أبجديات المواطنة في وثيقة المدينة المنورة

المواطنة

كثرت في العقد الأخير من القرن العشرين الكتابات حول المواطنة بمفهومها العالمي الجديد، وتوالت في الظهور العديد من الاستراتيجيات السياسية وما يلزمها من استراتيجيات تربوية بغية تعميق قيم تربوية تجعل الأفراد أكثر تفاعلاً وانخراطاً في ذلك المفهوم الجديد للمواطنة الذي يحاول وفق المنطق الديمقراطي الغربي المعاصر– إحلال هوية جديدة وحيدة محل الهويات المختلفة المتشابكة والتي تنشأ على أساس الديانة– الجنس – العرق والطبقة الاجتماعية والنوع، وتؤكد أن”الهوية المدنية” هي الهوية الوحيدة التي تمتلك المساواة لكل المواطنين في الدولة بغض النظر عن الاختلافات السابقة؛ إذ إن الهوية المدنية مشاعة لكل المواطنين، وترتكز هذه الهوية المدنية على الالتزام الحر بمبادئ مدنية معينة، وقيم الديمقراطية التي تذوب في طياتها الاختلافات الجنسية والعرقية، بل والدينية لتصبح” الهوية المدنية” هي الرابط الذي يضم المواطنين جميعاً في نظام سياسي وحيد (1)

 وهنا وجدنا الكثير من الباحثين والدارسين يؤكدون على أن المواطنة كلمة استحدثت للتعبير عن تحديد الوضع الحقوقي والسياسي للفرد في المجتمع، والمواطن هو إنسان يستقر في بقعة أرض معينة وينتسب إليها، أي مكان الإقامة، ويعود مفهوم المواطنة قديمًا إلى زمن الديمقراطية المباشرة الإغريقية التي تعتبر أساس ديمقراطية العالم اليوم. وجوهر المواطنة يعتمد على انتماء الفرد وولائه لوطنه، وهذا يحتم أن تكون المواطنة قائمة على أساسيين جوهريين هما: المشاركة في الحكم، والمساواة بين جميع المواطنين (2).

 وفي هذه الورقة سأحاول أن أغرد خارج السرب، حيث أن المواطنة في اعتقادي ليس مفهوم غربي حديث، بل المواطنة مفهوم قديم قدم الإنسان على الأرض، والمواطنة علاقة عضوية تربط الإنسان بالمكان وتتوافر هذه المواطنة بقدر ما تتوافر قيم المشاركة الاجتماعية والمشاركة في الحياة السياسية والعلاقة بنظام الحكم وعدم الإنسان بالتهميش وقبول الآخر، وكذلك تشير المواطنة إلي الحقوق التي تكفلها الدولة لمن يحمل جنسيتها والالتزامات التي تفرضها عليه، أو قد تعني مشاركة الفرد في أمور وطنه، وما يشعره بالانتماء إليه، وباختصار شديد، فالمواطنة تعني المساواة بين أبناء الوطن الواحد في الحقوق والواجبات دون تمييز بينهم على أي أساس كان، سواء أكان هذا التمييز عنصري أو عرقي أو ديني، فالمواطنون سواسية في المجتمع.

 وهنا في هذه الورقة أتناول قضية مبدأ المواطنة ممثلا في سيدنا رسول صلي الله عليه وسلم بوصفه رئيس الدولة العربية – الإسلامية، حيث ظل عليه الصلاة والسلام ثلاثة عشر عاما يدعو إلى الإسلام حتى هيأ لله قيام دول إسلامية في المدينة المنورة، وهاجر صلي الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة فوجد فيها غير مسلمين سكنوا المدينة من قديم فمنهم من كان على شرك، ومنهم من كان من أهل الكتاب وتحديدا اليهود، ومن المعلوم أن أي دول لها أركان: شعب، وأرض، ودستور، ورئيس الدولة، فالشعب هو كل من سكن المدينة من مسلمين ويهود ومشركين، والأرض أو الوطن: المدينة المنورة، ورئيس الدولة ممثلا في شخص رسول صلي الله عليه وسلم، بقي الدستور الذي سيحكم العلاقة بين المسلمين وغيرهم، فلم يتجه تفكير النبي صلي الله عليه وسلم إلى رسم سياسة للإبعاد أو المصادرة والإلغاء بل قبل عن طيب خاطر وجود اليهود والوثنية وعرض على الفريقين أن يعاهدهم معاهدة الند للند على أن لهم دينهم وله دينه (3).

 فكان المثال أو النموذج الأول للمواطنة (صحيفة أو وثيقة المدينة المنورة)، وهي وثيقة النبي صلي الله عليه وسلم بوضعها بعد الهجرة إلي المدينة المنورة، والتي تسمي بصحيفة المدينة، أو دستور المدينة، وبمحتوي هذه الوثيقة أصبح الجميع مجتمعاً واحداً، ويداً واحدة في حفظ المدينة، وفي صد أي عدوان عليها من الخارج، فنقول وثيقة المدينة هي أول دستور مدني في تاريخ الدولة الإسلامية، وقد تمت كتابة هذه الوثيقة فور هجرة النبي صلي الله عليه وسلم إلى المدينة.

 وقد سُميت في المصادر القديمة بالكتاب والصحيفة، وأُطلقت الأبحاث الحديثة عليها لفظة “الدستور” ولقد تعرض الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه “السيرة النبوية الصحيحة” لدراسة طرق ورود الوثيقة، وقال:” ترتقي بمجموعها إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة”، وبيّن أن أسلوب الوثيقة ينمُّ عن أصالتها، فنصوصها مكونة من كلمات وتعابير كانت مألوفة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قلّ استعمالها فيما بعد، حتى أصبحت مغلقة على غير المتعمقين في دراسة تلك الفترة وليس في هذه الوثيقة نصوص تمدح أو تقدح فرداً أو جماعة، أو تخص أحد بالإطراء، أو الذم، لذلك يمكن القول بأنها وثيقة أصلية، وغير مزورة (4).

 ولقد عرف الإسلام هذا الحق ورسخه منذ أربعة عشر قرنًا، فحين هاجر الرسول إلى المدينة وجد فيها عقائد مختلفة وقبائل شتى، تشكلت بعد استقراره إلى فئات ثلاث في ذلك المجتمع الجديد، هم: المسلمون، واليهود، والعرب المشركون، ويتألف المسلمون من المهاجرين والأنصار الذين يتألفون بدورهم من الأوس والخزرج، وهو ما يمثل نسيجا غريبا ومخالفا لتقاليد العرب وأعرافهم في ذلك الوقت في الجزيرة العربية (5).

 ولم تقتصر هذه الوثيقة على تنظيم علاقات المسلمين مع غيرهم، وإنما تعرض جانب كبير – بل هو الجانب الأكبر – منها إلى تقرير قواعد كلية، وأسس عملية للعلاقات بين المسلمين أنفسهم” كما اعتبرها”من أهم الوثائق القانونية، التي لا بد أن يدرسها علماء القانون والتشريع بدقة متناهية، لاستخلاص الدلائل والأحكام منها، وأيضاً لمعرفة الغايات التي يرمي لها الإسلام، والضوابط التي يرتضيها، ومقارنتها بغيره

 وهذه الوثيقة اشتملت على أربعة بنود رئيسة وثمان وأربعين (48) فقرة في العلاقة والمواطنة والتعايش. والبنود هي:-

البند الأول: الأمن الجماعي والتعايش السلمي بين جميع مواطني دولة المدينة. البند الثاني: ضمان حرية الاعتقاد والتعبد. البند الثالث: ضمان المساواة التامة لمواطني دولة المدينة في المشاركة الفاعلة في مجالات الحياة المختلفة تحقيقا لمبدأ أصيل تقوم عليه الدول الحديثة في عالم اليوم وهو مبدأ المواطنة الكاملة فضمن دستور المدينة هذا الحق لكل ساكنيها في وقت لم يكن العالم يعي معنى كلمة الوطن بالتزاماته وواجباته. البند الرابع: ترسيخ إقرار مبدأ المسؤولية الفردية وأصل هذه المسؤولية الإعلان عن النظام وأخذ الموافقة عليه. وعلى أثر هذه الوثيقة زادت رقعة معاملة المسلمين لغير المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وآله على أساس مبدأ التسامح الذي فاضت به نصوص القرآن الكريم وبينته السيرة النبوية قولا وفعلا بعد ذلك. وتعد هذه المعاهدة الوثيقة الأولى التي احتوت على بنود محققة للمواطنة وحقوق المواطنين وواجباتهم من النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية.

 كذلك هذه الوثيقة حددت حقوق المواطن وواجباته دون تفريق بين مسلم وصاحب كتاب أو مشرك، فالجميع لهم حقوق عليهم واجبات ما داموا يعيشون في ظل الدولة الإسلامية، ويتمتعون بأمنها واستقرارها، فبعد هجرة نبي الرجمة إلي المدينة المنورة، كان المجتمع في المدينة المنورة، ما بين المسلمين، أو اليهود، أو بعض الوثنيين، فكان لا بد من وجود دستور، أو قانون ينظم العلاقات بين هذه الطوائف، وهذه الفئات، فقام المصطفي صلوات الله عليه بوضع صحيفة وثيقة المدينة لكي ينظم العلاقات بين هذه الطوائف الموجودة في المدينة المنورة .

 وهنا نقول بأن الهدف من وثيقة المدينة المنورة يهدف هذا الدستور أو هذه الوثيقة إلي تحسين العلاقات وتنظيم العلاقات بين مختلف الطوائف والجماعات في المدينة، وعلي رأسها المهاجرين والنصار والفصائل اليهودية وغيرهم، وحتي يتمكن بمقتضاه المسلمون واليهود وجميع الفصائل من التصدي لأي عدوان خارجي على المدينة المنورة ؛ أي أن يتحد الجميع في الدفاع عن المدينة المنورة.

 وكذلك نقول أيضا لقد صيغت في وثيقة المدينة المنورة على قيم المواطنة واستفاد منها الغرب، وهذه الوثيقة تحتوي على 47 بند، فلو قرأنا هذه الوثيقة سنكتشف أنها أعلنت حقوق الإنسان العالمي بـ”1850″ سنة، وسنكتشف أن بها مبدأ الليبرالية، والمواطنة في أفضل تطبيقاتها، فلقد أرسي نبي الرحمة دولة المدينة جاءت من المدينة المنورة، وقام بوضع هذا الدستور من هذه الوثيقة، وهي لا تزيد عن أربع ورقات، وفيه الكل يدافع عن المدينة مثل لليهودي أن يؤمن كما يشاء، وكذلك المسيحي، ولمن لا يؤمن بدين أن يعتنق ما يشاء، وهذه مفاهيم جدية تماما وتقدمية بكل ما تحويه الكلمة من معني، فالمسلم فليس هناك فرق بين مسلم الأنصار ومسلم أصحاب المدينة، علاوة على دعوتها على أن الدفاع عن الوطن واجب مقدس للجميع، ومن هنا أرسي قواعد المواطنة بكل ما تحمله الكلمة من معني .

 ولو استعرضنا هذه الوثيقة نجد إنها بالفعل تدشن لتأسيس دولة مدنية على أعلي مستوي، من خلال الحديث عن مجال المواطنة، وأٍساسها، وشعارها، وعمادها، فأما فيما يخص مجال المواطنة فإنها تستوعب جميع المواطنين في ديارهم، دون إهدار حقوق غير المسلمين الذين يسكنون داخل الدولة الإسلامية، وأما أساس المواطنة فتعول على الحرية وعدم الاستبداد والظلم، وأما شعار المواطنة فتعني المساواة بين الموطنين في الحقوق والواجبات، ودون النظر للدين أو المذهب، أو العرق، وأما عماد المواطنة فتعول على كوها تمثل نظام سياسي يخدم الجميع ونظام اجتماعي يعتمد على حب الوطن ومراعاة السلوك العملي المعبر عن احترام حقوق الوطن على أبناءه، كما أنها نظام قانوني لمعرفة حقوق الإنسان والمواطن وواجباته تجاه الوطن وتجاه غيره من أفراد الوطن .

