صدر للكاتب المسرحي والفنان التشكيلي والروائي عبد الحفيظ مديوني عن منشورات ديهيا، الطبعة الأولى للمجموعة القصصية “أغراب الديار*** 2017، مطبعة تريفة بركان. والجدير ذكره في هذا السياق أن عبد الحفيظ مديوني ارتبط بالفن التشكيلي والمسرحي ارتباطا وثيقا في مجتمع قيد التحول والتحرر من سلطة اليومي والمعيش والعادات والتقاليد والأعراف لا في بعدها الهوياتي الثقافي الرمزي الدينامي، بل في أبعادها التعتيمية الأخرى كالانغلاق على الذات والتقوقع حولها أو التسليم بالشعوذة والإيمان بمفاعيلها الخرافية والخضوع إلى القوى الغيبية بدل المعرفة العلمية وروح القيم الإنسانية السامية في تفاعلها مع الخصوصية الرمزية المحلية الأصيلة.
والمطلع على المنجز الأدبي والإبداعي للفنان عبد الحفيظ مديوني النوعي يُدرك تفرده المتعدد، وهويته التي لا تتحدد في الوحدة والتطابق بقدر تميزها بالتنوع والانفتاح الدينامي على أجناس أدبية وفنية جمالية أخرى مثل التشكيل والمسرح والرواية والقصة؛ وهي الخاصية التي يفتقد إليها مجموعة من الأدباء المغاربة والمشتغلين بالأدب في المغرب. وتتوزع أعمال القاص الإبداعية على رصيد مهم من اللوحات التشكيلية (شارك في مجموعة من المعارض الوطنية والأوربية) والمسرحية (مسرحية الورشة 2007، رحلة سند وباد 2012) والروائية (الحكاية الأخيرة، 2015). كما أن هذا المنجز يوضح الخلفية الأدبية والفكرية للمبدع وحضور روائيين عالميين في غيابهم وخاصة رواد الرواية اللاتينية، فتأثيرهم يبدو في تقنيات السرد، وطبيعة اللغة والتيمات والقضايا التي تشكل صلب أعماله، وكثافة المعنى، والروح النقدية التي تتخذ من التفكيك والتساؤل والبناء منطلقا لها.
قضايا القصة الصريحة والضمنية:
بعيدا عن القراءات الإسقاطية أو الشارحة أو الشعرية التي حدّد تمايزها تودروف يجد قارئ قصة “وتستمر الحكاية..“**** الصادرة ضمن المجموعة القصصية “أغراب الديار” للقاص والروائي عبد الحفيظ مديوني، ذاته أمام مادة دسمة تغري بالمساءلة والتأويل والقراءة السيميائية للموضوع الذي اختاره القاص؛ قضايا التراث والحداثة، الحرية وسلطة العادات والتقاليد ومنظومة القيم الاجتماعية، الاستقلالية والتبعية، الفرد وسلطة المجتمع، الحس النقدي أمام النفوذ الاجتماعي وسلطان السائد، القدرة على امتلاك الحقيقة والسلطة الميكروسكوبية (الفوكوية) وتصنيف الناس تبعا لها، الخير والشر، الواقع والأسطورة، اليُمن والبركات والتسليم والشك والسؤال والنقد، القبيلة والبنيات التقليدانية والمدينة والبنيات أو الكيانات السياسية المدنية، أخلاق الطاعة وأخلاق المسؤولية بتعبير ماكس فيبر، استغلال الموروث الثقافي وإعادة إنتاجه وتكريسه بالمعنى البورديوي، قضايا وأخرى تتضمنها القصة بشكل ما.
وتستمر الحكاية..؛ هي حكاية سرحان “من الشخوص الأساسية في القصة” مع “مول البركة” أو الرجل الصالح الذي قد يأتي أو لا يأتي، مثل: الإله غودو الذي طال انتظاره المؤمنين به، ويتم استغلال نفوذه الساحر والأسطوري المتوارث عبر الحكي والسرد من جيل إلى آخر، من لدن سادة قوم المجتمع وكبارهم في تحالف مصلحي براغماتي مع السلطة السائدة تجاه الأوضاع الاجتماعية لأفراد البلدة وضمان استمراريتها. “الرجل الصالح” نور يتجلى، تعم بشائره الكل ويتحقق الخير والرخاء والنعمة ورغد العيش بظهوره وتختفي كل المآسي والشرور باختفائه، فلا فقر ولا جهل ولا مرض ولا عاهة أو علة مهما كانت طبيعتها إلا وهو قادر على فك رموزها والقضاء سحريا عليها؛ فهو يملك ما يكفي من “البركة واليمن” من أجل تلبية حاجاتهم ورغباتهم وآمالهم وأحلامهم وطموحاتهم وميولاتهم، يكفيه القيام بالطقوس والشعائر والإكثار من الأذكار والابتهالات والتدرج في مقاماته. لكن، “سرحان” لم يستسغ هكذا ممارسات التي اعتبرها ضربا من الخرافة والشعوذة والوهم والأسطورة والأحجية، الأمر الذي جلب له الكثير من الإذاية والسوء والنعوت بكامل الأوصاف المشينة؛ فهو “المارق الملعون” والأحمق الذي لا يستطيع التمييز ما بين ما هو كائن وواقعي ومنطقي عقلي، وما ما ينبغي أن يكون ونبذه وتهميشه وإقصاؤه كونه زائفا ووهميا ولا واقعيا.
الحرية والحس النقدي:
المثير والمدهش والممتع في الآن نفسه بقصة “وتستمر الحكاية..“ هو الحكاية نفسها، لا للتقنيات المستعملة فيها ولا لعقدتها وإنما الأكوان الدلالية التي تحيل إليها وكثافة المعاني التي توحي بها وامتداداتها الانسيابية الغنية ومساراتها اللامتوقعة مجرياتها. “مول البركة” لن يأتي أبدا. لكن، أصحاب النفوذ والسلطة والمصالح لا يخدمهم أو ينفعهم أمر كهذا في شيء. لذلك، تبقى المؤامرة سارية المفعول وعلى “مول البركة” أن يأتي قسرا، وأن يتم الاحتفال والابتهاج به اصطناعا وتصنعا، وينبغي مع كل ذلك اتهام “سرحان” بجريمة الاغتيال وقتل “مول البركة”، ومَسْرَحة الجريمة ظلما وعدوانا، ومنه إلصاق الوصم واللعنة الأبدية لكل مشكك مفكك متمرد ناقد وحر متسائل ومفكر ومحتج، وقتل الحس النقدي في كل فكر يقظ ومتيقظ، وكل إحساس بالاختلاف والتمتع بالحرية في مختلف تجلياتها ومستوياتها الفكرية والتعبيرية والفعلية، وتكريس الحقيقة الواحد والسهر على ضمان هيمنتها، ذلك وفق منطق الثواب والعقاب، المكافأة والإقصاءـ التحبيب والترهيب. هكذا، يظل سرحان رمزا للعنة والجريمة وعديد الشرور في تصور المجتمع، ولكنه واثق من ذاته بأنه الكائن المفكر والذات الفاعلة القادرة على النقد والاختيار وتحمل المسؤولية ومراعاة المصلحة العامة بدل المصالح الشخصية الضيقة ومصالح ذوي النفوذ؛ وهو القادر على استشراف المستقبل انطلاقا من معطيات الواقع والمعيش والمتاح من الممكنات والاحتمالات.
سياق ممكن:
وبالإضافة إلى ما سبق، قصة “ وتستمر الحكاية..” تعبير عن الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية التي يعيشها المجتمع الواقعي أو المتخيل الذي نسج القاص خيوطه بعناية شديدة؛ إذ وظّف، بصدد ذلك، جملة من الشخوص والأحداث والأزمنة الممتدة أبعادها في حبكة دقيقة جدا، واتساق متناغم، لدرجة يمكن القول معها أن الكاتب يروي قصة مجتمع واقعي أو مفترض بعينه في تناقضاته ومفارقاته وامتداداته وتموجاته وتراتبياته وتفاوتاته ولا تكافؤ الفرص فيه، بمقومات أدبية وفنية جمالية، حتى أنه يترك شعورا عميقا لدى القارئ أنه يقيس الكائن بالمأمول أو الشاهد بالذاهب والحاضر بالغائب بتعبير العلامة ابن خلدون، ولا يتوانى في توظيف مرجعته الفكرية والفلسفية والإيديولوجية في بناء تصوره للإنسان والقيم الإنسانية والمجتمع والثقافة والسياسة والاقتصاد والحياة والأرض والعالم في لبوس فنية وأدبية تمتح من معين السرد والحكي بلون التشكيل والحس المسرحي، والذوق الجمالي.
وتستمر الحكاية.. حكاية سرحان في علاقته بمجتمعه وأهله وروحه الفكرية الناقدة واستشرافه واستيهاماته وحلمه وتمرده ومقاومته؛ وهو “المنبوذ اللعين”، وفق عود أبدي نتشوي يتكرر باستمرار أو هكذا يبدو على الدوام. إلى متى؟ ووفق أية شروط ستنتهي؟ ومتى تنقطع تناقضاتها وتوترات العلاقات بين شخوصها وأحداثها؟، تلك حكايات أخرى يتعالق فيها المكان مع الزمان غير المتعين والشروط والإرادات الفاعلة، والوجوه والملامح والسياقات.
الحكاية، في الواقع، حكايات مجتمع يتطلع إلى الانتقال إلى الما-بعد، الانتقال إلى أوضاع ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية أخرى، يعيش فيها الإنسان المأمول حياته كإنسان مكتمل الأركان أو يسعى إلى اكتمالها وتجاوز نواقصها واختلالاتها. لكن، هو الانتقال الرهينة، المتعب والمثقل بالتحولات والاتصالات والاستمرارية والاحتفاظات، لا قطيعة تبتر أوصاله وتجتثه من جذوره، وتؤسس للمرحلة الموالية دون رواسب ثقافية سابقة.
تعالق نسقي بين القصة والرواية والفن التشكيلي والكتابة المسرحية:
التجربة السردية في قصة “وتستمر الحكاية..” تجربة غنية وباذخة معنى ومبنى؛ فهي من جهة كون دلالي تتناسق فيها الألوان والأشكال واللغة والرموز والأبعاد أفقيا وعموديا وفي مختلف الاتجاهات، وهنا يتجلى الطابع الفني للقاص وحضور التشكيل سردا وحكاية، ومن جهة أخرى سيناريو مكتمل الحبكة والحوار وتسلسل الأحداث وتصوير المشاهد والإنارة “بمعنى ما” والحضور القوي للرسالة والمعنى، وهنا يظهر الحس المسرحي الدرامي في القصة وتصير مسرحا مفتوحا على الممكن والاحتمالي، مما يجعل القصة تخاطب الإنسان في القارئ والقارئ في الإنسان، وتدفعه بقوة رهيبة جدا للتساؤل والبحث الشغوف عن الأجوبة بشكل لا يمكن إدراكه بسهولة، فتجعل منه قارئا مُتَصيَّدا كما يصفه رولان بارت.
ومن خلال ما تمت الإشارة إليه أعلاه، يتبّن لي أن القصة جنسا أدبيا صعب المراس والإتقان، لما تستلزمه من تقنيات وإمكانيات لغوية ورمزية تخييلية وموارد فكرية ومعايير جمالية، باعتبارها مغامرة خطيرة لا يتحمل نتائجها إلا المغامر نفسه. لكن القاص، وبما تحصّل لديه من رصيد في السرد الروائي وخبرة في الحكي الرمزي المتعدد الروافد، وتجربة في الفن التشكيلي والكتابة المسرحية والوعي بأسرارها وخفاياها، جعل من القصة فضاء رحبا تتآلف فيه العناصر السردية بكيفية خاصة، الأمر الذي منحها قيمة وأهمية سامية جدا. والقصة بهذا المعنى حياة مفعمة ومليئة بالتوترات والتناقضات التي تدفع القارئ إلى الاندهاش والتساؤل والتفكير والبحث الدائم والمستمر عبر الزمن الجاري والانسيابي اللامحدود حول مواضيع الإنسان وقضاياه المختلفة.
* كاتب مسرحي وفنان تشكيلي وروائي وقاص بركان/ المغرب.
*** عبد الحميد مديوني، أغراب الديار، قصص عن منشورات ديهيا، الطبعة الأولى 2017، مطبعة تريفة بركان.
**** قصة ضمن المجموعة القصصية، أغراب الديار،2017
رشيد المشهور: أستاذ مادة الفلسفة بالتعليم الثانوي التأهيلي بركان، المغرب.
بريد الكتروني: relma70@hotmail.com