نساء جبران خليل جبران

جبران خليل جبران

1- جبران / مي زيادة :

اشتهر الجانب العاطفي لدى جبران خليل جبران، من خلال سياقات معطيات علاقته بالأديبة مي زيادة. أمر، تجلى واضحا؛ عبر تجليات رسائلهما المتواصلة لمدة عشرين سنة، دون أن يلتقيا قط، للمفارقة العجيبة! ولو لمرة واحدة على أرض الواقع. أيضا، انتظرت مي زيادة اثنتي عشر سنة بالتمام والكمال، كي تعترف أخيرا لجبران بأنها تحبه، وتسكنها رغبة دفينة أن يطلبها للزواج، سؤال تجنبه جبران على الأقل مع مي، غاية موته. في حين، أ لح عليه كثيرا مع ماري هاسكال، كما سنرى بقليل من التفصيل في الشق الثاني من هذه المقالة. 

غير أن انكشاف حيثيات ثلاث، ستضفي التباسا على تلك العلاقة الغرامية الطويلة، والاستثنائية بكل المقاييس الجسدية والروحية، التي شكلت دائما نموذجا للحب العذري أو الصوفي يصعب احتذاؤه بالنسبة لثنائي آخر، سوى فيما ندر.

هي حيثيات حين النجاح في تسليط الضوء عليها، تزيل على نحو ما، غشاء الطُّهر والنقاء التامين عن غرام جبران ومي، بحيث تخضعه لميزان التقييم البشري المألوف، المحكوم بالنسبية والارتياب، وتسائل بالدرجة الأولى حقيقة مشاعر جبران خليل جبران، الذي جعل من رسائله العاشقة إلى مي، كما طواها كتابه ”الشعلة الزرقاء”، مثلما اتضح، مجرد هرمون محرِّض لخياله يلهمه الإبداع الأدبي والفني، لأن جبران كما هو معلوم، كان أديبا ورساما تشكيليا.

-المسألة الأولى : لقد عاش جبران في أمريكا علاقات عاطفية عديدة مع نسوة، فاق عددهن العشرات، حسب بعض الروايات، وهن تحديدا : سلطانة تابت، جوزيفين بيبوديه، ميشلين، شارلوت تايلر، ماري قهوجي، ماري خوري، كورين روزفلت، مسز ماسون، بربارة يونغ، حلا الضاهر، ماريتا لوسن، هيلانة غسطين…دون الإشارة، ضمن المتتالية إلى اسم التي اختزلت حضورهن جميعا وشغلت” بالمطلق” قلب جبران، أقصد دائما ماري هاسكال.

معطى أساسي، دفعت ميخائيل نعيمة الصديق الحميم لجبران، في سيرته عن حياة الأخير، كي يقر بأن صاحب النبي لم يكن حقا نبيا، لمجرد تأليفه كتاب بهذا العنوان، بل كان منغمسا في طيات ملذات جسدية متعددة، فترة كتابته تلك الرسائل المعطرة بعبق السمو إلى مي زيادة.

– المسألة الثانية: لم يحتفظ جبران ضمن موروثه الفكري برسائل مي، سؤال يدل حسب الراجح عن عدم اهتمامه بها.

– المسألة الثالثة: على امتداد عشرين سنة، فترة زمنية ليست بالتأكيد هينة، لم يبد جبران إبانها أي سعي للقائه مي زيادة، رغم تنقلاته من أمريكا إلى فرنسا غير ما مرة. أيضا، لم يوجه لها أيّ دعوة بأي صيغة من الصيغ، مما يظهر بجلاء، أن جبران فضل في قيرورة نفسه حياة حرة مستقلة تتخلص من كل ارتباط مؤسساتي. ضمن سياق الغرابة نفسه، انتظرت مي اثني عشرة سنة، كي تجهر أخيرا بما تشعر به نحو جبران والفضل في ذلك يعود للورق الذي منحها جرأة البوح. تقول رسالة لها بهذا الخصوص:

”ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به؟ ولكني أعرف أنكَ ”محبوبي”، وإني أخاف الحب…كيف أجسر على الإفضاء إليكَ بهذا، وكيف أفرط فيه؟ لا أدري، الحمد لله أني أكتبه على ورق ولا أتلفظ به، لأنكَ لو كنت حاضرا بالجسد لهربت خجلا بعد هذا الكلام، واختفيت زمنا طويلا. فما أدعكَ تراني إلا بعد أن تنسى. حتى الكتابة ألوم نفسي عليها أحيانا لأني بها حرة كل هذه الحرية. قل لي ما إذا كنت على ضلال أو هدى فاني أثق بكَ، وأصدق بالبداهة كل ما تقول! وسواء كنت مخطئة فان قلبي يسير إليكَ، وخير ما يفعل هو أن يظل حائما حواليكَ يحرسكَ ويحنو عليكَ”.      

تلك حقائق أساسية بخصوص فهم العلاقة الوجدانية بين جبران ومي، ولا شك توجد أخرى، إن تعمق الباحث في سبر أغوار هذا الموضوع وخصص له وقتا كبيرا قصد مزيد من البحث والتقصي، حول خبايا حياة رائدين من رواد فكر النهضة الحديثة بدايات القرن العشرين.

لقد اختارت مي زيادة عشقها لجبران، بالعقل والقلب معا، قلبا وقالبا، متجردين عن أيَ مثيرات ظرفية، قوامها مصالح ذاتية عابرة.امرأة قوية وشفافة، حرة ومستقلة، ذكية ومثقفة بامتياز، كانت تشرف في مصر منذ عام 1913 على صالون فكري، تعقده كل ثلاثاء داخل منزلها، تحضره قامات بلغت السماء طولا على مستوى الإلهام والفصاحة والبلاغة والبيان، يكفي ذكر : أحمد شوقي، طه حسين، عباس محمود العقاد، مصطفى عبد الرزاق، أحمد لطفي السيد، مصطفى الرافعي خليل مطران…أضمروا لها مشاعر تراوحت بين التقدير والإعجاب بل وتبادلت مع بعضهم رسائل خاصة جدا، ملؤها الحب والشوق مثلما جرى الأمر بينها والعقاد إلى درجة كتابته رواية عنوانها “سارة” اختزلت مضامينها اعترافات حبه نحو هذه المرأة الفريدة من نوعها.

بهذا الصدد، أكد مؤلف ”العبقريات” في إحدى لقاءاته، بأن فؤاده لم ينشغل طيلة حياته سوى بسارة ثم مي زيادة، التي منحته السعادة منجذبا إلى نوعية سماتها الذهنية واستقلال شخصيتها.

بدورها، تماهت مي زيادة بكل انسيابية مع صمت رغباتها المتوارية، فكتبت إلى العقاد ما يلي: “إن ما تشعر به نحوي هو نفس ما شعرتُ به نحوك منذ أول رسالة كتبتها إليك وأنت في بلدتك التاريخية أسوان، بل إني خشيت أن أفاتحك بشعورك نحوي منذ زمن بعيد، منذ أول مرة رأيتك فيها بدار جريدة ”المحروسة’‘. إن الحياء منعني، وقد ظننتُ أن اختلاطي بالزملاء يثير حمية الغضب عندك. والآن عرفت شعورك، وعرفت لماذا لا تميل إلى جبران خليل جبران”.

فعلا، رغم كونها محاطة عن قرب بجاذبية هؤلاء الكبار، فقد حلقت جوارحها بعيدا؛ أبعد من المحيط الأطلسي، تحديدا صوب جبران نتيجة سحر خواطره ومفعول كلماته الأخاذة. كانت زيادة في سن السادسة والعشرين، تحديدا عام 1912، حين اطلاعها على كتاب ”الأجنحة المتكسرة”، العمل الذي نشره جبران خليل جبران في نيويورك، بعثت له رسالة عربونا عن إعجابها بما خطته أنامله وما انطوى عليه أسلوبه. ثم تطور التراسل بينهما إلى أن أفرز لنا ظاهرة ثنائي جبران/مي الشهير، دون أن يخلص بعد كل شيء، غاية انصهاره الروحي بكيفية ملموسة، وظل الأمر مجرد تحليق أثيري للخيال.

سنة1931، توفي جبران، ثم خلال السنة الموالية فقدت مي زيادة والديها، وضع أشعرها بقسوة الوحدة والعزلة، إضافة إلى ظلم الأهل والأقارب، تحديدا أبناء عمومتها، الذين أودعوها مصحة نفسية في لبنان قصد الاستحواذ على إرثها. مصير مأساوي صاحبها غاية وفاتها سنة1941، عن سن يناهز الخامسة والخمسين.

2- جبران خليل جبران/ ماري هاسكال :

حقيقة وماهية المرأة، مثلما جَسَّدتها ماري هاسكال بالنسبة لمسار حياة جبران منذ بلوغه سن الواحد والعشرين غاية وفاته يوم الجمعة سنة 1931، ثم بعد ذلك حيث استمر حضورها الوازن؛ بتحملها مسؤولية الحفاظ على إرثه الفني، تتجاوز كثيرا سواء الحيز الذي شغلته مي زيادة رغم نصاعة الضوء المسلط تاريخيا على هوية تلك العلاقة، أو ما تعلق بباقي غراميات جبران.

نعم، لقد اختزلت ماري هاسكال، بحضورها الكاريزمي مختلف روافد الحكاية، لأنها عكست بليونة شاعرية وحدة المتعدد، فقد شكلت بالنسبة إلى جبران الحبيبة، الأمّ الروحية، الملهمة، المرشدة، الأستاذة، الصديقة الحميمة، والوصية على إبداعه بعد رحيله، ثم المرأة الوحيدة التي رغب جبران حقا في الارتباط بها تحت سقف مؤسسة الزواج. أفق، تطلع نحوه بإلحاح، إشارة مثلما نعرف، لم ترد قط بصدد مي زيادة.

هناك جملة تضمنتها رسالة جبران إلى ماري هاسكال سنة 1926، تضمنت خلاصة مختلف ما يمكن الإفضاء به: ”أنتِ أعزّ شخص على قلبي في هذا العالم”.

تعود أولى شرارات بداية انصهار هذا الثنائي الفريد من نوعه، إلى لقاء جمع بينهما صدفة في بوسطن عام 1904، بمناسبة افتتاح جبران لمعرضه الفني الأول داخل رواق المصور والناشر فريد هولاند داي. التأثر الكبير، للزائرة ماري هاسكال بجمال لوحات جبران، دفعها لدعوته كي ينظم عرضا آخر في مدرستها الثانوية الخاصة للبنات التي أسستها عام 1902.

غير أن حدود الإعجاب لم تقف عند مستوى هذه الخطوة، بل ارتفع مؤشر سخاء ونبل هاسكال كي تقترح على جبران إرساله إلى باريس، تحديدا وجهة أكاديمية جوليان، كي يدرس أكاديميا فن الرسم ويصقل نظريا موهبته، مع راتب قارب خمسا وسبعين دولار شهريا. سعي، تحقق فعليا سنة 1908.

يصف جبران هاسكال في رسالة قبل سفره إلى فرنسا، للانكباب على تكوينه الفني:

“ملاك يهديني إلى مستقبل مشرق، ويشق لي طريق النجاح الفكري والمادي على حد سواء…”، “أقبِّلُ يدك بأجفاني يا أمّ قلبي العزيزة… ”، ”هل من حقي أن أحظى بكل هذه السعادة؟ موضوع يستحق التأمل، رشفات فنجان قهوة وبعض السجائر وكذا خشخشة نار وفق ميلوديا عذبة. هل يمكنني الابتهاج بكل ذلك تحت كنفِ جناحكِ الرحب؟ هذا يفوق السعادة. حقيقة، أنا طفل منبثق من النور”، ”أتمنى أن يأتي يوم يتيح لي فرصة إعلان، التالي: ”لقد أصبحت فنانا بفضل ماري هاسكال”.

انطلاقا من باريس، تواترت رسائل جبران وجهة هاسكال، التي تفاعلت من جهتها بحماسة، فتوطدت وترسخت وشائج التماهي بينهما كليا. في هذا الإطار، بوسع القارئ المهتم اقتفاء أثر الخيط الناظم بين تلك المراسلات، التي قاربت ثلاثمائة وخمسا وعشرين رسالة؛ الصادرة مجتمعة بين دفتي كتاب سنة 2004، وكذا تطور مضامينها بين أعوام 1908/1931.

حينما عاد جبران إلى أمريكا سنة 1910، وقد بلغ عمره سبعا وعشرين سنة، لم يتوانى كي يبيح أمام هاسكال عن حبه لها ورغبته في الزواج بها. فعلا استجابت لطلبه، وكان فارق السن بينهما عشر سنوات؛ لأن هاسكال أدركت آنذاك أواخر عقدها الثالث.

إنها المرأة التي تهيَّبت حتى تلك اللحظة، أن تخطو مجرد خطوة نحو الارتباط برجل معين تبعا لمقتضيات مؤسسة الزواج، رغم الدعوات التي انهالت عليها بهذا الخصوص من طرف أشخاص سابقين عن حيثيات سياق جبران. لذلك، لن نشعر ربما بالحيرة والدهشة حين معرفتنا بأنها سرعان ما تراجعت أيضا عن الدعوة الجديدة. تقول، إحدى مقاطع يومياتها: 

“أمضى خليل الأمسية معي وأخبرني أنه أحبني ويريد الزواج بي إن أمكن، لكني أجبت بأن سني قد جعل هذا الأمر مستبعدا. قال لي: كلما حاولت الاقتراب منك أكثر بالكلام، وحاولت أن أكون شخصيا معك، تلوذين إلى مساحات بعيدة أعجز عن العبور إليها. قلت، لكنني “آخذكَ معي”. ثم قلت إنني أرغب أن تدوم صداقتنا، وخشيت إفساد صداقة رائعة من أجل علاقة حب محكومة بالفشل…لقد بزغ سني حاجزا بيننا ومانعا لزواجنا. لا يقوم اعتراضي على سني، وإنما على حقيقة أن جبران ينتظر مني حبا يختلف عن ذلك الذي يكنه لي”.

إذن، لم يتزوجا. يبدو المبرر الظاهري الأول، حسب إقرار هاسكال بأن فارق السن بينهما، مثل بالنسبة إليها عائقا. أيضا، يكمن مبرر ثان، أكثر تعقيدا نظريا، مفاده حسب الروايات، أن هاسكال فضلت ضمنيا البقاء صديقة مخلصة لجبران دون صفة زوجة، حفاظا على استمرار عطائه الفني وتبلوره وتجليه أكثر فأكثر. هكذا، تمردت علاقتهما في نهاية المطاف عن كل إطار مجتمعي، لتتغذى بالمطلق من ينابيع فلسفتهما المشتركة ورؤيتهما معا للوجود.

سنة 1926، وكثمرة لتقارب دام ثلاث سنوات، سيعقد قران هاسكال مع جاكوب ماينس، الزوج السابق لابنة عمتها المتوفاة، ثم انتقلت إلى مدينة سافانا كي تواصل حياتها هناك. انعراج على غير هدى المتوقع، أنْطَقَ في المقابل أكثر فأكثر، مضمر روح التعاقد بين العاشقين، بحيث ازداد وقع نبض وَجْدِهِما وشغفهما المتبادل. يخاطب جبران ماري، رغم كل شيء، بقوله: “سأحبك حتى الأبدية. فقد كنت أحبك قبل أن نلتقي كبشريين من لحم ودم بزمن طويل. عرفت ذلك حين رأيتك للمرة الأولى، كان ذلك هو القدر. أنت وأنا قريبان، ففي الجوهر نحن متشابهان. أريدك أن تتذكري هذا دائما”.  

أيضا، وعلى وقع ارتدادات ذات النبرة انطوت إحدى رسائل هاسكال على اعتراف من قبيل: “يقرضني الرب قلبه لكي أحبكَ وقد سألته قلبه حينما وجدت قلبي ضئيلا جدا وهو يحتويكَ بصدق. يترك لكَ حُجْرة ستكبر”.

عموما، شغلت هاسكال لدى جبران، حسب معطيات وقائع سيرتهما، جل روافد وجوده الروحية والحسية:

*إبان حياته، ساعدته ماديا، بل ألهمته أساسا فكرة أن يواصل دراساته الفنية، ثم وجهته فكريا بفضل خبرتها ونضجها، وشجعته على الكتابة والتأليف باللغة الانجليزية. يعترف جبران بهذا الخصوص:

 ” كما ترين يا ماري، أنا أيضا أعتبر نفسي تلميذا في مدرستك، فأنا متأكد لولاك لما كان بوسعي كتابة كلمة واحدة بالإنجليزية. لكن مازال أمامي تعلم الكثير قبل التمكن من تجسيد أفكاري بهذه اللغة”.

 تطلع صار واقعا، فاستطاع جراء دأبه المتواصل، إصدار مؤلفات بتلك اللغة العالمية العريقة، أشهرها كتاب “النبي”. عندما، توصلت ماري هاسكال بمسودة هذا العمل وتفحصت فصوله، عبرت فورا عن ارتساماتها في رسالة إلى جبران، تنطوي على تنبؤ مدهش: 

“سيندرج هذا الكتاب ضمن تحف الأدب الانجليزي. تكشف لنا صفحاته عن خبايا ذاتنا الأكثر غموضا وهشاشة، مثلما ينزع داخلنا عن غطاء كنه السماء والأرض. لن تسأم الأجيال قط من قراءته؛ الواحدة تلو الأخرى، سيجدون بين صفحاته حقيقة ما يرغبوا في أن يعيشوه بملء إرادتهم. سيحظى هذا الكتاب بالحب أكثر فأكثر بقدر ما تصبح الإنسانية أكثر نضجا “.

أيضا، كانت هاسكال المحاورة الدائمة لجبران، الحريصة على صحته وأسلوب عيشه ترعى شقيقته في بوسطن حين غيابه.

*بعد وفاته، استمر وفاؤها النبيل لروح جبران، فواصلت مهمة الحفاظ على التراث الذي خلفه بحيث حققت حلم جبران بإرسال جانب من إبداعاته إلى موطنه الأصلي لبنان، بينما أبقت على بعض تلك الآثار في متاحف هارفارد، نيويورك، المتروبوليتان.           

مقالات أخرى

شعريّة اللّباس

الإيهامُ في القصيدة العربيّة الحديثة

خطاب المقدمات في النقد العربي القديم

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد