مفتتح:
الحديث عن المجال الأكاديمي عربيا حديث متهافت وذو مشارب ومآرب، وهو إذ ينطلق بصفته حقلا منهجيا بامتياز، وتطويريا لكافة مجالات المعرفة وصولاً إلى المجالات التعليمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفنية والثقافية العامة، نجد أنه قضية تشغل حيزا كبيرا من مساحة التفكير التنموي في عالم اليوم، ناهيك أن مؤسسات العلوم ومراكز البحوث والدراسات تقع في صميم قضية التنمية الثقافية الشاملة لاعتبارات عديدة؛ أبرزها أنها المعامل الأكثر تأثيراً على حياة الإنسان؛ وذلك لارتباطها الوثيق بدائرة التوجيه والسيطرة والنفوذ، ولهذا الحقل الأكاديمي يصنف بأنه المحور لأي نهوض حضاري رصين من منطلق إرساء قواعد التنمية الشاملة في بلاد ما، كما يمكن تجريد بلاد أخرى من التطور والنهوض والتنمية إذا ما اتسم هذا الحقل بالضمور والتخلف والفساد، فكلما تغلغلت وتفاقمت هذه الآفات في جسم الحقل الأكاديمي ازداد معدل التناقض والجهل في أبرز مكوناته الأساسية مما أصبح يطلق عليه اليوم بالأمية الثقافية والأمية الأكاديمية كمجال ثقافي استراتيجي في خرائط التنمية البشرية الدقيقة، ولعل أبرز ملمح على تفشي ظاهرة الأمية في المؤسسات الأكاديمية هو تضييق الحريات الأكاديمية وما يخلفه من كوارث وإخفاقات تطال كل معاملات التنمية والنهوض الحضاري لدى أي مجتمع يرنو للتغيير والإصلاح والتنوير وما هنالك من مقتضيات المشروع النهضوي الأمثل.
عالميا خصوصا في بلاد الغرب، تأتي النقاشات حول الأمية الأكاديمية ( الوظيفية أو العضوية) على رأس أولويات الحكومات والمجتمعات المدنية منذ الربع الأخير من القرن الماضي كما في كندا وفرنسا وسويسرا وألمانيا، وهذا جلي وواضح؛ خصوصا في الإحصائيات الأخيرة بكندا التي دقت ناقوس الخطر لدى القائمين على المجال الأكاديمي (27% من الأكاديميين يعانون من الأمية الوظيفية أو العضوية)، أما عربيا، حيث تترفع شعارات التنمية بصورة غير حقيقية وغير جادة، فالأمية الأكاديمية تتجلى بوضوح من خلال تقاليد عدم الجدية في تنفيذ المشاريع التنموية الرامية لانتشال العالم العربي من مستنقعات الرداءة في جل الحقول والتي ترتبط آليا وعضويا بالحقل الأكاديمي بشتى معاملاته العلمية والثقافية…من خلال هذا الواقع المتردي والفساد المستشري في تفاصيل الراهن الأكاديمي لابد من فتح أبواب النقاش والدراسة والتشخيص أكاديميا وثقافيا وإعلاميا حول ظاهرة الأمية الأكاديمية التي تشكل عمق الأمية الثقافية وأس المشكلات التنموية، ليس من قبيل التمثل بالغرب[1]، وكي نواجه بشكل جاد وفعال مشاكلنا الذاتية بموضوعية، والتي في طليعتها عقل التنمية المتمثل في الحقل الأكاديمي لدى الأمم والدول التي تحترم نفسها، وحتى نرقى بالمسؤولية المجتمعية الحضارية من خلال تفكيك المعوقات الأساسية لمشاريع التنمية وقضاياها، حيث الأمية عامة التقليدية (الأبجدية) منها تعتبر أول عائق ومعطل لأي تطلع تنموي حضاري، لكن أمية العصر محلها من الإعراب أصبح في أروقة الحقل الأكاديمي مما يعكس مستوى عمق التخلف وسيطرته على أركان الاجتماع الثقافي العام، ما يستدعي تفكيك هذا الخطر الداهم للبنية التحتية للتحفيز الثقافي للمجتمع نحو النهوض الحضاري، في هذا السياق صدر عن مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية –جامعة الكويت، العدد التاسع من سلسلة إصدارات الاستكتاب، كتاب للدكتور علي أسعد وطفة، وهو أكاديمي سوريّ متخصص في علم الاجتماع التربوي بجامعة الكويت-كلية التربية. يحمل الكتاب عنوان: “الأمية الأكاديمية في الفضاء الجامعي العربي: مكاشفات نقدية في الجوانب الخفية للحياة الجامعية” الطبعة الأولى سنة 2021م يقع في 720 صفحة من القطع المتوسط.
سنحاول في هذه القراءة، التطرق إلى أطروحة هذا الإصدار الفريد موضوعا والمتنوع منهجيا، كما سنقوم بعرض أهم الأفكار الأساسية المطروحة، مع تسجيل بعض الملاحظات حول الأطروحة وتوصيات نراها مهمة وإستراتيجية في حقل الدراسات العلمية العملية.
أطروحة الكتاب:
يحاول الدكتور علي أسعد وطفة في كتابه تشخيص وضع الحقل الأكاديمي العربي الراهن من خلال مقاربة سوسيولوجية نقدية لظاهرة الأمية في هذا المجال الإستراتيجي عبر مدياتها الثلاثة (الثقافية، السياسية، الاجتماعية) معتمدا على ملاحظات سجلها على مدار ربع قرن من التجربة في التدريس الأكاديمي ومعتمدا على جميع ما كتب حول هذه الظاهرة، مستفتيا عدد كبير من الباحثين والأكاديميين المبرزين أكاديميا وعلميا[2]، منطلقا في ذلك كله من خلال الإجابة عن مجموعة من الأسئلة أهمها:
1.هل يقوم الأستاذ الجامعي في مجتمعاتنا العربية بمهمات الابتكار والإبداع المعرفي والعملي التي عرف بها نظيره في الجامعات الغربية؟
2.هل يعاني الأستاذ الجامعي العربي من الأمية بمختلف صيغها وأشكالها الثقافية واللغوية والأكاديمية؟
3.أيعقل أن نصف الأستاذ الجامعي الذي حصل على أعلى الدرجات العلمية بالأمية الثقافية والأكاديمية؟
4.ما مظاهر الأمية الثقافية الأكاديمية في الوسط الأكاديمي في الجامعات العربية؟
5.ما حدود هذه الظاهرة وأبعادها في الجامعات العربية؟
6.ما العوامل الاجتماعية الثقافية السياسية المؤسسة لهذه الأمية إن وجدت في الجامعات العربية؟
ومن هنا تقوم أطروحة الكتاب على استكشاف الأبعاد التاريخية والديالكتيكية لتجليات هذه الظاهرة بحثا عن جذورها وامتداداتها وآثارها الاجتماعية والاقتصادية. فالكتاب يستهدف تناول الظاهرة موضوعيا ونقديا وتاريخيا دون إسهاب أو إفراط في التقدير، من خلال معطياتها الواقعية بموضوعية ودون حمل أي تجريح أو قدح أو مبالغة أو هجوم على شخص الأستاذ الجامعي..
خريطة الكتاب:
قسم المؤلف كتابه إلى قسمين؛ قسم نظري منهجي تحليلي نقدي خصصه للتعريفات وضبط المفاهيم وبالتوازي مع تشخيص الظواهر المرتبطة بموضوع الكتاب الأمية الأكاديمية: تعريفها، أنماطها وخلفياتها وآثارها وتجلياتها وتغيراتها، خصص له ثمان فصول، قسم آخر تضمنه الفصل التاسع ذا بعد إجرائي ميداني خصصه لاستفتاء عينة شخصيات فكرية وأكاديمية من ربوع الوطن العربي، حيث نلحظ تطرق الدكتور وطفة لصيرورات التشكل والتّأسيس والتطور لظاهرة الّأمية الأكاديمية بوصفها مأزق نهضوي متعدد الأبعاد عبر فصول الكتاب:
(الفصل الأوّل) تناول جدلية مفهوم المثقف وعلاقته بالأكاديمية في سياقات مفاهيمية متعددة،
(الفصل الثاني) التحديد المفاهيمي للأمية الأكاديمية ومحدداتها عبر الثقافية ومؤشراتها المعيارية، (الفصل الثالث) تشخيص الواقع التعليمي في الجامعات العربية من خلال تفكيك نهج التلقين وآثاره الاستلابية،
(الفصل الرابع) بتعمق نقدي يسلط الضوء المؤلف على معضلة المعضلات وأس جذور الأمية الأكاديمية المتمثلة في التسييس الأكاديمي ورهاناته التدميرية للجامعات العربية ومركزته في معادلة الفساد الجامعي،
(الفصل الخامس) بأسلوب جدلي تنويري يعكف المؤلف الدكتور وطفة على فتح مناقشة واسعة ومعمقة حول سؤال الحرية في الحقل الأكاديمي وعلاقاتها بالإبداع العلمي والمعرفي وانحسارها أمام تفشي الأمية الأكاديمية، محددا لأهم الخلفيات الاجتماعية لضمورها في الأوساط الجامعية العربية،
(الفصل السادس) وفق ما تقدم وتأسيسا عليه يصل المؤلف لمنتجات الأمية الأكاديمية والتي تتلخص في عبارة الفساد ومشتقاته وأنماطه المتنوعة مع عرض أهم آثارها على المجتمع والجامعة وفي المقابل يعرض نموذجا في مواجهة الفساد أكاديمياً،
(الفصل السابع) فتح المؤلف ملف أبرز منتج للفساد الأكاديمي وهو الجهالة ككاشف رئيسي عن الفساد والإفساد في الجامعات العربية، مستطرد في فضح تفاصيل التجهيل وتحديد أبرز ضحاياه في الحقل الأكاديمي،
(الفصل الثامن) بعد كل ما تقدم ينتهي المؤلف بتقرير منهجي مفصل حول البحث ومقتضياته وإشكالاته وأهدافه وحيثياته الإجرائية والذي يشكل خريطة منهجية لموضوع البحث وضبطا للوعي المنهجي في مقاربة هذه الظاهرة المتشابكة الخيوط من جهة وبلحاظ فرادتها على المستوى الثقافي والأكاديمي العربي وفق ضوابط البحث العلمي،
(الفصل التاسع) أمّا في الشق الإجرائي اعتمد آلية الاستفتاء البحثي من خلال عينة بحثية من مفكرين وأكاديميين عرب، حيث ركز المؤلف على رسم حدود الاستفتاء وفق المنهج الشاقولي بعرض شهادات أفراد العينة بما تضمنته من تفاعل مع الإشكاليات والملاحظات والمضامين المفاهيمية والتحليلية النقدية التي اختصرها المؤلف في تعريف الظاهرة وإشكالاتها ومستوى وأقعيتها لمقاربة مدى مشروعية المفهوم وصلاحيته كأطروحة نقدية ضمن المشروع الإصلاحي وأقعيتها العام لظواهر التخلف..
منهجيات الكتاب:
إن التقسيم المنهجي للكتاب يبدو دقيقاً ومتماسكاً؛ فبعد المقدمة الّتي تطرق فيها د. علي أسعد وطفة إلى أطروحة الكتاب المركزيّة الأمية في الوسط الأكاديمي وتجلياتها وعوامل نشأتها وإفرازاتها المرضية على الدور الأكاديمي في معادلة البناء الحضاري، نجد الكتاب يتكون من تسعة فصول منسجمة، يختمها الباحث بإطلالة بانورامية ثلاثية الأبعاد ( العالم، العرب، الجامعة العربية) محددا أهم مكامن الفشل والانحطاط والتخلف عبر مكاشفة فكرية نقدية ومقاربة استراتيجية لتجاوز مأزق الأمية الأكاديمية والوصول للمخرج الحضاري من خلال أنوار العلم والثقافة في التأسيس لثورة أكاديمية في إطار مشروع سياسي اقتصادي تربوي شامل ..
من حيث المناهج المعتمدة في الكتاب، فهي متعددة، غير أننا نجد أكثر المناهج هيمنة على الكتاب: المنهج الوصفي التحليلي، والنقدي، وأحيانا خاصة في الخاتمة المنهج المقارن. وهذه المناهج اقتضتها طبيعة الموضوع؛ فالكتاب نقدي تنويري بامتياز.
شذرات من فصول الكتاب:
يطرح الأكاديمي الدكتور علي أسعد وطفة قبل مقدمة الكتاب ملخص أطروحته الّتي تتلخص حول ظاهرة الأمية الأكاديمية في الجامعات العربية بوصفها تحديا حضاريا مصيريا يواجه التعليم العالي العربي من المحيط إلى الخليج[3]، على شاكلة الأبحاث الأكاديمية عالميا التي تقدم في مدخل مضامين الكتاب بطاقة شاملة حول أركان البحث بلغة منهجية ترسم لدى القارئ رؤية عامة حول هدف البحث، في حين المقدمة رسمها المؤلف بتبرير منهجي علمي عبر عنوان: مشروعية التساؤل، مؤسسا لذلك بدليل تاريخي عن الدور الريادي للجامعات كمصدر للإبداعات العلمية التي ما فتئت تتحول إلى قوة حضارية تنهض بمجتمعاتها وتعمل على تغييرها[4]، مع التأكيد على مركزية الأستاذ الجامعي المبدع في العلاقة الصميمية الوجودية القائمة بين الجامعات ومجتمعاتها، مبرزا موقع الأستاذ الجامعي المتنور والمبدع الخلاق بمثابة الروح في الجسد الأكاديمي، مقاربا ذلك من خلال قصة التنوير الأوروبي وانطلاقته من الزلزال الذي أحدثه كوبرنيكوس في الجمود الذي ساد أوروبا في القرون الوسطى، لذلك كانت مكانة الأمم والجامعات ومستقبلها مرتبطة ارتباطا مصيريا بالمستوى الأكاديمي الحقيقي لأساتذتها، ما دفع الأمم للعمل على نهضة الجامعات من خلال ضمان الحريات الأكاديمية للأساتذة وممارسة دورهم الوظيفي والاجتماعي الثقافي بكل استقلالية، حتى تبلور لدى النخب العلمية في الغرب معامل الواجب الأكاديمي للأستاذ الجامعي الذي يتحدد بمنظومة الالتزامات تجاه الطلبة وأهداف الجامعة والمجتمع، من خلال ذلك كله انتهى الدكتور وطفة إلى ما مفاده الجامعة أو الأكاديمية ليست مصنع للشهادات وصورة الأكاديمي المبدع والتنويري ليست طوباوية وإنما هي الصورة المنشودة في بنية الأكاديميات الطامحة إلى الحضور في الفعل الحضاري لمجتمعاتها، هكذا مهد الدكتور علي أسعد وطفة لمشروعية طرح الإشكالات المتعلقة بالتزامات الأستاذ الجامعي في الأكاديميات والمجتمعات العربية، وأهمها السؤال الخطير والتراجيدي المثير للنباهة والنبالة العلمية لدى كل أكاديمي عارف بمسؤوليته ومدرك للتحديات المحدقة براهن الجامعات العربية ومستقبلها ليس المجهول وإنما الواقف على شفا جرف هار، إنه سؤال التأسيس لمقولة الأمية الأكاديمية والمقلق للجمود الأكاديمي والمتزلزل لمصالح الفساد والإفساد في العمق الأكاديمي:
هل يعاني الأستاذ الجامعي من الأمية بمختلف صيغها وأشكالها الثقافية واللغوية والأكاديمية؟
هذا الإشكال الصاخب والمثير للنباهة لا يمكن استيعابه من خلال البعد الأخلاقي وإنما على ضوء مسارات التقصي والبحث والنقد العلمية والموضوعية، لأن التساؤل هو المحرك الأساسي للمعرفة خصوصا عند مقاربة ظاهرة تتسم بالجدلية والحساسية ليس على المستوى الاجتماعي فقط وإنما في عمق التفاعل الأكاديمي ومشكلاته المتفاقمة في المجال العربي الراهن والذي توزعت إجاباته ومناقشاته، نستحضر منها بعض الشذرات من فصول الكتاب الآتية..
1.في الفصل الأوّل انطلق المؤلف في تفصيل مهم حول التموج المفاهيمي للمثقف وعلاقته الجوهرية والجدلية بالثقافة، مناقشا ماضات الثقافة الإبداعية والأشكال المفهومية للمثقف ثم أصناف المثقفين وجدليات العلاقة بين المثقف و( المتعلم/الأكاديمي) من جهة والمقاربات المفاهيمية بين المثقف والأكاديمي والتفاضل بين المثقف الأكاديمي أو الأكاديمي المثقف، مع ضبط الفصل بين الأكاديمي والخبير، ليخلص إلى الهندسة الإجرائية لمفهوم المثقف الأكاديمي من خلال شروط موضوعية ومؤشرات حيوية إجرائية اختزلها في عشرين سمة تشكل الصفة النموذجية للمثقف الأكاديمي متكاملة في الغياب والحضور[5] .
2.الفصل الثاني خصصه المؤلف لمناقشة مفهوم الأمية الأكاديمية كظاهرة سلبية تتنامى بواعثها وتتكاثر متغيراتها وتتعاظم مقدماتها وتشتد خلفياتها كما أنها الوجه النقيض للثقافة الأكاديمية[6]، حيث ارتكز على المفهوم الإجرائي للمثقف الأكاديمي في سبر أغوار مفهوم الأمية الأكاديمية وتحديد مؤشراتها وتوصيف مظاهرها وتحديد معالم التقاطع بينها وبين الأمية الثقافية وأنها الأمية الأكاديمية أعقد وأوسع من الأخيرة بل أخطر منها، كما استطرد المؤلف في مقاربة عوامل وجذور الظاهرة من حيث المناهج التربوية والمؤثرات الثقافية وغيرها من العوامل التي تكتمل تدخلاتها في صياغة الأمية الأكاديمية في عمق الوسط الأكاديمي، ليخلص إلى أن هذا الشكل من الأمية الأكثر ضراوة وتعقيدا يمكن التعبير عنه بالجهل المقنع[7]..
3.في الفصل الثالث أخذ المؤلف الدكتور علي أسعد وطفة منعطفا مهما في تحديد مسارات التشخيص لظاهرة الأمية الأكاديمية عبر تفكيك مميز لظاهرة التلقين في التعليم العربي أو ما يطلق عليه التعليم البنكي من خلال عدة دراسات ومقاربات وتحليلات موضوعية لآثار ومخاطر هذا النهج التعليمي على الأجيال وصولا إلى دورة التلقين للأستاذ الجامعي وما تخلفه من دمار وتخلف وجمود على مستوى الوعي والاجتماع العام..
4.الفصل الرابع اتسم بالجدلية بين الاستبداد من جهة والثقافة والفكر الحر من جهة أخرى، عبر تفكيك دورة ظاهرة التسييس الأكاديمي عبر تاريخ الجامعات العربية الحديث والمعاصر، حيث استعرض المؤلف المراحل الثلاث للترويض واختطاف الجامعات وترحيل العقول والضمائر الحية من مراكزها المؤثرة كما أرخ لعدة نماذج للمثقف الأكاديمي الحر والتنويري من أمثال الدكتور طه حسين والدكتور قسطنطين زريق والدكتور السمان ومواقفهم المشرفة للحفاظ على استقلالية الجامعة في قراراتها، وهذا الفصل بمثابة توطئة حول الحريات الأكاديمية ومحنتها في الأكاديميات العربية…
5.الفصل الخامس يعتبر قلب الكتاب لأنه يقدم تشريحا دقيقا لظاهرة الأمية الأكاديمية حيث اشتد في هذا الفصل الحديث عن مخاض تشكّل الأمية الأكاديمية من خلال فحص إشكالية الحريات الأكاديمية وتحديد مفهومها وضروراتها في الإبداع العلمي والمعرفي، موضحا العلاقة الجدلية بين الاستبداد الأكاديمي وغياب الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية وخلفيات ذلك الاجتماعية، مستندا لعدة نماذج في المجال العربي من المحيط إلى الخليج، من قبيل الاستلاب الممنهج ضد كل من يفكر في الخروج عن القطيع الأكاديمي المروض، كما حدث للعديد من الأكاديميين الشرفاء ممن خسرتهم الجامعة والمجتمع بسبب الاستبداد الجامعي والجهل المقنع الذي يتحسس من نور العقل والحرية والكرامة والثقافة الإبداعية لدى كل أكاديمي شريف…
6.الفصل السادس بمثابة تلخيص لأهم إفرازات الاستبداد الأكاديمي وتعطيل الحريات وتجليات الأمية الأكاديمية في الجامعات العربية في ظاهرة الفساد الجامعي وأشكاله المتعددة من السرقات العلمية والرشوة والتحرش الجنسي وتزوير الشهادات وقد حاول الباحث تقديم حلولا من خلال تجارب مواجهة الفساد الأكاديمي في أوروبا، وعياً منه بمخاطر هذا الفساد ليس على الوسط الجامعي العربي وإنما المجتمع برمته، والّذي أضحى من آفات التخلف الّتي لا تستدعي النّقد الشفهي فقط وإنما المواجهة والردع وتطوير آليات الرقابة والنزاهة الأكاديمية.
7.لذلك نجد الدكتور علي أسعد وطفة استطرد من خلال الفصل السابع في التحذير المعرفي من تضخم ظاهرتي الفساد والجهل في الجامعات العربية وإعادة إنتاجها، مستهدفا الكشف عن الآليات وتقديم الشواهد الحية على مسببات الجهالة والجهل المركب والمقدس والتجهيل الممنهج من خلال الأطروحات وما يسمى زورا بالإنتاج الأكاديمي بينما في الحقيقة هو عين الإفساد الأكاديمي، هذا الفصل سلط الأضواء على أهم الأوهام الثقافية المنشورة حول الوسط الأكاديمي واستعرض الخرافات والجهالات والأساطير والمطلقات الأيديولوجية والتمويهات الثقافية بأغلفة القداسة الأكاديمية، مما دفع بالمؤلف إلى ختم هذا الفصل بصرخة مدوية لاستدراك الجامعات والأكاديميات العربية أمام رهانات التسلط الأكاديمي وما كرسه من جهالة وإفساد وأمية شاملة لتكتمل نوعا ما مقاربة الشبكة المفاهيمية المتشابكة مع مفهوم الأمية الأكاديمية عبر التفكيك لكل الأنساق الفكرية والاجتماعية التي احتضنت الظاهرة وأسهمت في إنتاجها وإنتاج منشطاتها السائدة في الأوساط الأكاديمية العربية ..
8.في الفصل الثامن انتبه المؤلف الدكتور علي أسعد وطفة إلى أن أهمية التقعيد والتحديد للإطار المنهجي من خلال رسم معالم المسار البحثي وأنساقه المتداخلة عبر طبيعته وإشكالاته وآلياته وعينته وآلياته بوصفه أطروحة نقدية ذات رؤية جدلية حول ماهية الأمية الأكاديمية ومضاعفاتها التدميرية في المجالات الحيوية، ليبلور ما قدمه التفاعل الأكاديمي والفكري مع الأداة البحثية من شهادات ومطارحات ورؤى حول السّجال الإيديولوجيّ والتّفكيك النقدي حول المفهوم وتجلياته وخلفياته.
9.بينما الفصل التاسع توزعت ضمنه مشاركات الأكاديميين والمفكرين، التي ناقشها المؤلف معربا عن المشقة والصعوبة التي واجهها في تحليل وتفريغ الآراء والمطارحات التي في أغلبها تجاوزت الإطار الإشكالي للاستفتاء، كما أثنى الدكتور علي أسعد وطفة على كل المشاركات التي شكلت قيمة مضافة لمضمون البحث وأثرته بآراء مهمة من حيث التحليل والعمق والتفكيك والتطلع بخصوص ظاهرة الأمية الأكاديمية ومؤشراتها الخفية والظاهرة…
*في خاتمة الكتاب يقوم المؤلف باستطلاع ثلاثي المشاهد لمنطلقات التفكير في بناء استراتيجية فعلية لتطوير التعليم العالي وتثويره والانتقال به إلى مرحلة التأثير في المجتمع وتهيئته لمواجهة تحديات الثورات العلمية في المستقبل..[8] منوها على بناء رؤية جديدة من خلال مشروع تربوي سياسي اقتصادي شامل باعث لثورة أكاديمية خلاقة للنهضة المنشودة..
مستخلص
في الختام، إن المتأمّل للوهلة الأولى في عنوان الكتاب قد يبدو له أن المؤلف يبالغ في المقاربة بين ظاهرة تقليدية وحقل معرفي علمي يمثل الضد الامتيازي لها والمضاد النوعي لتجلياتها، لكن الأكاديمية كمفهوم يحمل بعداً جدلياً بالنظر لأسئلة الدور الوظيفي للأستاذ الجامعي والجامعة في تنمية المجتمع والنهوض به حضاريا، مما يستدعي البحث والتنقيب في جذور النكوص الأكاديمي عن المسؤولية الحضارية في تفاصيل الاجتماع العربي العام، في حين أن الدكتور علي أسعد وطفة قد ميز بين أشكال الأمية المتعددة، ونقده متجه بالأساس إلى الأمية العضوية في الوسط الأكاديمي الّتي تتغذى من عدة مسببات وعوامل ثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية، كما أن المؤلف يعبر عن موقفه من الأمية الثقافية وتحدياتها للدور العلمي النهضوي للأستاذ الجامعي المرهون بتفكيك عرى الفساد والجهالة والرداءة والتخلف بشكل عام من جميع مفاصل الحقل الأكاديمي بوصف ذلك سنام الإصلاح والتغيير السوسيوثقافي الأمثل…
وعليه، فإن قيمة الكتاب العلميّة تكمن في نقده للتمويه السوسيولوجي للدور الحضاري للأكاديمية في المجال العربي عبر عدة سيناريوهات سياسية واجتماعية واقتصادية عطلت الحريات الأكاديمية عبر نشر أمراض الأمية الثقافية، إن صح التعبير، وفي نقده للأمية الأكاديمية بصور الفساد والإفساد، فإن ذلك مركز النقد وأهمه كونه يسهم في تعرية الواقع الأكاديمي وارتباطاته بمعضلات السياسيّ والثقافي والاجتماعي في المجال العربي، ويبيّن خلفيات الكثير من الممارسات والإخفاقات الّتي كانت نتاج الاستبداد أكاديميا كما تناولها الأوروبيون منذ خمسينيات القرن العشرين وإلى يومنا هذا. فالكتاب يعري التخلف داخل الأكاديميات العربية، ويوضح الحيل السياسية والاقتصادية والتمويه الإداري في تحريف مطالب الحرية والعدالة والرقابة والحقوق الأكاديمية وإبعادها عن دورها المرجعي في رسم معالم النهضة والإصلاح والتجديد والتنمية والتنوير بشتى صورها، وذلك من أجل إنقاذ الأستاذ الجامعي من التيه في مهب المعركة الثقافية.
ويمكن اعتبار الكتاب مرجعاً تنويريا مهماً للأكاديميين، وخاصة للمشتغلين بمشاريع النهضة، لأن في الكتاب جانب نظري عميق تناول مفاهيم كالمثقف الأكاديمي والحرية الأكاديمية، كما ناقش جذور الظاهرة في أبعادها النفسية والاجتماعية الثقافية.
ملاحظات وتوصيات حول الكتاب:
١. الملاحظات:
الأولى: كنت أتمنى أن يختم الكتاب باستشراف مستقبل الوسط الأكاديمي العربي ليس تطلع مثالي من قبيل الجامعة الفاضلة وإنما لتدارك الفجوات وتفصيل أكثر لمسارات التغيير والإصلاح كإضافة جدلية حول الإصلاح من خلال فسحة الأمل.
ثانيا: هناك حاجة ماسة لفك شفرات الجدل القائم بين ما هو ثقافي وما هو سياسي، أما عن أحاديث تسييس الأكاديميات أو تثقيف السياسة، لابد أن نعترف بأن مأزق الاستبداد بالأساس فكري ثقافي قبل أن يكون سياسي والسياسة حاضرة بالأكاديميات في العالم العربي، الأنسب أن نعزل الفكر عن التجاذبات السياسية لأن العلاقة بين الأيديولوجي والثقافي عربيا متشابكة وتفاعلية، ما يعني أن المأزق حاصل بين الأمية الثقافية والأمية السياسية على مستوى الاجتماع الأكاديمي أو الذات الأكاديمية الفردية والجمعية، ما أنتج مادة البحث الأمية الأكاديمية وهذا مبحث جدير بالاهتمام عبر تخليص السياسة وتنزيهها كقيمة ثقافية اجتماعية من صراع المصالح والعصبيات المختلفة في أطروحة جذر الاستبداد وكانت مطارحة الدكتور علي أسعد وطفة حول ذلك عابرة وتحتاج لتفصيل أكثر.
ثالثا: ماذا عن قيم النظام الأكاديمي أو أسسه القيمية ومنطلقات ومقتضيات أهدافه الاجتماعية والتي من خلالها نستكشف الأكاديميات العربية كل واحدة بحسب خصوصياتها أي أن التنميط الشامل للأمية الأكاديمية في العالم العربي، يعني توحيد السياق السياسي والاجتماعي لها وهذا يجانب الصواب المنهجي السوسيولوجي والواقع الأكاديمي العربي المتعدد حسب الدول، ما يستدعي ترسيخ الطرح الابستيمي في عدة مباحث دون الطرح الإعلامي السياسي، أي الدراسة المسحية وفق معاملات محددة، بعد تفريغ المعلومات تتبلور النتيجة، قد تكون المسألة صعبة لكن تبقى الآلية مهمة بالإضافة للاستفتاء…
رابعا: عدم التوسع أفقيا وطوليا في دراسة النظم الاجتماعية ضمن مباحث الاستبداد والفساد وتكوين مفهوم المثقف الأكاديمي، كون النظم الاجتماعية في المجتمعات تلعب دورا خاصا في العملية الثقافية برمتها..
خامسا: جمعت الآراء والمطارحات بآلية الاستفتاء عبر استمارة أسئلة قدمت لمفكرين وأكاديميين عرب أغلبهم من حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية دون أهل الاختصاصات الفنية والتقنية والاقتصادية ناهيك عن الإداريين والطلبة والسياسيين، وهذا يعكس عدم التوسع في الاستفتاء لكل أصحاب العلاقة بالشأن الأكاديمي..
سادسا: الأمية الأكاديمية ظاهرة متعددة، انطلقت من بيئات ثقافية متنوعة وليست ثقافة عربية موحدة وإنما بيئات ثقافية محلية وضمن مسارات ثقافية متشابكة ما يوحي بأن وعي الأمية الأكاديمية متصل بالأنساق الثقافية المغذية لها وبالتالي لابد من تحديد أصناف الأمية الأكاديمية ليس فقط وفق المنحى الوصفي وإنما أيضا المنحى المعياري الذي يفرز آليات التشكل والتطور في ظاهرة الأمية ويساهم في مقاربة العلاجات في صور الواقع كلها..
سابعا: ضرورة التمييز بين تحليل التخمينات وتفسير الممارسات عند بحث الظاهرة، اقصد التسليم بوعي الأكاديمي التام لمنظومة القيم التي تحكم ممارسته لدوره داخل الوسط وفي المجتمع، هذا التصور يتعارض ونتائج العلوم الإنسانية والاجتماعية حول بنية الثقافة النقدية التي لا تنظر للوعي كوحدة متناسقة وإنما نتاج هيكلة معرفية تجريبية مستمرة..
٢.التوصيات:
أولا: تجديد دراسة الظاهرة من خلال ورش عمل لفرق بحثية متعددة بحسب المعاملات البحثية والأنساق العلمية، أي وفق الشروط الابستيمية ومواقع الإصلاح للواقع العربي..
ثانيا: تخصيص ندوات وملتقيات حول كل بعد من أبعاد الدراسة في شقها النظري والمنهجي من أجل بلورة رؤية منهجية دقيقة في تأسيس المفهوم ومقاربة واقعه..
ثالثا: تخصيص مبحث حول فلسفة الأمية في الثقافة والسياسة والاجتماع كمدخل لبناء تصور فلسفي حول الأمية الأكاديمية.
رابعا: مهم جدا الخروج بالأمية الأكاديمية من مدارات السجال النخبوي إلى حقل الأدب الروائي، كإثارة ثقافية للمعنى والمبنى من خلال التصوير الفني الذي يغني الوعي الثقافي العام بالظاهرة وتحدياتها من جهة ولمسارات العلاج والإصلاح..
خامسا: تكثيف الأبحاث والدراسات العليا حول جذور ظاهرة الأمية الأكاديمية وانعكاساتها ومجالاتها الحيوية ضمن تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية والحقوقية والسياسية والاقتصادية، مما ينتج مخزون معلوماتي يؤسس لتحيين علمي معرفي بمسارات وحيثيات الأمية الأكاديمية عربيا..
كلمة أخيرة:
تكمن أهمية أطروحة الدكتور علي أسعد وطفة التي قدمها حول مفهوم الأمية الأكاديمية أنها تعكس اجتهادا معرفيا جديا وفاعلا، فمفهوم الأمية الأكاديمية، يُمكن أن يكون من المفاهيم المركزية القلقة والدافعة نحو حل تناقضات الراهن الأكاديمي العربي (الدور والآفاق)، شرط أن يكون مساوقا للمتغيرات والمعطيات الجديدة كما أن تحيين المفهوم فلسفيا وعلميا، يتوقف على مدى استجابته لشروط النقد العلمي من جهة، وإدارة انعكاساته من جهة أخرى. ولعل القراءات المعمقة لهذا المفهوم، وتطويعه لفائدة حسم تحديات الاجتماع العربي العام، يسمح بتوسيع مجالات تفكيكه وتفعيل نقيضه الحضاري المنعقد ضمن مقتضيات الوعي الأكاديمي (الثقافة الإبداعية). دون إغفال علاقته المعيارية بالبحث السوسيولوجي الذي من شأنه الكشف عن مكانيات الاستبداد والفساد والتخلف مثلما عرضها الدكتور علي أسعد وطفة في كتابه المميز والفريد موضوعا ونقدا.
ثم لا ننسى راهنيه الوسط الأكاديمي الذي يئن من اضمحلال المواضيع البحثية المتميزة والواقعية والإستراتيجية، حتى ضاعت الأدوار الاجتماعية الحضارية للأكاديميين بعدما ضاقوا ذرعاً بأنفسهم وبجامعاتهم عندما ضاق بعضهم بالنقد والإصلاح والتغيير والتنوير والاختلاف والتميز والنزاهة، هذا ما يجعل سؤال الأمية الذي طرحه الدكتور وطفة على المجتمع الأكاديمي بحثاً عن عوامل التحكم في مكوناته النفسية وفي آليات تفشي ظاهرته ومنهجه في إرساء الفساد والتجهيل والتخلف، سؤال تجديد القيم الثقافية العلمية وصلتها بالمسؤوليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المصيرية في المجال العربي، وفيما يؤدي إليه كلّ هذا من تأسيس لبدائل تجديدية مرتبطة بإحداثيات العصر وأنظمتها الحضارية.
[1] رغم كل مظاهر المدنية وصور التحضر وآفاق التنمية في أغلب بلدانه يكاشف الظاهرة بكل ثقة وصراحة دون كلل ولا ملل أو تهرب
[2] كتاب الأمية الأكاديمية في الفضاء الجامعي: مكاشفات نقدية في الجوانب الخفية للحياة الجامعية، ص44
[3] ن.م ص 28.
[4] ن.م ص 35
[5] ن.م، ص 79
[6] ن.م ص 100-101.
[7] ن.م، ص135
[8] ن.م، ص669.