 والمواطنة من خلال الوثيقة لها ثلاثة أركان، هي الانتماء للأرض، والمشاركة، والمساواة، وهنا نبدأ مع العنصر الأول وهو مكونات المجتمع المدني من خلال الوثيقة، حيث نجد أن تلك المكونات تتكون من المسلمين، واليهود، وبعض الوثنيين، بالإضافة إلي بعض من إخواننا المسيحيين، والمسلمون منهم الأنصار والمهاجرين، والأنصار تضمنت قبيلتي الأوس والخزرج، وأما اليهود؛ فنعني بهم أي القبائل اليهودية التي كانت تسكن المدينة المنورة، ومن ذلك يهود بني قريظة، ويهود بنو النضير، ويهود بنو قينقاع، وغيرهم، وأما بغض الوثنيين من الأوس، والخزرج وغيرهم الذين ظلوا على معتقداتهم ولم يدخلوا الإسلام، وأما المسلمون ونعني بهم المهاجرين والأنصار، وقد اعتبرتهم الوثيقة فيما بينهم، فضت بذلك على القبلية التي كانت سائدة في الجزيرة العربية، حيث اعتبرت قبيلتي الأوس والخزرج”أمة”.. ومعني كلمة”أمة”؛ أي جماعة بشرية متماسكة، كما أقرت الوثيقة الحقوق بينهم دون تفريق في ذلك بين قبيلة وأخري، وهذه الوثيقة اعتبرتهم إخوة فيما بينهم، فقال الله تعالي”إنما المؤمنون إخوة”، وهذا فيما يتعلق بمكونات المجتمع المدني بالنسبة للمسلمين.

 والمكون الثاني للمجتمع المدني، وهم اليهود، وقد جاء في نص الوثيقة أن اليهود أمة مع المؤمنين، حيث لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وهنا نجد أن الوثيقة قد اعترفت لليهود بالحقوق المدنية والدينية، كما اعترفت لهم بحرية ممارسة الدين، وحرية ممارسة المعتقد، وأساس مواطنتهم هو الولاء للدولة الإسلامية، لأن حق المواطنة لا يستلزم وحدة العقيدة، ولا وحدة العنصر .

 والمكون الثالث لدستور المدينة المنورة، وهم الوثنيون ،ونقصد بذلك ممن بقي من الأوس والخزرج، وقد قبل بهم النبي رضوان الله عليه، وألزمهم ببعض الواجبات، فقد اعترف عليه السلام بوجودهم وألزمهم بألا يجيروا أحد من الخارجين عن قيم المواطنة، وبهذا يكون العرب جزءً من هذه لكونهم من الموالي، فحسب الأعراف العربية إذا دخلت قبيلة أو عشيرة في معاهدة، فإن حلفائها السابقون يكونون طرفاً غير مباشر في تلك المعاهدات، وجاء في الوثيقة لليهود ينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم.

 ونستفيد من ذلك أن المواطنة من خلال وثيقة المدينة المنورة أنها جاءت لترسي مبادئ العيش المشترك والوئام والمحبة والتعاون بين أتباع الأديان والأعراق المختلفة الذين يعيشون سويًا.. فأكد فيها النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله على احترام “الاختلافات” ونبذ “الخلافات” وأقر التعددية الدينية وحرية الاعتقاد فجاء فيها: «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم‏،‏ مواليهم وأنفسهم‏،‏ إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ- أي يهلك-‏ إلا نفسه وأهل بيته” (6).

 وليس ذلك فحسب.. بل أكد النبي صلى الله عليه وآلة وسلم على أن اليهود وغيرهم من غير المسلمين في المدينة هم مواطنو الدولة الإسلامية لهم الحقوق والواجبات‏، وعنصر من عناصرها‏ دون تمييز‏ فقال في الصحيفة‏: «‏وإنه من تبعنا من يهود،‏ فإن له النصر والأسوة غير مظلومين‏،‏ ولا متناصر عليهم‏»،‏ كذلك قال‏: «‏وإن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين» أى ضمن دولة المسلمين (7).‏

 كما حفظت تلك الوثيقة المحمدية حقوق غير المسلمين المالية والاقتصادية، فجاء فيها: “وإنّ على اليهود نفقاته، وعلى المسلمين نفقاتهم»، وأشركهم في المسؤولية والمواطنة والدفاع عن وطنهم فقال: «إنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأنّ بينهم النصح والنصيحة، والبرّ دون الإثم، وإنّه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإنّ النصر للمظلوم، وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين” (8).

 كذلك حوت الوثيقة على كثيرًا من المبادئ الدستورية التي تسهم بشكلٍ كبيرٍ في تأسيس حياةٍ مدنيةٍ تعطي حقوقًا متساويةً لكل سكان المدينة بعيدًا عن أعراقهم وأديانهم، كما يلاحظ على الوثيقة تركها الإشارة إلى الفئات المهددة للوجود السياسي الاجتماعي للدولة الإسلامية سواء من المنتمين إلى الأنا (المنافقون، والفاسقون، والمرتدون)، أو إلى الآخر الداخلي (أهل الكتاب المحاربون وغيرهم)، واقتصار الحديث على الآخر الخارجي (قريش أو غيرها)، مما يدل على المستوى المتقدم في التفكير السياسي السليم للقيادة النبوية، التي أرادت من الوثيقة أن تكون وثيقة موادعة مع الآخر الداخلي، تطمينا له بضمان حقوقه وواجباته من جهة، وتعزيزا لثقة أفراد الجماعة المؤمنة بعضهم بالبعض الآخر من جهة أخرى، لتكون الحصيلة تحصين الجبهة الداخلية للدولة الإسلامية في مواجهة الخطر الخارجي المحدق بها، وجعل نموذج الدولة الذي يبشر به المشروع السياسي الإسلامي مشروعاً جاذبا ومحفزاً للآخرين للانضمام إليه (9).

 والسؤال الآن: إذا كانت نظرية العقد الاجتماعي، واحدة من النظريات المفسرة لنشوء الدولة تاريخيا، فهل ترقى وثيقة المدينة لتكون العقد الاجتماعي الأول للاجتماع السياسي الإسلامي الذي أرسى أسسه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد هجرته المباركة من مكة إلى يثرب؟

 إن الجابة عن هذا التساؤل بحاجة إلى معالجة الوثيقة من حيث القواعد التأسيسية للدولة التي أنتجته لقيم المواطنة وهي تتجسد على النحو التالي :

1- مفهوم الأمة: عملت وثيقة المدينة على إزالة الغموض حول مفهوم الأمة، فقد حددت تصورين لهذا المفهوم: الأول: ضيق قائم على الانتماء الديني، والثاني واسع قائم على الانتماء السياسي. فالأمة في الإطار الديني مثلتها الجماعة المؤمنة، وهذه الأمة قابلة للتوسع بقبول آخرين للمشروع السياسي والعقائدي للدولة الإسلامية، أما الأمة بمفهومها السياسي الواسع، فتتسع لتشمل أكثر من جماعة دينية واحدة، مما يجعل المجتمع الإسلامي سياسياً متكون من فئات عدة لها انتماءات دينية مختلفة، كما وضحت ذلك الفقرة “25” التي نصت على :” وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم”، وهذا النص بسياقه السياسي جعل المواطنة ركيزة مهمة من ركائز المجتمع السياسي الإسلامي، قد تتساوى مع الانتماء الديني حين يكون المجتمع السياسي كله ذا انتماء ديني واحد، فيتحد في الآخر المعاش، مفهوم الأمة مع مفهوم الوطن، والدولة، والمواطنة، وقد لا تتحد هذه المفاهيم في مصداق واحد، فتكون أمتان أو أكثر في الانتماء الديني في وطن واحد، ومجتمع سياسي واحد، ودولة واحدة، فالأمة الواحدة في المعنى السياسي التنظيمي للوثيقة، تشكل مجتمعا سياسيا واحداً مكوناً من أمتين من حيث الانتماء الديني وقد يتكون من أكثر من أمتين في بعض الأحيان (10).

2- القيادة السياسية العليا في الدولة: حددت الوثيقة الجهة التي تمثل القيادة العليا في الدولة الإسلامية –آنذاك- من خلال النص على قيادة النبي )صلى الله عليه واله وسلم) للأمة السياسية، ورئاسته للدولة، ومرجعيته لها وتحديد القيادة العليا، من الأمور الحيوية التي البد أن تنص عليها المواثيق الدستورية، وعدم إغفال ذلك في نص الوثيقة يعزز قيمتها الدستورية المهمة (11).

2- نطاق سيادة الدولة (حدودها الجغرافية(: نصت الوثيقة على أن ثمة مكاناً محددا تسري فيه أحكام الوثيقة، له حدوده المعلومة، التي يكون تجاوزها خروجا عن هذا المكان، وعدم تجاوزها قعودا فيه، وإن الدولة الإسلامية –آنذاك- لها أرض ضمن حدود، والانتماء إلى مجتمعها السياسي، يكون بالانتماء إلى هذه الأرض، وقوانينها وأوامرها السياسية نافذة المفعول على أرضها، وضمن حدودها، وعلى المنتمين إليها دون غيرهم، وإن كانوا مسلمين. وحدود هذه الدولة قابلة للتوسع والامتداد، بانضمام آخرين إلى مشروعها السياسي والعقائدي، ويدل على تحديد النطاق الجغرافي للدولة، قيام الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) بإرسال بعض أصحابه لبناء أعلام تحدد حدود الدولة من الجهات الأربع (12).

4- تنظيم الحقوق والحريات ومتطلبات الأمن: حرص الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) من خلال وضع الوثيقة على تنظيم الحقوق والحريات ومتطلبات الأمن في الدولة الإسلامية –آنذاك- وفق الظروف والمعطيات الحاكمة للمجتمع السياسي.

 وثمة نقطة أخري مهمة وجديرة بالإشارة، وهي أن الوثيقة دعت إلي الاعتراف للآخر بجملة من الحقوق الإنسانية المهمة، ومنها: الحق في المواطنة، والحق في حرية الاعتقاد، والحق في المشاركة السياسية، والحق في حرية التنقل (13)، التكافل والتضامن فيما بين المسلمين، فهم جميعا مسؤولون عن بعضهم في شؤون دنياهم وآخرتهم… العدل، إن العدل التام الكفيل بفض نزاعات المسلمين وخصوماتهم وخلافاتهم وتنظيم شؤونهم، إنما هو في شريعة الله تعالى وحكمه، وهو ما تضمنه كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واقتضته مقاصد الشريعة وقواعدها في رعاية المصالح ودرء المفاسد.

 كما وضعت الوثيقة الدستورية حقوقا وواجبات للمواطنين في الدولة دون النظر إلى الانتماء الديني والقبلي، وأشارت الصحيفة إلى المساواة بين أفراد الدولة في السلم والحرب، كما حددت الوثيقة لمواطنيها على حد سواء كيفية العلاقة مع القوى المعادية لها فمنعت إقامة علاقات تجارية أو مالية أو خاصة مع هؤلاء الأعداء حتى وإن كان الفرد في الدولة يتشارك معهم في الانتماء كالشرك، وبينت الصحيفة صراحة مفهوم المواطنة في مواطنيها من اتباع الديانة اليهودية حين حددت لهم واجبات وحقوق كما هي للمسلمين في حماية الدولة وأمنها، كما وضعت الصحيفة أسس الدولة الحديثة والقواعد الديمقراطية للدولة الإسلامية في مقدمتها المساواة تبين جميع رعايا الدولة وهذا أساس مفهوم المواطنة في النظم الديمقراطية وأعطت المثال الحقيقي للحرية التي لا تزال الإنسانية تبحث عنها إلى يومنا هذا (14).

الأستاذ الدكتور محمود محمد على

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة اسيوط

الهوامش

 1- Joh I. Cogan and Ray Derricott, citizenship for the 21 St century an international perspective on education, Kogan page, England, 1999, pp. 103: 107.

2- د. حنا عيسى: الدين والمواطنة علاقة وثيقة ووطيدة، مقال منشور بتاريخ تاريخ النشر: 2014-11-03

3- د.حسين مؤنس: دراسات في السيرة النبوية، الناشر الزهراء للإعلام العربي، ط 2، القاهرة، 128.

4- أكرم ضياء العمري: السيرة النبوية الصحيحة، مكتبة العلوم والحكم، 1415 – 1994، ص 145-148.

5- الدكتور على جمعة: وثيقة المدينة ودستور المواطنة.. مقال منشور بتاريخ Jan 15, 2011.

6-     هاني ضوة: وثيقة المدينة.. دستور نبوي أسس لمبادئ المواطنة الكاملة «1-2».. المصري اليوم ..

7- المرجع نفسه.

8- المرجع نفسه.

9- خالد عليوي جياد: حقوق الآخر في ضوء وثيقة المدينة المنورة: تأصيل إسلامي لمبدأ التعايش، مجلة رسالة الحقوق، السنة الرابعة. العدد الثاني..2102 م، ص ص 154-155.

10- المرجع نفسه، ص 157.

11- المرجع نفسه، ص 158.

12- المرجع نفسه والصفحة نفسها.

13- المرجع نفسه، ص 159.

14- د. حامد الرفاعي: الإسلام وحقوق الإنسان وواجباته، رابطة العالم الإسلامي، السنة الساسة عشر، العدد 146عام 1419هـ، ص99.

 

 

مقالات أخرى

الفروق الثقافية في التعليم:

قراءة معرفيّة في سوسيولوجيا التّجربة المدرسيّة:

سيميائية التحول الجندري في الرواية التّونسية  بين البحث عن الهوية وتخريبها:

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد