فرج فودة … ورهان التنوير

فرج فودة

 عزيزي القاري اسمح لي أن أكتب عن رجل وعالم ومفكر، اختلف الناس في أمره، ما بين متفق ومختلف معه، قد نراه سطحياً أحياناً، عميقا في بعض الأحيان، قد نتهمه بالرأسمالية ومعاداة الشيوعية، أو أنه لم يكن منظراً فلسفياُ، ربما نختلف معه إلي أقصي مناحي الاختلاف، إلا أن أحدنا لا يستطيع اتهامه بالكفر والخيانة، أو العداء للإسلام (1).

 وفرج فودة كذلك (سواء اتفقنا معه أو اختلفنا معه أيضا) إلا أننا لا ننكر أنه أحد مفكري التيار العلماني العقلاني في مصر والعالم العربي وأكثرهم نشاطاً وديناميكية، وشهيدا من شهداء الحرية، وواحداً من مفكرينا الذين نعتز بهم بأنهم وقفوا في مواجهة الإرهاب بالكلمة، والرصاص بالفكرة، ولا يمكن أن ننسي أنه الوحيد – بلا تزيد أو مزايدة – الذي دفع عنا ضريبة الموت دفاعاً عن الفكرة.

 قال عنه الكاتب الفلسطيني “شاكر فريد حسن”:” فرج فودة داعية للتجديد والعقل والوجه العقلي، استطاع أن يخاطب العقل والوجدان العربي ويؤسس بالفكر، حالة عربية مميزة بواقعها المادي وصراعاتها الفكرية العقيدية، فأعطى عمره وحياته كلها واستشهد في سبيل أسمى قضية؛ قضية الحرية والاعتقاد، وتميز بشخصيته الصلبة الجريئة المثيرة للجدل (1).

 ولذلك عندما ندخل في عالم “فرج فودة”، علينا ألا ننسي أنه مفكر سياسي بالأساس، أفزعته الدعوة للدولة الدينية، وتنامي التيارات الإرهابية، فترك حزب الوفد (بعد أن كان أحد قياداته) – اعتراضاً علي تحالفه مع جماعة الإخوان المسلمين، وعلى خلط الأوراق فيما هو ديني وسياسي، ولا يمكن تأويل كلماته على أنها كفر صريح أو باطن، لقد كان يخوص معركة سياسية لمصلحة الوطن أولاً وأخيراً حتي إنه يقول :” لا أبالي إن كنت في جانب والجميع في جانب، ولا أحزن إن ارتفعت أصواتهم أو لمعت سيوفهم، ولا أجزع إن خزلني من يؤمن بما أقول، ولا أفزع إن هاجمني من يفزع لما أقول، وإنما يؤرقني أشد الأرق، ألا تصل هذه الرسالة إلى من قصدت، فأنا أخاطب أصحاب الرأي لا أرباب المصالح، وأنصار المبادئ لا محترفي المزايدة، وقصاد الحق لا طالبي السلطان، وأنصار الحكمة لا محبي الحكم، أتوجه إلى المستقبل قبل الحاضر، وحسبي أيماني بما أكتب، وبضرورة أن أكتب ما أكتب، والله والوطن من وراء القصد (2).

 نعم لقد كان “فرج فودة” واحدا من المفكرين أصحاب القضية، وكانت قضيته هي كيف يمكن للوطن، الذي عشقه فعلاً، أن يتخطى محنته التي وضعته فيها جماعات العنف الديني بما تحمله من أفكار معادية للتقدم، وللقيم الإنسانية الحديثة، ومناصرة للسلفية الدينية، وللفهم المنغلق علي الذات المنافي لكل معطيات العصر الذي نعيشه، كانت المسألة إذن بالنسبة إليه هي مسألة نقد وتفنيد الأسس الفكرية والمفاهيمية التي تقوم عليها المنظومة الكفرية والسيكولوجية لجماعات العنف الديني، والتي كانت تشكل خطرً عظيماً، في ذلك الوقت على كل مكتسبات العلم والمعرفة، وعلى نمط منظومة الحداثة بكاملها، وكانت تهدد بتحويل الوطن إلى نمط الحياة الخاص بالعصور الوسطي، حيث الدولة الثيوقراطية (الدينية) التي تحكمها أو تتحكم في توجهاتها نخبة من رجال الدين الذين لهم صلاحيات واسعة في تحديد ما هو متفق مع الشرع، وما لا يتفق معه في جميع شؤون المجتمع العامة والخاصة. وهي صلاحيات لم يكتسبوها بأي نوع من أنواع الانتخاب الحر مما سيجعلها مشروطه نسبية، بل هي مفوضة إليهم باسم مرجعية إلهية عليا لا يملك البشر فيها حلاً ولا عقدا، ومثل هذه النخبة التي تدير شئون المجتمع لها هي وحدها دون سواها أن تفرض ما تتصور هي أنه متفق مع صحيح الدين ـ وما خالف ذلك من فكر، أو سلوك، أو حتى تصورات ليس مدانا فحسب، بل هو كفر صراح يستوجب تطبيق حدود الله التي تصل غالباً عقوبات بدنية متفاوتة الشدة قد تصل – قد تصل في حدودها – إلى تقطيع الأيدي والأرجل من خلال كما هو في نظام حكم طالبان (3).

 ويمكن القول إن تلك القضية هي التي كانت تشغل “فرج فودة”، إذ كان صعود نجمه المفاجئ في ثمانينيات القرن العشرين قد ارتبط بها مباشرة، لكن يبدو أنه كانت ثمة فترة إعداد طويلة تمرس فيها على أساليب الكتابة من ناحية، وعلى اكتساب خبرات معرفية وتاريخية خاصة بتلك النوعية من الموضوعات من ناحية أخري؛ ذلك أنه كان ذا أسلوب متميز، يتسم بالفصاحة والبلاغة والدقة في آن واحد، وهو شيء من الصعب اكتسابه في زمن يسير. ولعله قد تأثر فيه بأسلوب “طه حسين” فهو أقرب الأساليب إليه؛ إذ أن فيه عذوبة وفيه إيقاع جميل وسلاسة وطلاقة لا نجدها إلا عند القليل من الكتاب خاصة من أجيال سابقة، من أمثال طه حسين (4).

 أضف إلى ذلك حدة ذهنية ومنطق متماسك ومعارف متدفقة، وفوق ذلك كله فقد كان ذا حضور طاغ بل آسر، فقد كان حيث ينطلق في الحديث بصوته الجهوري والعذب في آن واحد، ينقل المستمع إلى آفاق مغايرة من المدركات والمشاعر تجعل لكلماته مفعول السحر في النفوس (5).

 ولد “فرج فودة” في 20 أغسطس (آب) 1945 ببلدة الزرقا بمحافظة دمياط (شمال مصر)، حصل على ماجستير العلوم الزراعية ودكتوراه الفلسفة في الاقتصاد الزراعي من جامعة عين شمس. عاش حياته مليئاً بالنشاط العلمي والعطاء الفكري، وحمل على عاتقه هموماً كثيرة، ولعب دوراً هاماً في الحياة الإبداعية والفكر العربي المعاصر، وكرّس كتاباته للدفاع عن حرية الفكر والتعبير والمعتقد، وحرية الإبداع الثقافي والفني، وأمن دائماً بأن المستقبل هو للتنوير، والعقلانية، وللخلق، والإبداع، وليس لجيوش الردة، والظلام، والعودة إلى الوراء ؛ وفي الرابع من شهر يونيه لعام 1992م تم اغتياله بإطلاق الرصاص عليه أمام منزله، وكان اغتياله حادثة هزت الأوساط الثقافية في مصر والعالم العربي، بوصفها تنذر بالكثير لما سيتم بعد ذلك ؛ حيث إنه بعد مقتله بسنوات قلائل، تعرض نجيب محفوظ للاغتيال، وتم تكفير “نصر حامد أبو زيد”، و”سيد القمني”، “العشماوي”، “خليل عبد الكريم”، “سمير غريب علي”، “عاطف العراقي” – بتهمة الدعوة لآراء علمانية مخالفة للدستور – “أحمد صبحي منصور” – تنظيم إنكار السنة – وخرجت المظاهرات تطالب برأس “حيدر حيدر” (وليمة أعشاب البحر)، ومحاكمة “صلاح الدين محسن “بتهمة إهانة الدين، تكفير “حسن حنفي”، مصادرة مطبوعات هيئة قصور الثقافة بتهمة الإباحية في روايات “محمود حامد” ( أحلام محرمة)، “ياسر شعبان” ( أبناء الخطأ الرومانسي)، “توفيق عبد الرحمن” ( قبل وبعد) (6).

 ألّف “فرج فودة” عدداً من الكتب التي تضمنت فصل الدين عن الدولة، منها “قبل السقوط” (1984)، و”الحقيقة الغائبة” (1984)، و”الملعوب” (1985)، و”الطائفية إلى أين؟” (1985) بالاشتراك مع “يونان لبيب رزق” (1933-2008) و”خليل عبد الكريم” (1930-2007)، و”حوار حول العلمانية” (1987). ولقت الكتب اهتماما، فطبع بعضها أكثر من مرة ودرس بعضها في الجامعات والمعاهد.

 كما كتب “فرج فودة” عدداً من المقالات في جرائد المعارضة، مثل “الأهالي” التابعة لحزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي و”الأحرار” التابعة لحزب الأحرار الاشتراكيين، وعددا أقل في الجرائد القومية، خاض فيها العديد من المعارك الفكرية دفاعاً عن مبادئ الدولة المدنية من علمانية ووحدة وطنية وحقوق إنسان.

 وقد أثارت كتابات “فرج فودة” جدلاً واسعاً بين المثقفين والمفكرين ورجال الدين، واختلفت حولها الآراء وتضاربت وتصاعدت، حتى بلغت حداً كبيراً من العنف أدى في النهاية إلى اغتياله فقد كان يدعو إلى فصل الدين عن الدولة، ويرى أن تحكيم الشريعة من الرجعية، لأن الزمن تغير، والأحوال تغيرت، وكان يدعو إلى أن تكون الدولة مدنية بعيدة عن الدين.

 كما يشدد “فرج فودة” في كثير من كتاباته ومحاضراته على أنه مسلم متمسك بالإسلام الذي هو عنده “الدين الأعظم” مع التمييز بين الإسلام كديانة والدولة الإسلامية؛ ففي كتابه “النذير” (1989) والذي تناول فيه نمو التيار الإسلامي ما بين عامي 1982 و1987، خلص فيه إلى أن التيار الإسلامي “نجح بالفعل في تكوين دولة موازية”، لها اقتصادها المتمثل في بيوت توظيف الأموال، وجيشها المتمثل في الجماعات الإسلامية المسلحة، وكيانها السياسي المتمثل في مكتب إرشاد الإخوان المسلمين رغم حظر الجماعة قانونا. كذلك اخترق التيار الإسلامي المؤسسة الدينية الرسمية، مثل دعوة شيخ الأزهر الناخبين لإعطاء أصواتهم للمطالبين بتطبيق الشريعة (أي مرشحي التحالف الإسلامي)، ومطالبة جريدة اللواء الإسلامي التي يصدرها الحزب الحاكم (الحزب الوطني الديمقراطي) للمواطنين بعدم التعامل مع البنوك القومية وقصر تعاملاتهم على البنوك الإسلامية. كما اخترق أيضاً الإعلام الحكومي؛ حيث زادت الجرعة الدينية فيه من صحف، ومسلسلات، وخطب، تلفزيونية؛ مثل خطب الشيخ “محمد متولي الشعراوي” (1911-1998) التي عرّض في بعضها بعقيدة المواطنين المسيحيين (7).

 كما ناقش “فرج فودة” في هذا الكتاب، الذي يعد أحد أهم كتبه، الظهور الواضح لتيار الإسلام السياسي والتيار المتشدد، خصوصا بعد قتل الرئيس المصري “أنور السادات” في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 1981. واستنتج أن التيار المتشدد لم يكن مجرد مرحلة أو حركة، ولكنه دولة داخل دولة، معتبراً أن الفروق بين المعتدلين والمتطرفين في الإسلام السياسي هي الدرجة وليس النوع (8).

 وتمسك “فرج فودة” بطرح “إن إنكار العلمانية جهل بالحضارة الحديثة، وإطلاق صفة الكفر عليها جهل بالعلمانية، والدعوة لدولة دينية جهل بحقوق الإنسان، والمناداة بالخلافة جهل بالتاريخ”، وظل فودة يرى أن العودة إلى الإسلام السياسي عودة لزمن الهزائم، وهو ما جعله يُناصب العداء بكامل قوته للإسلام السياسي (9).

 كذلك رأينا “فرج فودة” في كل كتاباته، كان يُحذر من تغلغل الأصولية الإسلامية على كل مظاهر الحياة الشخصية والاجتماعية والسياسية، لذلك كان ينادى بأنْ «نذهب إلى المساجد والكنائس لكي نسمع موعظة دينية لا يختلف عليها اثنان.. ونذهب إلى مجلس الشعب لكي نتطاحن ونختلف دون حرج أو قيد.. والمعنى: ليتكلم رجال الدين في الدين، وليتكلم رجال السياسة في السياسة. أما أنْ يرفع رجال الدين شعارات السياسة إرهابــًـا.. ويرفع رجال السياسة شعارات الدين استقطابـًـا، فهذا هو الخطر الذي يجب أنْ ننتبه له» (10).

 ولذلك نجد “فرج فودة” في تناوله لشعار “الإسلام هو الحل”، الذي راج في عصور مصرية مختلفة، مثّل كتابه “الحقيقة الغائبة” أكبر مساهماته في البحث عن أصول عودة الخلافة، وتناول في ذلك الكتاب الرد على العديد من الأسئلة على شاكلة: “هل يوجد نظام حكم واضح المعالم في الإسلام؟ وهل هناك قاعدة في القرآن والسنة تحدد كيف يبايع المسلمون حاكمهم وتضع ميقاتا لتجديد البيعة؟ وهل هناك أسلوب محدد لعزل الحاكم بواسطة الرعية؟ وتثبيت حق الرعية في سحب البيعة كما ثبت لها حقها في إعلانها، وهل كان نظام الخلافة إسلاميا حقا؟”، وغير ذلك من الأسئلة التي استند في الإجابة عنها إلى ما ورد في كتب التاريخ الإسلامي، مستخلصا “إن الإسلام كدين أمر، والدولة بنظامها أمر آخر” (11).

 ومن هذا المنطلق نجد “فرج فودة” يختلف عن كثيرين من العلمانيين، لأنه لم يكتف بالدفاع عن (علمنة مؤسسات الدولة) وضرورة فصل المؤسسات الدينية عن المؤسسات السياسية، وإنما ضفّر ذلك بدفاعه عن خصوصية مصر الحضارية. لذلك كان يتصدى لكل من يهاجم القومية المصرية؛ أمثال الشيخ “صلاح أبو إسماعيل “، الذي يرى أنّ «الداعي إلى القومية المصرية منتسب إلى الفراعين والعياذ بالله”، وهذا الشيخ كان “يرى أنّ المسلم الأمريكاني أهم من المسيحي المصري. إنّ الشيخ قد أصابني في أغلى ما أملك- مصر- ذلك الوطن العظيم الذي لا أعرف معنى لوجودي إلا به.. ولا أعرف شيئــًـا يسبقه أو يعلوه انتماءً”. (ذكر فودة في الهامش أنّ هذا الفصل في الكتاب سبق أنْ أرسله لمجلة المصور (المصرية) التي رفض رئيس تحريرها نشره- ص83 من الكتاب (12).

 وفى سنة 1984 كتب “فرج فودة”: “أود أنْ ألفت أنظار أعضاء مجلس الشعب إلى أنّ عليهم مسؤولية كبرى في مواجهة رواد الإرهاب الفكري داخل المجلس.. وما دام الشيخ صلاح وأنصاره قد اختاروا المجلس النيابي منبرًا، فليتحدثوا بلغته.. وليس للمجلس إلا لغة واحدة، هي لغة السياسة.. وليس له إلا جنسية واحدة، هي مصرية.. مصرية” (13).

 والمناظرة التي جرت في معرض القاهرة للكتاب في يناير / كانون الثاني في الثامن من يناير 1992؛ تحت عنوان “مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية”، وكان فرج فودة ضمن جانب أنصار الدولة المدنية مع الدكتور محمد أحمد خلف الله، بينما على الجانب المقابل كان شارك فيها الشيخ محمد الغزالي، والمستشار مأمون الهضيبي مرشد جماعة الإخوان المسلمين (14)،

 وتظهر المقاطع المصورة للمناظرة أن الحديث عن دولة مدنية لم يلق قبولا عند أغلب الجمهور في قاعة المناظرة حيث ترددت هتافات دينية لدعم حجة الإسلاميين واستهجان حديث الفريق الآخر؛ وبينما تركز الهجوم على أنصار الدولة العلمانية لكونهم “من أنصار الاستعمار الغربي ممن يردوا أن يحرموا اغلبيه الشعب المسلم في مصر من حقه في دولة إسلامية” فإن “فرج فودة” كان يشدد على أنه دعاة الدولة الإسلامية لا يقدمون سوى وعود براقة دون أي برنامج سياسي واضح (15).

 وقد أثارت مناظرة معرض الكتاب وما تلاها من مناظرات حفيظة عدد من الإسلاميين إلى درجة أن نشرت جريدة النور الإسلامية بيانا لمجموعة من أساتذة العلوم الدينية، (ندوة علماء الأزهر) تشن فيها هجوما شديدا على فودة وتدعو إلى عدم السماح بالترخيص لحزبه (16).

 كما شهد “فرج فودة” مناظرة أخري قامت في نادي نقابة المهندسين بالإسكندرية يوم 27 يناير 1992 تحت عنوان: مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية، وشارك فرج فودة ضمن أنصار الدولة المدنية مع الدكتور فؤاد زكريا، بينما كانت جانب نصار الدولة الدينية: الدكتور محمد عمارة، والدكتور محمد سليم العوا، وشارك فيها نحو 4000 شخص (17).

 ولم يسلم أحد من نقد “فرج فودة” ففي عام 1990 كان قد نشر كتاب “نكون أو لا نكون”، والذي ضم عدة مقالات، وأمر الأزهر بمصادرة الكتاب بعد طبعه، إذ تضمن نقدًا حادًّا لشيخ الأزهر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، نتيجة لاتهامه المدافعين عن الدولة المدنية بالخارجين عن الإسلام، وهو ما عده فودة تجاوزا لدور الأزهر الرسمي، وقذفًا لفريق من خيار المسلمين المجتهدين.

 وقد اختلف “فرج فودة” مع الجميع، وتعددت معاركه الفكرية، فأدان احتفاء اليسار المصري بسليمان خاطر (1961-1986) الذي قتل سبعة سياح إسرائيليين، وعندما اندلعت حرب الخليج الأولى في أغسطس 1990، كان فرج فودة من كتاب المعارضة القليلين الذين أيدوا موقف مصر الرسمي لتحرير الكويت. وقد خاض بسبب ذلك العديد من الصراعات السياسية مع كل من الإسلاميين والقوميين المؤيدين لصدام حسين وغزو الكويت (18).

 كذلك في هذه المناظرة دافع “فرج فودة” عن مشروع الدولة المدنية خلال المناظرة الأولى قائلا: “أنا أقبل أن تهان الاشتراكية، وأقبل أن تهان الشيوعية، لكني لا أقبل أن يهان الإسلام، الإسلام عزيز، نزهوا الإسلام”.؛ وتابع: “يختلف الفرقاء في أقصى الشرق وأقصى الغرب، وأحدهم يصعد برجل إلى أعلى عليين، ويوثق هذا بالقرآن والسنة ومجموعة من كبار العلماء والفقهاء في دولهم، لا يا سادة حرام حرام نزهوا الإسلام” (19)

 وفي 3 يونيو 1992 أصدرت جبهة علماء الأزهر التي يترأسها الإخوان فتوى بتكفيره، وبعد خمسة أيام في 8 يونيو 1992 وقبيل عيد الأضحى، قام مسلحان منتميان للجماعة الإسلامية باغتياله أمام الجمعية المصرية للتنوير التي أسسها (20).

 وفي 8 يونيو/حزيران أطلق شابان ينتميان إلى الجماعات الإسلامية المتشددة النار على فودة أثناء خروجه من مكتبه في حي مصر الجديدة ليفارق الحياة، وأظهرت تحقيقات النيابة التي نشرتها صحف مصرية أن قاتلي فودة قالا إنهما تصرفا بناء على فتاوى من قيادات تنظيمي الجماعة الإسلامية والجهاد (21).

 لم تكن المؤسسة الدينية الرسمية.. ولا التنظيمات الإسلامية (الجهادية) مثل التي موّلتْ ونفــّـذتْ قتل “فرج فودة” (وحدها) التي هلــّـلتْ وفرحتْ وباركتْ قتله والتخلص منه.. وإنما شارك في هذه الفرحة (صحفي أهرامي) شهير يكتب مقالا أسبوعيــًـا، يشغل ثلاثة أرباع الصفحة، فكتب بعد خمسة أيام من اغتيال فرج فودة مقالا قال فيه إنّ فوده قتل نفسه بنفسه، لأنه كتب أنّ الجماعات الإسلامية مصابون بالشذوذ الجنسي، بل إنه (حاشا لله) فسر آية قرآنية تفسيرًا جنسيــًـا (أهرام 13 يونيو1992)، وفى الأسبوع التالي (20 يونيو) كرّر نفس الكلام.. ولكن على لسان (قارئ) ادّعى أنه أرسل رسالة له.. ومع مراعاة أنّ هذا الصحفي الشهير لم يذكر اسم القارئ.. والأهم أنه لم يذكر مرجعــًـا أو مصدرًا واحدًا، دلــّـل فيه على ادعاءاته حول كلام فودة عن الشذوذ الجنسي عند الجماعات الإسلامية، أو التفسير الجنسي لبعض سور القرآن.. وكأنّ فرج فودة- حسب كلام الصحفي بالحرف- سيجموند فرويد (22).

 ولذلك لم يكن قد مر عام على اغتيال “فرج فودة” حتى أصدر الدكتور عبدالغفار عزيز رئيس لجنة الفتوى ورئيس اللجنة الدينية بحزب الوفد آنذاك كتابًا تحت عنوان «من قتل فرج فودة» والذى انتهى فيه إلى أن الذى قتل فرج فودة هو فرج فودة نفسه؛ والكتاب الذى صدر ضعيف الصياغة ركيك اللغة جاء بعد اغتيال الدكتور فرج فودة بعام كامل ولم يكن بمقدور أحد أن يسأل لماذا صدر بعد وفاة الرجل بعام ففرج فودة ظل ما يقرب من عشرين عاما قبل رحيله أنجز خلالها سبعة كتب وزعت ما يزيد على مائتي ألف نسخة وترجمت إلى أربع لغات عالمية غير مقالاته اليومية والأسبوعية في مختلف الصحف المصرية والعربية والعالمية ولم يجرؤ عبدالغفار عزيز طيلة هذه السنوات أن يقترب من الرجل أو من فكره (23)!!

 وفي نهاية حديثي أقول: تحية لفرج فودة الذي راح ضحية لمؤامرة أُحكمت حلقاتها بين القلم الذي وصفه بــــــــ”تنظيم الجهاد العلماني “، والسكين الذي كُلف باغتياله، بعد أن حالو جاهداً أن يحذرنا من الإرهاب، وقبل السقوط، فكان النذير الذي كشف الملعوب عن قصة شركات توظيف الأموال، وأكد للجميع أن معركتنا هي أن “نكون أو لا نكون”.. فهل استوعبنا، حتى لا يكون كلاماً في الهواء، وأن الحقيقة الغائبة، هو كون دعاة الدولة الدينية، ليسوا وحدهم جماعة المسلمين!

 وتحية أخري إلى الرجل في كل حين، ذلك أنه كان مؤمناً – بدون مبالغة – بالفكرة حتى القتل، وأصبح مثالاً للموت دفاعاً عن العلمانية.. تحية ورحمة، وذكر ي سوف تبقي.. فإلي أن تلتقي في دار الخلد، فلتنم راضياً مرضياً، فلا كلماته سوف تزول، ولا الرصاصة نجحت في جعلنا ننسي.


الهوامش

1- شاكر فريد حسن: الدكتور فرج الإرهاب الديني المتطرف، الحوار المتمدن-العدد: 2835 – 2009 / 11 / 20 – 13:20.

2- أحمد عاطف: فرج فودة: الغائب الحاضر، أدب ونقد، حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، العدد 240، 2005، ص 82.

3- المرجع نفسه، ص 83.

4- المرجع نفسه، ص 83.

5-أيمن عبد الرسول: في الذكرى التاسعة لاغتيال فرج فودة: الموت دفاعا عن العلمانية، أدب ونقد، حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، مج 17 ,ع 191،2001، ص 9.

6- فرج فوده: قبل السقوط، ط1، القاهرة، 1985، ص 7.

7- فرج فوده: النذير، ط1، القاهرة، 1989، ص 7.، ص 10.

8- المصدر نفسه، ص 16.

9- المصدر نفسه، ص 19.

10- فرج فوده: الحقيقة الغائبة، دار الفكر للدراسات والنشر، ط1، القاهرة، 1987، ص 88.

11- المصدر نفسه، ص 12-15.

12- فرج فوده: حوار حول العلمانية، دار ومطابع المستقبل، ط1، القاهرة، 1987، ص 46..

13- المصدر نفسه، ص 16.

14- راجع –مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية – مناظرة بين الغزالي، محمد عمارة، مأمون الهضيبي عن الدولة المدنية، ومحمد أحمد خلف، فرج فوده عن الجانب الديني المدني العلماني، الدار المصرية للنشر والإعلام، القاهرة، 1992، ص 2.

15-المصدر نفسه، ص 8-9.

16- المصدر نفسه، ص 18-17.

17- المصدر نفسه، ص 22-25.

18- فرج فوده: الإرهاب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1988، ص 45.

19- المصدر نفسه، ص 89.

20- أحمد عبد الحكيم صحافي: قصة المناظرة التي قتلت المفكر المصري فرج فودة، مقال منشور بتاريخ الاثنين 10 يونيو 2019 1:49.

21- المرجع نفسه.

22- المرجع نفسه.

23- تامر إسماعيل صالح:      فرج فودة وقاتله، مقال باليوم السابع بتاريخ الأربعاء، 10 يونيو 2020 06:53 م.

 

مقالات أخرى

أيّ نموذج إيتيقي للإنسانيّة المعاصرة

معطّلات الفهم في الشعر العربي المعاصر

شعريّة اللّباس

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد