التعليم وتغييب التفكير

التعليم يعاني من قصور في تكوين منهجية البحث ومنهجية التفكير، وبالذات في المراحل الأولى التي تعتبر القاعدة الأساس لتنمية التفكير (غيتي إيميجز)

يسأل الكثير من الناس اليوم: لماذا أصبحت شخصية الكثير من الشباب العربي ضعيفة، وتكاد أن تكون عاجزة عن مناقشة الأفكار المطروحة في الإعلام، أو منصات التواصل، أو الفعاليات الثقافية، وضعيفة في تحليل الأحداث، وتقدير حجمها، وخطورتها، وإدارة الأزمات، وعاجزة عن الإبداع، والاختراع، والتجديد، والإصلاح.

وهي إلى جانب ذلك سريعة التأثر بالأفكار السطحية، والطائفية، والمتطرفة، والاستهلاكية، وأصبح اهتمام الكثير محدودا ومحصورا في الجوانب المادية، والتقليد والتبعية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، انتشرت في السنوات الأخيرة قصات شعر بأشكال غريبة، ورسم رموز معينة على الجسم، خاصة بين أوساط الطلاب المراهقين. كلما كنت أرى من يقص شعره بتلك الطريقة كنت أطرح سؤالي عرضًا: لِمَ هذه الحلاقة والرسوم؟ أهي آخر صرعة في عالم الموضة، أم أنها ترمز إلى شيء معين؟ وكانت الإجابة دائمًا: لا أعرف!.

ليست المشكلة هنا في الحلاقة، ولا في عدم معرفة الطالب ما ترمز إليه تلك الأشكال والرسوم، ولكن المشكلة أن كثيرًا ممن سألت لم يفكر في طرح السؤال قبل أن يُطرح عليه. حيث أصبح الكثير من الطلاب مقلدين لا أكثر. هنا لا أدعو إلى فرض هيئة أو شكل معين على الطلاب، وتحديد نوع وشكل قصة الشعر، وإن كانت جزءا من الثقافة، ولكن أدعو إلى تنمية التفكير، والتحرر من التبعية بجميع صورها المختلفة، خاصة بعد توغل ثقافة التقليد والتبعية والاستهلاك في الكثير من طلاب المدارس وحتى الجامعات إلى أدق التفاصيل. وهو ما يحتم علينا ضرورة ردم هذه الفجوة في نظامنا التعليمي، حتى لا تبقى أجيالنا في عداد الأجيال المتلقية لثقافة ومنتج الآخر من دون أن تسهم في صناعتها!

ويكمن المشكل التربوي هنا، في أنه بالرغم من أهمية التفكير، وتنمية التفكير بمختلف مستوياته، فإن مناهج التعليم -مع الأسف- تجاهلت تنميته في الطلاب. فمؤسسات التعليم، ومقرراته، وأساليبه، ووسائله، ومدارسه، وحتى جامعاته، تركز على التلقين والحفظ المجرد، وتتجاهل التفكير، والإبداع، والابتكار، والبحث، والتأمل، والتحليل، والاستنتاج.

إن التفكير مهارة من المهارات الأساسية المهمة، والتي يجب أن ينميها التعليم في طلاب المدارس والجامعات، فالمعرفة -كما ذكرت العديد من الدراسات التربوية- لا تقتصر على ما يتلقاه الطالب في الحصة الدراسية، ولم تعد غاية في حد ذاتها، بل وسيلة للتعليم والتدريب على مهارات التفكير العليا، حتى يصبح الطالب قادرا على مواجهة التحديات، وحل المشكلات، وصناعة القرارات المناسبة، وحتى يصبح لدينا علماء، ومفكرون، ومبدعون، في مختلف المجالات، العلمية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والفكرية، والطبية، والزراعية، والعسكرية.

حول هذا الموضوع نقل الدكتور علي وطفة في مقالته الموسومة “التعليم القائم على البرهان ثورة تربوية في فضاء الثورة الصناعية الرابعة”، ما ذكره ألفين توفلر في كتابه “صدمة المستقبل” (Future Shock) الصادر عام 1970: “الأميون في القرن الواحد والعشرين لن يكونوا أولئك الذين لا يستطيعون القراءة أو الكتابة، بل أولئك الذين لا يستطيعون الفهم والتعلم وإعادة التعلم مدى الحياة”. وورد فيه أيضًا قوله: “من خلال تعليم الطلاب كيفية التعلم، والتعلم عن التعلم، وإعادة التعلم، فإن التعليم يكتسب طاقة هائلة وقوة متجددة. وعلى هذا النحو لن يكون الأميّون غدا هم أولئك الذين لا يستطيعون القراءة، ولكن أولئك الذين لم يتعلموا كيف يتعلمون”.

وهذه الرؤية تكشف عن مثالب الأنظمة التعليمية الرسمية القائمة اليوم، لخصها الدكتور علي وطفة في تساؤلين جوهريين: “هل الطلاب في مدارس اليوم يعلمون كيف يتعلمون؟ أم أنهم يتعلمون كيف ينجحون في الامتحانات فحسب؟ ويقول وطفة: “ويلاحظ في هذا السياق وجود قلق وطني ودولي حول مسألة التصنيف الأكاديمي للجامعات، ومستوى إنتاجية التعليم والأداء الذي يحققه، ومثل هذا الاستغراق في قضايا التصنيف والأداء والأمور التي تبدو لنا شكلية، قد تعزز فكرة أن التدريس يستخدم فقط للاختبارات والتصنيفات”.

وللدكتور أحمد محمد العيسى (وزير تعليم سابق) رؤية حول التعليم والتفكير النقدي، تقول إن من الأهمية بمكان تعليم الطلاب مهارات التفكير النقدي، وتدريبهم منذ الصغر على تحليل ونقد الظواهر، والمعلومات، والادعاءات، لمعرفة ما إذا كانت صحيحة أو غير صحيحة، بدلًا من التسليم التلقائي، وقبول ما يتلقاه الطالب دون فحص ومناقشة أو اقتناع. وإن الاهتمام بهذه المهارات، يتجاوز الطرح الأكاديمي في المؤتمرات إلى قيام مؤسسات وبرامج، تسهم في زيادة الوعي بأهمية هذه المهارات، وتقدم التجارب والوسائل المناسبة، لتطبيقها على المستوى التعليمي لكل المراحل.

أدعو إلى تنمية التفكير، والتحرر من التبعية بجميع صورها المختلفة، خاصة بعد توغل ثقافة التقليد والتبعية والاستهلاك في الكثير من طلاب المدارس (بيكسلز)

وبالنظر إلى العوامل والأسباب التي تعيق التفكير وتؤدي إلى جموده، نجد أن من أبرزها:

  • الاستبداد، والتقليد، والتبعية، والخوف من النقد. ويتجلى ذلك في تمجيد الكثير، آراء وأقوال بعض الساسة، أو زعماء الطوائف والمذاهب والفرق الفكرية، وكأنها حقائق علمية وثوابت مقدسة، لا يجوز نقدها، أو التشكيك في صحتها وثبوتها، وهو ما جعل سدنة التعليم أن يبرروا تجنب أي فلسفة وأفكار جديدة خوفًا من أن تتعارض مع توجهات المستبد، أو تحت مبرر “قيم وثقافة الطلاب وثوابت المجتمع” تم تدجين الطلاب، وإلا كان الأولى الخوف من أن يتم تدجين عقول الطلاب، وتكريس أسلوب تعليم الببغاوات، خاصة في العلوم والمواد الثقافية، لأن ذلك يؤدي إلى تدجين العقل، وقتل القدرات العقلية التي تستطيع التحليل والمقارنة والاختيار.
  • قصور التعليم في تكوين منهجية البحث ومنهجية التفكير، وبالذات في المراحل الأولى للتعليم التي تعتبر القاعدة الأساس لتنمية التفكير، وسيطرة التلقين المجرد من الوعي والفهم على طرق التدريس، سواء في المدارس أو الجامعات، وجزء من هذا يعود إلى ضعف برامج تعليم المعلمين في الجامعات في مهارات التفكير، لتطبيقها في دروسهم وأنشطتهم التعليمية مع طلابهم.
  • الاعتماد على الكتاب كمصدر وحيد للمعلومات، إذ أصبح الكتاب المدرسي المصدر الوحيد للمعرفة، لا يصح أن يخرج عنه المعلم أو الطالب، وتُقدم المعلومات، والقواعد، والنظريات، وتلخيصها بأسلوب التلقين المجرد، وعلى الطالب حفظها كما وردت. فلا يزيد، أو ينقص عنها، ولا يحق له الإضافة والتعديل، أو السؤال والنقد، وفي الأخير يتم تقويم مستوى الطالب من خلال الاختبار الذي يبدأ بـ”عدّد، عرّف، اذكر”.
  • كما أن التحيز الانفعالي والعاطفي له دور سلبي، حيث تؤثر ميول الإنسان وانفعالاته في تفكيره وتجعله يقع في أخطاء التحيز. وقد بينت الدراسات الحديثة حدوث أخطاء في التفكير، نتيجة التحيز الانفعالي والعاطفي، لذلك لكي يصل المفكر إلى الحقيقة، يجب أن يتحرر من تأثير ميوله وانفعالاته وتعصباته، التي تكبل تفكيره، وتعوقه عن الوصول إلى الحقيقة.
  • قصور فهمنا للغة العربية، وهو ما يؤكده، عبد الكريم بكار في “تكوين المفكر”، بقوله: “قصور فهمنا الضروري للغة يؤثر على تعبيرنا عن الأفكار وفهمنا لها لا محالة، ومن هنا تأتي العلاقة والتأثير المتبادل بين التفكير واللغة. إن اللغة وسيلة لتخزين المعلومات والمفاهيم والأفكار، ووسيلة لاسترجاعها أيضا من الذاكرة، كما هي أيضا أداة لصنع الأفكار. إذا كان هذا مكان اللغة من التفكير فإن علينا أن ننمي لغتنا من أجل تنمية أفكارنا، ومن زاوية ثانية فإن اللغة تقوم بالحد من أفكارنا بالقدر الذي نعرفها به، إنها بمثابة الروح من الجسد، فمهما كانت الروح متوثبة ومشرقة، فإنها تظل محصورة في حدود الجسد. إن علاقة اللغة بالتفكير هي علاقة إنتاج وتحديد واستحضار واستذكار وخيال، ومن ثم فإن أي جهد يبذله المفكر من أجل الرقي بلغته فإنه يطور من خلاله تفكيره وأفكاره ونظرته للكون والحياة”.

تلك المشكلة وأسبابها.. فما الحلول المقترحة؟

يجب أن تعيد مناهج ومؤسسات التعليم النظر في سياساتها، وأن الهدف من التعليم ليس التحصيل الدراسي، ومنح الشهادات، والحصول على الوظائف، وإنما بناء القيم، وتنمية مهارات التفكير والتخطيط، وإعداد الطالب للقيام بالتفكير، حتى يشارك في البناء ويقود الإصلاح في المستقبل.

نحن بحاجة إلى إعداد الجيل الذي يتعلم كيف يتعلم، وإلى الجيل الذي يبحث ويحلل ويقارن ويستنتج المعلومات، وإلى الجيل الذي ينتقد ويعدل ويقترح ويضيف، إلى السيل المتدفق من المعرفة، وإلى الجيل الذي يكون له تفكيره المستقل، دون اعوجاج أو تطرف، إلى الجيل القادر على إدارة الأزمات سياسية كانت أو اقتصادية، إلى الجيل القادر على الإبداع، والتفكير، والابتكار، والاختراع، والتطوير، وإلى الجيل الذي يهتم بالجانب الروحي، والفكري، والمهني، ويشارك في البناء والإصلاح، في مختلف المستويات، المجتمعية والوطنية والعالمية، وعلى مختلف المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

لقد فطنت العديد من الأنظمة التعليمية في عدد من دول العالم لأهمية التفكير، فسعت إلى تطوير مناهج التعليم في مدارسها وجامعاتها، وقامت بتفعيل الأساليب والوسائل التعليمية السليمة لتنمية مهارات التفكير لدى الأطفال والطلاب، وفق منظومة تربوية تعليمية محكمة، تشمل أهدافًا تعليمية تتجاوز نقل المعرفة، إلى اكتشافها، وتلقين الطالب، إلى إشراكه في عملية التعليم والتعلم، وتفعيل الأنشطة التي تعزز مهارات الوعي والفهم والتحليل والاستنتاج والاكتشاف، وتدفعه نحو السؤال والاستفهام، والتجربة، وفهم العلاقة المنطقية بين الأفكار، وعدم التسليم بالآراء والأفكار من دون تدقيق وفحص، وتحثه على الكشف عن المتناقضات، وحل المشكلات بطريقة منهجية، والتعرف على الأفكار المتشابهة، أو ذات الصلة بالفكرة الأساسية لدعم الاقتناع والتبرير.

ولهذا يجب أن تعيد المدرسة النظر في أساليبها في التعليم، فالتربية والتعليم لا تتعلق بالتلقين الجامد، ولا بقدرة الطالب على الحفظ والنجاح في الاختبار، بل تتعلق بقدرته على الحفظ، وممارسة التفكير النقدي المتسائل دائمًا، وتعليم الطلاب عمليًا، ليصلوا إلى مرحلة يستطيعون فيها ممارسة هذا التفكير بأنفسهم كجزء من حياتهم اليومية. حتى يستطيع الإنسان التمييز، والاختيار، واتخاذ القرار، والتحرر من التبعية، ومن الخوف، ومواجهة التحديات، والتعامل بحكمة مع المشكلات، والمواقف الصعبة.

كما يجب إصلاح المحتوى التعليمي، وتفعيل الأساليب والوسائل التعليمية التي تساهم في تنمية التفكير: كالبحث، والتجريب، والتطبيق، والمجموعات التعاونية، وتكوين منهجية البحث ومنهجية التفكير، والاهتمام بتنمية هذه المهارات وبالذات في طلاب المراحل الأولى للتعليم، والتي تعتبر القاعدة الأساس لتنمية التفكير. وتوعية وتدريب المعلمين على أساليب ومهارات التفكير وتطبيقها، فمن دون المعلم الواعي لأهمية التفكير، والفاهم لأساليب ومهارات التفكير، لا ننتظر تحققه في الطلاب، ففاقد الشيء لا يعطيه.

وللأنشطة التربوية في المدارس دورًا حيويًا فاعلًا في تنمية مهارات التفكير المختلفة، كتشجيع الطلاب على القراءة، والاطلاع، والبحث، وتعرضهم لمواقف، ومشكلات، تحثهم على التفكير، وتعطي الطلاب وقتًا كافيًا، للقيام بعمليات التفكير في الأنشطة التي يشاركون بها، والتعامل مع المواقف المختلفة، وتدوين ما توصلوا إليه ومناقشتهم. ويجب على المدارس تحفيز الطلاب على التجارب الجديدة وغير المعتادة، والاستماع إلى أسئلتهم وتعليقاتهم وأفكارهم، وتقدير جهودهم، حتى يشعر الطالب أن المدرسة أو المعلم يثق في قدراته.

الخلاصة: إذا أردنا إعادة الحياة التربوية إلى المدرسة مرّة أخرى، لتقوم بدورها دورًا ووظيفًة، فلا بدّ من جعلها تربيًة بالمعنى الواسع للكلمة. السبيل الوحيد إلى إعادة الدور التربوي في مدارس وطننا العربيّ، والإفادة منها، يكمن في تنشئة وإعداد الأجيال تنشئة متكاملة، روحيًا، وعقليًا، وبدنيًا، وتحويلها تربيًة، ولا يعني ذلك تعليمها في المدارس، بل تفعيل التربية الفكرية، ودورها النقديّ لتنشئة الجيل، وإعانته على اكتشاف ذاته والعالم، ليكتسب خبرات حياتيّة، وكيانًا وجوديًّا.

إذا ما أردنا من طلّابنا أن يفكّروا خارج صناديق الكتاب، والمناهج الدراسيّة، والفلسفات الحزبية والطائفية، وأن يبدعوا أفكارًا جديدةً، وأن يسلكوا طريق المنهج والحجة والدليل والبرهان، في تلقّيهم المعلومات، وفي البحث عنها، وفي تحليلها وتناولها، فلنعلّمهم كيف يتعلمون، وكيف يفكّرون تفكيرًا نقديًا وإبداعيًا.

مقالات أخرى

الفروق الثقافية في التعليم:

قراءة معرفيّة في سوسيولوجيا التّجربة المدرسيّة:

سيميائية التحول الجندري في الرواية التّونسية  بين البحث عن الهوية وتخريبها:

1 تعليق

عبد القادر 1 نوفمبر، 2021 - 9:36 م
مقالة جيدة
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد