الملخّص:
تسعى الدراسة الحالية للكشف عن سؤال رئيس وهو هل هدم “كورونا” فكرة الفلسفة والنظريات الاجتماعية؟ وهل بات خوفنا مادة للاستثمار بيد النظام الرأسمالي؟… وهل سنكون أمام عالم قيمي جديد، تسود فيه قيم أخرى من وحي ما تعانيه البشرية قيميا اليوم؟.. وإذا تحولت القيم، أو تعطلت، هل سنشهد تَحَوُّلاً على مستوى الأيديولوجيات السائدة، وعلى اختلاف مكوناتها؟..، بيد أن النتائج أسفرت في نهاية الأمر عن أن العلاج بالفلسفة ربما يكون أشد نجاعة في مثل هذه الظروف التي يواجه فيها الفرد المنعزل المعزول أعراضا مثل هذه المخاوف المقلقة ربما لأنها تتعلق بمجهول لم يستطع الإنسان بكل تقدمه وجبروته العلمي أن يتعرف إلى هويته الحقيقية بعد!. إن فلسفة كل هذه المخاوف والتخلص منها يكمن في أن ينظر الإنسان إلى هذه الجائحة وأمثالها مما يخفيه القدر على المستوى الفردي والجمعي نظرة أكثر شمولاً ورحابه وأن يحاول تغيير نمط تفكيره التشاؤمي هذا تجاه أيّ من الظواهر المقلقة والأحداث المؤلمة.
الكلمات المفاتيح: التحولات الفلسفية – جائحة كورونا – العولمة – الابستمولوجيا- القيم الاجتماعية- نهاية التاريخ- التشاؤم.
Abstract:
The current study seeks to reveal a major question, which is, did “Corona” destroy the idea of philosophy and social theories? And has our fear become a material for investment in the hands of the capitalist system?.. Will we be facing a new world of values, in which other values prevail, inspired by what humanity suffers in values today?.. And if values are transformed, or disrupted, will we witness a transformation at the level of the prevailing ideologies, and in different ways Its components?.. However, the results eventually revealed that the treatment of philosophy may be more effective in such circumstances in which the isolated individual faces symptoms of such worrying fears, perhaps because they relate to an unknown that man, with all his progress and scientific might, has not been able to recognize his true identity. distance! The philosophy of all these fears and getting rid of them lies in the person looking at this pandemic and it’s like, which is hidden by fate on the individual and collective level, a more comprehensive and spacious view, and trying to change this pessimistic thinking pattern towards any of the disturbing phenomena and painful events
Key words: Philosophical transformations – Corona pandemic – globalization – epistemology – social values – the end of history – pessimism.
1- التقديم:
في أواخر ديسمبر 2019 ابتليت الإنسانية بوباء فيروس يسمى “كوفيد- 19″، وهو نوع من الإنفلونزا العادية لكنه غير من تركيبة الجين، فأصبح أكثر ضراوة من الإنفلونزا العادية بمئات المرات، كما أن مناعة الإنسان لا تستطيع التعرف إليه، ومن ثم أصبح هذا الفيروس واسع الانتشار، ويصيب الإنسان بسرعة كبيرة، ويبدأ في الدخول إلى جسم الإنسان، عن طريق الهواء، أو لمس الأسطح الملوثة، “ويغزو خلايا الغشاء المخاطي للفم والأنف والعينين، ثم الحلق، ثم الشعب الهوائية ويقضى فترة حضانة تصل إلى عشرة أيام في المتوسط”.
في هذه الفترة يتكاثر داخل الخلايا ويسيطر عليها، ثم يخرج وينتشر في كل الجهاز التنفسي، إلى أن يصل إلى الحويصلات الهوائية، وهنا تبدأ أعراض المرض في الظهور، وهي آلام شديدة في العضلات، والعظام، وارتفاع كبير في درجة الحرارة، وسعال شديد، وضيق في التنفس، وصداع، وإسهال، وقد تختلف الأعراض من حالات شديدة إلى حالات معتدلة؛ علاوة على أنّ نشاط المرض قد يستغرق خمسة عشر يومًا، وبعدها يشعر المريض بالتحسّن.
والمضاعفات التي يحدثها هذا الفيروس، تتمثل في أنه عندما يصل إلى الحويصلات الهوائية، يدمّر خلاياها المسئولة عن تبادل الغازات مع الدم وحركة الرئتين، وبذلك يشعر المريض بصعوبة شديدة في التنفس، ونقص شديد في الأكسجين بالدم؛ هذا يجعل الخلايا المصابة تفرز سمومًا تسمى “سيتوكين”، تصل إلى الدورة الدموية، “وتحدث هبوطاً مفاجئاً في القلب، وفشلاً كلويا، والتهابات معوية، وهبوطاً في وظائف الرئتين، بالإضافة إلى جلطات صغيرة بالدم، قد تصل إلى المخ، وتحدث التهابات، وقصور وظائف المخ.
وهذا الوباء القاتل – الفتاك سبّب للجميع قلقا وتوترا وفزعا وهلعا، مما استوجب على الجميع العزلة الإجبارية في المنازل؛ هذا الوباء الذي لا يفرّق بين صغير وكبير، غني وفقير، شاب وشيخ، طفل أو عجوز. ومن هنا تعيش البشرية في صراع كبير مع هذا الفيروس الذي لا نعلم الكثير عنه، ونجهل طبيعته. كل هذا أدى إلى عزلة البشرية ومكث الجميع في بيوتهم، تلك العزلة التي تشبه تماما عزلة الفيلسوف عندما ينعزل في برج عاجي أو الفلسفة في تأملاتها العقلية، فالفيلسوف ينعزل من أجل أن ينسج أفكاره، ويستخرج مكنونات عقله من استنتاجات ومفاهيم فلسفية[1].
وفي ظل أزمة فيروس كورونا الحالية وما تطرحه علينا من تساؤلات حول قدرة البشر على تجاوز الأزمة وما تستثيره فينا من قلق حول مصير الإنسانية، يحق لنا أن نطرح السؤال الآتي: هل نحن على أبواب مرحلة تاريخية جديدة، وهل يمكن للفلسفة أن تساعدنا على استشراف ملامح هذه المرحلة؟ وماذا لو أنقلب سؤال الفلسفة، من مسألة الوجود لنفسه والوجود من حوله، إلى سؤال توجهه الطبيعة إلى الإنسان ولا يملك أن يأتيها بإجابة ناجزة؟ [2]… هل سيؤدي انتشار الوباء إلى تغير في القيم أو إبطالها وتعطيلها، تلك القيم التي يؤمن بها البشر ويمارسونها في حياتهم اليومية؟ وهل هدم “كورونا” فكرة الفلسفة والنظريات الاجتماعية؟ وهل بات خوفنا مادة للاستثمار بيد النظام الرأسمالي؟ وهل سنكون أمام عالم قيمي جديد، تسود فيه قيم أخرى من وحي ما تعانيه البشرية قيميا اليوم؟.. وإذا تحوّلت القيم، أو تعطلت، هل سنشهد تَحَوُّلاً على مستوى الأيديولوجيات السائدة، وعلى اختلاف مكوناتها؟ وما مصير النظام العالمي الجديد (نظام العولمة) الذي اجتمعت فيه مكوّنات الثقافة والقيم والاقتصاد والسياسة في فهم معين؟ وهل ستتجه البشرية إلى البحث عن نظام آخر يقدم فهماً أكثر دقة للكون والإنسان والحكم؟ وهل ثمة ما تقدّمه الفلسفة والتفلسف لإنسان العصر الحالي الذي تحاصره المشكلات والجوائح من كل جانب ويعاني الكثير من صور الضجر والكآبة رغم كل ما يستمتع به من تقنيات تملأ عليه وقته رغم كل صور التقدّم التي مكنته إلى حد ما من أن يعيش عصر الرفاه والإشباع المادي؟! ما علاقة الفلسفة بالصحة؟ ماذا يمكن للفلسفة أن تقدم للإنسان بل للبشرية جمعاء في زمن الكورونا؟ هل من دور أو وظيفة يمكن للفلسفة أن تقوم به في التخفيف من أضرار هذا الوباء القاتل؟
وقد يكون السؤال الأخطر أن يستفسر المرء عن قيمة الحياة ونوعيتها، إذا ما أطالها العزل والطب الوقائي إطالةً زمنيةً فارغةً. هل يفيدنا أن نستزيد استزادةً خاويةً من الزمن الكرونولوجي التعيس، أم يجدر بنا أن نكتفي بالقسط الوجيز من الزمن البهيج المفرح الذي يحدّده الفيلسوف الفرنسي “برجسون” (1859-1941) بالديمومة المختبرة، المعيشة، المنسجمة مع اقتناعات الضمير الذاتي؟ أفلا ينبغي لنا أن نضيف الحياة المتوهجة إلى الأيام، عوضاً عن أن نضيف الأيام الباهتة إلى الحياة المنقبضة؟ وأي القيمتين أسمى: طول الحياة أم نوعية الحياة؟ [3].
كل ذلك سنحاول الإجابة عنه ضمن هذه القراءة التحليلية للتحولات الفلسفية في ظل جائحة كورونا، ولكن قبل ذلك يمكننا القول إنّه من المعروف عن الفلسفة بأنها عادة ما تعبّر عن هموم وتطلعات عصرها. ولهذا ينقسم تاريخ الفلسفة الطويل إلى حقب تاريخية. فلم يكن تاريخها نهرا ينساب في هدوء، ولكنّه حافل بضروب من القطيعة بين كل حقبة وأخرى. إذ في الدرس الأكاديمي ينقسم تاريخ الفلسفة إلى خمس فترات: الفلسفة الشرقية والفلسفة اليونانية، وفلسفة العصور الوسطى، والفلسفة الحديثة وأخيراً الفلسفة المعاصرة. تمثّل الفلسفة الشرقية فلسفة ممارسة، لا مجرد تفكيرٍ نظريّ، فبدايةً تلك الفلسفة كانت تدورُ حول مركز الإنسان ومجابهته لمخاوفهِ ومعاناتِه عن طريق الحكمة والتأمل في سلوكِ الفرد، ليملِك زمام الرّغبة والتعلّق والقلق والغضب والخوفِ من المجهول.
2- كورونا وتاريخ الفلسفة:
تمثّل الفلسفة اليونانية، كما قال أنور مغيث، مرحلة يقظة العقل وتحرره من الأساطير التي يُطلق عليها أحلام يقظة الشعوب. هي مرحلة التعرف إلى ماهية الموجودات. والماهية هي الإجابة عن السؤال ما هو؟ هكذا كانت طبيعة موضوعات الفلسفة اليونانية: ما الوجود؟ ما الطبيعة؟ ما الإنسان، ما الفضيلة؟ ما الدولة؟ من هو المواطن؟ كما كانت الإجابات تنطلق من العقل وتستند إلى المنطق. وظهرت في هذه المرحلة الأولى سمات للفلسفة تميزها عن العلم من جانب والأدب من جانب آخر. فهي آراء متعارضة تختلف من فيلسوف إلى آخر، ورغم ذلك لا تستبعد هذه الآراء بعضها بعضا لأن ّتعدّدها يسهم في الإحاطة بجميع جوانب موضوع البحث[4].
وفي قلب الإقليم الحاضن للفلسفة اليونانية، وهو شرق البحر المتوسط، ظهرت الأديان التوحيدية لتعلن على الناس معتقدات جديدة: يوجد إله واحد خالق للكون، هذا الكون الذي يستمر بفضل العناية الإلهية بالموجودات، وكل فرد من بني البشر سوف يبعث بعد الموت ليحاسب على أعماله في الدنيا. آمن أغلب الناس في شمال البحر المتوسط بالمسيحية وفي جنوبه بالإسلام. وبدأت الفلسفة تعالج موضوعات جديدة لم تكن مطروحة في الفلسفة اليونانية، فهي تتعرض لتساؤلات عن طبيعة العلم الإلهي؟ وهل الإنسان مسير أم مخير؟، وهي قضية تختلف عن فكرة القدر الموجودة في الفكر اليوناني، والعدل الإلهي وعلاقته بالحساب في اليوم الآخر. وهكذا تعرّض الإنتاج الفكري للفلاسفة وعلماء اللاهوت وعلماء الكلام في المسيحية والإسلام إلى هذه القضايا على مدى قرون طويلة[5].
وقد انتبه الإنسان إلى أنه انشغل بآخرته عن دنياه، وأنّ عقولا جبارة عكفت على مناقشة قضايا تأملية يصعب حسمها والوصول فيها إلى يقين. ومن هنا بدأت الفلسفة الحديثة بلفت الأنظار إلى ضرورة المعرفة العلمية بالعالم وظواهره، والاستفادة من هذه المعرفة في زيادة قدرة الإنسان ورفاهيته. كان على العقل إذن أن يصل إلى معرفة الحقائق التي تفسر لنا ظواهر العالم. وكان عنوان كتاب ديكارت: مقال عن المنهج، بمثابة إعلان عن الهم الجديد الذي سوف تنشغل به الفلسفة، وهو تحديد طبيعة المنهج الذي يمكننا من الوصول إلى الحقيقة. ديكارت الذي كان عالما في الرياضيات إلى جانب كونه فيلسوفا استمد الحقيقة من التفكير العقلي فهي مطلقة وموضوعية وثابتة، ولهذا فهو يعدّ رائد المنهج العقلي. أما الفيلسوف الإنجليزي جون لوك الذي كان طبيبا فيستمدها من المدركات الحسية والتجربة، ولذا فهي نسبية وذاتية ومتغيرة، وهو يعد من أعلام المنهج التجريبي [6].
ثم جاء عصر التنوير في القرن 18 م ليحمل لنا موقفًا صريحًا من قيمة المعرفة للذات، لكن ما آلت إليه مكانة الذات في التنظيم الاجتماعي هو استعمالٌ للمعرفة عبر الذوات، ومدى اتصال السلطة والمعرفة؛ أخرج لنا تياراتٍ نقدية لعصر الحداثة والتنوير كمفكري مدرسة فرانكفورت “التيّار النقدي”، الذي برز في ظل أزمات اقتصادية كعصر الكساد العالمي والحروب العالمية؛ ليعبّر عن وجهةٍ نقدية ضد البنية الرأسمالية والمجتمعات الاستهلاكية والقيم التنويريّة، وكيف أدّت العقلانية إلى ما أسموه العقل الأداتي، وأحدثت تلك الدراسات في النظريات الاجتماعية والفلسفيّة أهميةً بالغة في تبيان موقع الذات، ومدى إغراقها في التشيؤ والاغتراب [7].
وفي القرن التاسع عشر أدرك الفيلسوف الألماني كانط القصور في المنهجين العقلي والتجريبي (الذي جسده ديكارت ولوك) وقام ببلورة منهج يؤلف بينهما وسماه المنهج النقدي. والمقصود بالنقد هنا هو إبعاد العقل عن التخبط الذي ألم به في مناقشته للقضايا الميتافيزيقية وتحديد المجال الذي يمكّنه من إنتاج معرفة علمية؛ ولذلك اكتشف داروين نظرية التطور وسلط فرويد الضوء على اللاوعي، إلى جانب الثورة الصناعية التي دفعت بجماهير العمال إلى حالة من البؤس والشقاء، بالإضافة إلى الحرب العالمية الأولى التي كانت تجلياً لاستخدام العلم في إتقان وسائل القتل والتدمير، كل هذا جعل الفلسفة تترك مشكلة المنهج وتهتم بأزمة الإنسان. في العصور السابقة كان هناك اعتقاد بأن الإنسان يتجه إلى مزيد من الرقى والتحضر والكمال، ولكن القرن العشرين حمل معه الاعتقاد بأن الإنسان يتجه إلى الهمجية والخراب. وهكذا انشغلت مذاهب الفلسفة الحديثة؛ مثل الماركسية، والوجودية، والبراجماتية، بكيفية تجاوز الإنسان أزمته[8].
ولا شك في أزمة كورونا الحالية بالإضافة إلى أزمات سابقة؛ مثل أزمة البيئة وأزمة الطاقة والتفاوت بين الشمال والجنوب كلها تدفع الإنسان دفعاً إلى مساءلة طريقته في التفكير ورؤيته للعالم. فهناك مبادئ رسخت واكتسبت سمة اليقين، ويجدر أن تخضع إلى المراجعة ذات التخصص العلمي الدقيق في مقابل النظرة الشاملة، من ذلك الاهتمام بالربح في مقابل الحياة الهادئة المطمئنة، والنزعة الفردية في مقابل التضامن الاجتماعي، وحالة الفوضى والأزمة العارمة التي تشبه دائما الفترة التي ينبثق من داخلها نموذج إرشادي جديد، والمقصود به المبدأ الذي ينتظم وفقا له الفكر والعمل والكيان الاجتماعي[9].
فإن كانت الفلسفة على مستوى “المفاهيم” هي تاريخٌ من المفاهيم الكبرى التي تفاعلت وأثّرت في التغيُّرات المهمة لتصوراتِ ومفاهيم وقوانين وأخلاق البشرية، إذ أن الفيلسوف طبيبُ الحضارة، فإنها على مستوى “نمط الحياة”، هي تحسين القدرة على التفكير والعيش، فالفلسفة هنا تفرد الفعل الذي يجعل المرء على درجة من النقد العقلانيّ وله قيمةٌ معرفية من تجاربه وحياته [10].
نستلهم من كورونا وفتراتِ المَخاطر والاستثناء الحاجة إلى إعادة التساؤل عن فاعلية طرق التفكير وأنماط العيش في مقابلة القلق والخطر، فما نراه جديرًا أيضًا بالتناول والأهمية فيما يساعدنا في حياتنا الواعية؛ هو الرفع من قيمة التفلسف؛ ولذلك نجد من فضائل الجائحة العالمية أن توقظ فينا الوعي الإنساني، فتجعله متأهباً للمراجعة الذاتية النقدية الشاملة [11].
ومن أبرز تلك المراجعات أن الكثير من الفلاسفة والمفكرين كتبوا حول أزمة كورونا واستمرار الجائحة، وقد بشّروا بأن عصر ما بعد كورونا لن يكون البتة مشابهاً لما قبل كورونا، فالنماذج الإرشادية القديمة التي حكمت العالم ستتغير لا محالة بسبب الأزمة التي عمقت هشاشة الإنسان المعاصر، وأعادته إلى حجمه الطبيعي بما هو كائن ضعيف يدعي القدرة الخارقة للسيطرة على الطبيعة ؛ كما فجرت كورونا تساؤلات عميقة حول: الطب، والسياسة، والبيوتكنولوجيا، والسلطة الحيوية، والإنسان الكوروني، وفلسفة الجائحة، واقتصاد الفيروسات، وحرب الكمامات، وسقوط ” العولمة التي اعتبروها نهاية للتاريخ، وانتصاراً للنموذج الرأسمالي الغربي وقيمه ومفاهيمه وثقافته. لقد جعلت عولمة للكوارث، التي أصبحت تُهدد استمرار الحياة على الأرض، وكل تلك المتغيرات والحقائق، من الفلسفة ضرورة حياة في عالم ما بعد كورونا، وذلك من أجل أن تُعطي معنًى جديدًا أكثر إنسانية للحياة. ولكي تُصلح بالفكر الفساد الناشئ عن تردي أحوال السياسة والمجتمع والاقتصاد، عبر ممارسة دورها التاريخي في النقد وكشف الزيف. وممارسة دورها التاريخي في صياغة المفاهيم والتصورات والقناعات الحاكمة والضابطة لسلوك البشر والدول” [12].
3- كورونا بعيون الفلسفة:
في هذا السياق تأتي الفلسفة في زمن كورونا لتعلن للجميع بأنها تمثل مرشفاً خصباً، وأن الفلاسفة ليسوا بعيدين عن النظر في مستجدات الواقع والنهل من هذا المرشف، ومعالجة مختلف الأزمات التي مرت بها الإنسانية منذ العصور الأولي، وصولاً إلى اللحظة الراهنة وما تعانيه من أزمات، لعلّ من أبرزها وراهنها أزمة كورونا، فالفلسفة هي تفاعل بين مختلف ما تنتجه الثقافة، بل هي جزء فيها، فهي منذ نشأتها الأولي كانت تبحث في مختلف المشكلات المطروحة أمامها، كمشكلة الوجود، أو المعرفة، أو القيم، وها هي تعاود الطرح المتجدد لمشكلة القيم وفق مقتضيات العصر، وها هي تعاود الطرح المتجدد لمشكلة القيم وفق مقتضيات العصر وحاجة الناس إليها، وهذا ما كان لسنوات طوال حتى قبل ظهور هذه لجائحة، فقد كان الفلاسفة سباّقين إلى البحث في مختلف المخاطر واستشراف وقوعها، وهذا ما كان يعبّر عنه الكثير من الفلاسفة.. ألم يثر الفيلسوف الإنجليزي ” برتراند رسل ” في كتابه ” أثر العلم علي المجتمع ” (الذي صدر عام 1953م، وهو كتاب راهني رغم مرور حوالي 70 سنه من صدوره)، فكرة الحرب الجرثومية من خلال حديثه عن خطر زيادة سكان المعمورة، باعتبارها وسيلة للتقليل من خطر زيادة البشر [13].
ألم يصرح مارتن هيدجر بفكرة المصير؟ ألم يطرح كل من ” نيتشه” و”سارتر” فكرة العدمية، وهذا ما تعالجه الفلسفة؟ إنّها في عملية بحث وتقصّ عن أسباب جائحة كورونا وتداعياتها، وهو بحث ليس مثل غيره من البحوث، هو بحث عن المسكوت عنه، وفي اللامنطوق وإبرازهما إلى العلن، لأن كورونا في نظر الفلسفة ليس مرضاً، أو وباء يحتاج إلى دواء، أو لقاح فقط، بل هو أبعد من ذلك، إنه ظاهرة ذات أبعاد مختلفة، نفسية، جسدية، صحية، أخلاقية، اجتماعية، نفسية، ذاتية، سلوكية، دينية، تراثية، أنطولوجية، إبيستيمولوجية، اكسيولوجية. ..، إن كورونا بنظر الفلسفة بحث نقدي في الكثير من الأوهام التي أنتجها الإنسان كوهم الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وحوار الحضارات والديانات وغيرها كثير [14].
إنّ كورونا بعيون الفلسفة هي كشف للحقيقة الواقعية، وفضح للخطابات المزيفة السياسية منها، أو الإنسانية، أو الدينية، وهي أيضا فضح لخطاب اليقين الذي سيطر على العقل البشري، ودفع الإنسان إلى تجسيد معارفه بنوع من التواضع المعرفي وعدم الثقة المطلقة في العقل، لأنه قد ظهر لنا أنه عاجز وقاصر أمام هذا الإدلاء ومن ثم فإنّ التقدّم الذي يدّعيه الكثير من الناس ما هو إلا تقدّم جزئي بإمكانه أن ينهار في أي لحظة، وها هو أصبح أمام هذا الوباء الذي بإمكانه أن يهلك الكثير من البشر، وأن يدمّر الكثير من الاقتصادات، وأن يبعدنا عن الكثير من العادات والمعتقدات.
ولهذا جاءت الفلسفة باعتبارها التحدي بواسطة الفكر لتتناول الجائحة من خلال إثارتها لمجموعة من الأسئلة، ومعاودتها السؤال في كيفية التعامل مع الوباء، مقدمة مجموعة من التساؤلات المهمة والضرورية، وباحثة عن مخارج لهذا الوباء من جهة أخرى، مستخدمة في هذا كله ملكة الفهم، والشك، والنقد، والتحليل. وأمام هذا الوضع الراهن أثبتت لنا الفلسفة، وأثبت الفلاسفة أن ما عجز عنه العلم تعالجه الفلسفة وتواجهه أيضا، بل وتحمل ثقله، وتحذر من مخاطره، بطريقتها الخاصة والمعهودة، لأن مهمتها كانت، ولا تزال، مهمة نقدية تجاه الحاضر والراهن، فهي تسعي دوما إلى فهم الواقع من أجل فهم الحاضر، وبهذا كانت في كل لحظة تقرأ وتبحث في التحولات العالمية التي نعيشها، وها نحن نلاحظ أن الفلاسفة كثيراً ما حذّروا من خطر النهايات: نهاية العلم، نهاية الإنسان، نهاية العقل، وهذا الوباء أصبح أحد أبرز الإعلانات التي قد تعد تجلياً حقيقياً لهذه النهايات، لأنّ الفلسفة تطرح دائما سؤال المآل أو المصير بلغة مارتن هيدجر[15].
4- كورونا والتصوّف:
ننطلق في معالجة علاقة كورونا بالتصوّف من سؤال طرحه في هذا المقام الأستاذ “حسين لوكيلي” وهو: هل عزلة البشرية في زمن الحجر الصحي تشبه عزلة المتصوف وخلوته؟ وهل للمكان الذي يختلي فيه الصوفي نوافذ؟ وإن حصل وكانت له نوافذ هل هي نوافذ أرضية أم سماوية؟
وقد أجاب الأستاذ “حسين لوكيلي” قائلاً: بأنه من العسير على النفس الانزواء عن عالمها المشبع ضجيجا وصخبا، وعسير عليها الالتزام بضوابط العزلة في زمن تسيطر عليه الآلة والتقنية، والعلاقات الاجتماعية المتجذرة حد التواشج المصطبغ بجنون الثرثرة والفوضى. والأصعب من هذا كله أن تستفيق البشرية كل صباح على أرقام، ونسب لها علاقة بعدد المصابين والمتوفين جراء هذا العدو الفتاك بعد أن أرخت الجائحة بظلالها القاتمة السوداء على كل أقطار العالم. فتحتّم على الإنسان الرضوخ لضوابط الحجر الصحي كرها لا طوعا، حفاظا على حياته، وحياة أفراد مجتمعه. لقد فرّ الإنسان من الساحات التي كانت تحتضن خيولا تجري بلا هوادة في معركة الحياة اليومية، فما عاد يسمع وقع سنابكها، ولا حتى رفيف لهاثها المفزع. وحده صوت الخواء، يعوي في دروب المدن وأزقتها، محدثا أزيزا ذابلا. كما هو أمر مدينة ووهان الصينية، وغيرها من مدن العالم التي كانت تنبض بحياة الغادين والرائحين، فتحوّلت إلى مدن أشباح، فلا تكاد ترى أحدا يتجول في شوارع المدن المقفرة أو تسمع له صوتا. وفي أحسن الأحوال إن حدث وسمعت، فإنك تسمع تصفيق المحتجرين وهم يطلون من شرفات المنازل رضًى بما تصنعه الأطقم الطبية المتصدية لهذا العدو المخاتل، ثم يعود الصمت ليخيم عليها من جديد [16].
ونودّ هنا أن نشير إلى أنّ نوافذ الأرض التي لجأ إليها المحتجرون وقت الإقامة الجبرية في المنزل ليست كنوافذ الصوفي الذي يعتلي من خلالها صهوة المطلق. فهذا ابن عربي الصوفي والفيلسوف يؤسّس لعزلة خاصة تمّحي معها حالة الوحشة والقنوط؛ لأنّ لها نوافذ مفتوحة على السماء وعلى اللامحدود. وقد سمّاها بعزلة العلماء بالله، لكونها تختلف عن عزلة عامة الناس لاصطباغها بالأنس، والنوال، والفتح. ففي الباب الثمانين من فتوحاته المكية عمد إلى التمييز بين العزلتين. يقول: “فمن اعتزل فلتكن هذه العزلة بغيته، فهي عزلة العلماء بالله، لا هجران الخلائق ولا غلقُ الأبواب وملازمة البيوت. وهي العزلة التي عند الناس: أن يلزم الإنسان بيته، ولا يعاشر، ولا يخالطَ، ويطلب السلامة ما استطاع بعزلته، ليسلم من الناس ويسلم الناس منه. فهذا طلب عامة أهل الطريق بالعزلة” [17].
ويستطرد الأستاذ حسين لوكيلي فيقول: “وقد أدرك المتصوفة الجدوى من العزلة، خصوصا فيما يخصّ الارتقاء بالسلوك، وتجديد للروح، وسمو بالأخلاق، فجعلوها كونية عالمية لا ترتبط بدين أو عقيدة. ذلك أنه إذا أمعنا النظر في تضاعيف ما دونه الشيخ الأكبر ابن عربي، وجدناه يقدم تصورا للخلوة يبدو على قدر كبير من الفرادة. فهو يسمها بالشمولية والإطلاق تارة، وتارة أخرى يقيدها. وهو في هذا وذاك، يعتبرها طريقة في الحياة، ومنهجا في التعايش، دون أن يجعل هذه الممارسة العرفانية حكرا على مذهب من المذاهب، أو ملة من الملل. ولنا في السفر السادس من فتوحاته جواب على هذا الأمر. يقول: “ولقد أفردنا لهذه الطريقة خلوةً مطلقة غير مقيدة في جزء، يعمل عليها المؤمن فيزيد إيمانا، ويعمل بها وعليها غير المؤمن من كافر وَمُعَطِّل ومشرك ومنافق. فإذا وفّي العمل عليها وبها، كما شرطناه وقررناه، فإنه يحصل له العلم بما هو عليه في نفسه. ويكون ذلك سبب إيمانه بوجود الله، إن كان مُعَطِّلاً، وبتوحيد الله، إن كان مشركا، وبحصول إيمانه إن كان كافرا وبإخلاصه إن كان منافقا أو مرتابا”. [18].
وهنا يلمح الأستاذ حسين لوكيلي في كلام ابن عربي هذا إشارة خفية، مفادها أن طقس الخلوة يسهم في بناء عالم فاضل حر، مبني على الاختيار الطوعي لا الإلزام الإكراهي. وهذا المبدأ قد أعادت كورونا إحياءه من جديد، فالمكوث في البيت يجب أن يكون منبثقا عن وعي ذاتي، لا عن أمر إلزامي يكره الذات على البقاء في بيتها. ففي حالة الاختيار الطوعي تصير الذات شاعرة بنفسها، شاعرة بعالمها الباطن، نتيجة نشاطها الخاص الممثل في العزلة. حيث “لا يعتزل إلا من عرف نفسه، ومن عرف نفسه عرف ربه [19].
والذي يهمّنا من هذا كله كما يقول الأستاذ حسين لوكيلي، أنّ الخلوة المطلقة غير مخصوصة بدين أو عقيدة، وإنما هي فضاء مفتوح على الآفاق، أبوابه مشرعة في وجه جميع البشر، يدخلها المسلم وغير المسلم. فهي خلوة روحية عالمية تتساوى فيها الألوان الأيديولوجية والطوائف والمذاهب. أو لنقل – بمنطق المخالفة – بدل المماثلة والتساوي-: إنها خلوة تعلو على كل التحديدات والتصنيفات الأيديولوجية الجاهزة، لتفصح عن هوية إنسانية عالمية تحتضن تجربة الإنسان وهو ينصت إلى البعيد القصي لينعتق من آلة الزمنية والعبثية، أو ليعلو على الكثيف والرتيب والمسكوك، وهذا هو السرّ الذي دعانا إلى وسمها بعزلة الروح. لأنّ الجسد يبقى في ركن البيت، لكن ّروحه تحلق في عوالم الطهر والكمال [20].
وإذا كان الأمر كذلك؛ فإنّ العزلة أو الخلوة في نظر الأستاذ حسين لوكيلي هي المدخل الفعلي لتجربة الصوفي الروحية؛ لأنها تعتبر سلوكا ميتافيزيقيا متعلقا بالكائن البشري العرفاني، موسومة بالكونية، غايتها إيصال الإنسان إلى لحظة صفاء مشرقة يكتشف فيها نفسه، ويتحرّر في الآن نفسه من أغلال العالم المتناهي، إذ بدخوله إلى حضرة الحق تُفتح أمام ذاته آفاق رحبة لا تعرف الانتهاء والمحدودية. ويصير سلوكه في الحياة مهذبا وخاضعا للمراقبة الذاتية، “فإذا انفصلت من عالم التكليف وموطن المعارج والارتقاءات حينئذ تجني ثمرة غرسك [21].
والحقيقة أنه إذا كانت جائحة كورونا كما يقول الأستاذ حسين لوكيلي قد فرضت قسرا تغيير السلوك اليومي للإنسان، فإنّ الخلوة علمت الصوفي أن يكون منضبطا للقيم الأخلاقية طواعية دونما إكراه أو إلزام. فالعزلة الواعية بهذا المفهوم هي درء لكل قبيح ومشين، وطريق لمعرفة الذات الإنسانية وهويتها الآدمية الحقيقة، المغمورة تحت ركام الغفلة والجهل [22].
5- كورونا وأطوارها الفلسفية:
عندما تداولت وسائل العالم العربية ومنصات التواصل الاجتماعي الأخبار المتعلقة بكورونا منذ ظهورها في مدينة ووهان الصينية، حيث بدأ التعاطي على الطريقة الاعتيادية، باعتبار هذه الأخبار التي تهمّ الشأن الصحي أمر معهودا، لكن ما فتئ المرض أن تحوّل إلى وباء Epidemie ؛ بمعني الانتشار السريع لمرض معد في مركز معين أو جهة معينة وهي الصين، ثم إلى جائحة Pandemic التي تعني المستوى الأقصى لانتشار المرض المعدي في العالم بأسره ؛ ليتحول العالم بطريقة دراماتيكية إلى فضاء موبوء لا يمكن التنبؤ بمكان الفيروس فيه، ولا منحى انتشاره وانتقاله بين الناس. وقد أحدثت جائحة كورونا منعطفا تاريخيا في حياة البشر على مختلف الأصعدة الخاصة والعامة، وبمختلف أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية، بطريقة يصعب التحكم في وتيرتها أو فهم ظواهرها أو التنبؤ بمستقبلها؛ فرغم أن العالم يعيش على وقع ثورة معلوماتية حولت العالم إلى قرية صغيرة مرتبطة بقواعد بيانات ضخمة، إلا أنّ ذلك التدفّق المعلوماتي لم يساهم في فهم الجائحة بقدر ما أحدث إرباكا شمل مختلف المجتمعات والدول من خلال صدور أخبار كاذبة أدت إلى إشاعة الذعر والخوف بين الناس، حيث تباينت الآراء المتداولة حول جائحة كورونا بين اعتبارها غضبا إلهيا، أو مؤامرة حاكتها القوى الخفية التي تحكم العالم.
وهنا وجدنا الأستاذ عثمان سليوم في ورقة له بعنوان ” فيروس كورونا: غضب الإله وذعر الإنسان وهيبة الدول”، حاول من خلالها أن يقسم التحليلات الرائجة في السياق العربي عن جائحة كورونا على طريقة فرانسيس بيكون “، الذي قسّم العقل التحليلي إلى ثلاثة أطوار: الطور اللاهوتيّ والطور الفلسفي، والطور العلمي؛ وذلك على النحو التالي:
5- 1- الطور اللاهوتي:
يقول الأستاذ سليوم: في السياق العربي دائما ما كان العقل الفقهي هو العقل الأول، الذي يتصدّر المشهد في فهم الظواهر الطارئة على المسلمين، واتخاذ موقف منها قبولاً أو رفضا، وتكثر الشواهد التاريخية على ذلك الانفعال الفقهي مع مستجدات كل عصر، ويكفي أن نستحضر كيفيّة استقبال العقل الفقهي للدراجة الهوائية التي تم تحريم الركوب عليها باعتبارها “حصان إبليس”، مما يوضّح طبيعة انفعال العقل الفقهي مع الظواهر الطارئة الذي يتسم في الغالب بالرفض والعدائية. واستمراراً لتصدي العقل الفقهي في استقبال السياق العربي- الإسلامي للمستجدات، فما إن شاع خبر جائحة كورونا في البلدان المسلمة، حتى ظهر سيل من التحليلات التي تنسب انتشار الجائحة إلى غضب إلهي حلّ علي الأرض، حيث يرد العقل اللاهوتي أسباب ذلك إلى الانتشار إلى شيوع الزنا، مصداقا للحديث: ” الْتَقَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَعْبٌ، فَقَالَ كَعْبٌ : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، إِذَا رَأَيْتَ السُّيوفَ قَدْ عَرِيَتْ، وَالدِّمَاءَ قَدْ أهرقت، فَاعْلَمْ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ قَدْ ضُيِّعَ، وَانْتَقَمَ اللَّهُ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَإِذَا رَأَيْتَ الْوَبَاءَ قَدْ فَشَا فَاعْلَمْ أَنَّ الزِّنَا قَدْ فَشَا، وَإِذَا رَأَيْتَ الْمَطَرَ قَدْ حُبِسَ فَاعْلَمْ أَنَّ الزَّكَاةَ قَدْ حُبِسَتْ، وَمَنَعَ النَّاسُ مَا عِنْدَهُمْ، وَمَنَعَ اللَّهُ مَا عِنْدَهُ [23].
ويؤكّد أنّ هذا فيما يخص السبب الذي ارتآه العقل اللاهوتي لجائحة كورونا. أما في ما يخص التدابير الوقائية التي انخرطت فيها مختلف الدول، بناء على توصيات منظمة الصحة العالمية المتعلقة بضرورة اتخاذ تدابير الحجر الصحي، فقد سارع العقل اللاهوتي إلى الكشف عن السبق الإسلامي فيما يخص ذلك الحجر من خلال الحديث النبوي: ” ” الطَّاعُونُ آيَةُ الرِّجْزِ، ابْتَلَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ نَاسًا مِنْ عِبَادِهِ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ، فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَفِرُّوا مِنْهُ “[24].
هذا التفاعل الرائج في الأوساط العربية الإسلامية الذي يشيع تداوله في منصات التواصل الاجتماعي، يحيل إلى أنّ الإنسان العربي يبحث عن إجابات دينية لكل مستجد يطرأ عليه قبل أي إجابات أخرى قد تكون أكثر إلحاحا في الظرف الطارئ، كالحاجة للإجابة الطبية والعلمية فيما يخص جائحة كورونا[25].
5- 2- الطور الفلسفي:
وهذا الطور في نظر الأستاذ سليوم يعول على نظرية المؤامرة، وقد لقيت هذه النظرية رواجا كبيراً في التعاطي العربي خاصة والعالمي عامة مع جائحة كورونا، إذ طالما تم الاعتماد على هذه النظرية لإيجاد تحليلات وتفسيرات للأحداث السياسية والاجتماعية، واعتبارها مؤامرة من تدبير الدول العظمى ضد الشعوب المستضعفة. النظرية نفسها تم إعمالها من أجل تحليل وتفسير هذه الجائحة التي انتشرت في العالم بسرعة مخيفة، وأثرت في مختلف ربوع المعمورة بشكل غير مسبوق، ليسيل كثير من الحبر عن مؤامرة عالمية، لم يتم الاتفاق بعد على أطرافها، حيث يتحد القوى العالمية الخفية التي تحكم الأرض ضد الإنسانية جمعاء، من أجل إبادة كثير من البشر، وخصوصا الذين يعانون من أمراض مزمنة، وهو ما يجعلهم يثقلون كاهل الدولة بالنفقات الصحيةـ كما أنهم أقل مساهمة في إنتاجية الاقتصاد العالمي[26].
وهناك رأي آخر يتحدّث عن مؤامرة أمريكية ضد الصين التي أصبحت تهدّد الولايات المتحدة اقتصاديا، وقد زاد من رواج هذه الفرضية، كما يذكر الأستاذ سليوم تصريح “تشاو لي جيان”، المتحدّث باسم وزارة الخارجية الصينية، تمسكه براويته الأولى، معلنا عن وجود إثباتات تؤكد أن هذا الفيروس تم اختراعه وتطويره من قبل علماء أمريكيين عام 2015. وما يمكن أن نقوله بهذا الصدد، هو أن نظرية المؤامرة تظلّ نظرية مائعة لا يمكن إثباتها إلا بقدر ما يمكن نفيها، ومن ثم تفتقد هذه النظرية لأساس علمي متين يمكن أن تقوم عليه، كما أن الجانب “الدرامي” فيها يبقى واضحا، خصوصا مسألة وجود يد خفية تعبث بالعالم، وهو أمر يجعلها أقرب إلى أن تكون فيلم خيال شيق، أكثر منها نظرية علمية معتبرة [27].
5- 3- الطور العلمي:
يعول هذا الطور في نظر الأستاذ سليوم على نظرية ” تأثير الفراشة”، وهي نظرية تنتمي أساسا إلى “الفيزياء الكمية”، التي يتم التعبير الأدبي عنها لتقريب المعنى أنها زفة جناح فراشة فوق أحد سهول سيبيريا قد تؤدي إلى أعاصير مدمرة في أمريكا، فتغيرات أولية طفيفة تقلب النتائج رأسا على عقب.. وقد تمّت استعارة هذه النظرية من الفيزياء المعاصرة من قبل مجموعة من العلوم الإنسانية، تأتي على رأسها، الدراسات المتعلقة بالعلاقات الدولية التي تحاول أن تجد مقتربا نظريا يساهم في قراءة وتحليل الأحداث الدولية المترابطة من قبيل: “نشوب حرب في الشرق الأوسط، أو مظاهرات أو احتجاجات، تؤدي بشكل مباشر في ارتفاع أسعار النفط أو انهيار البورصة في أي مكان من العالم”. ويمكن أن نجد لهذا المقترب النظري مصداقية معتبرة عند تطبيقه على جائحة كورونا على النحو الآتي: “أدي ترويج بائع صيني في سوق شعبي بمدينة” ووهان” للخفافيش والزواحف والقوارض، وتناول صيني آخر لوجبة من تلك الكائنات، إلى انتشار وباء تحول إلى جائحة انتشرت في مختلف أرجاء الأرض، وأحدثت تغييرا على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية” [28].
6- كورونا والنموذج الأخلاقي الجديد:
في دراسة للأستاذ عبد الصمد زهور بعنوان “واقعة كورونا أو في ضرورة أنموذج أخلاقي جديد”، أكّد أنّ العمل بقواعد الأنموذج الأخلاقي الكلاسيكي قد أحدث أزمة متعددة التجليات على رأسها الأزمة البيئية، بحيث تبخرت مقولات السيطرة على الطبيعة وأصبح المطلوب هو السيطرة على السيطرة ذاتها، لكيلا تسيطر الطبيعة على الإنسان وتؤدبه بآلياتها الخاصة، ومنها واقعة كورونا التي لا يجب أن تقرأ منعزلة عن هذا السياق العام، خصوصاً في ظل احتمال أن يكون الفيروس نفسه صنعاً بشرياً. لقد آمن الإنسان بقدرته على إخضاع الطبيعة إيماناً مطلقاً، وفرح بإنجازاته العظيمة، غير أنه تجاوز الحد المسموح به طبيعياً، محدثاً أشكالا شتى من الخراب في ظل رؤيته لنفسه بوصفه غاية ولبقية عناصر العالم بوصفها وسائل يفعل بها ما يريد[29].
وهذا التوجه في نظر الأستاذ زهور قد عزز منظومة أخلاقية أنانية تمحورت حول الإنسان فقط وترسخت فلسفياً منذ أرسطو إلى حدود كانط، ومن بين أشكال الخراب المقصودة: مشكلة التلوث العالمي، وارتفاع درجة حرارة الأرض بسبب تزايد انبعاث الغازات السامة، وتفشي الأمراض المزمنة في الدول الصناعية، وفي الدول الفقيرة، وثقب الأوزون…، وغيرها من أشكال الخراب التي تقلب الطاولة على الإنسان ليصير مُسَيطراً عليه بعد أن مُسيطرا[30].
وعلى هذا النحو يقول الأستاذ زهور: ” ظهرت في الآونة الأخيرة مجموعة من الأصوات دعت الإنسان إلى التخلي عن طموح السيطرة وتعويضه بفكرة الانسجام مع الطبيعة، بحكم أن الإنسان جزء من الطبيعة. ومحاولة سيطرته عليها، إنما هي على الحقيقة سيطرة عليه هو نفسه بشكل أو بآخر، فظهرت في هذا السياق توجهات بحثية رفعت شعار “حقوق الحيوان” قبل أن تتحوّل إلى نزعة إيكولوجية جذرية تطالب بتجاوز الأنموذج الأخلاقي الكلاسيكي الذي يقوم على مبدأ التراتبية بجعل الإنسان أفضل من الحيوان، والحيوان أفضل من النبات، وهذا الأخير أفضل من باقي العناصر الطبيعية، فقد صار هذا التوجه قبيحاً من منظور فلسفي- أخلاقي بيئي [31].
ويستطرد الأستاذ زهور فيقول: ” إن تأخر ظهور هذه الأصوات الفلسفية- الأخلاقية جاء نتيجة تأخر اتخاذ المشكلات التي أفضى إليها نزوع الإنسان إلى السيطرة على الطبيعة طابعاً كوكبياً، بحيث انتقلت من كونها مشكلات محلية أو إقليمية، إلى كونها مشكلات عالمية تهدد وجود الجنس البشري على ظهر الكوكب، مثلما هددت أنشطته العديد من الكائنات الحية، وتسببت في انقراضها، أو وقوفها على شفا حفرة من الانقراض، فضلاً عن قطع الأشجار المبالغ فيه وتصحر العالم بالمعنى الأخلاقي على حد تعبير الفيلسوفة الألمانية- الأمريكية- “حنا أرندت” Arendt Hannah قبل أن يتحقق هذا التصحر فعليا بالمعنى البيئي الطبيعي[32].
وهنا يؤكد الأستاذ زهور فيقول: ” لا بد إذن من تأسيس أنموذج أخلاقي جديد، وهو ما عبرّت عنه (كما يقول) جاكلينروسRose Jacqueline بسؤال استنكاري قائلة “فكيف لا تستلزم هذه الأخطار القاتلة أخلاقا نظرية جديدة إجرائية ومنيرة في السياق المعاصر؟؛ أخلاقا تفضح العدو الموجود داخلنا لا خارجنا، وترسخ وعياً بيئياً، وبيولوجياً، وطبيعياً، لا يُبعد الإنسان من الطبيعة بقدر ما يقربه منها، ليستعيد مناعته الطبيعية ضدا على كل أشكال التأديب التي يمكن أن يؤدي إليها بعده عنها واستعداؤه لها، وعلى رأسها فيروس كورونا، بما هو آلية من آليات الطبيعة في الدفاع عن نفسها ضدا على جشع الإنسان، وهو الأمر الذي نلمسه اليوم من خلال أشكال تعافي الطبيعة خلال فترة الحجر الصحي، بحيث تحررت كثير من الحيوانات من سلطة الإنسان بأن تكاثرت وصارت تتجول في الأماكن التي كان الإنسان قد جعلها خالصة لنفسه، في الوقت الذي بقي هو يراقب هو ذلك من نوافذ المنازل، فيما يشبه تبادلاً للأدوار، حيث خروج الحيوانات من الأقفاص ودخول الإنسان إليها، هذا دون الخوض في اتهام الإنسان للخفافيش بنشر الفيروس فيما يشبه تشبثاً مبالغاً فيه بالأنموذج الأخلاقي الكلاسيكي الأناني الذي يوجه أصابع الاتهام لغير الإنسان حتى لو كان الإنسان هو المتهم الحقيقي[33].
إننا إذن بحاجة ماسة كما يقول الأستاذ زهور: ” لتطوير وعي بيئي وبيولوجي يقرب الإنسان من مختلف الكائنات التي تتقاسم معه خاصية الوجود على كوكب الأرض، ولا بد من ترجمة هذا الوعي إلى قواعد ملزمة أخلاقياً، بل وسياسياً عبر نقل الطموح السياسي من التعاقد الاجتماعي إلى التعاقد الطبيعي، وهو ما دعا إليه فعلاً الفيلسوف الفرنسي “ميشيل سير Michel Serres، ودعت إليه الفلسفة الأخلاقية البيئية بما هي جزء من مبحث الأخلاقيات التطبيقية المعاصرة، من خلال تبنيها لترسانة مفاهيمية تجديدية منها على سبيل المثال: الحكومات الخضراء، الاقتصاد الأخضر، العدالة البيئية، الطاقات المتجددة، المساواة البيئية، الإنصاف البيئي، التعاقد الطبيعي… وغيرها من المفاهيم التي تروم إنصاف باقي الكائنات عبر تقريب الإنسان من أصله الطبيعي، وإعادته إلى أحضان الطبيعة، خصوصاً بعد أن بدأت هذه الأخيرة تؤدب الإنسان بأن تضعه في عمق الأزمة بوصفه، كما هو الشأن من خلال عجزه الظاهر أمام تفشي فيروس كورونا في جميع مناطق العالم، شأنه شأن مختلف العناصر المشكلة للأزمة البيئية التي يعيشها بشكل أكثر حدة منذ مطلع الألفية الجديدة[34].
ويستطرد الأستاذ زهور، فيقول: ” لقد ساهم فيروس كورونا في استعادة الطبيعة لعافيتها، فبالإضافة إلى التكاثر اللافت للانتباه لأسماك البحار وتحرر الكثير من الحيوانات وتوالدها على نحو غير مسبوق في الحقبة المعاصرة، هنالك أيضا حديث عن انسداد ثقب الأوزون جراء تراجع النشاط الصناعي الإنسان الملوث للبيئة، وكأن الطبيعة تمنح من خلال فيروس كورونا الحياة من جديد للإنسان، خصوصا الأجيال المقبلة باعتبارها أجيالاً لم تسهم في خلق الأزمة، لكنها مطالبة بتحمل مسؤولية جشع إنسان العصر الحالي، لذلك فالأخلاق البيئية والأنموذج الأخلاقي الجديد هو أنموذج مستقبلي؛ بمعنى أن نتائجه الإيجابية ستظهر مستقبلا وهو ما يتطلب التحرر أولاً وقبل كل شيء من أنانية إنسان العصر الحالي، ليس في علاقته بغيره من الكائنات فقط، بل في علاقته بأبنائه وأبناء أبنائه، وهو الأمر الذي نبه إليه الفيلسوف الألماني “هانس يوناس” Jonas Hans في كتابه “من أجل أخلاق مستقبلية”[35].
ويخلص الأستاذ زهور إلى القول: إنّ الدعوة إلى العمل بقواعد منظومة أخلاقية جديدة تبعد الإنسان عن نزعة السيطرة على الطبيعة، ليست دعوة إلى إيقاف وتعطيل النشاط الإنساني، بل هي دعوة إلى تطوير وعي بيئي قادر على تكييف النشاط الإنساني مع متطلبات الحفاظ على الطبيعة بمختلق العناصر المشكلة لها، سواء منها الحية أو غير الحية أو تلك التي تعد شروطاً ضرورية للحياة، وهذا هو ما سماه الفيلسوف والسيكولوجي “فليكس غاتاري Guattari Félix بالحكمة البيئية التي ينبغي أن تترجم إلى أخلاق سياسية بيئة[36].
7- كورونا ومنطق الذكاء الاصطناعي:
الأيادي البشرية وحدها لا تكفي للخروج من مأزق كورونا العالمي، ومنذ ظهور الفايروس والذكاء الاصطناعي يقف في الصف الأمامي من عمليات المواجهة، لا بل إن دوره قد سبق البشر في الخطوة الأولى وهي مرحلة الاكتشاف؛ فقد تابعنا خلال الشهور الماضية انتشار فيروس كورونا (COVID-19) الذي صنف مؤخراً كجائحة عالمية تستدعي أخذ الاحتياطات اللازمة؛ حيث أتى مع هذا المرض الكثير من الضوضاء والمعلومات المغلوطة التي زادت من ذعر الناس بدلا من إفادتهم، لكن الأسئلة المهمة التي نودّ أن نطرحها هنا هي كالتالي: أين هو دور التقنية في مكافحة هذا المرض؛ وبالذات الذكاء الاصطناعي الذي نسمع عنه ليل نهار؟.. وهل الذكاء الاصطناعي يعد أكثر الأسلحة فاعلية لمحاربة فيروس كورونا؟.. وهل تطبيقات الذكاء الاصطناعي تساعد في التنبؤ بتفشي الفيروس، والسيطرة عليه؟.. وما طبيعة الدور الذي يمكن أن يلعبه الذكاء الاصطناعي في مواجهة وباء «كورونا» المستجد، بالتشخيص والوقاية، والبحوث، والعلاج؟ وهل بإمكان الذكاء الاصطناعي أن يتيح العديد من الفرص، التي تعزز التصدي لوباء «كورونا»، والأوبئة بوجه عام؟ وهل الروبوتات باتت قادرة على تقييم احتمالية إصابة الأشخاص بالأمراض والأوبئة، وتقدير حجم الخطر؟ وهل يمكن أن تساعد المعلومات الناتجة عن الفحص باستخدام الذكاء الاصطناعي، في تحديد الأمراض بسرعة أكبر في المطارات ومحطات السكك الحديد ومباني الإدارة العامة والمصانع؟ وما كيفية استخدام الروبوتات لضمان التباعد الاجتماعي؟ وكيف تم استخدم الذكاء الاصطناعي لإيصال التحديثات الرقمية إلى السكان لتجنب المواقع التي انتشرت فيها العدوى؟ وما دور الذكاء الاصطناعي في تطوير تقنيات استخراج المعطيات لمساعدة المجتمع العلمي وتوفير أجوبة على الأسئلة المهمة عن كوفيد-19؟ وكيف دخلت تقنيات الذكاء الاصطناعي على خط المواجهة ضد تفشي كورونا المستجد “كوفيد 19” مبكراً؟
من خلال تلك التساؤلات يمكننا القول إنّه مع انتشار فيروس كورونا المستجد، شكّل الذكاء الاصطناعي أحد خطوط الدفاع في مكافحة تفشّي هذا الفيروس التاجي في أول اختبار كبير للتكنولوجيا المستقبلية التي يمكن أن تمنع الأوبئة؛ حيث أظهرت أزمة كورونا أهمية انتشار الذكاء الاصطناعي بشكل واسع في شتى المجالات وشتى دول العالم، إلى جانب أدوار واستخدامات البيانات الضخمة وتقنيات الثورة الصناعية الرابعة كإنترنت الأشياء والبلوكشين، وكيفية تعزيزها للقدرة على ابتكار الحلول للتغلب على المشكلات والصعوبات التي تواجه الحكومات والمنظمات والمؤسسات أثناء الأزمات؛ ففي ديسمبر الماضي 2019 تمكنت شركة بلودات bluedot الكندية من استخدام هذه التكنولوجيا من رصد فيروس شبيه بالإنفلونزا في إقليم هوبي الصيني وعلمت كذلك مسبقاً بتفشيه إلى جنوبي شرق آسيا بناءً على حركة الطيران وبيانات تذاكر السفر التي بيعت في مدينة ووهان. .
كذلك طورت شركة Alibaba الصينية أيضًا نظام ذكاء اصطناعي يمكنه الكشف عن الفيروس في التصوير المقطعي المحوسب للصدر، ووفقًا للباحثين الذين طوروا النظام فإنه يتمتع بدقة 96% في التشخيص، وقد دُرب على بيانات من 5000 حالة مصابة بالفيروس، ويمكنه إجراء الاختبار في 20 ثانية بدلاً من 15 دقيقة يستغرقها خبير بشري لتشخيص المريض، كما يمكنه تحديد الفرق بين فيروس كورونا المستجد (COVID-19) والالتهاب الرئوي العادي بسرعة، وبحسب ما ورد تعتمد نحو 100 مستشفى في الصين على هذا النظام الآن.
إنّ حلول الذكاء الاصطناعي قد أسهمت في رفع كفاءة الإجراءات الوقائية من الفيروس في العديد من الدول ومنها دولة الإمارات، التي استخدمت على نطاق واسع نظام الكاميرات الحرارية لقياس حرارة الأجسام، واستعانت بالروبوتات وطائرات “الدرونز” في عمليات التعقيم، إلى جانب تطبيق تقنيات الطباعة الثلاثية لإنتاج الأقنعة الواقية، وغيرها من الإجراءات التي تم تنفيذها بالاعتماد على مخرجات الذكاء الاصطناعي، ولم تتوقف المساهمات على التكنولوجيا الرقمية فحسب، بل شهدنا تطوير واستعمال العديد من أنظمة إنترنت الأشياء (Internet of things) والنظم الفزيائية السيبرانية (Cyber physical systems) عامة. حيث استُعملت السيارات الذكية في الصين لنقل المرضى، ولتوصيل الطلبات تفادياً للاحتكاك. كما لعبت أنظمة الكاميرات الحرارية التي تتعرف إلى الوجوه في الصين وكوريا دوراً كبيراً في الكشف عن المسافرين في محطات النقل العمومية الذين يعانون من أعراض مشبوهة[37].
كما أظهرت أزمة كورونا أهمية انتشار الذكاء الاصطناعي بشكل واسع في شتى المجالات وشتى دول العالم، إلى جانب أدوار واستخدامات البيانات الضخمة وتقنيات الثورة الصناعية الرابعة كإنترنت الأشياء والبلوكشين، وكيفية تعزيزها للقدرة على ابتكار الحلول للتغلب على المشكلات والصعوبات التي تواجه الحكومات والمنظمات والمؤسسات أثناء الأزمات[38] .
أخذت الحكومات والشركات العملاقة بعد الأزمة تتجه إلى زيادة التركيز على استخدام الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة في التنبؤ المسبق بحدوث الأوبئة، ومناطق انتشارها وفك شفرة الفيروسات الناقلة لها، والتنبؤ بأنواع اللقاحات المناسبة لمعالجتها، وتسخير الذكاء الاصطناعي بشكل أكبر في خدمة البحوث والأغراض الطبية وتصميم أنظمة خبيرة لتشخيص الأمراض وتطوير عقاقير طبية جديدة.
ففي المرحلة الحالية وبلوغ معظم الدول ذروة انتشار كورونا أصبحت البيانات الرسمية متاحة بشكل أكبر، وهذا بالطبع وسّع دور الذكاء الاصطناعي في توفير المعرفة من خلال جمع البيانات بسرعة ودقة تسبق قدرة البشر.. بأدوات هذه التكنولوجيا تُجمع بيانات العلماء والأطباء الضخمة حول العالم وتدخل إلى قواعد الأوراق البحثية والعملية لمنظمات مختلفة، أهمها منظمة الصحة العالمية ومجمع كود مانتين الذي أنشأته الحكومة الأمريكية مع عمالقة التكنولوجيا (مايكرو سوفت وجوجل).. خلاصات هذه الأبحاث إلى جانب بيانات الآثار الرقمية التي ترصد وتحدد الأشخاص والمجتمعات الأكثر عرضة للإصابة، تكشف سلوك وطرق انتشار كورونا، حتى أنها تساعد بالتنبؤ في المستقبل القريب والبعيد لسيناريوهات نهاية الفايروس والعمل على أساسها.. أما في حلبة الصراع المباشرة أي المجال الطبي برز دور الذكاء الاصطناعي أيضاً ليجنب العالم المزيد من الخسائر البشرية، فقد رأينا الصين تصنع روبوتات بأغراض مختلفة وأجهزة كشف الحرارة بأنواعها في الولايات المتحدة وأدوات فحص دقيقة سريعة ومبتكرة للمرض في أوروبا وأجهزة متقدّمة لصناعة الأدوية والعقاقير حول العالم والأهم أنّ الذكاء الاصطناعي إلى جانب البشري يشكّلان دوق الخلاص من الأزمة، حيث إنّ تكنولوجيا جمع المعلومات وغيرها المستخدمة في الأدوات الطبية والعلمية أساسية في تطوير وتصنيع اللقاح المنتظر.
كما طورت الصين نظاماً إلكترونياً في محطات القطارات والحافلات والموانئ الرئيسية يسمح للشاشات الذكية والكاميرات الحرارية بقياس درجة حرارة المرضى الموجودين في المحطات، وتطلق إنذارًا عند رصد ارتفاع في درجة حرارة أي شخص أو تظهر عليه أعراض الفيروس، ولجأت الصين إلى استخدام سيارات دون سائق لتوصيل الطلبات والأغذية والمواد الطبية إلى المستشفيات، فضلاً عن أن مدينة شينيانغ الصينية استخدمت الروبوتات في توصيل الأغذية لنزلاء الفنادق
وبحسب دراسة لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة بالإمارات، تعتمد الصين على تطبيقات الهواتف الذكية للقيام بأمرين رئيسيين؛ أولا التحكم في صلاحية دخول المرضى للأماكن العامة، وذلك من خلال إنشاء بطاقة تعريف إلكترونية لكل مواطن عبارة عن QR code تحدد ما إذا كان هذا الشخص سليما ولا يعاني من أعراض الفيروس، أو أن هناك احتمالية لإصابته أو أنه مصاب[39].
هذا بخلاف البيانات الكبيرة Big Data المتاحة الآن في كل مكان حولنا، مما يولده المستخدمون عبر الشبكات الاجتماعية، وشبكات الاتصالات، ومحركات البحث، والعديد من المعاملات الإلكترونية. وكمثال على ذلك، يمكن عبر تتبُّع حالات البحث المتزايدة يومًا بعد آخر عن أعراض مرضٍ ما على محرك بحث مثل محرك جوجل، ربما يصلح كمؤشر لقرب ظهور وباء معين في منطقةٍ ما [40].
وبالرغم من المحنة التي يمرّ بها العالم حاليا بسبب الوباء، فقد أقدمت بعض دول العالم مثل الصين والإمارات العربية المتحدة إلى انتهاز الفرصة لتوظيف العديد من تطبيقات البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي على أرض الواقع لتتبع انتشار الوباء والتشخيص المبكر للمصابين وتسريع عملية اكتشاف العلاج وتعقيم الأماكن العامة وإدارة الأزمة بفعالية مما يبرر العائد على الاستثمار الذي قامت به هذه الدول في البحث والتطوير في مجال علم البيانات والذكاء الاصطناعي خلال السنوات القليلة الماضية[41].
فمع تزايد سرعة تراكم البيانات بوتيرة تفوق قدرة العقل البشري على معالجتها، أصبحت الحكومات مدركة إدراكا تاما بالضرورة الحتمية لاستخدام الذكاء الاصطناعي بتطبيقاته المختلفة. بالإضافة إلى ضرورة التنسيق والعمل المشترك خصوصا مع القطاع الخاص والأكاديمي من أجل توسيع القدرة الحالية للذكاء الاصطناعي وضمان قدرته على التعامل مع وباء فيروس كورونا المستجد[42].
لا شك في أنّ استخدام الذكاء الاصطناعي بكثرة نجح في التغلب على بعض الأمراض المزمنة، وفي الوقت الراهن بات يُعَوِّل البعض على دور منتظر للذكاء الاصطناعي في السباق المحموم الذي يسعى من خلاله العلماء إلى الوصول إلى علاج يساعد على القضاء على فيروس كورونا المستجد، ويفيد في التخفيف من حالة الذعر التي يعيشها الناس في كل دول العالم[43].
وقامت العديد من الشركات ومختبرات البحث والتطوير والمؤسسات الحكومية حول العالم باستخدام هذه التكنولوجيا للتعامل مع الوباء الحالي من خلال تكنولوجيات ذكية متعددة مثل معالجة اللغات الطبيعية والتحليلات التنبئية وأنظمة الدردشة الآلية وأنظمة التعرف على الوجوه والتعرّف إلى الأشخاص المصابين بالحمى وتتبعهم وأنظمة التشخيص الذكية والتعرّف إلى الأنماط وتحديدها من البيانات الضخمة. ومما لا شك فيه أنّ الذكاء الاصطناعي يساعد الآن في مكافحة وباء كوفيد-19 ويساهم في كبح أسوأ آثاره.
لقد يساهم الذكاء الاصطناعي فِعْلِيًّا في إيجاد حلول نظرًا إلى قدرته على تحديد الأنماط في البيانات ووضع التوقعات، وهي الأدوات التي يمكنها تحديد الآفاق العلاجية لاختبارها على البشر في غضون أشهر، ومن ثم احتواء المرض الذي صنفته أخيرًا منظمة الصحة العالمية باعتباره “جائحة” بعدما خرج عن نطاق السيطرة تمامًا[44].
إنّ تقنيات الذكاء الاصطناعي المعتمدة من الدول والمنظمات الصحية قد ساعدت علي تحجيم انتشار الفيروس في وقت قياسي من خلال الروبوتات التي كشفت عن أول حالة مصابة في ووهان بالصين، تم تتبع بيانات تذاكر الطيران والتنبؤ بمسار السكان المصابين وانتقال الفيروس من ووهان لبانكوك وسيول وتايبيه وطوكيو في الأيام التالية لظهور الأول فمثلاً نجد شركة بايدو قد طورت كاميرات وأجهزة استشعار للتنبؤ بدرجات حرارة الأشخاص في المناطق العامة، وكذلك تقنيات الذكاء الاصطناعي طورت أيضا نظام يمكنه الكشف عن الفيروس في 20 ثانية، وتحديد الفرق بين الالتهاب الرئوي وفيروس كورونا، كما تم الاعتماد على الروبوتات في عمليات التعقيم والتعامل مع المرض، وكانت تمثّل إحدى الطرق الرئيسية لمنع انتشار كورونا من خلال تقليل الاتصال بين المرض والأصحاء [45].
لحسن الحظ، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في تسريع العملية. حيث أعلن مختبر DeepMind لأبحاث الذكاء الاصطناعي – الذي استحوذت عليه جوجل في عام 2014 – أنه استخدم التعلم العميق للعثور على معلومات جديدة حول بنية البروتينات المرتبطة بفيروس COVID-19.
ويمكننا هنا أن نبرز أهم تقنيات الذكاء الاصطناعي التي اعتمدت عليها الدول والمنظمات الصحية في محاربة انتشار فيروس كورونا، وكيف يمكن أن تساعد هذه التقنيات في إيجاد لقاح فعال للفيروس؟
أولاً: استخدام الذكاء الاصطناعي لتشخيص المصابين بفيروس كورونا: يُستخدم نظام الذكاء الاصطناعي الذي طورته شركة بايدو الصينية كاميرات تعتمد على الرؤية الحاسوبية، وأجهزة استشعار بالأشعة تحت الحمراء للتنبؤ بدرجات حرارة الأشخاص في المناطق العامة، ويمكن للنظام فحص ما يصل إلى 200 شخص في الدقيقة الواحدة، واكتشاف درجة حرارتهم في نطاق 0.5 درجة مئوية، حيث يشير النظام إلى أي شخص لديه درجة حرارة أعلى من 37.3 درجة، كما أنه مستخدم الآن في محطة سكة حديد Qinghe ببكين[46].
ثانياً: الاعتماد على الروبوتات في عمليات التعقيم والتعامل مع المرضى: تتمثل إحدى الطرق الرئيسية لمنع انتشار فيروس كورونا في تقليل الاتصال بين المرضى المصابين والأشخاص الذين لم يصابوا بالفيروس. ولهذه الغاية بذلت العديد من الشركات والمنظمات جهودًا لأتمتة بعض الإجراءات التي كانت تتطلب من العاملين الصحيين والطاقم الطبي التفاعل مع المرضى، تستخدم الشركات الصينية الطائرات دون طيار، والروبوتات لتسليم الأشياء دون تلامس ولرش المطهرات في المناطق العامة مما يساعد في تقليل خطر العدوى، تقوم الروبوتات الأخرى بفحص الأشخاص للكشف عن ارتفاع درجات الحرارة، وأعراض COVID-19 الأخرى. كما تقدم الروبوتات الغذاء والدواء للمرضى داخل المستشفيات وتقوم بتعقيم غرفهم لتفادي الحاجة إلى وجود فريق التمريض، في حين تقوم روبوتات أخرى بطهي الأرز دون إشراف بشري، مما يقلل من عدد الموظفين اللازمين لتشغيل المنشأة، يستخدم الأطباء في مدينة سياتل الأميركية الآن روبوتًا للتواصل مع المرضى وعلاجهم عن بُعد لتقليل تعرض الطاقم الطبي للأشخاص المصابين[47].
ثالثاً: بدأ يتشبث كثيرون بالأمل بشأن إمكانية الاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي في مواجهة فيروس كورونا، خاصة مع كثرة الاستعانة به خلال الآونة الأخيرة في العديد من التطبيقات في مجال الرعاية الصحية، ولهذا فالأمل معقود عليه الآن لإنقاذ البشرية، وهناك بالفعل مئات الشركات الناشئة التي بدأت تستعين بأدوات الذكاء الاصطناعي خلال الأعوام الماضية بهدف تسريع عملية اكتشاف الأدوية والعقاقير. مع هذا، فلم يصل سوى دواء واحد تم تطويره باستخدام الذكاء الاصطناعي إلى مرحلة تجربته سريريًا على البشر، وهو ما حدث أخيرًا فقط، لمعالجة مَن يعانون من الوسواس القهري، وفي حين يبدو أنه يتشابه على صعيد هيكل الحمض النووي مع مرض سارس، فإن مرض كوفيد-19 قد يشكل تحديًا صعبًا بالنسبة إلى الذكاء الاصطناعي لكونه مرضًا جديداً ولا تتوافر عنه معلومات كثيرة. في المقابل لا يمكن أن يوفر الذكاء الاصطناعي علاجًا فعالًا إلا إذا توافر لديه كثير من المعلومات الشاملة عن هذا المرض[48].
رابعاً: طوّر باحثون تقنية حديثة باستخدام الذكاء الاصطناعي تستطيع التعرف على فيروس كورونا في ثوان قليلة، في تطور من شأنه تسهيل عمل الأطباء لاسيما في أماكن انتشار الفيروس، باحثون دربوا الذكاء الاصطناعي على بيانات أكثر من خمسة آلاف حالة إصابة مؤكدة بفيروس كورونا؛ حيث أعلنت شركة “علي بابا” الصينية للتجارة الإلكترونية، أنها نجحت في تدريب الذكاء الاصطناعي للتعرف على فيروس كورونا، في وقت يتسابق فيه العلماء والباحثون من أجل إيجاد حلول للتعامل مع الفيروس الذي ينتشر بسرعة كبيرة، وقام الباحثون بتدريب الذكاء الاصطناعي على بيانات أكثر من خمسة آلاف حالة إصابة مؤكدة بفيروس كورونا، ووفقا لـ”علي بابا”، فإن البرنامج قادر أيضا على معرفة ما إذا كان الشخص مصابا بالحمى أو يرتدي الكمامة الطبية الواقية أم لا، ومن المنتظر استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي أولا في مجموعة من المتاجر التي تديرها شركة “علي بابا”، وسط خطط باستخدامها لاحقا في محطات قطارات ومستشفيات، شركة Ping An Smart Healthcare المنافسة لعلي بابا، طورت هي الأخرى تقنية مشابهة تقوم أيضا بتحليل مقاطع الأشعة خلال 15 ثانية، بمعدل دقة يتجاوز الـ 90 بالمئة. ووفقا للشركة فإن نحو 1500 من المنشآت الصحية بدأت بالفعل في الاعتماد على هذه التقنية[49].
خامساً: تمّ استخدام مختلف الأجهزة الذكية في الأعمال الزراعية وسط تفشي فيروس كورونا في أنحاء الصين، وذكرت وكالة شينخوا الصينية أن شركات صينية قد تبّنت مختلف التكنولوجيات العالية بما فيها الذكاء الاصطناعي والمسيرات الجوية بدون طيار، من أجل الوقاية من فيروس كورونا والسيطرة عليه في المناطق الريفية الشاسعة في البلاد، وفي مزرعة تغطي أكثر من 53300 هكتار، مع عدد سكان أكثر من 40 ألف نسمة في مدينة جياموسي بمقاطعة هيلونغجيانغ شمال شرقي الصين، تم تطبيق نظام مكالمات ذكاء اصطناعي للاستفسار عن الحالة الصحية للمزارعين، بدلاً من المكالمات الهاتفية اليدوية والزيارات الفعلية، ويمكن لروبوت الذكاء الاصطناعي الذي يستخدم تقنية الصوت الذكي، تحليل معلومات الكلام ووضع الوثائق والنماذج تلقائيًا التي تسجل محتويات التحقيق والبيانات، وقد بدأ استخدام هذا النظام، الذي قدمه عملاق التجارة الإلكترونية “جي دي دوت كوم” بشكل مجاني في شباط / فبراير الماضي[50] .
سادسا: على ضفاف بحيرة أونتاريو، كانت شركة ناشئة كندية من بين أولى الأطراف التي نبهت إلى خطر انتشار فيروس كورونا المستجد الذي انطلق من يوهان في الصين معتمدة في ذلك على الذكاء الاصطناعي؛ وطورت شركة “بلودوت” ومقرّها في تورنتو برمجية حسابية قادرة على الاطلاع على مئات آلاف المقالات الصحافية يوميا وبيانات الملاحة الجوية لرصد انتشار الأمراض المعدية ومتابعة أخطارها، وفي حالة فيروس كورونا المستجد الذي انطلق في الصين، أرسلت “بلودوت” إلى زبائنها تنبيهات اعتبارا من 31 ديسمبر 2019، أي بعد أيام قليلة على أولى البيانات الرسمية لهيئات الصحة الرسمية الكبرى. وقد توقعت بشكل صحيح الدول التي قد ينتشر فيها الفيروس، وقال كمران خان مؤسس “بلودوت” ورئيس مجلس إدارتها “نحاول أن نوسع أفق استخدام البيانات والتكنولوجيا وتحليلها من أجل التقدم بسرعة أكبر. إدارة الوقت أمر أساسي في مواجهة انتشار وباء”[51].
سابعاً: في ألمانيا باتت الروبوتات قادرة على تقييم احتمالية إصابة الأشخاص بالأمراض والأوبئة، وتقدير حجم الخطر، وأنّ المعلومات الناتجة عن الفحص باستخدام الذكاء الاصطناعي، يمكن أن تساعد في تحديد الأمراض بسرعة أكبر في المطارات ومحطات السكك الحديد ومباني الإدارة العامة والمصانع. علاوة على أن استخدام الذكاء الاصطناعي قصّر المدة من ثلاثة أشهر إلى ثلاثة أسابيع. وتحتاج الموافقة على الأدوات الجديدة إلى نحو 18 شهرًا، لكن مركز مكافحة الأمراض الكوري سرّع العملية وأعلن الموافقة عليها خلال أسبوع واحد بعد تجربتها[52].
ثامناً: وفي الولايات المتحدة تم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي للفحص والبحث في آلاف المقالات عن فيروس كورونا، لجعل وصول الباحثين إليها أسهل. ودعا مكتب البيت الأبيض لسياسيات العلوم والتقنية لتشكيل قاعدة معطيات كوفيد-19 مفتوحة للعامة. وتُشكل قاعدة المعطيات مجموعة تقارير قابلة للقراءة من قبل الآلة، وتتضمن 44 ألف تقرير ليستخدمها مجتمع البحث العلمي العالمي؛ حيث طوّر معهد آلين للذكاء الاصطناعي بالتعاون مع مايكروسوفت وعدة مجموعات بحثية قاعدة المعطيات. وطلب البيت الأبيض من خبراء الذكاء الاصطناعي تطوير تقنيات استخراج المعطيات لمساعدة المجتمع العلمي وتوفير أجوبة للأسئلة المهمة عن كوفيد-19. والتقى مدراء من مايكروسوفت وأمازون وليسبوك وابل مع ممثلي الحكومة البريطانية في الحادي عشر من آذار لمناقشة دورهم في هذه الأزمة، كتطوير تقنيات ذكاء اصطناعي لتتبع ونمذجة المعطيات… وتستخدم شركات القطاع الخاص الذكاء الاصطناعي لمعالجة المعطيات المتوفرة للعامة لمعرفة إمكانيّة معالجة المرض بدواء موجود حَالِيًّا قبل تطوير اللقاح، وفق ما نشرته صحيفة التليغراف. وتحاول شركتا فير بيوتيكنولوجي وأتوموايز الأمريكيتان تسخير الخوارزميات لإيجاد جزيئات قد تكون سبيلًا لتطوير العقار قبل نهاية السنة. والهدف تصميم عقارٍ مضاد للفيروسات واسع الطيف لاستخدامه في مواجهة فيروسات كورونا مستقبليّة.. ويمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتحذيرنا من الأوبئة المستقبلية. وتستخدم شركة الذكاء الاصطناعي العالمية بلودوت، الخوارزميات وتعلم الآلة ومعالجة اللغة الطبيعية لتحليل المعلومات من مصادر عدة لتتبع أكثر من مئة مرض معدٍ. وأرسلت الشركة تحذيرًا لعملائها في نهاية ديسمبر لتجنب ووهان، قبل إعلان كل من مركز مكافحة الأمراض والوقاية الأمريكي ومنظمة الصحة العالميّة عن الوباء[53].
تاسعا: في تحدٍّ آخر، يتعلق بتوظيف علوم البيانات والذكاء الاصطناعي لمواجهة فيروس “كورونا”، كان معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا قد أطلقه في إطار الجهود العالمية للبحث عن حلول لهذه الأزمة، وبخاصة ما يتعلق بكيفية الحماية المُثلى للفئات الأكثر عرضةً للإصابة بالفيروس، وكيفية دعم المستشفيات والمؤسسات الصحية بفرق العمل والمعدات والموارد. من جانبه، يشدد “متولي” على أن “هناك جهودًا كثيرة يمكن للبيانات أن تسهم فيها، مثل لوحة المعلومات التفاعلية التي طورها مركز علوم وهندسة النظم (CSSE) في جامعة جونز هوبكنز، وأيضًا تتبُّع النماذج الوبائية، مثل ما رصده تقرير جامعة إمبريال كوليدج البحثية”… ومن التطبيقات المفيدة الأخرى، والتي تجمع بين إنترنت الأشياء وعلوم البيانات، استخدام أجهزة المستشعرات الحيوية القابلة للارتداء، لقياس درجات الحرارة، والنبض، وغيرها من المتغيرات الصحية لدى المصابين، أو حتى الأصحاء الذين لديهم ساعات تقيس النبض والحرارة وبعض وظائف الجسد.. وهناك بحوث تعمل على جمع وتحليل البيانات الجينومية لتطور فيروسات كورونا السابقة، بما يساعد على توقُّع الطفرة القادمة للفيروس، مثل المعلومات اللحظية التي توفرها منصة Nextstrain التابعة لمركز فريد هوتش Fred Hutch. ويهدف هذا المشروع مفتوح المصدر إلى إتاحة هذه البيانات وأدوات التحليل القوية للجمهور العام، لاستخدامها بغرض رفع مستويات فهم الوباء وتحسين الاستجابة لتفشي المرض… وهناك نموذج آخر في توظيف البيانات لتسهيل عملية محاكاة التجارب الطبية لاختيار الأدوية الأكثر فاعليةً في مكافحة الفيروس، مثل ما فعله حاسوب سومت Summit الأسرع في العالم الذي أنتجته شركة آي بي إم IBM، إذ قام بتحليل 8000 مركب، للعثور على الأدوية الأكثر فاعلية، وكانت النتيجة اقتراح 77 نوع دواء، تم ترتيبها بناء على أفضليتها[54].
في النهاية، يمكن القول إنّ التكنولوجيا قد أسهمت بشكل كبير في الحد من انتشار الوباء، بل نجحت حتى في تحييده في دول معينة، لكن المشكل علمي بالأساس، وفي انتظار ما سيجود به العلم بإمكاناته الحالية، يجب علينا دق ناقوس الخطر، وحثّ الدوائر العلمية والحكومات على الالتفات للأمر، وإعادة النظر في استراتيجيات البحث العلمي وتمويلاته، بعد استخلاص الدروس من أزمة كورونا، وهذا حتى لا نشهد المزيد من التقهقر العلمي مستقبلاً.
في نهاية المطاف، لم تنته الحرب على فيروس كورونا الجديد حتى نطور لقاحًا يمكنه تحصين الجميع ضد الفيروس. لكن تطوير عقاقير وأدوية جديدة عملية طويلة ومكلفة للغاية، حيث يمكن أن تكلف مليارات الدولارات، وتستغرق ما يصل إلى 12 عامًا. وهذا الإطار الزمني لا يتناسب مع استمرار انتشار الفيروس بوتيرة متسارعة.
8- كورونا والعولمة:
يقول البرفسور الأمريكي، جوزيف ناي، الذي يعد أهمّ منظري “الليبرالية الجديدة” في العلاقات الدولية، في كتابه “مفارقة القوة الأمريكية” 2003: إنّ أقدم أشكال العولمة هو “الاعتماد البيئي المتبادل”، ويضرب مثالاً على ذلك انتشار وباء الجدري في مصر القديمة، عام 135 قبل الميلاد، ثم وصول المرض إلى الصين عام 49 للميلاد، وإلى أوروبا عام 700 للميلاد، ثم إلى الأمريكيتين عام 1520، ليصل في النهاية إلى أستراليا عام 1789 للميلاد[55].
وكلام جوزيف ناي يؤكده هنا كثير من المؤرخين والأنثربولوجيين، حيث أثبتوا أنه على مدار التاريخ ظل البشر حول العالم يتعرضون للأوبئة، فعانوا وباء الكوليرا وغيره من الأوبئة الفتاكة. ووفق الموقع الرسمي لــ “منظمة الصحة العالمية” على شبكة الإنترنت، فإن عصر أبقراط (460-377 ق.م) وعصر جالينوس (129-216 م) شهدا تفشيًا واسعًا لوباء قد يكون هو الكوليرا، كما أن مرضًا يشبه الكوليرا أيضًا كان معروفًا في سهول نهر الغانج (في شمال الهند) منذ القدم.
وقد شهد التاريخ حالات كثيرة لأوبئة الكوليرا والطاعون والحصبة والإنفلونزا والسارس وإنفلونزا الطيور وإنفلونزا الخنازير وغيرها، والتي تسببت بجانب الحروب في هلاك مئات الملايين على مر التاريخ.. ففي عام 165 ميلادية شهد العالم ما يسمى “الطاعون الأنطوني” أو “طاعون الأباطرة الأنطونيين” الذي ظهر في الإمبراطورية الرومانية، وتظهر السجلات التاريخية أن هذا الوباء تسبب في وفاة ما لا يقل عن ألفي شخص يَوْمِيًّا. وفي بدايات القرن التاسع عشر، انتشر وباء الكوليرا حول العالم، وكانت بدايته من منطقة جنوب شرق آسيا، حيث أصاب 100 ألف شخص في الصين وإندونيسيا، ثم انتقل تباعًا إلى مناطق أخرى من العالم؛ حيث انتشر المرض في وقت لاحق وتعولم على طول طرق التجارة في آسيا وأفريقيا وأوروبا، كما تم توثيق أوصاف لا لبس فيها لهذا المرض في الصين، خلال القرن الرابع، وفي الهند ومنطقة البحر الأبيض المتوسط خلال القرن السابع الميلادي، فضلاً عن جنوب غرب آسيا خلال القرن العاشر…
وتشير التقديرات إلى أنّ الجدري دخل أوروبا بين القرنين الخامس والسابع مع انتشار الأوبئة خلال العصور الوسطى، وأدخل المستعمرون الأوروبيون الجدري إلى الأمريكيتين (وأيضاً أفريقيا وأستراليا) بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر، مع معدلات إصابة بلغت 90%، ويعتقد أنّ الجدري كان السبب وراء سقوط إمبراطوريات الآزتيك والإنكا في أمريكا الجنوبية وذلك كما قال سعود الشرفات في مقاله سالف الذكر[56].
وبرغم التقدّم الكبير الذي أحرزه العالم في الرعاية الصحية في العصر الحديث، ما زال وباء الكوليرا يُصيب ما يتراوح بين 1.3 مليون شخص و4 ملايين شخص سنويًّا، ويقتل ما يتراوح بين 21 ألف شخصٍ و143 ألف شخصٍ حول العالم كل عام، محدثًا خسائرَ كبيرةً في الأرواح، ومحملًا الاقتصاد العالمي أعباء ثقيلةً.
المقصود من هذا الاستشهاد من نوع “التأريخ بالعدد” هو الإشارة إلى قضية رئيسة وحاسمة في سيرورة العولمة؛ ألا وهي قضية تطور آليات العولمة التكنولوجية وتحديداً المواصلات والاتصالات وعملية الرابط والتشبيك الواسع والعميق لكافة البنى الاجتماعية في العالم القديم والمعاصر، ثم خطورة الأمراض والجراثيم والفيروسات، وانتشارها المتسارع وقدرتها الهائلة على نشر الهلع عالمياً وتأثيرها السلبي على شلّ الحياة الاجتماعية للبشر والاقتصاد العالمي بكلمات أخرى، فإن ما يستفيده الاقتصاد العالمي من انفتاح في ظل العولمة، من خلال جعل انتقال البشر والأيدي العاملة أكثر سهولة ويسرًا، فهو يُعد في الوقت ذاته قناة لنقل الفيروسات بين الدول، وتحولها إلى أوبئة عالمية في أيام معدودة، وهذا ما يمكن وصفه بـ”عولمة الأوبئة” [57].
في الحادي والثلاثين من شهر ديسمبر 2019، أعلنت الصين أول إصابة بفيروس مجهول في مدينة ووهان، بمقاطعة هوبي الوسطى.. لم يكترث الكثيرون له ولم يعيرونه أيّ اهتمام.. في العاشر من ديسمبر 2019 تعرض 7 أشخاص للعدوي بالفيروس في أحد مدارس ووهان.. لم يخطر ببال أي أحد أبداً أن يحدث هذا كله.. وبعد أسبوعين وبالأخص في 31 ديسمبر 2019 من إصابة الـ 7 أشخاص، انتقل المرض بالعدوى إلى 104 حالة مرضية.. حصرها المركز الصيني للسيطرة للأمراض والوقاية منها، لكنه لم يصنفها مصابة بفيروس كورونا.
وفي 11 يناير 2020 وصلت بالعدوى إلى 284 حالة مرضية، وقد صُنفت على أنها مصابة بنوع غير معروف للالتهاب الرئوي، ومن بين المصابين 7 عاملين في مجال الرعاية الطبية، وذلك في دلالة أن هذا الفيروس ينتقل بالعدوي بين البشر.. لم توجه الصين أي تحذيرات للمواطنين ووصل الأمر ببعضهم إلى تنظيم مأدبة طعام حضرها عشرات الآلاف من الأشخاص، بينما كان الفيروس يتفشى بين الناس.. لم يتخذ سكان ووهان الاحتياطات اللازمة ضد الفيروس.. فلم يكونوا على علم بوباء منتشر بين أرجاء المدينة.
ارتفعت أعداد من يشعرون بأعراض مرضية في ووهان بوتيرة سريعة، إلا أن تلقي العلاج كان يزداد صعوبة.. منعت حكومة ووهان المواطنين من مغادرة تجمعاتهم السكنية.. في 30 من ديسمبر 2019م فجر الطبيب الصيني “لي وينليانغ “-طبيب عيون في ووهان الحقيقة عبر تطبيق المراسلة الصيني “واي شاة”- بأن الفيروس المنتشر مميت، وطلب من سكان ووهان توخي الحذر.. اعتبرت السلطات الصينية أن الطبيب مروج للشائعات، وأنه قد يواجه تهماً بالإرهاب.. إلا أنّ العدوي قد أصابت الطبيب ليفارق الحياة.. وقد دوّت وفاة الطبيب في وسائل التواصل الاجتماعي، وأثارت ردود فعل غاضبة بين أوساط الصينيين.. كانت حياته الثمن الذي أثبت أنه لم يكن مروج شائعات، فحظي بتعاطف واسع بين الناس، لأنهم قد أدركوا أنهم قد يواجهون المصير ذاته، وهذا ما يفسّر ردة الفعل السريعة من عامة الشعب الصيني إزاء موته.
إنّ تحكم وسيطرة الحكومة الصينية على وسائل الاجتماعي لمحاولة منع تلك المعلومات من الوصول إلى شق واسع من الشعب؛ أدى في حقيقة الأمر إلى تأخير التدخل الحكومي الفاعل طبقاً لتصريحات بعض خبراء الرعاية الصحية الذين قالوا إنّ أسبوعين على الأقل قد تمّ إهدارهما.. وبالفعل كانت العدوى سريعة الانتشار..
ومع توالي إعلان الإصابات وحالات الوفاة، أعلنت الصين الحجر الصحي في 13 مدينة بمقاطعة هوبي، بإجمالي سكان يبلغ 41 مليون نسمة، كما وضعت السلطات قيودًا مُشَدَّدَة على السفر الداخلي، في محاولة للحد من انتشار الفيروس. وبحلول يوم 2 فبراير 2020 حددت السلطات الصينية أرقام الإصابات بفيروس كورونا الجديد حتى الأربعاء الثاني من مايو الجاري ليصبح عدد الإصابات المؤكدة حول العالم ٤٫٣٧ مليون ألف حالة منها ٢٩٨ ألف حالة وفاة.. وبجانب ذلك فقد ظهرت حالات إصابة بالفيروس في 26 دولة أخرى إلى جانب الصين، كاليابان وكوريا الجنوبية وهونج كونج وسنغافورة، ودول أوروبية، ووصل الفيروس إلى الولايات المتحدة وكندا ودول أمريكا الجنوبية.
وبعد بضعة أسابيع من تفشي فيروس كورونا المخيف حول العالم، يكاد الناظر للمشهد العالمي أن يشعر أننا لم نعد نعيش في “قرية صغيرة” أفرزتها العولمة؛ إذ ثبت أنّ العولمة لا تزال غير مكتملة الأسس، لحين انضواء كل الدول والمجتمعات تحت لواء القيم المشتركة للإنسان الحافظة لكرامته وحقوقه الإنسانية بالعيش بصحة جيدة خالية من السموم ومخاطر الأوبئة.. وبالتالي تبقي العولمة وسهولة التنقل والانفتاح بين الدول التي تتباين أنظمتها السياسية والصحية وتعاملها مع “الإنسان” ومواطنيها نقمة دولية تحتاج إعادة النظر بها، درساً مهما في العلاقات الدولية” [58].
إنّ انتشار جائحة ال كورونا أثبت أن النموذج النيوليبرالي المعولم المنفلت من كل ضوابط لا يشكل ظلمًا لملايين من البش فحسب، بل يمثل خطرًا على وجودهم نفسه، ففي لحظة الحقيقة اختفى التصدر الزائف الذي تمحورت حوله اهتمامات الناس وتشكلت كبرى الاقتصادات لعوالم صناعة الترفيه الطاغية من لاعبي كرة القدم وفنانين وسياسيين وغيرهم. في لحظة الحقيقة تحولت إيطاليا، صاحبة الاقتصاد الثامن عالميًا من تقرير “من يحيا ومن يُترك لمصيره” إلى “اتركوهم يموتون.. ليس لدينا إمكانات”! وتحول السويد، البلد الذي يفترض أنه يملك تاريخًا طويلًا من الاشتراكية الديمقراطية ودولة الرفاه إلى “ابقَ في البيت وتناول براسيتامول.. ليس لدينا إمكانات لاستيعاب المزيد[59].
إنّ فيروس “كورونا” كشف لنا أنه لم يعد قضية محاصرة فيروس ما زال مستعصياً على التشخيص والعلاج، وإنما ما واكبه من انهيار في البورصات العالمية بما فيها البورصة الأمريكية، ومن بعدها أسعار النفط، ونشب خلاف بين روسيا والسعودية بعد انسجام، أصبح الأمر كما لو كانت هناك “سلسلة” من الأحداث الخطرة التي يعقبها أحداث أكثر خطورة، أصبحت الولايات المتحدة المزدهرة على حافة انكماش اقتصادي، وبدا العالم على شفا ” الكساد “.. الفيروس وتعرض قلب العالم الصناعي في الصين إلى اختبار كبير فقد تراجعت معدلات النمو الصينية، وأصبحت صناعات العالم التي تعتمد على الصناعة الصينية في حالة شلل.. وانهارت الصناعة العالمية، وقل الطلب على النفط، وعلى التجارة العالمية… فيروس “كورونا” أصبح نوعاً من “نوبة الصحيان” الضرورية التي ذكّرت العالم بأنه مهما نجحت الدول في بناء الأسوار فإنه لم يعد ممكناً للدول وحدها التعامل مع سلسلة الأحداث الخطرة الممثلة في “الاحتباس الحراري”، والتي أدت إلى كوارث زراعية في العديد من الدول نتج عنها وفق تقارير دولية إلى وفاة 815 مليون مواطن نتيجة ضعف أو قلة الغذاء.
وفي الختام، لا بد من التأكيد على أن انتشار مثل هذه الفيروسات وتحولها إلى أوبئة على هذا النحو، هو شيء ليس بالغريب أو الاستثنائي في عصر العولمة، فمنظّمة الصحة العالمية تستقبل سنويًّا أكثر من 5 آلاف بلاغ مبكر عن أوبئة متفشية حول العالم. كما أن الاقتصاد العالمي يتحمل تكلفة سنوية تتراوح بين 500 مليار دولار و570 مليار دولار بسبب الأوبئة، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي والمنتدى الاقتصادي العالمي، وهي القيمة التي تُمثّل نحو 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، كما أنها تعادل التكلفة التي يتحملها العالم بسبب أزمة التغير المناخي كل عام. ومن ثمّ فإن وباء كورونا الجديد ليس إلا وباءً جديدًا يُضاف إلى سجل الأوبئة العالمية لدى منظمة الصحة العالمية، ويُرجّح أن تنحسر مخاطره على الاقتصاد العالمي قريبًا، وذلك كما قال علي صلاح في مقاله: عولمة الأوبئة: انعكاسات فيروس “كورونا” على الاقتصاد العالمي..
كما عرف التاريخ أحداثاً مفصلية غيرت مجراه، معارك طاحنة، ملاحم بطولية، أفكار إبداعية، اختراعات مذهلة وأناس عظام… لكننا اليوم نتحدث عن ميكروبات طُبعت في ذاكرة التاريخ، وصنعت لنفسها مكاناً في صفحات كتب التاريخ والطب على حدٍّ سواء.. حولت النصر إلى هزيمة، والغنى والرفاهية إلى فقر وعنت… ومن إنتاج وازدهار إلى عجز واندثار.
عجباً لتقلبات الزمن فمن يصدق أن أوربا والمجتمع الغربي الذي شهد في القرن 18 عصر الحداثة، والذي استطاع أن يطرح مركزية الإنسان على كوكب الأرض، واحترام الإنسان لأخيه الإنسان، بل إن البعض أدخل في هذا الأمر مناحي دينية غير مقبولة، لتبرز تعظيم الإنسان في عصر الحداثة.. ثم نُفاجأ بعد عصر الحداثة بوجود صواريخ عابرة للقارات، وأخرى بعيدة المدى، ومتوسطة، بل فوجئنا أكثر وأكثر باكتشاف الأمريكان والسوفييت لقنابل نووية، ثم توصلهم إلى اكتشاف سلاح كيماوي، ثم سلاح بيولوجي، ثم فوجئنا بوصولهم إلى كوكب المريخ وكوكب الزهرة، بل وصلوا إلى مجموعة شمسية أخري، ومخلوقات فضائية، ثم تضع أمريكا أكثر من 20 مليار لوكالة ناسا.
رغم كل هذا الإنجاز ات العلميّة والتكنولوجيّة ظهرت كورونا فكشفت وفضحت كل ذلك؛ خاصة عندما وجدنا السياسيين يقولون “ودّعوا أحبابكم، وأنه لا توجد أسرة، ولا نظم صحية، ولا أجهزة تنفس اصطناعي، ولا كمامات”.. والسؤال هنا: كيف أن الدّول قد أنفقت كلّ تلك الأموال الطائلة في الصواريخ، والأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية، والوصول إلى المريخ، وتعجز دولة عظمى في حجم الولايات المتحدة الأمريكية عن توفير كمامات لمواطنيها، وكما قال أحد الكتاب عندما نشاهد الأفلام الأمريكية نتوقع أنه لو يقع غزو فضائي للمريخ، فإن الولايات المتحدة سترد على الفور. أما الآن فجزء كبير من الهيبة الأمريكية قد تراجع.. لماذا؟! لأن أيقونات أمريكا اهتزّت.. فجامعة هارفارد الأيقونة الأمريكية أصيب رئيسها بفيروس كورونا.. ونيويورك أيقونة مدن العالم هي الأكثر وباءً الآن.. وحاملة الطائرات فخر البحرية الأمريكية الآن مصابة.. وهكذا فإنّ الأيقونات الأمريكية سقطت تحت عرش كورونا.. الكل يهتز، حتى حلف الناتو لأول مرة من 70 عاما يجتمع عبر الفيديو كونفرانس والفيديو.
لقد أثبتت هذا الفيروس المجهري أن التاريخ الحديث والمعاصر هش وقابل للكسر، وكثيرا ما انحنت الإنسانيّة نتيجة تأثير عوامل ومؤثرات عديدة ومتداخلة من ضمنها الأمراض والأوبئة والعدوى؛ ففي التاريخ الإنساني كم من بلاء ووباء أفرز تغييراً في موازين القوى السياسية، وأسقط إمبراطوريات عتيقة، وأقام ممالك جديدة. إن الجراثيم المميتة والميكروبات المعدية شيء مخيف، ولهذا لم تفلح محاولة عالِم الجراثيم الفرنسي المعروف “لويس باستور” في تلطيف الشعور السلبي نحوها، عندما قال (ليست الجراثيم هي من نحتاج أن نقلق منها ولكن ضميرنا الداخلي). التاريخ الإنساني مثخن بكوارث الأوبئة المميتة التي تسببت في زوال إمبراطوريات وممالك كانت يوماً ما مسيطرة ومزدهرة [60].
وبرغم ذلك فإنه من الإنصاف أيضا القول: كم من أمراض معدية شنيعة (محنة) أثمرت (منحة) عظيمة وخيرا كثيرا كتطوير مهنة الطب مثلاً، أو تغيير أساليب التجارة، أو المساهمة في خلق أعمال أدبية وفنية والمعمارية بديعة.
لقد فرض كورونا على النظم السياسية المختلفة امتحاناً مفاجئاً خرجت منه الديمقراطية منحنية الرأس، راسبة.. لم تستطع الولايات المتحدة بقدراتها العلمية، ونظمها الصحية، وأبحاثها الطبية، أن تواجه الوباء دون أن تفرض إجراءات توصف بالديكتاتورية لو طبقت من قبل لخرج الأمريكيون جميعاً إلى الشوارع غاضبين رافضين غير مصدقين.. لجأ الرئيس الأمريكي ترامب إلى قانون الإنتاج الدفاعي الذي يمنحه سلطات استثنائية تسمح لحكومته بتغيير السلع التي تنتجها المصانع، وتأميم الشركات ووضع إمكانياتها تحت سيطرة الحكومة الفيدرالية. ونسيت أوروبا مهبط الديمقراطية وقيم الحرية والمساواة والحقوق الإنسانية، وحرمت كبار السن من العلاج في المستشفيات، وتركتهم يموتون في أماكنهم.. وتذكرت بعض الدول الرأسمالية (مثل إسبانيا) جينات أجدادها القراصنة واستولت على شحنات طبية لم تكن لها وبعد أن هدد رئيس الفلبين بإلقاء تجار المخدرات من الجو، قرر إطلاق النار على كل من يخالف الحظر.. والمؤكد أن مزاج الشعوب تعكر وتغير، مما يعنى تغير اتجاهات التصويت في الانتخابات المقبلة. وفي الوقت نفسه نجحت الصين التي لا تزال تؤمن بديكتاتورية البروليتاريا (الطبقة العاملة) في تحجيم الأزمة وتحملت آثارها الاقتصادية… لم تطرد الصين عاملاً واحداً، بينما خسر خمسة ملايين عامل في الغرب وظائفهم حتى الآن، وثبت أن نظام إعانة البطالة لا يفي باحتياجاتهم[61].
كورونا الفيروس الذي لن ينساه الأحياء، وسوف يسجل في صفحات التاريخ كحرب عالمية ثالثة، ليس بها دول المحور والحلفاء، كل العالم تحالف لصد حرب كائن ميت لا يريد إلا الوصول إلى خنق (الشهيق والزفير) وليس لديه أفضلية في قطف الأنفس، يعامل ضحاياه بالتساوي، لا تعنيه الرتب، ينخر أي رئة تصادفه.. ومن مميزات هذه الحرب، تعرية دول عظيمة (قبل مجيئه)، حتى إذا أدام المكوث في جغرافية الدولة العظمى، برهن أن الستار الذي تقف خلفه، ستار من كرتون… كان- وما زال- مروره العاصف، على جميع دول العالم، محل حيرة وارتباك، فطارت الألباب واحتار الجميع، ولأنها حرب عالمية، لا تزال كل دولة تحاربه من خندقها.. ولأنها حرب حقيقية: إما أن تنتصر، وإما التحفز، لدفن مواطنيك في قبور جماعية، أو منفردة، فالخسارة هي ذاتها في ظل تعرية النظام الصحي لتلك الدول.. وقد أجاد فايروس كورونا تنبيه الشعوب لما هي عليه دولهم، فالأخطار الجسيمة تفرز القوى الحضارية المتقدمة دون سواها، وتكشف مقدار استعداد الدولة في إدارة الأزمة الطارئة من خلال جميع أجهزتها، وتناسق الخطوات بين تلك الأجهزة، بحيث يكمل كل منهم الآخر.. ولأننا ما زلنا في هذه الحرب العالمية، أبصارنا معلقة بقنوات فضائية تنقل -في كل لحظة- أخبار هذه الحرب، وما يحدثه الفيروس من خسائر في الأرواح، وفي المنظومة الصحية، وفي الاقتصاد، ويكشف أيضاً وعي المواطنين بالالتزام بما تسنه الدولة من قوانين وأنظمة لمواجهة عدو شرس.. كما أن كورونا كشف أنواعاً مختلفة من الوعي الذي تحول الفرد فيها إلى جندي، لا تريد منه الدولة سوى المكوث داخل البيت، لكي تفوت على الفايروس تسجيل نقاط انتصار على الدول، وذلك حسب قول عبده خال في مقالة له بعنوان: حرب عالمية ثالثة.. من يفوز؟
كما كشفت كورونا أن للعولمة سلبياتها فنرى أن مناطق من العالم تعيش مستوى مرتفعا من الرخاء والرعاية الصحية، في حين أن مناطق أخرى من العالم تعاني الفقر والتهميش، وتصبح مناطقهم تربة خصبة لتكاثر الفيروسات، ونشأة الأوبئة، ويتنقل البشر وسفرهم إلى باقي دول العالم تنتقل معهم الأوبئة، وتصل إلى البلدان الغنية التي تتمتع برعاية صحية متقدمة، وهكذا يستغل الفيروس، ويستفيد هو الآخر من حرية الحركة، والسفر بين الدول، كإحدى ميزات العولمة… “كورونا” الذي لا تتجاوز نسبة الوفاة بين مصابيه 2 %، يشبه كلّ ألاعيب العصر من الهجمات السيبرانية، إلى حرب “السوشيال ميديا” وخطاب الكراهية المفتعل، إلى اقتصاد الشبكات والتجارة الإلكترونية.
من المفارقات التي كشفها فيروس كورونا المستجد، أن تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات بعد التوقف الإجباري، أصبحوا مستعدين وقادرين ومتعاونين مع التكنولوجيا، ومثلما خففت مؤسسات كثيرة الحضور لموظفيها ونجحت في تنفيذ العمل من المنزل، نجحت خطوات التعليم عن بعد، وظهرت حلول كثيرة للدروس والمحاضرات “أون لاين”، وأصبحت تطبيقات “فيس بوك”، ويوتيوب قادرة على نقل العملية التعليمية، وليس فقط للدردشة، والنميمة، والكوميسك الذي يسخر من تطوير التعليم. وبدا أن ما كان الكثيرون يقاوموه ويهاجموه ممكناً وقابلاً للتطبيق. وفي ظل تهديد كورونا تقبل المجتمع ما كان يقاومه مختاراً[62].
ثمة نقطة مهمة جدير بالإشارة نود أنه نقولها هنا وهي أنه بعد بضعة أسابيع من تفشي فيروس كورونا المخيف حول العالم، يكاد الناظر للمشهد العالمي أن يشعر أننا لم نعد نعيش في “قرية صغيرة” أفرزتها العولمة؛ إذ ثبت أنّ العولمة لا تزال غير مكتملة الأسس، لحين انضواء كل الدول والمجتمعات تحت لواء القيم المشتركة للإنسان الحافظة لكرامته وحقوقه الإنسانية بالعيش بصحة جيدة خالية من السموم ومخاطر الأوبئة… وبالتالي تبقي العولمة وسهولة التنقل والانفتاح بين الدول التي تتباين أنظمتها السياسية والصحية وتعاملها مع “الإنسان” ومواطنيها نقمة دولية تحتاج إعادة النظر بها، وليكن كما قال بديع يونس) في مقاله بعنوان كورونا والعولمة و”المؤامرة”) ” كورونا درساً مهما في العلاقات الدولية”.
إنّ ما رأيناه في واقع الأمر من ضحايا كورونا ترك انطباعاً سياسياً أولياً حول مدى هشاشة النظام الدولي العالمي، من حيث علاقة دول العالم بعضها ببعض، إذ تبدو الشكوك أول الأمر وآخره هي المتحكمة في المشهد وليس الثقة بين الأمم والشعوب.. وهنا ظهرت مجموعة من المقالات التي تنعى العولمة، مثل “تفش عالمي يغذي رد الفعل العكسي ضد العولمة”، و”انتشار الفيروس قد يعجل بالانهيار الكبير للعولمة”، و “هل ينهي فيروس كورونا العولمة كما نعرفها؟
ذكرت وكالة أنباء “بلومبرج” الأمريكية في تحليل لها، أن الإجابة باختصار هي: لا.. لن يقضي فيروس كورونا على العولمة- على الأقل لن يحدث ذلك إذا ما تحدثنا عن العولمة على أنها أمر أكبر من مجرد سلاسل توريد عبر القارات وسفن حاويات ضخمة.. بيد أن تقويض إشعارات الوفاة المبكرة، الناجمة عن الفيروس، هو التحدي الذي تشكله إدارة العولمة في ظل تحول موازين القوى العالمية.. إن العولمة في حاجة لإدارتها؛ خاصة بعد تراجع نفوذ الولايات المتحدة، غير العسكري، والذي ظهر واضحاً في مواجهة تفشي وباء كورونا والذي رفضه الرئيس ترامب في طور الاندلاع عندما نظر إليه على أنه كذبة حزبية، علاوة علي أنه كان قد رفض تماماً في وقت سابق الأهمية الملحة لقضية التغير المناخي، كما اعتبر المنظمات متعددة الأطراف التي جرى تأسيسها من أجل التأقلم مع العولمة، سواء كانت الأمم المتحدة أو منظمة التجارة العالمية، انتهاكات لسيادة أمريكا، وليست سبيلاً لتعزيز النفوذ الأمريكي، وزيادة تقاسم الأعباء، وبالتالي أسقط ترامب كل الشعارات الأمريكية التي جسدها كسينجر في كتاباته ؛ ففي المنظور الأمريكي للعالم يومها لم تكن السياسة الخارجية مهمة بقدر ما كان غرس مبادئ مشتركة.. ألم يقل هنري كيسينجر في كتابه “النظام العالمي” إنّ الولايات المتحدة “ستصبح غير مستغنى عنها لدفاعها عن نظام القيم الذي أسسته أوروبا”، ويقصد كيسينجر أنّ “سلام ويستفاليا” أرسى أولى الشروط من النظام العالمي المعاصر بحسب خبراء في العلاقات الدولية. وبحسب كيسنجر، فإنّ “الرؤية الأمريكية تسعى لبلوغ السلام عبر نشر مبادئ الديمقراطية”.
إنها إذاً حالة انعدام الثقة بين دول العالم لا سيما الأقطاب الكبرى، وقد تجلت في الشهرين الماضيين، وبدا أيضاً أن هناك تبعات تتعلق بحال ومآل الدولة العصرية بشكلها الويستفالي.. ماذا نعني بذلك؟
لقد أكدت أزمة كورونا فشل ما ذهب إليه عالم الاجتماع السياسي مارشال ماكلوهان من أن العالم بات قرية صغيرة، فإذ بنا نجد أنفسنا في مواجهةِ “حارة كونية”، سواء عبر الانتقال من قارة إلى قارة، ومن موضع إلى آخر حول الكرة الأرضية جسمانياً، أو على صعيد التواصل المعلوماتي والمعرفي عبر نقرات خفيفة على الفأرة، أو بلمسات على الهواتف الذكية.. كما أكدت فشل ما ذهب إليه أيضا “كوفي عنان” عن العولمة بأنها تعني انسياب الأفكار والمهارات والأموال، بحيث تصبح عابرة للحدود مخترقة للقارات؛ أي أنها تعنى سقوط الحواجز بين الشعوب وتشير إلى درجة من الانفتاح بين الأمم.
إن كورونا أظهرت بأي مقدار هو العالم قرية كونية بالفعل، ولكن هذه «الكونية» ليست بمنجاة من المخاطر الآتية إليها من أحد مراكزها أو أطرافها، ما كانت ستعرفها لو ظلت مجرد قرية.. ليس هذا فقط بل أعادت كورونا العالم إلى سيرته الأولي.. دول مغلقة حدودها في وجه بعضها بعضاً.. دول أقرب إلى الجزر الصغيرة المترامية بعيداً.. إن كورونا أكدت أن البشرية قد عرفت طوال قرون خلت أنواعاً مختلفة من الأوبئة الفتاكة كالطاعون والجدري والكوليرا والسل، ولم يكن العلم قد تقدّم إلى هذه الدرجة التي هي عليه الآن، كما لم تكن الأمصال الحديثة قد وجدت طريقها إلى البشرية، وفي ذلك الإطار كانت الأوبئة محلية أو في أسوأ الأحوال إقليمية، فما كان يضرب أوروبا، حكما لم يكن يؤثر في آسيا أو إفريقيا، ناهيك عن أمريكا الجنوبية أو الشمالية، فقد كان العالم وقتها جزراً منعزلة بعيدة عن بعضها بعضاً [63].
صحيح أن عدد من ماتوا ويموتون كلّ يوم منذ أن أُعلن عن اكتشاف «كورونا» لا يعدّ شيئاً مهولاً قياساً لما كان يحدث قبله من حالات وفاة في مختلف البلدان؛ خاصة منها كثيرة السكان، أو التي تعاني الفقر وتدني الخدمات الطبية، فضلاً عن ضحايا الحروب المدمرة، أهلية كانت أو بين الدول، وضحايا المجاعات والقحط والكوارث الطبيعية كالفيضانات والحرائق وغيرها.. لا نرمي البتة إلى التقليل من خطر “كورونا” الذي يجتاح البلدان، بلداً وراء آخر، ويستنفر العالم كله لمواجهته، وتعمل المختبرات ليل- نهار للوصول إلى لقاح يمنعه وعلاجات تشفي منه، ولكننا لا يمكن أن نغفل عن أن الماكينة الإعلامية العالمية، غير الملامة على كل حال، تساهم بحصة كبيرة في بث الهلع غير المسبوق جراء الفيروس.
إنّ فيروس كورونا، وصل إلى كل مكان وقطع التواصل في العالم. وهو، عملياً، قد فعل أمرين متعاكسين: من جهة طبّق العولمة بالكامل، وإن كانت عولمة الخوف. ومن جهة أخرى، جعل العزل أمراً واقعاً بين القارات، ثم بين البلدان، ثم داخل كل بلد دون أن تنتج تجربة العزل ما أنتجته تجربة إديسون، إذ يروي إدموند موريس في كتابه “إديسون”، أن المخترع العظيم قال “لم أسمع صوت عصفور منذ كنت في الحادية عشرة، لكن الصمم أبعدني عن ضجيج العالم للتركيز على ما أريد اختراعه.
إنّ وباء كورونا أجبر العالم على التخلي موقتاً عن “فن الحياة”، لا مسارح، لا مباريات رياضية، لا ندوات ثقافية، لا مطاعم، لا مَقَاهِي، لا صلوات، ولا حتى تبادل السلام بالأيدي أو التقبيل. فالعالم اليوم يواجه عدواً لا يعرفه، ولا يراه، ولا يعرف من أين يأتيه. وكل التطورات في العلم والتكنولوجيا والأجهزة الكاشفة عجزت عن التغلب على جرثومة من حشرة صغيرة. فالطبيعة ليست فقط أقوى منا حين تضربنا بالزلازل وسواها بل أيضاً أذكى منا.
وهذا ما يختصره العالم الفيزيائي فريمان دايسون في جامعة برنستون بالقول، إنّ “الطبيعة لديها دائماً مخيّلة أكثر مما لدينا، وجمال العلم هو أن كل الأشياء المهمة لا يمكن التنبؤ بها”. وقبل قرون في العالم العربي، قال النّفري: إن “العلم المستقر هو الجهل المستقر” [64].
لذلك لم نكن نعلم أنه سوف يأتي يوم يجرى فيه تطبيق العولمة على النحو الذي نراه الآن بعد ظهور فيروس كورونا، الذي قلب العالم رأسًا على عقب وحبس الأسر في منازلهم، وأوقف الطيران الدولي والداخلي وأدّى إلى تجميد السياحة وإلغاء الحجوزات، وإغلاق المدارس والجامعات والنوادي والفنادق، بل الكنائس والمساجد، لقد أصبحنا أمام مشهد غير مسبوق في تاريخنا الذي عشناه، ولا أظن أن لما نراه اليوم سابقة أو مثيلا.. نعم إنها حرب عالمية ثالثة ولكن دون جيوش أو طائرات أو بوارج، ولكن بفيروس صغير تدخل في الخطط الشخصية لكل البشر بغير استثناء، ولم يفرق بين دول غنية وأخرى فقيرة، ولا بين الشمال والجنوب أو الشرق والغرب، فالفيروس الذي بدأ ظهوره من الصين دار حول العالم بأسره وضرب إيطاليا على نحو مؤلم كما نالت إيران وكوريا الجنوبية ودول أخرى نصيبًا من ذلك الوباء اللعين.. فيروس كورونا أثبت سرعة انتشاره مستفيداً من نظام العولمة الذي حوّل الكرة الأرضية إلى “قرية كونية”؛ بحيث سهّل انتقال الأشخاص، وهي الحرية التي سهّلت بدورها انتشار الوباء دون حاجة إلى الحصول على إذن أو تأشيرة، بدليل أن الوباء بدأ في منطقة محددة من الصين، ثم انتقل خلال أيام إلى باقي أنحاء العالم عابرا للقارات.. المفارقة هنا هي أن العولمة بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية كانت تخدم أنظمة رأسمالية دولية، ويتم توظيفها لخدمة مآرب ومشاريع تصب بشكل خاص في مصلحتها على حساب الفقراء من دول وشعوب، ولكن مع فيروس كورونا انتفت أي فروقات طبقية وساد ما يمكن تسميته “اشتراكية المرض” بحيث أصبح الفقير والغني ليسا بمنأى عن هذا الوباء، ولم تكن الأنظمة ومن يمثلها في هرمية السلطة بعيدة عن مخاطره. وبذلك أصبح الوباء عابراً للطبقات الاجتماعية بكل متدرجاتها وتصنيفاتها وذلك كما قال محمد الجبور في مقاله كورونا واشتراكية المرض.
إنّ فيروس «كورونا» كشف لنا أنه لم يعد قضية محاصرة فيروس ما زال مستعصياً على التشخيص والعلاج، وإنما ما واكبه من انهيار في البورصات العالمية بما فيها البورصة الأمريكية، ومن بعدها أسعار النفط، ونشب خلاف بين روسيا والسعودية بعد انسجام، أصبح الأمر كما لو كانت هناك «سلسلة» من الأحداث الخطرة التي تعقبها أحداث أكثر خطورة، أصبحت الولايات المتحدة المزدهرة على حافة انكماش اقتصادي، وبدا العالم على شفا ” الكساد “.. الفيروس عرض قلب العالم الصناعي في الصين إلى اختبار كبير فقد تراجعت معدلات النمو الصينية، وأصبحت صناعات العالم التي تعتمد على الصناعة الصينية في حالة شلل.. انهيار الصناعة العالمية قلل الطلب على النفط، وعلى التجارة العالمية.. فيروس «كورونا» أصبح نوعاً من «نوبة الصحيان» الضرورية للعالم، أنه مهما نجحت الدول في بناء الأسوار فإنه لم يعد ممكناً للدول وحدها التعامل مع سلسلة الأحداث الخطرة الممثلة في «الاحتباس الحراري»، والتي أدت إلى كوارث زراعية في العديد من الدول نتج عنها وفق تقارير دولية وفاة 815 مليون مواطن نتيجة ضعف أو قلة الغذاء [65].
اليوم، ووسط الرعب المتزايد عن مصير العالم في ظل انتشار كورونا المستجد، لا يخلو الحديث عن التغيرات التي سيشهدها العالم في مرحلة ما بعد كورونا، لأنه ما من شك، أن “الجندي كورونا”، مثله مثل أي أزمة وبائية أو حرب عالمية تقليدية ستهز العالم بأسره، من شأنه أن يغير مفاهيم ونماذج العمل (في البنى التحتية والفوقية)، التي ما كانت لتتغير من مرحلة لأخرى، لولا ضرورة الأزمة واستحقاقاتها العملية بإنتاج مفاهيمها الخاصة في طبيعة علاقات التبادل والأولويات، لذلك ومن باب الاعتقاد، أنّ دول العالم وخصوصاً الغنية منها، واتحاداتها العالمية الاحتكارية العابرة للقارات، ما كانت لتخرج من عنق الزجاجة ونظام عملها القديم – الاحتكاري والاستغلالي- لتبحث جدياً في كيفية اعتماد أنظمة وأنماط عمل جديدة في كافة ميادين الحياة بأولوياتها المستحقة، لولا الأمر الواقع الذي أحدثه فيروس كورونا و”مفاعيله” على الصعيد المجتمعي الدولي، والذي عجزت عن تبنيه واستبصار نتائجه، كبرى الاجتماعات الدولية للدول الصناعية والغنية، في ما يتعلق بحقائق: (الانبعاث الحراري وتلوث البيئة، الاستغلال الجائر لموارد الطبيعة، التعاون الدولي للحفاظ على البحار والمحيطات وثرواتها، احترام الإنسان لقيمته الإنسانية في الحرية والعدالة الاجتماعية، استباحة سيادة الدول الفقيرة وجعلها سوقاً استهلاكية لمنتوجاتهم. الخ) في نظام عالمي تبادلي استغلالي يقوم على “عولمة الغني والفقير، القوي والضعيف.. لذلك، فإنّ فيروس كورونا يضع النظام العالمي السائد أمام صحوة الصدمة، ويفرض عليه مناقشة كل إجراءاته وأنظمة عمله وأولويات اهتماماته، وإنه- أي كورونا – صاحب القرار في التغيير الحتمي لمجموع النظم الاقتصادية العالمية، ومنظومتها السياسية والاجتماعية والثقافية (66).
لكن الدرس الذي نتعلمه من فيروس كورونا الجديد ليس أن العولمة قد فشلت، بل الدرس هو أن العولمة هشة، على الرغم من فوائدها أو حتى بسببها، وعلى مدى عقود، أدت جهود الشركات الفردية الدؤوبة للقضاء على الإسراف إلى توليد ثروة غير مسبوقة. لكن هذه الجهود قللت أيضاً من حجم الموارد غير المستخدمة – ما يشير إليه الاقتصاديون بـ “الركود” – في الاقتصاد العالمي ككل. في الأوقات العادية، غالباً ما ترى الشركات الركود كمقياس للقدرة الإنتاجية الراكدة أو حتى المهدرة. لكن الركود القليل جداً يجعل النظام الأوسع هشاً في أوقات الأزمات، ويستبعد نظام منع حدوث الفشل.. ونتيجة لكل ذلك، دقّت أزمة “كورونا” مسماراً في نعش العولمة، وبمجرد أن تهدأ حالة الذعر والقلق، فإنّ من يعتقدون أن سياسات الانفتاح والعولمة أمام انتقال البشر والسلع أمر جيد، سيحتاجون إلى الدفاع عن آرائهم بطريقة مقنعة… وننتظر ما تسفر عنه الأيام المقبلة!!
9- نتائج البحث:
- إن جائحة كورونا في الوقت الذي أقامت الحد على العولمة الليبرالية، وزلزلت أركانها، أطلقت عولمة من نوع جديد؛ هي عولمة التباعد بعد تواصل، والتشظي بعد وحدة، والخوف من الفقر والرفاه المرهوم. تلك هي الهواجس التي أخذت تعصف بدوائر الفكر والتخطيط على نطاق العالم كله. لقد انتهت العولمة بصيغتها النيوليبرالية من قبل أن تحكم عليها جائحة كورونا بالسقوط المبرم. لكن اليوم تبدو البشرية أمام أفق مفتوح على تغير هائل تجد نفسها مجبورة عليه. وهذا أمر عادي في قوانين فلسفة التاريخ؛ حيث نجد أن الطبيعة الصامتة تتدخل أحياناً وعلى حين بغتة في المصير البشري، وتفرض على أهل الأرض نمط حياة ما كان ليخطر على بال إنسان. ولذلك وجدنا من مفارقات كورونا أن الناس في زمن العولمة والضجيج الآلي، والصخب التسويقي، كانوا في غمة تلاصقهم الاجتماعي يعانون آلام الفردانيات المنعزلة، المنطوية، المنكفئة، فيما الناس اليوم في صميم عزلتهم الحجرية يعززون قيم التواصل البُعدي، ويثمنون فضائل البوح العفوي المتلهف، ويستثمرون طاقات التعاطف الرحيم. وقد يأتي ذلك كله من العزم على أنسنة العمل وضبطه على إيقاع الطبيعة البليغة بصمتها، والزمان النابض بسكونه، والكائنات المهمة بخفرها. علاوة على أن جائحة كورنا ستقوي دور الدولة القطرية، وتعزز القومية، وستبني الحكومات، بجميع أنواعها، إجراءات طارئة لإدارة الأزمة، وستُكره الكثيرين على التخلي عن هذه السلطات الجديدة عند انتهاء الجائحة، والتي يَتَوَقَّع أن تسرع من تحول السلطة والنفوذ من الغرب إلى الشرق؛ فعلى سبيل المثال استجابت كوريا الجنوبية وسنغافورا بشكل أفضل للجائحة، فيما ردت الصين بشكل جيد بعد تجاوز أخطائها المبكرة. لكن الاستجابة في أوربا والولايات المتحدة، كانت بطيئة وعشوائية بالمقارنة مع دول الشرق الأقصى، ما زاد من تشويه هالة ” العلامة التجارية ” الغربية.
- لقد كشفت لنا جائحة كورونا أنها ليست منعزلة عن سياق التحولات الكونية الخطيرة، فكل عناصر الكون يقترن بعضها ببعض اقتران العلة بالمعلول، والحياة الكونية تمثل شبكة من الارتباطات العميقة تنشط من أقاصي الأرض إلى أقاصيها، فتؤثر تأثيراً بالغاً في توجيه الحياة الإنسانية، وضبط تموجاتها، واستثمار تفاعلاتها، ومن المحزن أن أطوار الفكر الإنساني الراقي، وهو ما يُدْعَى بالإنسية المتجلية في جميع هذه البلدان ؛ ولا سيما في القارة الأوربية، خنقتها الانحرافات الاقتصادية، والسياسية التي أصابت الوعي الإنساني فرداً وجماعة. ومن المفيد في زمن الخلوة الكورونية أن نستذكر أقوال الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل (1859-1938) في وصيته الفلسفية التي نُشرت بعد وفاته عنواناً بليغاً أورد الجزء الأول منه: أزمة (Krisis) العلوم الأوربية؛ وفي اعتقاده أنها أزمة ناشئة من التناقض بين علوم الطبيعة وعلوم الحياة الإنسانية. فالعلم الحديث لا يستطيع أن يشفي الوعي الأوربي؛ إذ هو سبب من أسباب الأزمة الأوربية، يجر في تطبيقاته التقنية على أوربا أبشع أصناف البربرية.
- لقد ساهمت جائحة كورونا إلى إعادة الخطاب الديني إلى الواجهة، عدا عن أسئلة كثيرة تتعلّق بالتجديد فيه إذ يعيش الخطاب الديني الآن في العالم بمختلف أشكاله، العودة السريعة إلى الحياة، خصوصاً أن المتعصبين والمتدينين ينظرون إلى جائحة كورونا على أنها تمثل عقابا على الخطايا، وإن تفاوت ذلك بين مختلف التوجهات الدينية، إلا أن الرغبة البشرية في ثنائية الخير والشر، يجري التعبير عنها بمختلف التوصيفات، ولذلك فإنّ من جملة الأمور الذي يمكن إدراجها ضمن البعد الأيديولوجي، مسألة التجديد في الخطاب الديني الذي فرض نفسه على إثر الجائحة ؛ إذ اعتقد البعض أن جائحة كورونا بما تحمله، وما أدت إليه من إغلاق المساجد، وإيقاف النشاطات الدينية، ساهمت في إصدار الكثير من الفتاوي التي رآها البعض مستغربة ومستغربة لتعارضها مع العلم والقيم، وما شابه ذلك، عدا عن تضاربها وتعارضها فيما بينها، وهذا يدعو إلى الشروع بعملية تجديد الخطاب الديني، وهذا التجديد يجب أن يضع ضمن أولوياته فقه النوازل والمستجدات.
- لعل من أوضح التحولات التي فرضتها جائحة كورونا هو التحول على مستوي القيم السائدة، وإذا كانت القراءات الحديثة للجائحة تتراوح في تحليلها بين الـتأكيد على الاضمحلال الأخلاقي والقيمي، وبين التأكيد على بروز قيم جديدة هي من مقتضيات المرحلة، إلا أن الإنسان قد يتأقلم مع الواقع القيمي الجديد على مستوى تعويم القيم التي تأخذ الإنسان إلى فهم جديد لضرورة تمتين العلاقات القيمية بين البشر، كونها المثال الأبرز لانتشار القيم. في مجمل الأحوال، ينحو بعضهم نحو القول بضرورة وحتمية التغيير في نمط الحياة الذي يحمل معه قيماً جديدة، قد لا تتنافى مع القيم الأخلاقية الإنسانية، بل تدعمها وتساندها، معتمدة في ذلك على ضرورة التضامن البشري للمواجهة ؛ علاوة على التغيير في نمط الحياة، إذ تبين للكثيرين أن التباعد الاجتماعي بين الناس قد جعلهم أكثر قرباً علي المستوي النفسي حول العالم، كما بات من الواضح أن التوجه نحو المعنويات والروحانيات هو الاتجاه المهيمن علي السلوك البشري بعد الجائحة، وهذا يعني أن العجز البشري قد دفع نحو البحث عن إجابات، هي ليست من إنتاج الحضارة المادية الجديدة، بل من إنتاج الأديان السماوية.
- أعاد انتشار جائحة كورونا طرح أسئلة فلسفية مهملة عن مقدار معرفة العلوم الدقيقة بالظواهر الطبيعية، ومعرفة العلوم الاجتماعية، والإنسانية بالفرد والمجتمع والسياسة، بل قُدمت براهين على محدودية النماذج العلمية في استيعاب المتغيرات المطلوبة لاستشراف الظواهر قبل حصولها وفهمها عند الحدوث. وينم ادعاء قدرات تفسيرية فائقة وأبدية للنماذج والنظريات، ولا سيما في الحقول غير التجريبية، عن غرور العقل، ونقص في التواضع المعرفي، والإنسان مدعو إلى صرف جهد إضافي في تفسير التاريخ والوقائع الاجتماعية والتأقلم معها، عوضاً عن زعم امتلاك موهبة إخضاع كل شيء لسلطته. كما تبين لنا أن الدور الرئيسي للفلسفة السياسية هو إذا المساهمة في بناء مساحات مشتركة في المجتمع، بشأن الأسئلة العالقة كالمذكورة في مقدمة هذه الورقة، وهذا بالتكامل مع أدوارها الأخرى، المتمثلة في وضع أهداف سياسية ” عقلانية” للمجتمع، تجسد التسوية بين تصوراتنا المطلقة عن الخير والجمال والقيم من ناحية، والأسس العقلانية التي تقوم عليها مؤسساتنا السياسية من ناحية ثانية، وهو ما يأتي في إطار استكشاف طوباوي لحدود الإمكان السياسي. فمما كشف عنه الوباء أن علوم الإنسان والمجتمع، لم تتطور بما فيه الكفاية لجعل النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية قادرة على إقامة التسوية المرجوة ما بين العقلانية المؤسساتية ومنظوراتها المسبقة والمتفق لما خير وصحيح وعادل.
- أعادت جائحة كورونا إلى الواجهة سؤالاً فلسفياً مهماً، يتمحور حول حقيقة الإنسان وماهيته الأنطولوجية وعلاقته بالطبيعة، بعدما اكتشف ضعف سيادته المزعومة وتهافت الأطروحة الفلسفية الديكارتية القاضية بمركزية الإنسان وسيطرته المطلقة على العالم بفضل عقله الأداتي وتطوره التقني ؛ بعد أن تبين له أن جائحة كورونا لم تكن فقط فيروساً قاتلاً، بل امتحان طبيعي – كوني ليستعيد الإنسان علاقته الصحيحة والسلمية مع الوجود ومكوناته، وليدرك كذلك أنه كائن طارئ زائل يتحتم عليه أن يلتقط الرسالة جيداً، وأن يعرف موقعه في العالم ومعني وجوده ووظيفته الاستخلافية وغايته الوجودية، وهي محاور رئيسة تمثل حقيقة أسسه في زحمة الأيديولوجيات المائتة والفلسفات المادية التي اكتشف عورها كما يري موران في كتابه ” إلى أين يسير العالم”، إذ اعتبر أن الإنسان المعاصر ما يزال يئن تحت وطأة العنف والدمار، ولم يقض بعد على الوحشية الاستهلاكية. وتهاوت مقولات العولمة وشعاراتها، بسبب الرأسمالية المتغولة كما يعبر موران دائماً، والتي خلقت مشاكل جمة يعانيها الكوكب الآن، وأهمها تدمير البيئة وتعميق الهوة بين الطبقات الاجتماعية، فضلاً عن تأزيم العديد من الأنظمة السياسية الديمقراطية كما تعطلت القيمة الإنسانية النبيلة، التي لا مناص منها لترسو سفينة البشرية على بحر السلام، وتثق في مستقبلها.
- إنّ جائحة كورونا لحظة تاريخية مهمة ليصحح الإنسان علاقته بذاته؛ كي يؤمن بحقيقة وجـوده ويعترف بضعفه وعجزه ويقفل باب “سيادته” المزعومة ويرجع لنفسه منتقدا “جشعها الاستهلاكي” “وأنانيتها المستعلية” ومختلف “العادات الجارفة” الحاطة من قيمته. لذا فهو بحاجة ماسة إلى فلسفة جديدة تؤطر تعامله مع العالم المادي والرمزي المحيط به، ولا سيما الذي تعكسه أفعاله وأقواله وأفكاره ومختلف أشكال تفاعله. ثم أخيرا هي فرصة كذلك لتشييد عمران أخوي على أرضية أخلاقية كوكبية تتجاوز جغرافيا المعتقد وفجاج الفكر ومشوشات الأدلوجة. ففي ظل تصاعد المخاطر المهددة للوجود البشري والطبيعي، أصبح من الضروري الانكباب على رسم خارطة أخلاقية كوكبية تنقد السفينة من الغرق، في إطار من العدل والمساواة، وحينها يمكن للجميع أن يسلم من الحروب والصراعات المعكرة لصفو الأمن، والمهددة لأي تماسك منتظر. لا مناص إذاً من التعاون والتآلف والتآزر، فالجائحة بينت الحاجة إلى القيم الإنسانية الراقية، ونبذ كل مظاهر “الأنانية الاستهلاكية”، والجشع، والتهافت والصراعات السياسية والاقتصادية… إن العالم بعد جائحة كورونا، بلا شك سيكون مختلفاً عما قبلها، ونأمل أن يكون التغيير للأفضل، وتفكر “المنظومة الرأسمالية” في ذاتها بالمعنى الـمـزدوج للنقد، وتؤسس في ضوئها علاقات دولية تنتصر للمصالح الإنسانية المشتركة، بعيداً من المصالح السياسية المتقلبة والرهانات الأيديولوجية المتموجة. ولا يمكن أن يتحقّق هذا الرهان إلا بإحداث قطيعة مع ماضي “الحداثة”البئيس، ومفارقاتها السّوسيولوجية وتناقضاتها الثقافية الملتبسة.
- أعادت جائحة كورونا الاعتبار إلى الفلسفة، بعدما تجددت المواجهة القديمة بين الإنسان والطبيعة، فقد كان هذا الصراع على مدى حقب زمنية مختلفة جوهر ديناميته. وأعاد الاعتبار إلى الفلسفة بدوره، وفي عز هذه الأزمة، تعريف علاقة الإنسان بالحياة بصورة معقدة، وبث الروح في الدهشة أمام الظواهر والموجودات، بشكل يدفع الإنسان إلى التوقف أمام معنى أو لا معنى ما يظهر على سطح العالم، للغوص في كنهه ومساءلة حقيقته. ولطفت من تشنج العلاقة القائمة بين الناس والفلسفة، فقد اقترنت في أذهان الأغلبية بالتعقيد والغموض، حتى إنهم يقولون عمن يتكلم بغير بيان بأنه يتفلسف، أي يقول كلاما لا يفهمه إلا خاصة الخاصة. فالفلسفة حتى في أنظار المتعلمين مادة عسيرة ومعقدة، أشبه ما تكون بكتلة مجردة، تستعمل خطابا ومفاهيم بعيدة كليا عن الحياة الفعلية واليومية للإنسان. فقد تابع الجميع كيف ساعدت الفلسفة، بأدواتها وطرائقها، العالم على المضي قدما، من خلال تحفيز التفكير النقدي في المشكلات الموجودة. وأزالت سوء فهم العامة للفلسفة والفلاسفة، بإتاحة الفرصة أمام الجميع لمعرفة حقيقة الأسئلة الفلسفية، لقد تحول التّساؤل الذي تعاب الفلسفة بإثارته في كل وقت وحين إلى أعز ما يطلب في زمن كورونا، بعدما أيقنت الإنسانية أن الأزمات ما هي إلا أسئلة كبرى، تطرحها الطبيعة علينا، وتنقسم بدورها إلى أسئلة تحتاج إلى إجابات وافية، وأخرى تدفع بشكل أو بآخر نحو التأمل، لإعادة قراءة أوضاع العالم، في ظل الأزمات الملحة التي تجتاح حياتنا دون أسباب مسبقة. ودفعت الإنسانية إلى إعادة الاعتبار لمفاهيم طالما سأجل بشأنها الفلاسفة، دون أي عناية ولا اهتمام، حيث عدّ العامة كلامهم مجرد سفسطة. أدرك من عاش لحظة كورونا ما معنى الحرية والحق في الحياة.. وما مدى قوة الطبيعة وضعف الكائن البشري، فكلما اعتقد الإنسان أنه تقدم وتطور، وتبدّى له أنه أصبح قاب قوسين أو أدنى من الإمساك بالطبيعة والتحكم فيها، وتسخيرها لخدمته، تباغته مذكرة إياه بحجمه وقدرته، ومدى هشاشته وضعفه.
- لقد كشفت لنا جائحة صدق قول أستاذنا الدكتور مصطفى النشار في مقالاته الأخيرة في جريدة الوفد المصرية الذي كثيرا ما أكد أنّ العلاج بالفلسفة ربما يكون أشد نجاعة في مثل هذه الظروف التي يواجه فيها الفرد المنعزل المعزول أعراضا مثل هذه المخاوف المقلقة ربما لأنها تتعلق بمجهول لم يستطع الإنسان بكل تقدمه وجبروته العلمي أن يتعرف على هويته الحقيقية بعد! إن فلسفة كل هذه المخاوف والتخلص منها يكمن في أن ينظر الإنسان إلى هذه الجائحة وأمثالها مما يخفيه القدر على المستوى الفردي والجمعي نظرة أكثر شمولاً ورحابه وأن يحاول تغيير نمط تفكيره التشاؤمي هذا تجاه أي من الظواهر المقلقة والأحداث المؤلمة. لقد عاش البشر في الأزمان السابقة الكثير من الأزمات والجوائح وواجهوها بالصبر عليها وتغلبوا عليها في النهاية بسلاحي التأمل والعلم. وكم كان فلاسفة الرواق في العصر الروماني رائدين ومؤسسين لأهمية التأمل العقلي والنظرة الشمولية والعلاج بالفلسفة.. أنظر إلى “أبكتيتوس” أحد أعلامهم (توفى 135م) وهو يقول: إن العالم الذي ندركه يبدو أو يظهر لنا وفق أفكارنا ووفقا لما نتعرف عليه بوجه عام. إن هذه الجملة البسيطة تحمل جوهر ما ندعوه اليوم العلاج بالفلسفة، فإذا ما أراد الإنسان أن يغير حياته ويحولها من حال إلى حال فما عليه إلا أن يغير أفكاره ونظرته إلى هذه الحياة، ما عليه إلا أن يوسع من عقله وفكره فلا يقف عند النظر في الجوانب السلبية في أي ظاهرة أو أي مشكلة يواجهها، إذ إن أي ظاهرة من هذه الظواهر لها جوانبها الإيجابية بقدر بل ربما أكثر من جوانبها السلبية، وفي هذا الاعتقاد البديهي تكمن إمكانية إعادة صياغة التفكير في حل أي مشكلة يواجهها الإنسان حيث سيعيد صياغتها والنظر إليها من منظور أكثر شمولاً ليكتشف جوانب إيجابية ينفذ منها إلى شعور أكثر تفاؤلا وأكثر إيجابية إذ أنه لا مشكلة بلا حل. . وعن إعادة صياغة تفكيرنا إزاء أي مشكلة يمكننا أن نفكر فيها على النحو التالي الذي رسمه لنا (إدموند ج. بورد) وأمثاله من المعالجين بالفلسفة: علينا التسليم بأن المشكلة بكل تداعياتها ستأخذ وقتها وتمضي، كل ما هنالك أن علينا أن نأخذ وقتنا لحلها والتغلب عليها إذ إنه وكما قلنا سابقا لا مشكلة بلا حل. ولنعترف أنه من الجيد أن نخفّف من وطأة الموقف علينا بأن نجد فيه بعض الطرافة والفائدة. وننظر فيما يمكن أن نتعلمه من هذه المشكلة ونحن نعمل على مواجهتها وحلها ونوسع دائرة تعاطفنا وشعورنا بالشفقة تجاه من يعانون من نفس المشكلة وعلينا دائما أن نعلم بأن المشكلة – أي مشكلة ليست بهذا القدر من السوء الذى تصوغه أفكارنا إزاءها، وعلينا أن ندرك أن ما يزعجنا أو يخيفنا أو يقلقنا ليس هو أسوأ شيء في الحياة على أية حال، وعلينا أن نثق في حتمية حل المشكلة وزوالها أيا كانت ومهما كانت تداعياتها., وعلينا أن نثق عموما بأن المشاكل أيا كانت تحل نفسها بنفسها في النهاية على نحو أو آخر ومهما كانت الأضرار التي تترتب عليها. وعلينا التسليم من البداية إلى النهاية بأن كل شيء بإرادة الله الخالق وأنه القادر دوما على مساعدتنا وشمولنا برعايته وفضله. وهذا الأمر الأخير أيا كانت الديانة التي يؤمن بها المؤمن ستجعله أكثر قدرة على التكيف مع أي مشكلة مهما كانت خطورتها وتداعياتها، كما ستجعله أكثر ثقة في أن الله كما ابتلاه بالمشكلة سيساعده على حلها.
ليس من المبالغة في شيء القول اليوم إنّ جائحة كورونا المستجد أخذت المشتغلين بالفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية على حين غرّة، وأرغمتهم على التفكير أو إعادة التفكير في العديد من الظواهر، من قبيل المرض والصحة، والسياسات الصحية والعمومية، والاقتصاد النيوليبرالي، والعلاقات بين الدولة والمجتمع، ومؤسسات الرعاية، ومستقبل المؤسسات التعليمية، والعمل، والأيديولوجيا التقنية، وأشكال التضامن، والبيئة وتغيراتها، والتقنية ومخاطرها، والأخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة؛ أي في المصير الإنساني عمومًا. واختلفت أشكال التفكير والنظر في الجائحة، فمنها ما تحلّى بالحذر، مدركًا أن علينا تجنب إغراءات “التفلسف السريع”، لأن التفكير يحتاج إلى كثير من الوقت، سواء أكان فلسفيًا أم علميًا، من أجل معالجة كل المعلومات التي نتوصل إليها، وخصوصًا في أوقات الكوارث، ومنها ما انساق في تفكيره إلى نظريات المؤامرة وشعبويات اليمين المتطرف ووجدها فرصة لمهاجمة الديمقراطية، وصولًا إلى تلك “البكائيات” المرتبطة بأمراض الحضارة المادية، التي في نحيبها ونشيجها تؤكد مرة بعد أخرى ما ذهب إليه مارتن هايدغر من أننا لم نبدأ بعد في التفكير. علاوة على أنّ غموض الحاضر والشك في المستقبل، وما ستكون عليه الحياة بعد هذه الجائحة، هي العلامات الأساسية لهذه اللحظة الفارقة في تاريخ البشرية، وهي ما يتردد في جميع التعليقات والتحليلات والتنبؤات التي تتدفق كل لحظة في جهات الأرض الأربع. فلا أحد لديه جواب مقنع يشفي الغليل على ما سيكون عليه شكل الحياة بعد أسابيع، أو أشهر، أو سنوات، في غياب معرفة يقينية بصفات فيروس كورونا، أو طرق انتشاره، أو السبب الحقيقي لسرعة انتقاله، أو طرق الوقاية منه، أو علاجه، أو إمكانية اكتساب المناعة ضده إذا أصيب المرء به، أو انتقل إليه من غيره ولم تظهر عليه أعراضه. لا أجوبة لدى السياسيين أو المتخصصين في علوم الاقتصاد أو المفكرين وعلماء المستقبليات. والأهم من كل هذا أنه لا أجوبة يقينية لدى العلماء والأطباء، الذين يسابقون الزمن للعثور على علاج ناجع أو لقاح يقي من هذا المرض الذي يهدد حياة البشر جميعاً.
[1]– ميساء المصري: كورونا …القاتل المقبل للعرب، صحيفة رأي اليوم، 26 يناير 2020.
[2]– ريهام عبد الله: الفيروس القاتل… علماء يكتشفون أسبابا جديدة لانتشار عدوى “كورونا”، اليوم السابع، السبت، 08 فبراير 2020 03:48 م.
[3]– عماد عبد الرازق: الفلسفة والمرض في زمن الكورونا، مقال منشور بجريدة أصوات الإلكترونية، وقد نشر بتاريخ نوفمبر 30، 2020.
[4]– أنور مغيث: الفلسفة وأزمة الإنسان، مقال منشور بجريدة الأهرام المصرية، الثلاثاء 28 من جمادي الأولى 1442 هــ 12 يناير 2021 السنة 145 العدد 48980.
[5]– محمود حيدر: الجائحة تسترجع الميتافيزيقيا، مجلة الاستغراب، العدد العشرون السنة الخامسة ــ 1441هـ صيف 2020م، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، لبنان، 2020، ص 19.
[6]– مشير باسيل عون: مقاربة فلسفية لوباء كورونا وآثاره في السيرورة البشرية، مقال منشور بالاندبندنت العربية، وقد نشر بتاريخ السبت 10 أبريل 2021 16:22.
[7]– أنور مغيث: مرجع سابق.
[8]– المرجع نفسه.
[9]– المرجع نفسه.
[10]– عصام أسامة: فنُّ العيش: الفلسفة في زمن الكورونا، مقال نشر بجريدة المحطة بتاريخ 1 يونيو 2020.
[11]– المرجع نفسه.
[12]– مشير باسيل عون: مرجع سابق.
[13]– أحمد عمر: الفلسفة في زمن كورونا، مقال منشور بمصراوي يوم الأحد مارس 2020 -09:00.
[14]– أحمد ماريف: الفلسفة والجائحة: بحثا عن مستقبل أفضل، مجلة الحوار الثقافي، جامعة عبد الحميد بن باديس، كلية العلوم الاجتماعية، مخبر حوار الحضارات والتنوع الثقافي وفلسفة السلم، المجلد التاسع، العدد الثاني، 2020، ص ص2.
[15]– المرجع نفسه، ص 2.
[16]– حسين لوكيلي: عزلة الروح وسلوك الأخلاق في زمن الحجر الصحي، مجلة روافد للدراسات والأبحاث العلمية في العلوم الاجتماعية والإنسانية، المركز الجامعي بلحاج بوشعيب عين تموشنت، مج4 ,ع2، 2020، ص41-42.
[17]– المرجع نفسه، ص 47.
[18]– المرجع نفسه، ص 48
[19]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[20]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[21]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[22]– المرجع نفسه، ص 49.
[23]– عثمان سيلوم: فيروس كورونا: غضب الإله وذعر الإنسان وهيبة الدولة، باحثون: المجلة المغربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية، عياد أبلال، العدد 12، 2020، ص 313.
[24]– المرجع نفسه، ص 314.
[25]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[26]– المرجع نفسه، ص 315.
[27]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[28]– المرجع نفسه، ص 315.
[29]– عبد الصمود زهور: واقعة كورونا أو في ضرورة أنموذج أخلاقي جديد، باحثون: المجلة المغربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية، عياد أبلال، العدد 12، 2020، ص 305.
[30]– المرجع نفسه، ص 306.
[31]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[32]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[33]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[34]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[35]– المرجع نفسه، ص 307.
[36]– المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
-[37] Samer Obeidat: How is the world fighting the Corona epidemic using artificial intelligence?, The Citizen Book, 2020, p.11-13.
[40]– Ibid.
[41]– صبري صقر: خبراء: الذكاء الاصطناعي يسرّع اكتشاف الأدوية ويتوقع الأوبئة المحتملة مستقبلاً مقال منشور بالبيان بتاريخ May 8, 2020
[42]– المرجع نفسه.
[43]– لماذا يعتبر الذكاء الاصطناعي الأكثر فاعلية ضد كورونا؟ (مقال علي موقع قناة العربية بتاريخ Mar 24, 2020 ).
[44]– المرجع نفسه.
[45]– خالد البرماوي: كيف تساعد علوم البيانات على مواجهة فيروس كورونا المستجد؟ (مقال ضمن جريدة للعلم بتاريخ 29 أبريل 2020).
[46]– المرجع نفسه.
[47]– المرجع نفسه.
[48]– المرجع نفسه.
[49]– رضوي السيس: “الإمارات توظف الذكاء الاصطناعي لمواجهة كورونا”، مقال منشور علي موقع مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، بتاريخ 6 مايو 2020
[50]– المرجع نفسه.
[51]– المرجع نفسه.
[52]– المرجع نفسه.
[53]– المرجع نفسه.
[54]– المرجع نفسه.
[55]– سعود الشرفات: فيروس كورونا: عولمة الأمراض والهلع.. مقال.
[56]– أنظر كتابنا: جائحة كورونا بين نظرية المؤامرة وعفوية الطبيعة، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، 2021، ص58.
[57]– المرجع نفسه، ص89.
[58]– بديع يونس: كورونا والعولمة و”المؤامرة”. .. مقال علي موقع العربية نت، بتاريخ Apr 26, 2020.
[59]– د. محمود محمد علي: جائحة كورونا بين نظرية المؤامرة وعفوية الطبيعة، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، 2021، ص 177.
[60]– عادل حمودة: بعنوان “الكورونوفوبيا”… مقال منشور بجريدة الفجر المصرية، بتاريخ السبت 18-04-2020 08:25 م.
[61]– إسلام جادالله: عولمة الأوبئة”: اختبار الكفاءة في زمن الـ “كورونا”، مقال منشور ضمن الأهرام المصرية، بتاريخ، Apr 8, 2020
[62]– إميل أمين: كورونا.. علامة فارقة في طريق العولمة. “، مقال منشور علي موقع سكاي نيوز، بتاريخ، Mar 11, 2020
[63]– د. محمود محمد علي: مرجع سابق، ص 222.
[64]– د. عبد المنعم سعيد: فيروس كورونا والعولمة وأشياء أخرى”، مقال بجريدة الأهرام، بتاريخ 18 مارس 2020
[65]– د. باسم: حسابات ” كورونا”… بين العولمة والأصالة”…. مقال بجريدة النهار، بتاريخ Mar 23, 2020