مفاهيم أساسية في الفلسفة الأخلاقية

الفلسفة الأخلاقية

الملخّص:

تناولت هذه الورقة البحثية أربعة مفاهيم أساسية في الفلسفة الأخلاقية وهي: مفهوم الأخلاق وعلم الأخلاق، ومفهوم القيم الأخلاقية، ومفهوم الواجب الأخلاقي، ثم مفهوم الفضيلة. نقر بأن اختيارنا هذه المفاهيم بعينها كان مقصودا، باعتبار أنها تلخص تاريخ الفلسفة الأخلاقية، وتختزل في ثناياها أشهر المذاهب الأخلاقية. فمفهوم الأخلاق ومفهوم علم الأخلاق يتضمنان حقبتين كبريين طبعتا الفلسفة الأخلاقية. أما مفهومات الفضيلة، والقيم، والواجب، فهي تعبر عن كل المدارس النفعية والديو-أنطلوجية والكوسمولوجية التي أثثت الفلسفة الأخلاقية على مر العصور. على ذلك، نزعم أنه للإمساك بالخيط الناظم للفلسفة الأخلاقية، ينبغي تبني هذه المقاربة المفاهيمية، التي ستسهل العبور أفقيا وعموديا على إرث فلسفي عريض التصق تاريخه بالإنسان.

كلمات مفاتيح: الفلسفة الأخلاقية، مفهوم الأخلاق، مفهوم علم الأخلاق، مفهوم القيم الأخلاقية، مفهوم الواجب الأخلاقي، مفهوم الفضيلة.

Abstract:

This article examined four basic concepts of moral philosophy: the concept of Moral and Ethic, the concept of moral Values, the concept of Moral Duty, and the concept of Virtue. We recognize that our choice was conceived because these concepts summarize the history of moral philosophy and reduce their major doctrines. The concept of Moral and the concept of Ethics comprise two great epochs of moral philosophy. The concepts of virtue, values and duty, reflect respectively both of the utilitarian, deontological and cosmological schools. Therefore, we believe that to capture the thread governing moral philosophy, we claim that this conceptual approach must be adopted.

Key words: moral philosophy, concept of Moral, concept of Ethics, concept of moral values, Moral duty, concept of virtue.


1- المقدمة:

إذا كان المفهوم هو أساس لغة التواصل الفكري والعلمي، وإذا كان هو الوسيلة المستعملة للتعبير عن الأفكار والحالات والاتجاهات بطريقة مجردة، فلا جرم أنه يكتسي أهمية قصوى في عملية البحث والبناء النظري. يعرف قاموس مريام ويبستر المفهوم على النحو التالي: “هو لفظ عام يعبر عن مجموعة متجانسة من الأشياء، وهو عبارة عن تجريد للواقع على نحو يسمح لنا بأن نعبر عن هذا الواقع من خلاله[1]. فالمفهوم إذن، وصف تجريدي لواقع ملحوظ دون إشارة إلى حالة بعينها. من المسلم به أن حقل الفلسفة هو مجال لنحت المفاهيم وتأثيلها. لذلك، لا يمكن تصور أي فعل للتفلسف خارج هذه الوظيفة. يقر إيمنويل كانط هذه الحقيقة بقوله: “كل معرفة إنما تفترض المفهوم، مهما كان نقصه أو غموضه (…) ينبغي أن نعرف أولا وبكامل الدقة المفهوم الذي نريد توضيحه من خلال الملاحظات، قبل أن نسال عنه التجربة، ذلك أنه لا يمكن للتجربة أن تمنحنا ما نحن في حاجة إليه، إلا إذا كنا نعرف مسبقا ما ينبغي أن نبحث عنه”[2].

من هذا المنطلق والأساس العلمي الرصين، سنعمل على بسط خمسة مفاهيم نراها أساسية في أي بحث يتصل بمجال الفلسفة الأخلاقية. هذه المفاهيم هي: مفهوم الأخلاق وعلم الأخلاق/ مفهوم القيم الأخلاقية/ مفهوم الواجب الأخلاقي/ مفهوم الفضيلة. ونقر بأن اختيارنا لهذه المفاهيم لم يكن اعتباطيا، بل كان مقصودا في ذاته، باعتبار أن هذه المفاهيم لا تشكل مجرد مصطلحات، بقدر ما أنها تختزل في ثناياها تاريخ فلسفة الأخلاق من جهة، وأكبر المذاهب الفلسفية من جهة أخرى. هذا ما سيجعل مهمتنا لا تقتصر فقط على بسط المفهوم بسطا تقليديا فحسب، وإنما تتعداه إلى تقصيه أفقيا وعموديا من خلال تاريخ فلسفة الأخلاق ومذاهبها الكبرى.

2- الأخلاق وعلم الأخلاق (Moral and Ethics):

بعيدا عن التفريعات الإيتيمولوجية التي تقوم على تأصيل المصطلحات، كما هو الشأن في الفلسفات القارية، تقتصر الفلسفات الأنجلوسكسونية على تعقب المعاني بدل تحديد الماهيات. لهذا السبب، نلاحظ أن الكتابات الفلسفية الأمريكية تخلو تماما من طرح إشكالية التمييز بين الأخلاق وعلم الأخلاق. فالسياق الأنجلوسكسوني، سياق لا يعرف الخلط أو الغموض بين “الأخلاقياتو “علم الأخلاق” (Moral and Ethics)؛ فعلم الأخلاق عندهم، يعالج النظرية الأخلاقية من حيث مبادئها وقواعدها الأخلاقية، وكذا أصل الفعل الأخلاقي ودوافعه. في حين تهتم الأخلاقيات بنوازل القضايا الأخلاقية المتجددة، والتي تحتاج إلى تقييم أخلاقي، أي إلى تطبيق المبادئ والقواعد الأخلاقية بغية استخلاص حكم أخلاقي يخص نازلة ما، كالإجهاض مثلا. لكن سيكون من المفيد جدا أن نعرض ولو لبرهة عن الفلسفة الأخلاقية الأنجلوسكسونية، لنقف على المعاني التي نالها مفهوم الأخلاق Morale”ومفهوم علم الأخلاق Ethique ” في الفلسفة القارية، وفي ذلك إبراز لوظيفة كل منهما ولمجاله، وكذا التطور الذي حصل في تاريخ أفكار هذين الحقلين. ولتكن البداية من موسوعة أندري لالاند الفلسفية حيث يعرض لكلمة أخلاق MORALE أربع تحديدات متباينة فيقول[3]:

“أ. أخلاقية واحدة: مجموع القواعد السلوكية المقبولة في عصر أو من قِبَل جماعة بشرية. “أخلاقية صارمة – أخلاقية ذميمة –أخلاقية متراخية”. لكل شعب أخلاقيته، التي تتحدد بالشروط والظروف التي يعيش فيها، والتي لا يمكن أن ننسخ عنها أخلاقية أخرى مهما بلغ ارتفاعها، من دون تفكيك”[4].

“ب. الأخلاق، الأخلاقية: مجموعة القواعد السلوكية المعتبرة صالحة بلا شرط. من المبالغة تفسير الشر… ولا ينبغي للميتافيزيقا أن تفسر ما تدينه الأخلاق”[5].

“ج. نظرية عقلية للخير والشر، علم الأخلاق[6]Ethique. بهذا المعنى تتضمن الكلمة دوما أن النظرية المقصودة ترمي إلى عواقب معيارية. وقد لا تقال على علم موضوعي ووصفي للآداب أو حتى للأحكام الأخلاقية (بالمعنى أ). إنني أكون لنفسي حياة أخلاقية من التموّن الذي لا يقوم على أكثر من ثلاث أو أربع أحكام مأثورة الخ.”

نحتفظ في هذا التعريف بمصطلحات مفاتيح سيكون لها دور كبير في انتقال الأخلاق من اللاهوت إلى العقلانية، ونذكر هنا “نظرية عقلية” – “عواقب معيارية” – “علم موضوعي وصفي” – “أكون لنفسي”.

“د. مسلك مطابق للأخلاق، مثلا عندما يُحكى عن “تقدم الحياة الأخلاقية” ويكون المقصود بذلك ليس تقدم الأفكار الأخلاقية، بل تحقيق حياة أكثر إنسانية، تحقيق عدالة أكبر في العلاقات الاجتماعية، الخ[7].

في هذا التعريف بعد جماعي للأخلاق ونفحة غائية، تجعل من الأخلاق الفردية، وسيلة لتحقيق حياة أكثر إنسانية تسودها العدالة والسلم الدائم. وهذا الاتجاه يفسر تأثير الحرب العالمية في نفسية ليفي برايل، الذي يرى أن التقدم الحقيقي للأخلاق، لا يمر عبر تطوير النظريات، بقدر ما يجب أن يتم عمليا في تجويد الحياة الإنسانية.

نستشف إذن من خلال هذه التعريفات الأربع، أن مفهوم الأخلاق يلبس معاني متباينة حسب الخلفية التي ينبني عليها المعنى؛ فهي قد تكون سيكولوجية أو اجتماعية، فردية أو جماعية، دافعية (داخلية)، أو غائية (خارجية). وهذه التفاصيل الدقيقة يستحسن أن تراعى في شموليتها عند البث في القضايا الأخلاقية، وهذا ما سيؤكده توماس وول في نظريته الأخلاقية.

أما علم الأخلاق (Ethique) فيعرفه لالاند بأنه: “علم موضوعه الحكم التقويمي القائم على التمييز بين الخير والشر”، “في المقابل طبق Ampèreكلمة «Ethique» على الأخلاقيات الوصفية (علم الآداب)، المتعارضة مع الأخلاقيات القسرية (علم ما يجب أن يراد) التي أطلق عليها اسم “Thélésiologie”[8].

ولكي يضع لالاند حدا بين الأخلاق وعلم الأخلاق ساق ثلاثة مواقف لكل من شلينغ وهيغل وهيمون، حيث يقول: “كان الفلاسفة النظريون الألمان الذين اقتدوا بكانط، يميلون إلى الفصل بين علم الأخلاق والأخلاق وإلى وضع الأولى فوق الثانية، وفي هذا الإطار يقول شلينغ: “عموما تطرح الأخلاق أمرا لا يخاطب سوى الفرد ولا يستوجب سوى الشخصية المطلقة للفرد؛ وعلم الأخلاق يطرح أمرا يفترض مجتمعا مؤلفا من كائنات أخلاقية ويكفل الشخصية لكل الأفراد من خلال ما يفرض على كل منهم” Œuvres،I،252. كما يرى هيغل أن الأخلاق تدل، بالأولى على مجال النية الذاتية، وأن الأخلاقية (علم الأخلاق يدل على ملكوت الحياة الأخلاقية، أما هيمون فيقترح أن يقال “أخلاق” عن كل عقيدة تدعي تأسيس لاهوتية مثالية وواجبا على أساس مبادئ نظرية؛ وأن يقال علم الأخلاق على كل عقيدة طبيعانية بلا مبادئ ولا واجب صوفي”[9].

نستنتج أن تعريف كل من شيلينغ وهيغل حاول الفصل بين الأخلاق وعلم الأخلاق، من خلال الفصل بين الحياة الفردية والحياة الأخلاقية للمجتمع. في حين يتجاوز هيمون هذا المعيار، مؤكدا أن كل بناء نظري مؤسس على مبادئ وقواعد مسبقة، هو شكل من أشكال اللاهوت، ويصنف في خانة “الأخلاق”. أما علم الأخلاق، فإنه يتأسس على عقيدة طبيعانية تؤمن بالمحايثة والواقعية والمباشرة. وهذا تمييز جوهري، يرى فيه أنصار الأخلاق الطبيعية، تحررا تاما من الذهنية اللاهوتية التي تتأسس على منطق “الأمر والنهي”. فسواء كان مصدر الأمر أو النهي إلهيا أو عقليا فهما سيان؛ لأنهما، في نظر الطبيعانيين، يقيدان السلوك، ويحدان من تطوير الأحكام القيمية تجاه القضايا الأخلاقية المستجدة. وهكذا يتضح ومن خلال التعريفات المذكورة أن الأخلاق، قد تأخذ طابعا عمليا، باعتبارها مجموع القواعد التي ترشد الإنسان لبلوغ غايات ما. وهنا تحوز الأخلاق صفة الشمولية والكلية؛ لا سيما أن هذه القواعد لا تحتمل التعدد، بل هي صادقة على جميع الناس في كل زمان ومكان (النزعة الكانطية). كما تأخذ الأخلاق طابعا نظريا، بوصفها تنظيما مذهبيا يقوم على مبادئ وقواعد وقوانين جزئية. وكل مذهب يتعارض مع المذاهب الأخرى من حيث مبادئه وليس من حيث أوامره العملية. وتأسيسا على ما سبق نفترض هذه الفرضيات:

– أن الأخلاق نظرية وعملية معا في الوقت نفسه؛ أي أنها تؤسس النظرية، وترسم المنهج العملي لتنفيذها.

– أن الإنسان حر، وأن أفعاله الحرة هي التي تنضوي تحت منظومة الأحكام الأخلاقية.

– أن القواعد العامة للسلوك الإنساني ممكنة وتتجاوز الزمان والمكان، بغض النظر عن أصلها (سيكولوجي، اجتماعي، عقلي، تجريبي، طبيعي…).

– أن الأخلاق ليست علما وصفيا، بل هي علم معياري، يهتم بوضع المعايير التي يجب مراعاتها عند تقييم الأفعال الإنسانية.

من الطبيعي جدا ونحن “نفترض” هذه الفرضيات، ونسلم بالتعريفات السالفة الذكر، أن يسوقنا الاستنتاج الأولي إلى مثل هذه الخلاصات. لكن منطق التحليل والحس النقدي، يقوداننا إلى اليقظة إزاء مصادرتين:

الأولى: تقر بأن الطبيعة الإنسانية في بعديها الفردي والجماعي واحدة لا تتغير وإن تغير الزمان والمكان. وهذا المعطى مرفوض أنتروبولوجيا. كما أن الأفعال والمشاعر الوجدانية الإنسانية ينظر إليها على أنها مستقرة وثابتة، والحال أن الأخلاق بهذا المعنى تنسى أن الإنسانية مرت بأطوار وأحوال مختلفة وما زالت تمر بها، وأنها تختلف باختلاف الشعوب والحضارات، بل إنها تشهد ضروبا من التباين داخل المجتمع الواحد، فالطبيعة الإنسانية في الحضارة الغربية، ليست هي تلك المرجوة في الحضارات الشرقية، كما أن الطبيعة الإنسانية إبان المد المسيحي في الغرب مختلفة تماما عن الطبيعة الإنسانية في زمن العلمانية والممارسة الديمقراطية. وقد أثبت علم الأنتربولوجيا بكل مذاهبه الاجتماعية والدينية والسياسية… أنه من الخطأ الحديث عن طبيعة إنسانية واحدة. أما المصادرة الثانية فتقر أن الضمير الأخلاقي في الإنسان، ذو وحدة عضوية منسجمة، لا تعارض ولا تناقض فيه. ووحدة الضمير هذه تؤسس حتما وحدة الأخلاق النظرية. فالضمير الأخلاقي عند كل إنسان منسجم مع كل القواعد والإلتزامات الأخلاقية، وهو ما يستوجب بالمنطق الاتفاق في الأوامر المطلقة، وعدم الاختلاف حول المنفعة أو السعادة أو اللذة…!إن اعتقادنا مع كانط مثلا في الإرادة الخيرة والأوامر المطلقة وانسجام الواجب معها، وتسليمنا مع بعض المذاهب بأن المنفعة والسعادة واللذة، في تطابق تام مع مصالح النفس وغاياتها السامية، ومع إغفال ما يعيشه الضمير من تناقضات ومنازعات، هو الذي يبعث على القبول بمصادرة وحدة الضمير والتسليم بها؛ في حين أن واقع الحال يؤكد التنازع بين الواجبات، والتناقض بين المطامح. ونشير أيضا باستمرار إلى وجود نوع من التصادم بين الالتزامات، وصراع بين الواجبات الفردية والواجبات الجماعية، والواجبات الأسرية والمهنية. كما نعيش صراعات بين الواجبات العقلية والدينية والسياسية… غير أن الأخلاق النظرية التقليدية لا تأبه لكل هذه الاختلافات والصراعات…، وهي بذلك تصر على بناء صرح أخلاقي صارم.

لهذه الاعتراضات كلها، يدعو ليفي برايل إلى طرح الأخلاق النظرية، ويقترح استبدالها بعلم الأعراف أو العادات (Science des moeurs). فبدلا من وضع الأخلاق عبر التصورات العقلية المجردة، يرى ليفي برايل أهمية دراسة الواقع الاجتماعي، وتحليل ماضي المجتمعات الإنسانية، وإدراك القوانين والروابط التي تحكم الظواهر الاجتماعية؛ وإدّاك سيتضح لنا أن القواعد الأخلاقية والالتزامات والحقوق، ما هي إلا مجموعة من الوقائع، وأن مضمون الضمير الأخلاقي هو بدوره توليفة من العادات والأعراف، أي من الوقائع الاجتماعية. وفي هذا السياق يقول ليفي برايل: “فإذا عرفنا ماضي شعب ما، دينه وعلومه وفنونه وعلاقاته بالشعوب المجاورة وأحواله الاقتصادية العامة، فإن أخلاقه تتحدد بهذا المجموع من الوقائع التي هي دالة عليه. ويناظر الحالة الاجتماعية المحددة تمام التحديد نظام – متفاوت في درجة الانسجام – من القواعد الأخلاقية المحددة تمام التحديد، وهو نظام واحد فحسب”[10].

إن الأخلاق حسب ليفي برايل، جملة من الوقائع الاجتماعية، وهو يدعو إلى دراستها بما هي كذلك، وبالمنهج المستعمل في دراسة الظواهر الطبيعية. وعلى هذا الأساس فإن مهمة

“la science des mœurs” أي علم الأعراف والعادات، لا تتحدد في وضع القواعد الأخلاقية وتحديد ما ينبغي أن يكون، وإنما مهمتها تحصيل المعرفة بالوقائع الأخلاقية. إن الأخلاق بهذا المعنى، معطيات (Données) تماما كما في الفيزياء. ولهذا يمكن أن ننعت الأخلاق ب “الفيزياء الأخلاقية“. ولكي نفهم هذا الموضوع من الفيزياء نحتاج إلى علوم أخرى، تاريخية ودينيةواقتصادية…، تماما كما هو الشأن بالنسبة إلى الرياضيات مع الفيزياء.

والخلاصة أن ليفي برايل يدعو إلى نبذ كل أخلاق نظرية أو كل فلسفة خلقية، ثم استبدالها بعلم الأعراف والعادات، باعتباره علم وضعي يستند إلى معطيات الوقائع الأخلاقية لدى مختلف الشعوب على مدار تاريخ الإنسانية. فمهمة هذا العلم في وصف كل العادات والأعراف والتقاليد والرسوم الأخلاقية، عند مختلف الشعوب وفي مختلف العصور، ثم اكتشاف قانون تطورها. إن علم الأخلاق في نظر برايل سيكون مضطرا إلى التخلص من الاعتبارات الذاتية، حتى يصير علما موضوعيا شأنه شأن سائر العلوم الموضوعية، التي اضطرت إلى التنكر لكل الاعتبارات الذاتية والتملص منها، فأصبحت أبحاثا علمية وصفية. والنتيجة المتوقعة حسب برايل، هي أننا إن سلكنا هذا المنهج الموضوعي، أننا سنكون إزاء حقيقة مستقلة في كلتا الحالتين:

– الحالة الطبيعية الواقعية أو الفيزيائية.

– الحالة الطبيعية الأخلاقية.

هكذا يماثل ليفي برايل بين العلوم الفيزيائية (التي غيرت تماما تصورنا حول العالم ونقلت حياتنا إلى تقدم مطرد)، بعلم الأعراف والعادات، الذي سينجح يوما في إنشاء “تقنية أخلاقية (Technique morale). فكما أن العلوم حولت المعرفة إلى صناعة وتقنية، ونقلتها من التجريد إلى العيان، فإن الصناعة الأخلاقية بمقدورها أن تغير الواقع الأخلاقي وفق معطيات ووسائل عقلية. هذه الفكرة لم تبق حكرا على ليفي برايل، بل أكدها جــــورج غــــورفيتش (George Gurvitch 1894-1965) في قوله: “ستكون وظيفتها (أي الصناعة الأخلاقية) أن تغير الواقع الأخلاقي المعطى، وذلك بوسائل عقلية، عن طريق نبذ عناصره التي عفا عليها الزمن، لصالح المنافع الإنسانية، تماما كما تفعل الميكانيكا والطب، من أجل هذه المنافع نفسها، في الظواهر الفسيولوجية والبيولوجية”[11]. إذن بهذا المعنى، فعلم الأخلاق وظيفته تغيير الواقع نحو ما هو أنفع وأصلح، وليس إعادة إنتاج المبادئ الأخلاقية ولا تثبيت قواعدها، فالصناعة الأخلاقية هي إبداع وتغيير للواقع، وليس صناعة مذاهب. وهذا ما يحمل فريدريك روه (Fréderic Rauch 1981-1909) على استهجان المذاهب الأخلاقية النظرية حيث يقول: “كل صانعي المذاهب، يبحثون عن الاعتقاد خارج الاعتقاد أي خارج الفعل”. فأساس اليقين الأخلاقي حسب فريدريك رو يكمن في “التجربة الأخلاقية النوعية” (L’expérience Morale spécifique). ويعرفها بأنها “تقوم في شعورنا المباشر بالمثل الأعلى معاشا في الفعل”[12]، كما ويميزها عن التجربة العلمية فيقول: “في العلم يتعلق الأمر بوقائع موضوعية قابلة للقياس؛ أما هنا في التجربة الأخلاقية، فالواقعة هي فقط ما هو مباشر، وهذا التوسع في المعنى مشروع تماما”[13].

إذن فالطابع المميز لكل تجربة أخلاقية ما هو إلا الفعل نفسه؛ فالمبادئ الأخلاقية لا يمكن استخلاصها إلا من السلوك نفسه ومن خلال ممارسة الفعل (التجربة الأخلاقية). وهذا لا يتحقق حسب روه إلا في الاقتداء بنموذج ما وبالاتصال الحي والمباشر بالفاعل أي المصحوب. فالإنسان في نظره لا يتأمل ثم يصنع، بل إن الإنسان يخلق نموذجه وهو يفعل، ويجدد في خلقه دائما بواسطة فعله. ثم يؤكد روه، بعد ربط التجربة الأخلاقية بالفعل، على أن عناصر هذه التجربة، في تغير مستمر وفي حركية دائمة؛ وهي عناصر تتميز بالفردية ولا تقبل أي تعميم وتتمرد على المجرد والنمطي والدائم. كما أن التجربة الأخلاقية في حال صيرورة وتغير، وديناميية مستمرة. ولأنها مباشرة، فإنها متزامنة بزمان يقبل التعديل والتقويم باستمرار وتأكيدا لهذا التحليل يقول روه: “من أجل أن يفعل الإنسان أخلاقه، فإنه ينبغي له أن يضع نفسه في المدة (Durée) ومن وجهة نظر الحاضر[14].

إن التجربة الأخلاقية في نظر “روه “تسبق كل نظرية وكل تفكير أخلاقي، وهو ما يظهر في قوله: “إن الرجل الأمين، مثل المهندس قبل أن يفكر في طبيعة نشاطه، يفكر ويفعل ويعمل (…) وكما أن العلم التجريبي لا يتعلم إلا في المعمل، فإن تحليل العقيدة الأخلاقية، وكيفية سلوك الرجل الأمين سيكشف لنا قطعا عن القواعد العملية للفعل الأخلاقي”[15].

وعلى هذا الأساس يحمل روه على كل الدعاوى القائلة بكلية وثبات المبادئ الأخلاقية فيقول: “إن الفكرة الخاطئة القائلة بثبات المبادئ الأخلاقية وكليتها ترجع في أصلها إلى تصور زائف لليقين من الناحية النفسية. إن اليقين الأخلاقي في حالة الشعور الفعال يُفضي إلى يقينيات راسخة مستقلة في شدتها وسعتها”[16]. لكن ثمة شيء مثير في كلام روه؛ ذلك أنه يقر بأسبقية التجربة الأخلاقية على التفكير الأخلاقي، لكنه في الوقت ذاته، يستعمل عبارة “يفكر، ويفعل، ويعمل”. ولعله بهذا الكلام يقصد التفكير في الفعل بصفته فعلا، لا في طبيعته أو في العقيدة التي تدفع إلى القيام به. فكل واحد منا يفكر في الفعل قبل إتيانه، والأمر لا يعني استحضار المبادئ والقواعد والنظر فيها. وفي المقابل حين نريد وضع القواعد وبناء المبادئ، فإننا حتما حسب روه نستحضر التجربة الأخلاقية، ونستدعي كل ضروب سلوكنا لكي ننتقل بها عبر التفكر والنظر والاستقراء من تجربة لواقعة ما، إلى مثل عليا حقيقية وقيم روحية وحقائق موضوعية قبلية. وهذا ما يجعلنا نعتقد أنها سابقة على التجربة (a priori) وللخروج من مأزق روه حول أسبقية الفعل على النظر، أو العكس، نستدعي ماكس شيلر(1874-1928)، الذي يتحدث عن التجربة الأخلاقية، لا من حيث الأسبقية، وإنما يعرضها على أنها تتجلى في تجربتين: إحداهما “رمزية” وهي التي تمثل التجربة العادية اليومية، والأخرى تجربة وجدانية مباشرة. ويرى شيلر أن التجربة الأخلاقية تتألف من أربع درجات تتفاوت في العمق والمباشرة.

–  الدرجة الأولى: هي درجة أفعال العاطفة المحضة، التي يدرك فيها الإنسان القيم منفصلة عن بعضها بعضا.

الدرجة الثانية: هي درجة ينتقل فيها الإنسان إلى ترتيب القيم، وبذلك تبني أفعال التفضيل أو أفعال النفور.

الدرجة الثالثة: وهي درجة أفعال التعاطف التي تستوعب الحياة الانفعالية للذوات الأخرى وتدركها؛ وهو ما يعني توسيع دائرة الانفعالات لتتقاطع مع دوائر انفعالات الآخرين.

– الدرجة الرابعة: وهي درجة أحاسيس الحب، وهي تمكن من إدراك شخصية الأفراد والجماعات، وتنقل صاحبها إلى أسمى القيم المتجسدة في الموضوعات المحبوبة. وبإيجاز، فإن التجربة الأخلاقية في نظر شيلر تتكون من أربع درجات هي: العواطف المحضة، وأفعال التفضيل، والتعاطف (Sympathic) ثم الحب. وفي كل درجة من هذه الدّرجات تفاوت وتدرّج. فالعواطف المحضة تتنوّع حسب تفاوت القيمة الواحدة؛ فالمناسب من الأخلاق مثلا مختلف من عصر الى آخر، ومن شعب الى آخر. وأفعال التفضيل وإن سيطرت عليها لوحة قيم واحدة فهي تتفاوت في ترتيبها؛ فهناك من يفضّل القيم الجماليّة، وآخر يفضّل القيم القانونيّة أو الدّينيّة أو العقلية وهكذا دواليك. وكذلك تتنوع أفعال التعاطف وأفعال الحب وتتفاوت حسب شدّتها واتساع دائرة الذوات وعالم القيم المنتسبة إليه.

ويدافع جورج غورفيتش عن المذهب نفسه حيث يقول: “إن الحياة الأخلاقية تتجلى في ألوان من السلوك. لكن هذه الألوان من السلوك لابد أن تكون إرادية وليست آلية، وأن تتضمن معاني باطنية، وهذه الأخيرة تتجلى بادئ الأمر لضميرنا على أنها “أغراض” ترغب فيها الإرادة؛ أي خير ينبغي تحقيقه في المستقبل. لكن الأغراض والأهداف لا تكون أخلاقية إلا إذا كانت تستلهم غايات أخلاقية. والغايات بدورها هي حدود للميول والمطامح، والإرادة المقررة بالغايات تعارض كل رد إلى العقل. والغايات نفسها لا تكون أخلاقية إلا إذا لم تناقض الأوامر المطلقة، وإلا إذا تضمنت في داخلها قيما أخلاقية، تكون هذه الغايات بمثابة صور عقلية لها. وهكذا فإنّنا بواسطة التجربة الأخلاقيّة المباشرة ندرك القيم المندرجة في الأغراض والأوامر والغايات”[17].

إذن، وحسب غورفيتش فإن التجربة الأخلاقية المباشرة، هي ذهاب وإياب وسعي بين الأغراض والأوامر والغايات من جهة، وبين الضمير والإرادة والميول والطموح من جهة أخرى. لكن السؤال أين محل العقل في هذه التجربة الأخلاقية التي يرسمها غورفيتش؟

تتم التجربة الأخلاقية المباشرة في نظره بالذهاب إلى ما بعد الغايات والأغراض والأوامر؟ فهي تبتدئ من الأفعال الإرادية المنبثقة من الاختيار، لتصل إلى الحرية وإلى القيم. لكن القيم يمكن أن تتحول حسب غورفيتش إلى عقبات في طريق “الفعل المحض”. لذلك يحتاج الإنسان إلى إرادة خلاقة مباشرة أكثر من حاجته إلى التصميم والقرار. ثم إنه في حاجة إلى حرية خلاقة أكثر من حاجته إلى القيم ومباشرة القيم.

وتأكيدا لما سبق يقول غورفيتش:”هكذا نجد أن التجربة الأخلاقية ليست إلا تمردا مستمرا للعقل: تمردا على الحاضر باسم المستقبل، وتمردا على ما تحقق باسم ما لم يتحقق بعد، وتمردا على الأغراض باسم الغايات، وتمردا على قوانين العلية باسم الأوامر، وتمردا على الغايات والأوامر باسم القيم، وتمردا على القيم باسم الحرية الخلاقة. وكل مراحل الرد إلى المباشر في التجربة الأخلاقية هي إذن وجوه لتعميق التمرد. والتجربة الأخلاقية ثورية من الطراز الأول؛ إنها ثورة روحية في تعمق متزايد. وتزداد أخلاقية بقدر ما تزداد ثورية”[18].

ما يلفت انتباهنا في هذا النص تفرده عن سابقيه، من حيث جدة المصطلحات وقوّة الرّؤية وتماسكها؛ فقد أدرجت عبارات: “التّمرّد”، و “الحرية”، و“الخلاقة”، و“الثورة”، أما “العقل “فهو الأداة التي تجنح دائما إلى الحرية، وهي التي تقود التمرد والثورة نحو تجربة أخلاقية أفضل. وفي هذا تأكيد لفكرة التغير والصيرورة والدينامية والتزامن والفردية، باعتبارها ما يميز التجربة الأخلاقية المباشرة. فالتجربة الأخلاقية أكثر تغيرا من معظم التجارب الأخرى، لأنه في التجربة الأخلاقية تتنوع الأفعال؛ أي أفعال التقرير والتصميم والإرادة باستمرار. وتتنوع المعطيات أيضا: الواجبات المثالية، القيم، الحرية، الخلاقة، وكلها في جوهرها شديدة التغير والحركة والدينامية، ويتحقق وجودها في مدة زمنية كيفية (Durée qualitative). ويخلص غورفيتش إلى تحديد ستة أوجه لتنوعات التجربة الأخلاقية المباشرة وهي:

أولا: الواجبات المثالية والقيم والحرية الخلاقة، وهي تجسد التغير وقابلية التغير، لن يكون بمقدور الأفراد والجماعات إدراكها إلى من خلال مواكبة هذا التغير باستمرار، والسعي دائما إلى تحقيقه وإنجازه.

ثانيا: أن أفعال التجربة الأخلاقية تتنوع، بتفضيل واجب على آخر، وقيمة على أخرى، أو بالانفصال عن الواجبات والقيم والحرية الخلاقة والسقوط في الهوى. وهذا ما يؤدي إلى قلب مستمر في “لوحة القيم” (Tableau de valeurs)؛ فبينما يكون تفضيل القيم الفردية في عصر ما أو شعب ما، يتم تجاوز الفرد، بتفضيل القيم الجماعية. وهناك أشكال أخرى من أفعال التفضيل؛ كتفضيل التأمل على العمل أو العكس، أو تفضيل البطولي على المعتاد.

ثالثا: وهو الوجه الأكثر عمقا، والذي يلامس مقدار الفعالية الذي تحدثه كل طبقة من طبقات تجاربنا الأخلاقية؛ ففي عصور ما، وفي حضارات ما وفي أنماط من الجماعات والتجمعات والأفراد، إما أن تسود فعالية تجربة الواجب (Déontologie)، وإما أن تسود فعالية تجربة القيم (الأخلاق المعيارية)، أو أن تسود الأخلاق الخلاقة (وهي أخلاق تتجاوز الواجب والإلزام وقيم الخير والشر وكل منظومة الفضائل التقليدية، بحيث تتبنى معياري الصواب والخطأ في تحديد ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي).

رابعا: بما أن التجربة الأخلاقية الحية والمباشرة، قد تكون فردية، وقد تكون جماعية؛ ففي بعض الحضارات أو العصور أو الظروف تسود التجربة الجماعية على التجربة الفردية أو العكس وبدرجات متفاوتة في هذه السيادة. ومن هنا يحصل التعارض ليس فقط في الأخلاق النظرية، بل وفي الأخلاق الواقعية أيضا بين “الأخلاق الفردية” و”الأخلاق الجماعية”.

خامسا: الوجه الخامس للتنوع، يكمن في أن التجربة الأخلاقية ليست فقط تجربة روحية (الواجبات، القيم، والحرية الخلاقة)، بل هي أيضا تجربة المحسوس: أي الميول الطبيعية الفردية والجماعية، ثم اعتبار المواقف الراهنة والمستجدات الآنية. وهي عوامل تؤدي حتما إلى تغيرات في التجربة الأخلاقية. وفق درجة الميول الطبيعية والمواقف الشخصية والقدرة على الاتساق مع المعطيات الروحية للتجربة الأخلاقية الاختلاف عنها، ذلك أن درجات الاتساق والافتراق ليست واحدة في مختلف اللحظات التاريخية ولا في مختلف الحضارات ولا حتى داخل الجماعة الواحدة، بل ولا حتى عند الفرد الواحد نفسه. ومثال ذلك “قيم الحداثة” في الوطن العربي، تتباين درجات الاتساق معها والنفور منها، من بلد إلى آخر، ومن فرد إلى آخر. ومن هنا ينشأ التعارض – في النظر والواقع – بين ما يسمى ب “الأخلاق المتشددة” و “أخلاق المذاهب الطبيعية”.

سادسا: أما الوجه السادس والأخير لتنوع التجربة الأخلاقية المباشرة فهو ذلك الذي ينجم عن الوجدانيات الانفعالية من تعاطف وحب، وينشأ عن القيم الجمالية والحيوية فتبعا لنوع القيم     

الانفعالية وتبعا لتنوعات أفعال الوجدان الانفعالي، تتسع التجربة الأخلاقية أو تضيق، وتغتني أو تفتقر.

ثم ينهي غورفيتش تحليله بالقول، إنّ الأخلاق النظرية ينبغي أن تعمل باتساق مستمر مع علم العادات والأعراف Science des mœurs. والأخلاق النظرية لن تكون ممكنة إلا إذا استوفت ثلاثة شروط أساسية وهي:

أ- تكون الأخلاق النظرية ممكنة بصفتها علما وفرع فلسفيا، إن هي تبرمت من الأمر والنهي

(Ne prescrit rien) وامتنعت عن إصدار الأحكام التقويمية. ثم اقتصرت على وضع أحكام نظرية خالصة تعبر عن المعطيات الحية في التجربة الأخلاقية المباشرة اللامتناهية التنوع. وكأننا بغورفيتش يتصور الأخلاق كعلم الرياضيات أو الهندسة أو العلوم الفيزيائية، التي يمكن أن تضع لها قواعد ومبادئ ومسلمات ومصادرات يمكن عن طريقها حل كل القضايا المتعلقة بها على تنوعها النظري والتطبيقي. لكن إلى أي حد يمكن القبول بهذا التمثيل، خاصة أنّ الأخلاق مجال لا يقبل القياس ولا الحساب، كما لا يقبل الملاحظة والتجريب؟!!!.

ب- أن الأخلاق النظرية ليست ممكنة إلا إذا أمكن اكتشاف تجربة أخلاقية مقننة، لها يقينيات وثوابت خاصة، لا تقبل الرد على غيرها.

ج- أن الأخلاق النظرية ليست ممكنة إلا إذا تقاطعت مع علم العادات والأعراف (Mœurs) ولم تقع في نزاع أو تعارض معه، بل إلا إن أكمل أحدهما الآخر.

3- مفهوم القيم الأخلاقية:

غالبا ما تستعمل كلمة “قيمة في مجال الاقتصاد؛ بحيث إذا تضاف القيمة إلى السلعة، فيحوز حينها الشيء إما على قيمة الاستعمال، أو قيمة التبادل، ثم تأخذ هذه القيمة شكلا ماديا مجسدا. لكن القيمة لا تكون دائما مادية، بل تتخذ أشكالا معنوية مختلفة؛ كالقيمة الجمالية لعمل فني، أو القيمة العقلية لنظرية ما، أو القيمة الأخلاقية لسلوك ما أو موقف ما، أو اختبار ما. فما الذي نقصده بالقيم الأخلاقية؟

يعرف تيودول ريبو[19] القيمة فيقول: “إن قيمة الشيء هي قدرته على إثارة الرغبة، وإن القيمة تتناسب مع قوة الرغبة”[20]. ويؤكد هذا التعريف عالم الاقتصاد الفرنسي شارل جيد[21]. حين يقول: “يجب أن نتصور القيمة على أنها إضاءة الأشياء تحت الشعاع الملقى من رغبتنا”[22]

وقد نسبت القيم إلى الأخلاق بشكل مفرط، عند المدافعين عن أخلاق الموضوع (Ethique matérielle)، إبان الثلث الأول من القرن العشرين، خاصة مع ماكس شيلر (Max sheller)، وروني لوسين (René Le senne)، ولويس لافيل (Louis lavelle). ويذهب هؤلاء إلى أن القيمة تشكل موضوعا للميول والرغبات والتقديرات، وهي مستقلة تماما عن الموجودات، كما أنها تتأسس في أحكامها على الانفعالات؛ أي أن التقدير مرده إلى الانفعال ولا دخل للعقل فيه. فالقيمة في نظرهم هي مَثَلٌ أعلى وسَوْرَة Elan”من الإنسان نحو غايات يصنعها هو بحرية، وأن القيم تجد أسسها النهائية في الحرية اللامتناهية للإنسان، والتي تتجلى في الفعل الذي يصنع به الإنسان غاياته وتتأكد به. وفي هذا السياق يعرف دومينيك بارودي (Dominique Parodi) القيمة كما يلي: “القيمة هي ناتج حكم تقديري؛ إنها تؤكد القابل للرغبة القابل لأن يكون موضوع رغبة (Le désirable) مقابل المرغوب فيه (Le désiré). فهي إذن أكثر من ذلك البريق الذي يصحب العقل ويوجهه أثناء الوقت الذي يتم فيه؛ إنها فكرة بالمعنى الحقيقي، وهي فكرة عملية من غير شك، أي أنّها تشير إلى فعل مقبل، ولكنه فعل متميز في تحقيقه: وسبب للفعل الذي سينجر، يفسره أو يبرره، ويسبقه ويبقى من بعده؛ إنها قانون لنوع خاص من الفعل. ولهذا فإنه في مستوى التأمل والروية، وفي وضع برنامج أو خطة للسلوك تتدخل حقا فكرة القيمة[23].

يتبين إذن من هذا التعريف، أن القيمة تولد في رحم التقدير أي الحكم التقديري. ولئن كانت في أصلها انفعالية، فإن بريقها يؤثر في العقل ويوجهه، ويحولها من داخله إلى فكرة عملية. وهكذا تصبح القيمة دافعا إلى الفعل وسببا مباشرا من أسبابه. فالقيمة بوصفها حكما تقديري تصبح رغبة، والرغبة تتحول إلى فكرة، وهي بدورها تنجز سلوكا. لكن الأمر ليس بكل هذه البساطة، خاصة إن استحضرنا أن أحكامنا التقييمية، ذات طابع شخصي وذاتي، وأنها تتوقف على أفعال التفضيل، أي أن القيم ليست سواء، بل هي متفاوتة من حيث الدرجة والخصائص، وفي هذا الصدد، يميز لويس لافيل بين ثلاثة أصناف من القيم، هي:

“أ- قيم الإنسان في العالم: وهي القيم الاقتصادية (Valeurs économiques)، ثم القيم العاطفية (Valeur affectives).

ب- قيم الإنسان تجاه العالم: هنا يميز بين نوعين من القيم: قيـــم عقليــة (Valeurs intellectuelles) متعلقة بالمعرفة، وقيم جمالية (Valeurs esthétiques).

ج-قيم الإنسان فوق العالم وتشمل: القيم الأخلاقية التي تتضمن الفعل في الواقع الموضوعي، وتحويل العالم المادي، ثم القيم الروحية أو الدينية؛ وعنها يقول لافيل “إنّها لا غاية لها سوى التقدم الخالص للشعور في علاقته بالله”[24].

أما لوسين فيرى أن هناك خصائص أساسية للقيم، وهي:

–أنها ذات علاقة بالمطلق (L’absolu)

–  أنها ذات وحدة من جهة، ولا نهائية من جهة ثانية. ويتجلى ذلك في تجربتنا من خلال كثرة القيم ذات الطابع الإنساني.

– إن الإنسان يشارك في صياغة المطلق والقيمة المطلقة.

– كل قيمة هي علاقة بين ينبوع عال، هو المطلق في ذاته، الذي لا يدرك في كمال فيضه، وبين محايثة (Immanence) هي القيمة الجزئية التي يستشعرها الفرد في موقف تاريخي معين.

– يجب ألا نفهم من وحدة القيم أنها سلسلة تدرجية ذات اتجاه واحد من القيم المحددة المتميزة بعضها من بعض والتي يخضع بعضها لبعض، بل ينبغي أن نفهم هذه الوحدة على أنها لون من وحدة الإشعاع: فالقيمة المطلقة هي في مركز القيم، وعنها تصدر القيم الأخرى، كالأشعة الصادرة عن بؤرة مولدة للنور والحرارة”[25].

والذي يهم الأخلاقي من كل هذه القيم هو القيمة الأخلاقية، والتي ينبغي له أن يَعرف مكانتها ودرجتها بين القيم. لذلك يدعو لوسين إلى حسن توظيفها حيث يقول: “ليست القيمة الأخلاقية هي القيمة المطلقة، وإنما هي قيمة محددة، متميزة من سائر أنواع القيم، ولا يحق لها أن تحل محل غيرها من القيم. وليس من حقها أن تفرض عدم الاحترام نحو الحق، وهو القيمة العقلية، ولا الازدراء نحو الجمال، الذي هو القيمة الفنية ولا الاستخفاف بالمحبة، التي هي القيمة الدينية. إن كل قيمة من هذه القيم تعبير عن القيمة المطلقة (…) والقيمة الأخلاقية هي قيمة الأنا بوصفه إرادة. ويمكن تعريفها بأنها ما يجب فعله (Le devoir-faire) إنها قيمة التحديد المثالي وهي قيمة الفعل “[26].

يؤكد لوسين أن القيمة الأخلاقية، تشكل حلقة في منظومة القيم، التي كلها تنهال من القيمة المطلقة، كما لكل قيمة وظيفتها ومجالها. والخطأ الذي قد يقع فيه المرء، هو تعيير الفن أو الحق أو المحبة…، بمعايير أخلاقية. فهذا لا يجوز في نظره، لأن تقييم كل مجال يتم وفق معاييره ومقاييسه أي وفق قيمه. فحسب لوسين ليس من مهمة الأخلاقي أن يحدد للفنان ما يجب فعله؛ فما يجب فعله فنيا هو من وظيفة القيم الفنية. لكن السؤال الذي يعترضنا، ونحن نسلم بمنظومة من القيم، بعضها فوق بعض، هو كيف ندرك سمو قيمة على أخرى، أو كيف نتمكن من تفضيل هذه على تلك؛ فهل مثلا قيمة المعرفة أفضل من قيمة الحب؟

يرى ماكس شيلر، أننا أمام مملكة من القيم، تنتظم في ترتيب تصاعدي (Hiérarchie) بفضله تكون قيمة ما أسمى من قيمة أو أحط منها، وهذا التمييز راجع إلى الخصائص التالية:

الخاصية الأولى: تفضيل القيمة الدائمة على القيمة العابرة. وهذا المعيار وقعت فريسة له كل الأخلاق القائمة على وحدة الوجود، والتي تصورت الدوام أنه مدة زمنية. وفي ظل هذا الوهم، نشأت حكمة داعت بين الأمم من قبيل:” لا تتعلق بما هو فان“. و سبينوزا نفسه وقع في وهم هذا التصور، حين قال في مطلع كتابه رسالة في إصلاح العقل، في الفقرة الأولى: “بعدما علمتني التجربة أن أكثر صروف الدهر تواترا في حياة الإنسان إنما هي في معظمها تافهة باطلة، وبعدما اتضح لي أن الأشياء التي كانت في نظري موضوعا للخشية أو سببا من أسباب الخوف لا تنطوي في ذاتها لا على الخير ولا على الشر (…) عقدت العزم أخيرا على البحث فيما إذا كان يوجد شيء يكون خيرا حقيقيا قابلا للتوصيل، تزهد النفس فيما عداه، ولا تتأثر بسواه، بحيث يجعلها اكتشاف هذا الخير وامتلاكه مبتهجة “أبدا” أعظم ابتهاج (…) إنه من العبث أن يتنازل المرء عن الثابت في سبيل ما لم يثبت بعد (…) لقد بدا لي أنني كنت أريد التفريط في خير ثابت”[27]. غير الثابت في نظر سبينوزا هو “المجد” و”الثراء” و”اللذة” والثابت عنده هو السعادة والفرح. فالسؤال عند سبينوزا ليس ” ماذا يجب أن أفعل؟” ولكن “ماذا يجب أن أفعل كي أفوز بالسعادة؟” فعلم الأخلاق حسب سبينوزا، مطلوب منه أن يقود بالتدرج صوب الخير الأعظم. فأخلاق السعادة وفلسفة الفرح تٌعلم الإنسان كيف يضمن لنفسه أكبر عدد من انفعالات الفرح وأقل عدد من انفعالات الحزن. هكذا يتبين لنا أن سبينوزا يتفق مع شيلر في وجود قيمة أسمى من أخرى وفي أن هناك قيم دائمة وقيما عابرة. لكن ما دلالة الدوام والعبور، هل هو الزمن الفيزيائي أو هو شيء آخر؟

– الخاصية الثانية: يرى شيلر أن القيم المادية تكون أسمى كلما كانت أقل قبولا للقسمة، أي حين لا يتقاسمها عدد كبير من الناس. في حين أن القيم الروحية والجمالية وقيم الحق تكون أسمى عندما تكون قابلة للقسمة ويتشارك فيها أقصى عدد من الناس.

– الخاصية الثالثة: القيمة الأسمى هي القيمة التي تحقق أقصى درجات الإشباع ولا يعني الإشباع للذة، وإنما الشعور بالامتلاء.

ثم بعد التصنيف الأول القائم على الثبات والتغير والقرب والبعد من القيمة المطلقة، يطلق ماكس شيلر تصنيفا آخر للقيم يرتبط بالموضوع محل القيمة وفيه يصنف القيم على النحو التالي:

– قيم الشخصية وقيم الأشياء.

– قيم الذات وقيم الآخر (الآخر قد يكون ذوات كما قد يكون أشياء)

– قيم الفعل، وقيم الوظيفة، وقيم رد الفعل (الفعل كالمعرفة والحب، الوظيفة كالسمع والبصر والإدراك، وردود الفعل مثل التعاطف والانتقام….)

– قيم حال النفس وقيم السلوك، وقيم النجاح.

– قيم القصد وقيم الحال. (Valeurs devisée intentionnelles)

– قيم الأساس وقيم الشكل وقيم العلاقة.

– القيم الفردية والقيم الجماعية.

– القيم بذاتها والقيم بالتبعية.

وقد يتساءل القارئ، لماذا كل هذا الحشو والإطناب في الحديث عن القيمة، ألا يكفي أن نعرفها ونقف عند بعض خصائصها، فلماذا كل هذه التفريعات والتفصيلات؟ إن البسط لكل هذه التعريفات مقصود في ذاته، ذلك أن كل السجالات التي تطرح في القضايا الأخلاقية، خاصة منها المعاصرة، قد لا تكون واعية بهذه المستويات والدرجات والخصائص القيمية، وعند حصول نقاش في الفضاء العمومي، يستحيل معه التوافق (Consensus)أو التسوية المؤقتة (Compromis)، لأن كيفية تقييم القضية لا يكون على درجة واحدة أو مستوى واحد أو من خلال خاصية موحدة. فهناك من يٌقَيم من خلال الملاءمة، وآخر يقيم من خلال الأحوال القائمة على الفعل والوظيفة وردود الفعل. وطرف ثالث يقيم من خلال مبدأ القيم الروحية بتشعباتها المعرفية والفنية والقانونية والدينية. فلا يمكن مثلا، أن نقنع شخصا متشبعا بقيم القداسة، أن فعله غير ملائم لوضع ما (تقديس علماء ذرة هنود للبقر). وبهذا تكون اليقظة المنهجية والمعرفية بسلم القيم ضرورية في اختيار درجة ومستوى القيمة التي يمكن أن تسمح بالاختلاف، ومن ثم المناقشة. وهذا ما تدعو إليه أخلاق التواصل عند يورغن هبرماس[28].

لكن، بعيدا عن البراديغم السابق الذي يسلم بنظام القيم، ولا يختلف أصحابه إلا من حيث التصنيف والترتيب والأولويات والمدخلات والمخرجات، ينتصب الفيلسوف فريدريك نيتشه*، ليطرح سؤالا جوهريا: من الذي يضع القيم؟ هل هو الإنسان؟ أم هي سلطة خارج الإنسان؟ ثم كيف تتحدد القيم الأخلاقية: الخير والشر؟ ثم هل ثمة قيم أخلاقية واحدة؟ يدعونا فريدريك نيتشه في كتابه “جينا لوجيا الأخلاق” إلى التمعن في كلمة “خير”، لأن النظر فيها سيقودنا إلى أن ما نعتبره خيرا هو كل ما يصدر عن الأخيار. والأخيار هم الأقوياء والأعلون والنبلاء، أصحاب النفوس “السامية”. فكل ما ينزل من عليائهم فهو خير، وكل ما يصدر عن الدهماء والعامة هو شر. إذن فالأقوياء يصنعون قيم الخير. والبؤساء والفقراء يصنعون قيم الشر. هكذا نرى أن السادة والعبيد على حد سواء خالقون للقيم. لكن ما يصنعه السادة من قيم مخالف لما يخلقه العبيد، والأفعال التي تحوز على قيمة إيجابية عند السادة، يعزو إليها العبيد قيمة سلبية. فتاريخ الأخلاق حسب نيتشه، هو صراع بين قيم السادة وقيم العبيد، ولا يزال هذا الصراع قائما حتى اليوم، على الرغم من أن قيم العبيد قد انتصرت وأصبحت هي السائدة. فمنبع الأخلاق إذن، ليس هو الأوامر والنواهي الدينية، ولا حتى العقل الإنساني الآمر المطلق بالواجب. كما أنه ليس التجربة الأخلاقية ولا الوقائع الأخلاقية، إنه في نظر نيتشه، الطبيعة الإنسانية المنطوية في جوهرها على غريزة حب السيطرة وإرادة القوة. إذ ليست هناك أفعال أخلاقية في ذاتها، إنما هناك تفسير للأفعال الإنسانية وتقويم لها حسب طبيعة الفاعل والمُقوِم، وما تطمح إليه هذه الطبيعة من حب السيطرة وإرادة القوة. والشيء الذي يقع عليه التقييم في ذاته ليس أخلاقيا، وليس مضادا للأخلاقي، وإنما هو على الحياد.

يرى نيتشه أن كل القيم التي يصنعها العبيد، صادرة عن الكذب، في حين أن قيم السادة نابعة من الفعل. الأولى “أصنام” والثانية حقيقة؛ الأولى تحاول عبثا إنكار واقع (العجز، الفقر، العبودية…)، أما الثانية فهي تحقق واقعا (الثراء، الصحة، اللذة، المجد…). وبينما يخلق العبيد قيمهم برد فعل ضد الصعوبة والعقبة، يخلق السادة قيمهم بواسطة توكيد ذواتهم، وعدم الفصل بين السعادة والفعل. وأول أفعال السادة في ابتكارهم للقيم، هو أن يتحرروا في سبيل خلق قيم جديدة. وهذا بالضبط ما يقوله نيتشه على لسان زرادشت، حين يرمز إلى الأسد الذي يمتلك القدرة على خلق قيم جديدة لكنه لم يفعل ذلك بعد. وهذا الفعل أي التغيير، فعل شرس يحتاج إلى ذات شرسة قوية شأنها شأن الأسد. أما العبيد الذين فقدوا العالم، فإنهم يصنعون لأنفسهم عالما وهميا. وبينما يصنع العبيد المثل العليا للفرار من الواقع، يقول السادة للحياة الواقعية: أقبلي! من هذا الوهم -حسب نيتشه- تصدر عند العبيد جملة من القيم الزائفة، فقد اخترعوا فكرة الروح لازدراء الجسد، وفكرة المقدس للحطّ من المدنس الدنيوي، وأحلوا محل صحة الجسد، صحة الروح، ومحل حياة الرفاه، الزهد والتجرد.

هكذا، يعصف نيتشه بكل الأسس القبلية للقيم، سواء كانت دينية أم عقلية. فالمبادئ والقواعد الأخلاقية والقيم المبنية عليها، هي تيه فكري وضلال معرفي، إن لم تُرجع نَسَبَ الأخلاق إلى طبيعة الإنسان. وعلى رأس هذه الطبيعة الغرائز عامة، وغريزة الإرادة والقوة خاصة. فالقيم الأخلاقية، ما هي إلا حصاد لصراع بين فئة قبلت العجز واستسلمت له، وفئة تحررت وصنعت لنفسها واقعا جديدا وقيما جديدة. وعلى هذا النحو تستمر صيرورة القيم.

وفي ختام هذا المحور، نذكر أن القيمة الأخلاقية، هي حكم تقديري، قد يكون منبعه الرغبة أو أفعال التفضيل. وبناء على تفاوت الرغبات وتباين أفعال التفضيل، تتفاوت درجات القيم. ولكي ننجح في الاختيار، لابد أن نتعرف خصائص القيم وأنواعها. وإذا كان الفعل الأخلاقي منصب على “ما يجب فعله”، فإننا دائما ما نجد أنفسنا أمام اختيارات متعددة، ونكون مضطرين إلى التفضيل بين هذه الأفعال حسب قيمتها. وهذا بدوره يدفعنا حتما إلى ترتيب القيم من حيث سموها، إما على أساس دوامها، أو درجة الإشباع فيها أو انتمائها (روحية – مادية). ولئن كانت ثمة فائدة لهذا كله، فإنها تتمثل في استثمار كل هذا البناء المعرفي، للبتّ في القضايا الأخلاقية المعاصرة. والمؤكد أن المدخل الأساسي لإصلاح منظومة القيم الأخلاقية، لم يتم إلا عبر تحرير الإنسان من كل أشكال البؤس والعجز والمرض والفقر والعبودية، ولن يتم بغير ذلك، لأن من شأن تمكين الجميع من حرية الإرادة، أن يجعلنا ننظر إلى القيم على درجة واحدة ومستوى واحد وبإيقاع واحد، ومن أجل غايات واحدة. صحيح أن الاختلاف القائم في منظومة القيم المختلة، مرده بالأساس إلى تباين الإرادات، فبينما تناقش الدول المتقدمة والصناعية الاستنساخ بإرادة القوي، القادر على تغيير المعطيات، نحو واقع جديد، يتحدث أفراد الدول الضعيفة الفاقدة للقدرة على هذا الفعل، عن أزمة القيم التي أوصلتنا إلى القبول بفعل كالاستنساخ. وفي الوقت الذي تتطلع فيه الدول الأولى أي القوية إلى قيم جديدة تصبو إلى مستقبل أفضل. تخيم قيم الشر والرفض على أولئك العاجزين تبريرا لحالهم وواقعهم. ولا سبيل لتحرير الإرادات، إلا بتمكين الجميع من حقهم في المعرفة ومواكبة القضايا المستجدة، وإلا فإن كيفيات التقييم ستظل مختلة تماما كما نبه إلى ذلك نيتشه!

4- مفهوم الواجب (Le devoir):

يعتبر كانط” الواجب أساس الأخلاق كلها، فالواجب هو الذي يولد الشعور بالالتزام تجاه القيم، وهو الذي يجسد السلوك المحقق للغايات، وهو الدافع إلى تنفيذ مقتضيات الأخلاق. ولكي نحدد بدقة معنى الواجب، لابد من تمييزه من بعض المفاهيم الأخرى التي قد تحدث بعض الغموض (Nuances) وهي تذكر في سياقه؛ من قَبِيل الضرورة، والالتزام، والحرية، والميول الطبيعية.

4- 1-  الواجب والضرورة:

الضروري هو ما لا يمكن أن يكون بخلاف ما هو كائن. وقابله الممكن Contingent وهو ما يصح أن يكون وألا يكون. والضرورة إما تأخذ طابعا فيزيائيا مثل ضرورة غليان المادة في الدرجة 100C° أو ضرورة تمدد المعادن بالحرارة. كما قد تأخذ وجها منطقيا كضرورة عدم التناقض.

أما الواجب فهو مفهوم أخلاقي لا علاقة له بالضرورة الميتافيزيقية أو الفيزيائية، إنه الحرية التي تلزم نفسها بقيم وأفعال معلومة. ومن هنا قيل إن الواجب التزام تقوم به ذات حرة. ولهذا السبب قد يستعمل الواجب رديفا للالتزام Engagement. فالالتزام هو الوجه الباطني والشعوري للواجب، في حين أن الواجب هو التجسيد العيني لهذا الشعور.

4- 2- الواجب والحرية:

الواجب وإن كان ملزما من الناحية الأخلاقية، فإنه يؤكد على بقاء الإنسان حرا. فالالتزام وإن كان يقلص من مجال الاختيار، فإنه ينبع من إرادة حرة، هي التي شرعت لنفسها هذا الالتزام، كما أنها هي التي قررت بنفسها أداء الواجب. فالالتزام ليس مفروضا من الخارج عن طريق القوانين، بل هو نابع من العقل المحض. وفي هذا يقول إيمانويل كانط: “إن فكرة الواجب لا يمكن أن تفترض أي قسر غير ذلك الذي يمارسه الإنسان على نفسه بنفسه في التحديد الباطن للإرادة[29].

بل إن كانط ينزع نزوعا إلى أن الواجب أو ما يسميه الأمر المطلق لا يكون ممكنا إلا بالحرية. لذلك تجده يخاطب الواجب مسائلا إياه: “أيها الواجب! أين نجد جذر جذعك النبيل؟ إنه لا يمكن أن يكون إلا ما يرفع الإنسان فوق نفسه، بوصفه جزءا من العالم المحسوس. وما يربط بينه وبين نظام الأشياء لا يمكن أن يفهمه غير العقل، وفي نفس الوقت يهيمن على كل العالم المحسوس ومعه على الوجود، المحدد تجريبيا، الخاص بالإنسان في الزمان، وعلى مجموع الغايات…، إنه ليس شيئا آخر غير شخصيته، أعني حريته؛ والاستغلال تجاه آلية الطبيعة كلها… فلا عجب أن على الإنسان وهو ينتسب إلى هذين العالمين، أن يعتبر وجوده الخاص من حيث نسبته إلى تحديده الثاني والأعلى، أن يعتبره بالتوقير، وأن يبذل أكبر احترام للقوانين التي يخضع لها في هذه الحالة”[30]. يؤكد كانط من خلال هذا النص أن الإرادة تندرج تحت العلية. وهذه الأخيرة صنفان علية طبيعية أي العلية بالضرورة، والعلية بالحرية؛ وهي علية خاصة بالكائنات العاقلة. فإرادة الإنسان تفعل دون أن تتحكم في فعلها علل خارجية أجنبية. أما الكائنات غير العاقلة فهي تفعل تحت تأثير علل الضرورة الطبيعية. لهذا فإرادة الإنسان تلتزم بالواجب بإرادة حرة، وعِلِية فعلها هي الحرية.

لكن جون ماري غويو (1888-1854) يعارض موقف كانط القائل: “يجب علي إذن أستطيع” بقوله “أستطيع إذن يجب علي”[31].

إن غويو يطلب من الإنسان أن ينطلق مع فيض الحياة، دون أن يتقيد بقيود الواجب والإلزام، لأنها تقلص الحياة وتُنضب عينها الدّافقة. والواجب عنده هو الشعور بنوع من القوة الباطنة بطبيعتنا العالية على سائر القوى. إن الواجب حسب غويوهو زيادة فيض الحياة التي تريد أن تمارس طاقتها وأن تبذل نفسها؛ ولقد بولغ في تفسيره، حتى الآن بأنه شعور بالضرورة أو القسر؛ ولكنه قبل كل شيء شعور بالقوة[32].

أما نيتشه فإنه يرى أن عبارة “يجب عليك” تسد الطريق أمام الإبداع والابتكار. وعلى الإنسان أن يستبدلها بعبارة “أريد…..”، فالإنسان في نظره بحاجة إلى أن يتحرر، حتى يكون بمقدوره أن يخلق قيما جديدة[33]. إن ما يخشاه نيتشه هو أن يصبح الواجب عقبة كأداء تحول دون حرية خلق قيم جديدة.

4- 3- الواجب والميول الطبيعية:

إن تمييز كانط بين الواجب والميول الطبيعية، هو تعبير عن نزعته العقلية التي تنشد ميتافيزيقا أخلاق مُؤسسة في العقل المحض، وصالحة لكل كائن عاقل، بغض النظر عن الميول الحسية. إن هذا التشدد لا يقوم على اتّهام الميول بأنها شريرة؛ بل يقوم على رفض صلاحيتها لأن تكون قواعد للإرادة ومبادئ للأخلاق. إنه لا يدين المشاعر الطيبة ولا يستهجن لذة العمل الصالح. لكنه يرفض أن تقوم هذه المشاعر بتزويد الإرادة بقواعدها المقررة. إن كانط يريد من القانون الأخلاقي أن يكون عقليا محضا، أي خاليا من كل شوائب الدوافع والميول، لأن هذه تفسد صفاء القانون العقلي وسموه وقوته، كما يفسد أي عنصر تجريبي، مهما ضؤل، قوة البرهان الرياضي وقمّته إذا دخل فيه. إن كانط يمضي أبعد من ذلك، إذ لا يقتصر على توكيد استقلال القانون الأخلاقي عن العواطف والدوافع والميول، بل استقلاله عن كل توجيه خاص يكون من شأن العقل الإنساني، بحيث يصلح القانون الأخلاقي لكل الكائنات العاقلة بوجه عام. فالمشكلة التي تهم كانط هي مشكلة أساس الأخلاق. ورأيه هو أن الأخلاق لا يمكن أن تُؤَسس على الحساسية الانفعالية. وعنده أن كل ميولاتنا حسية. وفكرة السعادة ليست فكرة عقلية محضة. إنها مَثل أعلى من إبداع الخيال، وليست من صنع العقل. إنها تصنع كلا مطلقا لإرضاء الميول؛ إننا نود جميعا حسب كانط أن نكون سعداء، لأننا ببساطة لا نستطيع أن نحدد ماذا نريد. إن الميل إلى السعادة مغروز بالضرورة في طبيعة كل كائن عاقل متناه. ومادام الواجب مخالف للضرورة، فإنه بالتعدي سيكون مخالفا للسعادة أي مخالفا للميول الطبيعية. وبناء على ذلك، فإن كانط يستبعد صفة “الأخلاقية” عن كل فعل يصدر عن الميل. ويؤكد أن الفعل إذا كان دافعه هو الميل فهو ليس فعلا أخلاقيا. يقول كانط: “إن الواجب هو نوع من القسر الذي يمارسه الإنسان ضد ميوله الطبيعية في سبيل تحقيق غاية أخلاقية[34]. أما لوسين (Le senne) فيضع الواجب مقابل الوجود حيث يقول: “الواجب هو ما ليس بعد، أما الوجود – بما هو وجود – فهو الذي يقضي على الواجب بتحقيقه[35]. فهنا تقابل بين ما يجب أن يكون، وبين ما هو كائن. وحين يتحقق ما يجب أن يكون، فقد صار كائنا ووجودا، ولم يعد بعد واجبا. وفي نفس المعنى يقول جون نابير: “لابد أن يقهر الواجب وجودنا الواقعي، كي لا نستطيع أن نؤكد بأن تفضيلاتنا ليست ردود فعل طبيعية معلومة[36].

4- 4- أنواع الواجبات وأوجه التنازع بينها:

أ. أقسام الواجبات من حيث الشكل:

*  واجبات إيجابية، هي الأوامر التي تفرض الالتزام بفعل شيء ما.

* واجبات سلبية، ويقصد بها النواهي أو أفعال النهي والترك.

ب. أقسام الواجب من حيث العلاقة مع الذوات:

* واجبات تجاه الإله.

* واجبات تجاه الآخر (كائنات عاقلة وغير عاقلة).

* واجبات تجاه الذات أو النفس.

وبين هذه الواجبات الثلاث والقيم المرتبطة بها يقع تنازع وتعارض دائم ومستمر؛ حيث تحضر أفعال التفضيل لتقرير الأولويات والحسم في الاختيار.

ج. واجبات قانونية:

وهي واجبات وضعية، ويترتب على عدم القيام بها عقوبات مادية وأحيانا يفرض القيام بها بالقوة والسلطة القاهرة. وهذا ما يميزها عن الواجب الأخلاقي الذي لا يتضمن أي قهر أو تنفيذ بالقوة، كما لا يترتب على عدم القيام به أو الوفاء به أي عقاب مادي.

د. أقسام الواجب من حيث الالتزام:

* واجبات العدالة، وهي تقوم على قاعدتين “لا تسئ إلى أحد” و”أعط لكل إنسان ما هو له”. ولهذا كانت العدالة هنا قانونية تلتزم بحرفية القانون.

* واجبات الإنصاف، هي واجبات تقوم على الإحسان والروح الإنسانية وتتجاوز حرفية القانون إلى تجسيد روحه، وتصحيح مساره النصي البعيد عن الغايات المرجوة. فواجب الإنصاف يستدعي توسيع النظرة ومراعاة الظروف كذلك. يقول فيكتور هوغو “لا شيء يستحق أن يكون فوق العدالة غير الإنصاف”. وقد تتعارض العدالة مع الإنصاف في كثير من الأحيان كأن يخلف فقير وعده في رد الدين لظروف قاهرة، فبينما العدالة تقضي بتطبيق القوانين عليه، يدعو الإنصاف إلى تخفيض ديونه وتأجيلها أو إسقاطها.

4- 5- مصدر الواجب ومنابعه:

برهن كانط على أن مصدر الواجب هو “العقل العملي”، الذي يتميز بالأسبقية على التجربة والتربية (A priori). لكن أنصار التحليل النفسي وعلى رأسهم سيغموند فرويد، يرون في الواجب انعكاسا للأنا الأعلى “Le surmoi” الذي يتكون جراء ما تُخَلفه تربية الآباء والمربين عند الطفل. فهؤلاء هم الذين غرسوا في نفس هذا الطفل الشعور بالواجب، وعززوا هذا الشعور بأنواع العقاب المادي (الضرب)، والمعنوي (الازدراء). ثم بعد مرحلة الطفولة التي خيم عليها الخوف من العقاب، يستمر الأنا الأعلى في تضخمه تحت ضغط المجتمع والأعراف والعادات والتقاليد، لهذا فإن أنصار التحليل النفسي، لا يرون في المذاهب الأخلاقية القائمة على الواجب، سوى استمرار للأنا الأعلى الطفولي، بغض النظر عن ذلك الغطاء العقلي الذي يحاول عبثا أصحاب هذه المذاهب أن يضفوه على مذاهبهم. وبناء على ذلك يفسر أصحاب التحليل النفسي أخلاق الواجب بأنها استمرار لفعل الأنا الأعلى ذي النزعة القاهرة (Sadique)، والتي تنتج متزمتين وموسوسين (Les scrupuleux et les obsédés) يبالغون في التشدد الخلقي إلى درجة الهوس والعصابية.

أما الأخلاقيون من ذوي النزعة اللاهوتية، فإنهم يربطون بين الواجب والمحبة وهذا ما نص عليه القديس بولس في رسالته إلى أهل روما حين قال: “إن المحبة هي أداء الشريعة (الفصل 13العبارة 10). فالمؤمن يرى في أوامر الشريعة تحقيقا لناموس المحبة. وهذا ما يعززه أندري مارك بقوله: “إن ما يجب علينا هو ما نريده، وما نحبه. لكن هذه الإرادة وهذه المحبة تتخذان شكل الالتزام (…) إن الواجب يشير في الحياة الأخلاقية إلى حال النقص، وهو حال المبتدئين أو المتقدمين، وكلما ساد حب الخير في الشخص امّحى الشعور بالقسر، مخليا المكان رويدا رويدا للشعور بالاستقلال الذاتي والتلقائية الروحية المتزايدَيْن. وفي حال الكمال الذي نصير إليه (…) سيختفي كل شعور بالقسر، وستسود المحبة سيادة مطلقة. إن الواجب ما هو إلا حيلة تستخدمها المحبة، ابتغاء الوصول إلى هذا الوضع”[37].

ثم يدعم هانز ماير ما ذهب إليه أندري مارك، حيث يقول: “ينبغي ألا نغفل عن هذه الحقيقة وهي أنه ليس أداء الواجب بمعنى مراعاة القانون، بل العمل الباطن لطبيعتنا الإنسانية هو واجبنا. إن كانط يفرغ الحياة الإنسانية ويعريها من قداستها. إن المحبة أعلى من مبدأ الواجب. وكبار معلمي الإنسانية الدينيين الأخلاقيين مثل يسوع وبوذا وكونفوشيوس ولاوتسيه لم يسلكوا مسالكهم أداء للواجب. وتصور القديس فرنشسكو الأسيزي وفانسان دي بول يعملان وفقا للأمر المطلق سيكون نوعا من التجذيف. لقد أعوزت كانط النظرة إلى ملاء الحياة الفعالة وإلى عمق الإنسان، ولهذا أعوزه ما تعنيه المسيحية بالفداء”[38].

وفي ختام هذا المحور، نستخلص الغموض الذي يحيط بمفهوم الواجب، سواء في تداخل معناه مع معاني الضرورة والحرية والميول، وصعوبة تمييزه منها. أو سواء تعلق الأمر بأقسامه التي تتفرع من حيث الشكل والموضوع. ناهيك عن الإشكال العميق الذي يثار حول مصدر الواجب، والذي يلقي بتبعاته حتما على التواصل الأخلاقي، إذ يصعب الإجماع بين الأخلاقيين حول الواجب فعلا أخلاقيا من عدمه، ناهيك أن السياق لا يسمح لنا ببسط وجوه الاختلاف العميقة بين فلسفة الأخلاق في الفكر الغربي، وفلسفة الأخلاق في التراث الإسلامي، خاصة حين يُقَسم الأصوليون الفعل إلى: واجب، ومندوب، وحرام، ومكروه، ومباح. وحين يعتمدون مبدأ الرخصة والعزيمة، وغيرها من القواعد الكلية، التي تحتاج منا بحثا مستقلا.

5- مفهوم الفضيلة:

الفضيلة في السياق اليوناني، تعني الأمثل والأجود والأحسن، وهي توخي المثال والكمال أيا كان موقع الفرد، وأيا كانت ظروفه. أما في اللاتينية، فهي مأخوذة من كلمة Virus” أي رجل، وهي بذلك تعني الرجولة والقوة والشجاعة. ومع توسع استعمالاتها في اللغات الأوروبية الحديثة، أصبحت تدل على القوة والفضل والتفوق في الأخلاق؛ ومنه قول الإنجليز In Virtue of Law”أي بقوة القانون. والأمر مطابق في اللغة العربية حين تقول “بفضل كذا” أي بقوة كذا. وقد وردت عدة تعريفات للفضيلة تصب مجملها في كونها “الاستعداد الراسخ لإنجاز نوع معين من الأفعال الأخلاقية، أو أنها الاستعداد الراسخ لإرادة الخير والتعود على فعل الخير”. ويعرف فولكيه الفضيلة بأنها: ” العادة التي بها تتمثل الإرادة للخير: فهي تشارك العلة في هاتين الخاصيتين الأساسيتين: أنها مكتسبة بالممارسة وبذلك تتميز عن الطبيعة؛ كما أنها تتضمن الاستمرار وتتجلى في كل الحياة”[39]. والكثير من الفلاسفة، بل ومعظمهم، يتفق مع فولكيه، في كون الفضيلة مكتسبة وليست فطرية، إلا إذا كنا نختزلها في الأطر العقلية التي توجد بالقوة في العقل العملي. والفضيلة مكتسبة على ضوء العقل، فالأصل فيها هو فهم النظام الأخلاقي وشروطه المطلقة. وهي متعلقة أساسا بالإرادة، لأن منشأها هو الأفعال الإرادية. ومن فرط تعويد إرادتنا على الأفعال الفاضلة، تكتسب الفضيلة قوّة لتصبح عادة وأصلا في فعل الشخص الفاضل. فإذا رجعنا إلى أرسطو، وجدناه يحدد جنس الفضيلة في “الحالة الاعتيادية”، كما يحدد نوعها في الوسط والاعتدال. فينجم عن الحالة الاعتيادية الثبات والعصمة في الأفعال، بعدما خضعت للعقل والروية، وهو ما يعني ضبط النفس الشهوانية. إن استقامة النية، أي دافع الفعل، أمر حاسم في أخلاق الفضيلة. لأن استقامة النية أو الدافع هو الذي يجعلنا نقوم بالفضيلة لذاتها. فقد يصمد الشخص في القتال من أجل النياشين والتشريفات، أو لِحَمِيّة في المزاج، لكن هذا لا يمنحه فضيلة الشجاعة. ولن ينال أي امرئ هذه الفضيلة، إلا حينما يصمد من أجل الصمود ذاته، وقس على ذلك كل الفضائل. وهذا التحليل يعود بنا إلى مفهوم الواجب عند كانط. فإن عوضنا الفضيلة بالواجب ما تغير المراد المتمثل في فعل الشيء لذاته.

5- 1- الفضائل لا الإلزامات:

يعيب توماس وول على علم الأخلاق تركيزه على صياغة المبادئ والقواعد والدعوة إلى إلزامها، ويهمل طرح بدائل لصناعة الشخصية الصالحة وتطويرها. وهذا في رأي وول ما يمنح الامتياز والقوة لعلم أخلاق الفضيلة، خاصّة أنها تركز على ما هو خير أخلاقيا، وليس ما هو صائب. قد يكون القيام بما هو صائب جزءا مما يجعل المرء شخصا صالحا، فالمرء لا يعتبر صالحا أخلاقيا طالما أنه يقوم بسلوكيات لا أخلاقية. غير أن صلاح المرء لا يتوقف فحسب على قيامه بما هو صائب. فالشخص الصالح أو الفاضل أخلاقيا في نظر وول، هو الذي يحوز على شخصية أخلاقية صالحة. والشخصية الأخلاقية الصالحة تتكون من عادات أخلاقية فاضلة، أو فضائل. يمكن اعتبار الفضائل نزوعا أو ميولا شطر السلوك بطرق محددة ومقبولة أخلاقيا. الصدق مثلا فضيلة أخلاقية، إن الصدق هو النزوع إلى قول الحق. وفي المقابل فإن الخداع رذيلة، تجسد عادة الكذب. ثمة أنواع أخرى من الفضائل، تصاحب الفضائل الأخلاقية؛ فالصبر مثلا يعد فضيلة فيما يقال لنا، لكنه ليس فضيلة أخلاقية. لنا أيضا أن نتحدث عن الفضائل الذهنية، مثال عادات المذاكرة الجيدة، والرغبة في العثور على الحقيقة. يمكن اعتبار الفضائل عادات أو مهارات تشترط تحقيق غاية بعينها، تتمثل في تربية شخص صالح. ونقتصر -ونحن نحلل كتاب توماس وول- على دراسة الفضائل الأخلاقية دون غيرها من الفضائل الأخرى.

ينبه توماس وول منذ الوهلة الأولى، إلى ضرورة التمييز بين الفضائل والقواعد الأخلاقية، حيث يقول:

“يبدو لأول وهلة، أن الحديث عن الفضائل مجرد طريقة أخرى في الحديث عن القواعد. مثال ذلك أن فضيلة الصدق تبدو مجرد العيش وفق قاعدة “لا تكذب”[40].  ثم يتساءل وول، ما الفرق الكبير إذن بين علم أخلاق الفضيلة وعلم الأخلاق المؤسس على المبادئ؟ يقر وول، أن هناك فروقا كثيرة تطبع هاتين المقاربتين في علم الأخلاق. ويرى أنه من المفيد لفهم علم أخلاق الفضيلة أن نتتبع مواطن الاختلاف التي تميزه عن علم الأخلاق والمبادئ والإلزامات. فعلى الرغم من أنهما يبدوان على السطح متشابهين تماما، فإنهما يشكلان طريقين مختلفين اختلافا بيّنا في التفكير الأخلاقي. وهو ما يدعونا إلى تركيز نظرنا في ثلاثة وجوه أساسية يختلف فيها المذهبان:

الوجه الأول: يمتلك عِلم أخلاق الفضيلة الكثير ليقوله عن دوافع السلوك. فعلم الأخلاق يُعنى بما يجعل الناس صالحين، وهذا مكمن “خيرية”أفعالنا (Goodness)؛ إنها تكمن في أسباب أو دوافع السلوك. وهذا لا يعني أن الذين يؤكدون على نظريات الإلزام ليس لديهم ما يقولونه عن الدوافع، لكن مثل هذه النقاشات تتبوأ منزلة مركزية في علم أخلاق الفضيلة.في هذا العلم، عادة ما تعتبر عناية المرء برفاهيته ورفاهية الآخرين أفضل دوافع السلوك. يختلف هذا كثيرا عن مفهوم كانط في الدافعية. عنده الدافع المناسب الوحيد للفعل الأخلاقي هو الواجب. حين أسلك وفق الواجب أسلك وفق إملاءات العقل، بصرف النظر عن طبيعة مشاعري ورغباتي.إن تحديد الفرق بين هذين التوجهين في “الدافعية”المناسبة للفعل الأخلاقي غاية في الأهمية. لقد رأينا إلى أي حد تسلك الأم ببرودة المشاعر حين تطعم وتكسو وتؤوي أطفالها لمجرد أن الواجب يفرض عليها القيام بذلك. إنها لن تكون جديرة بالثناء، إلا حين تقوم بذلك استجابة لدافع عنايتها برفاهية أطفالها؛ أي بدافع الحب.بترسيخه فكرة أن خيري لنفسي وللآخرين يمكن أن يكون دافعا يحظى بأسبقية على الواجب، يسمح علم أخلاق الفضيلة باسترداد المشاعر والرغبات ثانية إلى الحياة الأخلاقية، رغم أنها تظل دوما تحت سيطرة العقل. وخلافا لكانط، يتيح لنا علم أخلاق الفضيلة أن نعتبر اختياراتنا الأخلاقية على أنها اختيارات أشخاص، وليس فقط اختيارات نابعة من العقل المجرد[41].

الوجه الثاني، يكمن الفرق بين مقاربتَيْ“الإلزام”و “الفضيلة”في الأهداف؛ ذلك أن هدف نظريات الإلزام يتعين في تعليمنا كيفية تحديد الفرق بين الصواب والخطأ. وهي تحقق هذا الهدف عبر تحديد قواعد ومبادئ يلزمنا اتّباعها، حتى إن لم نكن نرغب في ذلك. في المقابل يتعين هدف علم أخلاق الفضيلة في بيان كيف يكون المرء سعيدا، وكيف يحيا حياة خيرة، حياة “ازدهار بشري” (Human Flourishing) على حد تعبير أرسطو. قد يتضمن جزء من الحياة الخيرة العيش وفق إلزامات المرء الأخلاقية، غير أن علم أخلاق الفضيلة يحتاز على مفهوم أوسع بكثير للحياة الأخلاقية من ذلك الذي يقره علم أخلاق الإلزام، إنه يتركز خصوصا في تحقيق ما هو خير لنا وللآخرين، ولا يقتصر على تحديد الإلزامات المفروضة علينا إزاءهم. في علم أخلاق الفضيلة، الامتثال إلى إلزاماتنا ليس مهما بقدر إسهامه في مخطط عيش حياة أكثر خصوبة وكفاية.

الوجه الثالث، يتعين الفرق بين علمي أخلاق الفضيلة والإلزام في“مقاربة القيم”. فإذا كان الهدف من علم أخلاق الفضيلة بيان كيفية عيش حياة خيّرة وسعيدة، فإنه سيكون محتم عليه أن يشتمل على مفهوم لمَثَل هذه الحياة، أي المثال الأخلاقي. وبهذا، فلن نستطيع تحديد الفضائل الفردية التي نرغب في تطويرها إلا في ضوء مِثل هذا المثال. فالمثال الأخلاقي في هذه الحالة مفهوم عام للحياة الخيرة، بمعنى آخر مثال عام لنوع الأشخاص الذين نعتقد أنه يجب أن نكون على منوالهم إذا أردنا أن نكون سعداء حقا. وبينما تتحدث نظريات الإلزام عن شيء يبدو مشابها تماما للمثال الأخلاقي حين تتحدث عن القيم الأخلاقية، فإن هذين المفهومين يوظفان توظيفا مختلفا تماما ضمن نظريتهما الأخلاقية. ومثال ذلك، يوظف مثال المتعة عند أنصار النظرية العاقبية، من طرف ستيوارت ميل، في التمييز بين الصواب والخطأ. إذا حقق الفعل ذلك المثال، فإنه يكون صائبا؛ وخلافا لذلك يكون خاطئا. إلزاماتنا والقواعد والمبادئ التي توجهها مجرد وسائل لتحقيق حياة مثالية، هي حياة السعادة، التي تزيد إلى الحد الأقصى من الملذات وتقلل إلى الحد الأدنى من الآلام.

غير أن الفضائل في علم أخلاق الفضيلة، ليست مجرد وسائل لتحقيق حياة سعيدة. فمجموع الفضائل هو المثال الأخلاقي؛ ذلك أن عيش حياة خيرة أو سعيدة، هو العيش بطريقة فاضلة. فسمات الشخصية الفاضلة، والسلوك النابع منها، والميول والمشاعر المناسبة التي تصاحبها تعتبر خيرة في ذاتها، لأنها تشكل هي نفسها الحياة الخيرة. ليست الحياة الخيرة شيئا مختلفا عن الفضائل، تماما كما أن لعب لعبة كرة البيسبول(Baseball) بطريقة متقنة ليس سوى ضرب الكرة بطريقة جيدة، والانتشار بطريقة جيدة، والسرعة في الجري وما شابه ذلك. فهذا المجموع هو الذي يحملنا على إصدار حكم الإتقان من عدمه. وكذلك شأن السعادة أو المثال الأخلاقي، فما هو إلا مجموع الفضائل وليس شيئا آخر مختلفا عن المجموع الأخلاقي.

نستخلص إذن أنّه يجب ألا نعتبر الفضائل إلزامات أصبحت عادات، بل يجب وصفها على أنها طرق تسهم في الحياة الخيرة. وكأن الحياة الخيرة بمثابة نهر كبير، تصب فيه مجار وسواق من كل جانب. وهذه المصبات كلها هي التي تشكل مجرى النهر وقوة جريانه. إن أفضل وسيلة لفهم علم أخلاق الفضيلة هي أن نفترض أنه لا يستخدم مفهوم الإلزام. إذا كان علم الأخلاق معنيا بكيفيّة أن يصبح المرء سعيدا، وهذا شيء نريده لأنفسنا ولغيرنا، فلا معنى إذن للقول بأننا “ملزمون”لنقوم بما هو أخلاقي. فعوضا عن تحديد إلزاماتنا، يتعين هدف علم الأخلاق في إنتاج الخير والناس والسعداء؛ أناس يعيشون حياة الازدهار البشري. الفضائل هي شعاب تؤدي إلى الخير وتسهم في مثل هذه الحياة الخيرة. إذا كان لحكم “صائب”معنى من المعاني في علم أخلاق الفضيلة، فهذا المعنى يجعل لفظ “صائب”مطابق للسلوك الذي يسهم في الحياة الخيرة، في حين تعني “خطأ” السلوك غير الخير بالنسبة إلينا”[42].

لكن، هل يكفي أن نقول بأن علم أخلاق الفضيلة يُعنى بالحياة الخيرة، أم أن هذا العلم مطلوب منه أن يحدد ما الذي تعنيه حقيقة هذه الحياة؟ وهو سؤال يحتاج إلى بحث مستقل لإيفائه حقه في الإجابة.

6- الخاتمة:

تقر المقاربة المفاهيمية التي تبنينا بالاستنتاجات التالية:

  • أن الأخلاق مجموع القواعد السلوكية المقبولة في عصر ما ومن قبل جماعة بشرية ما.
  • أن الأخلاق نظرية عقلية في الخير والشر تستهدف النظر في الفاعل وليس الفعل(ديكارت).
  • أن علم الأخلاق نظرية في الخطأ والصواب تستهدف النظر في الفعل وليس الفاعل.
  • أن النظرية الأخلاقية قد تكون معيارية كما قد تكون وصفية.
  • أن الأخلاق ذات طابع فردي أما علم الأخلاق يفترض مجتمعا مكونا من كائنات أخلاقية (شيلينغ).
  • أن مصطلح Éthiqueيطلق على الأخلاقيات الوصفية والأخلاقيات التطبيقية.
  • أن مصطلح Moraleيطلق على الأخلاق القسرية المتعلقة بالإلزام والواجب(كانط).
  • أن علم الأخلاق يدل على ملكوت الحياة الأخلاقية (هيغل).
  • أن كل ما يتأسس على المبادئ والقواعد هو أخلاق، وهو لا يختلف عن اللاهوت في عمقه، فكلاهما يتأسس على منطق الأمر والنهي، سواء كان المصدر عقليا أم دينيا. أما علم الأخلاق فهووضعي طبيعي وحسي مباشر.
  • أن الأخلاق تتسم بالإطلاق والشمولية عندما تعتمد القواعد، والمبادئ القبلية.
  • أن الأخلاق تتميز بالتغير والتطور والتقدم الدينامية، عندما تعتمد على التجربة الأخلاقية المباشرة؛ أي عندما تتحول إلى وقائع عوض قواعد ومبادئ.
  • أن الواجب نوع من القسر الذي يمارسه الإنسان ضد ميوله الطبيعي في سبيل تحقيق غاية أخلاقية.
  • أن القيم الأخلاقية حكم تقديري قد يكون منبعه الرغبة أو أفعال التفضيل، وهي تختلف باختلاف المجالات والمجتمعات
  • الفضائل ليست إلزامات، إنها مثل عليا ترسم لنا الطريق نحو الخير والسعادة.

[1]– https://www.merriam-webster.com/dictionary/concept

[2]– Kant Emmanuel: La philosophie de l’histoire, Aubier – Montaigne,1947, p.129.

[3]– لالاند أندري، موسوعة لالاند الفلسفية، ترجمة خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت، ط.2 .2001، المجلد1، ص 839.

[4]– Durkheim Emil, Division du travail social; II, ch.1, P262.

[5]– Lachelier J.: Psychologie et métaphysique dans le fondement de l’induction 3ème éd., p.171.

[6]– Desccarte; discours de la méthode III, 1.

[7]– Bruhl-Levy, la morale et la science des mœurs, chapitre IV, §2.

[8]– لالاند أندري، مرجع سابق، ص 370/371.

[9]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[10]– Bruhl- Lévy: La morale et la science des mœurs, Nabupress 2013, P.144

[11]– Gurvitch George: Morale théorique et sciences des mœurs, Felix Alcan, Paris p.36.

[12]– Rauh Frédéric: L’expérience morale, édition: le bord de l’eau, Paris, 2011, P.57.

[13]– Ibid., P33. 

[14]– Rauh Fréderic: Etudes de morale, Hachette (BNF)، Paris, P.374. (édition originale 1911)

[15]– Rauh Fréderic: L’expérience morale, le bord de l’eau, Paris, 2011.p.7.

[16]– Ibid., P. 6.

[17]– Gurvitch George: Morale théorique et science des mœurs, Felix Alcan, Paris, p.136.

[18]– Ibid., p. 140.

[19]-Ribot Théodule (1839-1916)

[20]-Ribot Théodule: la logique des sentiments, L ’Harmattan, Paris 2000, p.41.

[21]– Gide Charles (1847-1932)

-[22] Gide Charles: Principe d’économie politique, Edition électronique, Québec, 20005, chap III, p257.

[23]– Parodi Dominique: La conduite humaine et les valeurs, Felix Alcan, Paris, 1993. P.10-11.

[24]– Lavelle Louis: Traité de valeurs, P.U.F, 1955, tôme II, p.294.

[25]– Le senne René: Traité de morale générale, 5éme édition, P.U.F, col : logos, Paris 1967, pp 692-700.

[26]– Ibid., 698

[27]– سبينوزا باروخ: رسالة في إصلاح العقل، ترجمة جلال الدين سعيد، دار الجنوب للنشر، ط1، تونس 1990، ص27.

[28]– Habermas Jürgen: Théorie de l’agire communicationnel, Fayard, 1987.

[29]– Kant Emmanuel: Principes métaphysiques de la morale, tr, fr. partissot, Nabu presse, Paris, 2012, p146.

[30]– Ibid. p. 147.

[31]– Gurjau Jean Marie: Esquisses d’une morale sans obligation ni sanction, biblio bazaar, 2009, p248.

[32]– Ibid., 106.

[33]– Nietzsche F.: Ainsi parlait Zarathoustra, éd. Belingue, Aubier-Montaigner, pp.87-89.

[34]– Kant Emmanuel: Principes métaphysiques de la morale, tr. fr. Tissat, Nabus presse, 2012.p. 87.

[35]– Le senne René, Le devoir, 2éme édition, P.U.F, Paris, 1950, p. 262.

[36]– Nabert Jean: Elements pour une éthique, press universitaire de France, p. 47.

[37]– Marc André, Dialectique de l’agire, Paris, 1954, p. 447.

[38]– هانز ماير، الفلسفة التنظيمية، بادربورن، 1960، ج3، ص 213.   مأخوذ عن عبد الرحمن بدوي، الأخلاق النظرية، ص 141.

[39]– P. Foulquié, Morale, Paris, 1955, p.326.

[40]– Thomas F. Wall: Thinking critically about moral problems; Wadsworth, USA, 2003, p. 45.

[41]– Ibid., p. 46.

[42]– Ibid., pp. 46- 47.


المراجع:

العربية:

  1. سبينوزا باروخ: رسالة في إصلاح العقل، ترجمة جلال الدين سعيد، دار الجنوب للنشر، ط1، تونس 1990.
  2. لالاند أندري، موسوعة لالاند الفلسفية، ترجمة خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت، ط.2 ،2001.

 الأجنبية:

  1. Durkheim Emil, Division du travail social; II,1ruhl-Levy, la morale et la science des mœurs. Felix Alcan, Paris, 1903.
  2. Foulquier Paul: La morale, les éditions de l’école, Paris,
  3. Gide Charles: Principe d’économie politique, Edition électronique, Québe2005
  4. Gurjau Jean Marie: Esquisses d’une morale sans obligation ni sanction, biblio bazaar, 2009
  5. Gurvitch George: Morale théorique et sciences des mœurs, Felix Alcan, Paris 1937.
  6. Habermas Jürgen: Théorie de l’agire communicationnel, Fayard, 1987
  7. Kant Emmanuel: Principes métaphysiques de la morale, tr. fr. Tissat, Nabuspresse, 2012
  8. Lavelle Louis: Traité de valeurs, P.U.F, 1955
  9. Le senne René: Traité de morale générale, 5éme édition, P.U.F, col: logos, Paris 1967.
  10. Lachelier J: Psychologie et métaphysique dans le fondement de l’induction,2019.
  11. Marc André: Dialectique de l’agir (Problèmes et doctrines), Paris, 1954.
  12. Nabert Jean: Element pour une éthique, Montaigne Flers, 1962.
  13. Nietzsche Frederic: Ainsi parlait Zarathoustra, éd. Belingue, Aubier-Montaigner 1968.
  14. Parodi Dominique: La conduite humaine et les valeurs, Felix Alcan, Paris, 1993.
  15. Rauh Fréderic: L’expérience morale, édition: le bord de l’eau, Paris, 2011.
  16. Rauh Fréderic : Etudes de morale, Hachette (BNF), Paris 1911.
  17. Ribot Théodule : la logique des sentiments, L ’Harmattan, Paris 2000.
  18. Thomas F. wall : Thinking critical lyabout moral problems; wadsworth, USA,

 

مقالات أخرى

تعدّد الطّرق الصّوفيّة

جماليّة التّناصّ في الشّعر الصّوفيّ

“زيارة” الضّريح بإفريقيّة مطلع العصور الوسطى

1 تعليق

علي أسعد وطفة 17 ديسمبر، 2021 - 3:07 م
بحث جميل ورائع يشكر الكاتب على هذا الحهد المميز والرصين .
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد