الإرهاب والدولة البوليسية في تونس

الإرهاب والدولة

لما كانت الإرادة السياسية في مقاومة الإرهاب  في تونس ضعيفة جدًّا بين سنتي 2011 و2013 ، فإن خوض الحرب على الإرهاب من قبل حكومة الحبيب الصيد في سنة 2015 تتطلب الاهتمام بمناطق الظل وهي كثيرة في البلاد ،وتكاثرت بعد الثورة، حيث أن هناك ثلث المدن  التونسية تحتاج إلى برامج تنموية مستعجلة ،لكن الحكومة لن تستطيع لوحدها النجاح إذا لم تجد تفهمًا من السكان لضرورة ترتيب أولويات التنمية.

ولا يمكن محاربة الإرهاب من دون إشراك الحكومة مكونات المجتمع المدني الحديث في هذه المعركة، باعتبارها تمتلك القدرة على معاضدة جهود الدولة سواء في برامج التنمية أم في خصوص تنظيم ندوات فكرية وإعلامية لتحسيس المواطن بخطر الأفكار الإرهابية، وزرع الأمل لدى الشباب، الذي حلم بالشغل وحرية التعبير لم ير أمامه لحد الان افاقا واعدة ،ولم يسترجع ثقته بعد في الطبقة السياسية الحاكمة.و يكمن دور المجتمع المدني في إعادة الأمل لهذا الشباب عبر تشريكه في سلطة القرار، قرار التنمية وقرار السياسة ،وخلق فضاءات ترفيهية له. فاذا وجد الشاب الترفيه وحرية التعبير وخطابًا دينيًا مستنيرًا وهوية حداثية، فإنه يبدع في البناء لا في الهدم مثلما نراه في بعض شبابنا الموجودين في سوريا والعراق وليبيا.

إن الذي يهزم الإرهاب في تونس هو التوجه الجاد والمسؤول من قبل الحكومة المنتخبة نحو بناء النظام الديمقراطي الجديد الذي بدأت تتركز معالمه في البلاد، فهو الذي سيحقق الأمن للفرد والمجتمع ،و العدالة الاجتماعية، والتنمية الجهوية ،ويحمي حرية المعتقد وحقوق المرأة وسائر حقوق الانسان. وبالتالي فهذا النظام الديمقراطي الذي نحن بصدد تأسيسه  في مثل هذه اللحظة التاريخية، هو الذي سيهزم الارهاب ،وسيعالج بمنهجية مشكل التشدد والتطرف الديني بالاقناع أولاً ،وبتطبيق القانون ثانيًا.

كما أن الحرب على الإرهاب تتطلب من الدولة التونسية بكل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية، تعبئة كل الطاقات الوطنية، والرفع من أداء القوات المسلحة الأمنية والعسكرية ،وتطوير الأدوات الاستخباراتية والاستعلامية ،وتحييد المساجد ،ومحاصرة البؤر الإرهابية، وتكثيف المراقبة الحدودية، وتمتين التعاون الإقليمي والدولي ،والرفع من مستوى تجهيزات القوات المسلحة، والتسريع بالمصادقة على قانون الإرهاب وتفعيله ،والإحاطة بعائلات شهداء الأمن والجيش، والعمل على تمتين الجبهة الداخلية عن طريق الحوار والتفاعل الإيجابي ونبذ التجاذبات السلبية مهما كان مصدرها و مأتاها ،واستحثاث الإدارة التونسية على مزيد الجدوى والفاعلية في التقدم بإنجاز الخطط التنموية والمشاريع المعطلة ،ومقاومة التهريب والفساد والاحتكار لتوفير مزيد مواطن الشغل والنهوض بالجهات المحرومة وخصوصا بالمناطق الحدودية.

يجب على الدولة أن تأخذ بعين الإعتبار أنّ تونس هي البلد  الأول الذي أصبح يُصَّدِرُ الإرهابيين إلى كل من سوريا و العراق وليبيا و غيرها من البلدان ، وأنّ الأمر يستحقّ اهتماماً، خاصاً إذا نُظِر للعدد على ضوء النسبة الإجمالية للسكّان(حوالي 11 مليون ) ، وأنّ ذلك يعني أنّ لهؤلاء الإرهابيين حاضنة اجتماعيّة ينمون في إطارها، وما يشير إلى مشكلة  اقتصادية واجتماعيّة في الولايات الفقيرة و المهمشة تاريخيا في تونس يجب معالجتها من خلال القيام بمشاريع تنموية منتجة تستوعب آلاف الشباب العاطل عن العمل ، وتحول دون نزوحهم نحو الهجرة إلى المدن الساحلية، أو إلى الخارج. فالإرهاب لم يكن نبتة شيطانية في تونس، بل هو

من صلب المجتمع  التونسي بسبب الفقر والتهميش و الاستبداد، و الحال هذه لا يعالج التطرّف والإرهاب فقط بالقمع أو بالحرب، وإنّما بالتوجّه لحاضنته المجتمعيّة ولمعالجة الأسباب الاقتصاديّة الاجتماعيّة التي تأخذ الشباب إليه، وكذلك بإزالة المظالم التي يوجّه الإرهابيون سخطهم حيالها.

الحرب على الإرهاب يجب أن تكون عملية متعددة الوجوه. فمن الضروري على سبيل المثال أن تتخذ تونس خطوات لدعم حدودها لوقف تدفق المقاتلين وتهريب السلاح من ليبيا والجزائر. ويجب كذلك أن تكون هنالك جهود للتصدي للشبكات التي تشجع الناس على التحول إلى جهاديين ،وعلى تونس في هذا السياق أن تحارب الدعوة للجهاد في بعدها الأيديولوجي. كما أن أجهزة الأمن يجب أن تكون أكثر نجاعة وفاعلية ويجب التعامل أيضا مع الجريمة المنظمة المرتبطة بالإرهاب. وأخيرًا رغم أن العوامل الاجتماعية والاقتصادية ليست وحدها المؤثرة في ما يتعلق بتنامي ظاهرة الإرهاب سيكون من المهم معالجة الفوارق بين الجهات وتقديم مزيد من الفرص للشباب التونسي.

في نطاق العمل من أجل إقرار قانون الإرهاب الجديد من قبل مجلس النواب ، لا يزال مشروع «قانون زجر الاعتداءات على قوات الأمن الداخلي والقوات المسلحة العسكرية» الذي عرضته الحكومة على مجلس نواب الشعب في الأسبوع الأخير من شهر أفريل 2015،محل جدل واسع ونقاش داخل الأوساط الإعلامية والحقوقية ونشطاء سياسيين ومنظمات  وطنية ،في تونس ،على خلفية ما تضمنه من أحكام قد تهدد مكسب حرية التعبير والإعلام وتمنح صلاحيات واسعة وسلطة تقديرية للأمنيين ووزارة الداخلية باسم حماية الأمن الوطني وأعوان الأمن.. فيما أكدت وزارة الداخلية أن مشروع القانون لا يهدد حرية الإعلام والتعبير وأنه ضرورة لحماية الأمنيين..

فقد دعت نقابة الصحفيين في بيان صدرعنها ،عن رفضها القطعي لمشروع القانون المتعلق بزجر الإعتداء على قوات الأمن الداخلي والقوات المسلحة العسكرية ، وطالبت بسحبه فورًا، وعبرت عن تفاجئها بتقديم هذا القانون خاصة في الوقت الذي تسعى فيه البلاد الى وضع أسس نظامها الديمقراطي الجديد والمصادقة على الدستور، واعتبرته مشروعا مناقضًا في أغلب فصوله لروح الدستور ومعاد لحريتي الصحافة و التعبير، «ما من شأنه أن يُعِيدَ إلى الأذهان ترسانة القوانين التي أسست للدكتاتورية قبل الثورة وأن يزيد من مخاوف الإجهاز على مجمل مكتسبات الحرية التي تحققت».واعتبرت النقابة أن مجرد عرض المشروع بتلك الفصول «عمل عدائي واستهداف لحرية الصحافة وحرية التعبير»، وطالبت الحكومة بسحبه فورًا، كما دعت الصحفيين والمجتمع المدني والكتل النيابية إلى تحمل مسؤولياتها كاملة في الوقوف ضد هذا «المشروع القمعي».

أسفل النموذجفهناك إجماع حقيقي في تونس ، أن مشروع القانون الجديد يتضمن أحكاماً تهدد مكاسب حرّية التعبير والإعلام وتمنح صلاحيات واسعة وسلطة تقديرية للأمنيين ووزارة الداخلية باسم حماية الأمن الوطني وأعوان الأمن.. وهذا الوضع خلق جبهة عريضة تتكون من منظمات المجتمع المدني و الأحزاب السياسية ترفض مشروع هذا القانون الجديد ، باعتباره يتناقض جذريًا مع أهداف الثورة التونسية في تكريس الحرّية بكل أبعادها ، و بناء الدولة الديمقراطية التعددية، والقطع النهائي مع الدولة البوليسية.

إن الحرب على الإرهاب تقتضي من الحكومة التونسية دعم جهود الإصلاح الوطني المبذولة من قبل القوى السياسية التونسية المؤمنة ببناء الدولة الديمقراطية التعددية،و تشجيع إصلاح القطاع الأمني سياسياً،ومالياً وتقنياً،أي تحقيق الإصلاح الهيكلي لوزارة الداخلية ،خصوصاً من خلال إنشاء قوات أمن محترفة وتجنب تسييس إدارة هذه القوات ،وتوسيع المشاركة السياسية والتعددية، وتحقيق التنمية المستدامة، والتوصل إلى توازن اجتماعي وتعزيز دور منظمات المجتمع المدني بغية التصدي للظروف التي تعزز العنف و الإرهاب. كما تقتضي  الحرب  على الإرهاب أيضاً متابعة الجهود لإنشاء جهاز مخابرات وطني ودمج أجهزة المخابرات ووحدات مكافحة الإرهاب فيه، لكي تعمل تحت سقف قيم الجمهورية العلمانية، والقضاء على كل الأجهزة الأمنية الموازية المتحالفة مع الإرهابيين.

وتأسيساً على هذا كله، فإن الكثير من الديمقراطيين التونسيين، وغالبية مكونات المجتمع المدني ، إضافة إلى الأحزاب الديمقراطية ، ترفض الوقوع في شباك قانون محاربة الإرهاب، لأنه يعبد الطريق لعودة الدولة البوليسية التونسية ،التي تتزيّا شكلياً، بزّي »ديمقراطية«.فقد أثبتت التطورات أن الهدف من وراء إقرار مشروع قانون زجر الاعتداءات على قوات الأمن الداخلي والقوات المسلحة العسكرية ، كَم ِّالأفواه حتى لا يتم نقد موضوع خصخصة الدولة التونسية الجاري على قدم وساق، بوصفها تنسجم كلياً مع  وثنية العولمة الرأسمالية الليبرالية المتوحشة  ، التي تشكل منذ إنشائها، نظاماً رأسمالياً عالمياً مترابطاً بنيوياً يتسم باستقطابات واضحة، ويسعى إلى التراكم الرأسمالي المتعاظم، ولا تكافؤ التطور في ظل الصراع والتنافس، ويختزن الحرية في جانب واحد متمثلا في الحرية الإقتصادية التي تشترط مسبقاً التزاماً صارماً بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وتمارس تشييء العلاقات البشرية مثل السلعة والمال والرأسمال، والنهب، والاستغلال للشعب التونسي وباقي الشعوب العربية ، وتحصر الليبرالية في مستنقع الوضعانية، مفسحة في المجال لهيمنة التيارات اللاعقلانية والظلامية في العالم العربي ، وعودة الدولة التسلطية البوليسية في تونس وباقي البلدان العربية ، التي تقوم على الأسس التالية :

1-احتكار مصادر القوة والسلطة و الثروة في المجتمع، وذلك عبر اختراق المجتمع المدني بمعناه الواسع، إذ تتحول أحزاب ومؤسسات المجتمع المدني إلى امتداد لسلطة الدولة البوليسية ملحقة بها كتضامنيات مهنية أو قبلية أو مناطقية .

2-قيام شرعية السلطة على قوة البطش العاري، من خلال ممارسة الدولة البوليسية الإرهاب المنظم ضد المواطنين، لا على شرعية المثلث الجدلي أو »الثالوث المقدس«  : الوطن والقانون والحرية.

3-ممارسة سياسـة الاسـتبعاد والإقصاء للمعارضة التي شملت آثارها المدمرة المجال السياسي، في ظل سيادة دولة المخابرات – بوصفها مخلوقا استبداداً بيروقراطياً ضخماً – التي تستمد استقرارها من الخوف لا من الشرعية، والتي لا تعترف بأن السياسة هي مشاركة إيجابية من جانب الشعب في الشأن العام، وهي حق من حقوق الإنسان والمواطن، وإنما تعترف بأن السياسة هي حكر منذئذ فصاعداً على الدولة البوليسية، ولا شيء غيرها.

ومع حرية الإقتصاد العشوائي، وغير المنظم، وظهور أوساط رجال الأعمال الفاسدين الذين شكلوا صلة الوصل بين القطاع الخاص والسلطة، والخصخصة الشاملة التي حظيت بتأييد حكومة الصيد ، كان الانتقال لتونس نحو الديمقراطية، وبالتالي نحو »الليبرالية السياسية«  يدخل في تناقض تاريخي مع عملية الانتقال إلى الحرية الإقتصادية، حيث أن هذه الأخيرة عقيمة من دون الحرية السياسية.

ويمكن توضيح ذلك بأن حكومة الصيد تواجه معضلة عويصة، إذا ما خضعت بالكامل لشروط المؤسسات الدولية المانحة ،فإن هذه العملية بالذات ستزيد في حدة الضغط الإجتماعي للطبقات الفقيرة، والمطرودين من المجتمع، إلى درجة أنها تهدد النظام السياسي كله. من هنا، فإن موقف حكومة الصيد يميل إلى إدارة دفة الحكم من خلال تعزيز الطابع القمعي البوليسي للسلطة.ولهذا تفضل أوساط البرجوازية الجديدة من رجال الأعمال و الأحزاب الأربعة المشاركة في الحكم أن تكون الديمقراطية المطبقة في تونس ديمقراطية نخبوية، ومحكومة بحالة الاستبداد البوليسي الذي يضيق المجال السياسي للمجتمع، ويضعه في قبضة النخبة الحاكمة والمسيطرة على السلطة، ومن غير أن يفسح في المجال لسيادة القانون أو العقلانية، لتأتي منسجمة مع حدود الهوية القمعية والشمولية للدولة البوليسية التي تقوم بمصادرة حق المعارضة في العمل السياسي بمحض الإرادة والحرية، ولا تعترف بأن حق السلطة مُساوٍ لحق المعارضة.

مقالات أخرى

ثورات الرّبيع العربيّ بين الصّعود والانحدار

حبذا لو يُحاكمون على سياساتهم الخارجية!

دور الدين والهُويّة في الحياة العربية

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد