المثال استطاع الأمريكيون شن حرب العراق بفضل حملة تضليل إعلاميّ في إطار “الحرب على الإرهاب” أدارتها حكومة جورج بوش لغزو عقول الأمريكيين كوسيلة لغزو العراق والاحتفاظ بالسلطة لوقت أطول. إن كاستلز يربط العنف والتهديد به في السياق المعاصر مع عملية بناء المعنى في إنتاج وإعادة إنتاج علاقات السلطة في جميع مجالات الحياة الاجتماعية. يرى كاستلز أن هناك صفة واحدة مشتركة بين جميع عمليات البناء الرمزية، فهي تعتمد بشكل كبير على رسائل وأطر تُبتكر وتتشكل وتنشر في شبكات الاتصال متعددة الوسائط، ورغم أن كل عقل بشري مفرد يبني معناه الخاص به عن طريق تفسير مواد الاتصال وفق سياقه، فإنّ بيئة الاتصال تتحكّم بشكل كبير في هذه العملية العقلية[15].

لا يمكننا في أحيان كثيرة الفصل بين العنف وبين السلطة الرمزية، خصوصا في حالة العنف الرمزيّ الذي يقوم بالأساس على إخفاء صفة العنف عن طريق التواطؤ والتشارك مع الطرف الآخر. إن طبيعة علاقات السلطة في وسائل الإعلام الجماهيرية، كما يقول نورمان فيركلف، تفتقر إلى الوضوح، بل إنها تتضمن علاقات سلطة خفية. ويرى فيركلف كذلك أنّ السلطة الخفية للخطاب الإعلاميّ تعتمد على اتجاهات منهجية في نقل الأخبار والأنشطة الإعلامية. وعن طريق مراكمة الخطابات الإعلامية بطرق معينة في معالجة الأسباب والفاعلين الاجتماعيين وطرق معينة لتحديد موقع القارئ[16].

يرى نيك كولدري أن وسائل الإعلام لها تأثيرات اجتماعية على نطاق واسع، ليس فقط بسبب وجود آليات مركزية للبث، ولكن أيضًا لأننا نؤمن بسلطة الخطاب الإعلامي في سياقات محلية لا حصر لها، لأننا نعتقد أن معظم الآخرين يؤمنون بنفس الشيء ولأننا نتصرف على أساس هذه المعتقدات في مناسبات لا حصر لها. وهكذا أصبحت أنماط الاعتقاد والعمل هذه روتينية إلى درجة أننا في الممارسة العملية نجمعها معًا في تصور عام لآثار “وسائل الإعلام” المستخلصة إلى حد كبير من سياقات التكاثر المحددة. نتيجة لذلك تميل أعمال السلطة الاجتماعية لوسائل الإعلام إلى أن تكون مخفية، لتبدو قوة وسائل الإعلام طبيعية[17].

 يلقي ميلوتشي الضوء على الجانب الرمزيّ للاستغلال في السياق المعاصر، ويقول إن الاستغلال الحقيقيّ ليس الحرمان من المعلومات؛ إذ حتى في مدن الأكواخ في مدن العالم الثالث يتعرض الناس اليوم لوسائل الإعلام على نطاق واسع، إلاّ أنه لا سلطة لهم لتنظيم هذه المعلومات وفقًا لاحتياجاتهم الخاصة. وبالتالي، فإن الهيمنة الحقيقية هي اليوم الاستبعاد من قوة التسمية. إنه الاستقبال غير المنعكس لـ “الأسماء” التي تؤطر الخبرات البشرية، والاستهلاك، والعلاقات الشخصية: الالتزام بالقواعد المتضمنة في هذه الأسماء [18].

6- دور الأخبار في تركيز السلطة الرمزية:

في سياق تأثير سلطة الخطابات الإعلامية، يلعب الخطاب الإخباريّ دورا كبيرا في تركيز السلطة الرمزية للإعلام.  يرى كاستلز الإعلام الإخباريّ كأهم صور السياسات الإعلامية، ولأن الأخبار عبر الإعلام تُصاغ بطريقة تجتذب المشاهد المتوسط، فهي مؤثرة في إقامة رابطة بين ميول الناس وتقييمهم للقضايا التي تمثل مادة الحياة السياسية. إن السيطرة على الأخبار لا تعني فقط السيطرة على الخطاب العام لكنها تعني أيضا السيطرة على (المصدر الرمزي)، وكما يقول فان دايك، فإنّ السيطرة على الخطاب العام والاتصالات من أهم أسس بناء سلطة المجموعة أو المؤسسة أو مصادرهما كالمعرفة والمعلومات التي تُعَد مصادر رمزية للسلطة[19].

وأخذا في الاعتبار نطاق السلطة الرمزية ومجالها الفعّال، يرى فان دايك أن وسائل الإعلام الجماهيريّ هي الأكثر تأثيرا على نطاق أوسع، ويرى أنّ نصوص الصّحف تؤدي دورا حيويا في الاتصالات والعلاقات العامة، وخلافا للاعتقاد الشعبيّ العام، فإن قابلية تذكّر أخبار الصحف تظل أعلى من تذكر أخبار التلفاز وهذا يؤدي إلى تعزيز نفوذ الصحافة ومن ثم سلطتها. ويرى فان دايك، على سبيل المثال، أن موضوعات الاخبار تعتبر أكثر جزء مهم ومتميز فضلا عن أنها الاكثر قابلية للتذكر في قضايا الأخبار، بل إن عناوين الأخبار ، كما يقول فان دايك،  قد تكشف أنماط التلاعب بمعتقدات الناس وآرائهم عن طريق التلاعب بالذاكرة المؤقتة القصيرة التي تؤدي إلى فهم الكلمات والجمل والألفاظ والإشارات غير اللفظية كالمعاني أو الافعال التضمينية، ويتم ذلك عن طريق طباعة جزء من نصوص الأخبار في مكان بارز أو في أعلى الجريدة وبخط بارز ليؤثر في جذب الانتباه، ولهذا فإن عناوين الأخبار دائما تُسْتَذكر على نحو أفضل وأسرع من بقية أنواع الخطابات الإعلاميّة.

يأخذ فان دايك عناوين الأخبار الرئيسية كنموذج للتأثير على إدراكات الجماهير، ويرى أن عنوان الخبر الرئيس يؤثر بقوة في طرائق تعريف الحدث وفقا للنموذج العقليّ المفضّل للمتلقّي، كما هو الحال عندما ترتكب الأقليات جريمة ما، تجدها في عناوين الأخبار مكتوبة بالخط العريض، وبالطريقة نفسها يمكن أن تكون الحجج مقنعة بسبب الآراء الاجتماعية المتخفية في مقدمة الخبر الضمنية وبذلك يأخذها المتلقون دون التفكير فيما تتضمنه[20].

7- السلطة الصحفية والسؤال الأخلاقي:

إذا كانت السلطة الرمزية تختزن في معانيها ومتطلباتها وأدواتها كل هذا التأثير في الواقع الرمزيّ والماديّ، فإنها تلُقِي عبئا أخلاقيا ثقيلا على الصحفيين باعتبارهم أحد أبرز المُنتجِين الرمزيين الذين يحوزون سلطة رمزية مؤثرة في عقول البشر. إنّ أول ما تفترضه السلطة الرمزية لدى الصحفيين هو الوعي بها وبخطورتها وتأثيرها. إن فقدان السلطة لا يبدأ من فقدان أدواتها، بل من فقدان الوعي بها، لأن أسوأ ما يمكن أن تفعله السلطة، أي سلطة، بصاحبها، هو أن تجعله مملوكا عندها لا مالكا لها. إن الامتلاك الحقيقيّ للسلطة الرمزية عند الصحفيّ هو حسن استخدامها في مهمة الصحافة الأساسية وهي تبيان الحقائق واستقصائها، وصولا لمجتمع المعرفة والحرية والاطمئنان.

 بجانب الوعي بالسلطة الرمزية واستشعار خطورة “السلاح الصحفي”، تتطلب الأخلاق المهنية بذل الوسع في تجنب إساءة استخدام السلطة الرمزية عن طريق تمتين الحس الإنساني بحقوق الآخرين الذين يجري ترميزهم وتمثيلهم في الأخبار، وعدم التنازل عن مبادئ الموضوعية والنزاهة والعدالة في تقصي المعلومات وعرضها للرأي العام، وفي تقييم الأشخاص وتقديمهم لمجتمعاتهم والمجتمعات المغايرة.

لقد أفاد مجتمع الشبكات والإعلام الجديد في توسيع دائرة السلطة الرمزية خارج نطاق وسائل الإعلام التقليدية عن طريق توسيع المشاركة الفردية في صنع الرموز الإعلامية. هذا التطوّر في الوصول (شِبْه الحُر) إلى بِنْيَات وأدوات التواصل الحديث يمثل فرصة أيضا لوسائل الإعلام التقليدية لتكون أكثر أخلاقية ومهنية في استخدام سلطتها الرمزية، عن طريق التمثيل الكافي والعادل للمواطنين، والتواصل الواسع والمستمر مع مشاكلهم وشكاواهم وانتقاداتهم للواقع وللسلطات الرمزية.

8- خاتمة:

إنّ الوعي الصحفيّ بالسلطة الرمزية والالتزام بأخلاقية ممارستها يمثل “حارس بوابة أوّلي” للممارسة الصحفية برمتها، وهو ما يجعل الأخطاء المهنية فيما بعد سهلة التدارُك. وإن وعي الصحفي بسلطته الرمزية وممارسته الأخلاقية لها يجعله أقدر على التعامل مع السلطات المادية التي ظلت تُنَازِع الصحفيين مواقع التأثير، لأن مثل هذا الصحفيّ لن يكون وقتها كنجّار مخلّع الأبواب.


[1]– ميشيل فوكو، تاريخ الجنسانية، ترجمة محمد هشام، أفريقيا الشرق، 2004، ص ص 77-79.

[2]– بيير بورديو، الرمز والسلطة، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، 2007، الدار البيضاء، ص 48.

[3]– توين فان دايك، الخطاب والسلطة، ترجمة وتقديم عماد عبد اللطيف، المركز القومي للترجمة، 2008، ص33.

[4]– المرجع السابق، ص 31.

[5]– فان دايك، الخطاب والسلطة، مرجع سابق، ص 32.

[6]– مانويل كاستلز، سلطة الاتصال، ترجمة وتقديم محمد حرفوش، المركز القومي للترجمة، 2014، ص 40.

[7]– نورمان فيركلف، اللغة والسلطة، ترجمة محمد عناني، المركز القومي للترجمة، مصر، 2016، ص 60.

[8]– Alberto Melucci, Challenging Codes: Collective Action in the Information Age, University Press, Cambridge, 1996, p.176.

[9]– مانويل كاستلز، مرجع سابق، ص289.

[10]– بيير بورديو، الرمز والسلطة، مرجع سابق، ،2007 ص ص 49-50.

[11]– نيك كولدري، شبكات التواصل الاجتماعي والممارسة الإعلامية، ترجمة هبة ربيع، دار الفجر للنشر والتوزيع، القاهرة، 2014، ص205.

[12]– مانويل كاستلز، مرجع سابق، ص 291.

[13]– Alberto Melucci, 1996, s.167

[14]– بيير بورديو، مرجع سابق، ص 54.

[15]– مانويل كاستلز، مرجع، ص 583.

[16]– نورمان فيركلف، مرجع سابق، ص 82.

[17]– نيك كولدري، مرجع سابق، ص5.

[18]– Alberto Melucci, 1996, s.182.

[19]– فان دايك، 2008، مرجع سابق، ص 32.

[20]– المرجع نفسه، ص 93.


المراجع:

  1. بيير بورديو، الرمز والسلطة، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2007
  2. توين فان دايك، الخطاب والسلطة، ترجمة وتقديم عماد عبد اللطيف، المركز القومي للترجمة، مصر، 2008
  3. مانويل كاستلز، سلطة الاتصال، ترجمة وتقديم محمد حرفوش، المركز القومي للترجمة، مصر، 2014
  4. ميشيل فوكو، تاريخ الجنسانية، ترجمة محمد هشام، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2004
  5. نورمان فيركلف، اللغة والسلطة، ترجمة محمد عناني، المركز القومي للترجمة، مصر، 2016
  6. -يك كولدري، شبكات التواصل الاجتماعي والممارسة الإعلامية، ترجمة هبة ربيع، دار الفجر للنشر والتوزيع، القاهرة، 2014.
  7. Alberto Melucci, Challenging Codes: Collective Action in the Information Age,  University Press, Cambridge, 1996

 

 

مقالات أخرى

تعدّد الطّرق الصّوفيّة

جماليّة التّناصّ في الشّعر الصّوفيّ

“زيارة” الضّريح بإفريقيّة مطلع العصور الوسطى

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد