تكوين الشباب في مجتمع متغير- بقلم الدكتور صابر جيدوري

     لا شك أن السمة العامة للعصر الذي نعيش فيه هي التغير الذي أصاب منظومة القيم المادية والسياسية والأخلاقية والعلمية وغيرها، وما رافق ذلك من ثورة معلوماتية أحدثت تغييراً في المواقف والاتجاهات والقيم الإنسانية جعلت العالم أكثر انفتاحاً على بعضه، وأصبح من الواضح أن الشباب يواجه مستقبلًا مجهولًا، ولا أحد يستطيع الادعاء أن الحلول القديمة سوف تكون كافية بالنسبة لهم، فالشباب العربي اليوم يُعاني مشكلة ثقافية مصدرها العجز عن تقبل الاختلافات والرأي الآخر، وفي هذا الجانب يبرز نقص حاد لدى شرائح واسعة من الشباب الذي لم يمارس الديموقراطية في بلده، أو يمارسها بشكل خاطئ أو مشوه، ومن ثم فإن غياب الممارسة الديموقراطية السليمة تحدّ من قدرته على النقاش السليم، وتُقلص مشاركته في صنع القرار عبر التعلم على ثقافة الحوار واحترام الرأي الآخر.

      إن ما يجري اليوم على الساحة العربية من تغيرات سياسية واجتماعية يؤكد حالة الغليان الممزوج بالأمل واليأس والانتظار، والقدرة على تجاوز القيود الضاغطة في مجتمعات عربية مأزومة، تحكمها قيادات سياسية اضاعت البوصلة منذ زمن بعيد، واستكانت إلى التبعية للخارج، وأوكلت إليه مصير شعوبها وشبابها ومواردها الطبيعية. لذا يحاول الشباب، وبخاصة في دول الثورات، تقديم نماذج مغايرة لما هو قائم في المجتمعات العربية، مع السعي إلى التلاقي وتوحيد الجهود رغم جميع الصعوبات. ولعل قمة التحدي الذي يواجهونه تكمن في الرد على التحدي السياسي والثقافي السائد في الدول العربية. ومن أولى سمات الرد على التحدي أن يبادر الشباب إلى التكاتف وتوحيد المقولات الثقافية الداعية إلى التغير الجذري والشمولي للنهوض بالمجتمعات العربية على امتداد الوطن العربي.

     وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك فعلاً، فإن أولى الخطوات التي يجب أن نسلكها هي بلّورة فلسفة أو رؤية فكرية لا تقتصر على مجرد الاعتراف الإيجابي بحقيقة التغيير، وإنما تتضمن التغيير عنصرًا أساسيًا فيها، ومن ثم، إذا كانت الأشياء والقيم والعلاقات الاجتماعية تتغير بسرعة متزايدة، فإن مشكلة ملحة سوف تظهر أمامنا هي: كيف نعدّ شبابنا لمواجهة مستقبل غير مستقر على هذا النحو؟

    إن الإجابة عن هذا السؤال تشير إلى أن التغيير المتزايد يفرض على التربية مطالب جديدة، لعل أهمها: صياغة فلسفة تربوية تؤكد على الاعتراف بالحقيقة الدائمة الخاصة بالتغيير المتسارع، باعتبارها عنصرًا أساسيًا حاسمًا، وإعادة تنظيم غرض المدرسة ومناهجها وطرائقها على أساس متحرك، بدلًا من قيامه على أساس ثابت وقديم، فضلاً عن أهمية أن تقوم التربية في حل المشكلة العقلية بحيث تكون أفكار الطلاب عن العالم سابقة لاكتشافهم العلمي، وهذا يفرض علينا إعادة بناء التربية، لكي تتماشى مع الموقف المتغير، وإلاّ فإنها سوف تواجه الإخفاق في سد حاجات الشباب المتغيرة بشكل دائم.

     وهذا يعني التأكيد على أن تقوم التربية أيضاً بإعداد الشباب لكي يستطيعوا أن يواجهوا تيار التغيير، من أجل أن يوجهوا ما يعترض حياتهم من مشكلات، ويكيفوها مع ما يحدث في العالم المتغير، مما يتطلب تعليمهم كيف يفكرون، وكيف ينقدون، وكيف يعيشون معاً في مجتمع يتغير باستمرار، وهذا يتطلب عزوف السُلط الحاكمة في الدول العربية التسلطية عن التعامل مع الشباب كرعايا يتبعون للملك أو الرئيس أو شيخ القبيلة أو الطائفة، وأن تتعامل معهم مؤسساتها الحديثة كمواطنين أحرار ينتمون إلى دولة ديموقراطية تعتمد المواطنة، والكفاءة الشخصية، والشفافية، والمساءلة، والمساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات دون النظر إلى العرق، أو اللون، أو الانتماء السياسي، أو الديني، أو القبلي.

     بصفة عامة، “لا بد أن تقوم التربية بمساعدة الشباب على اكتساب القدرة على التكيف مع الأوضاع الاجتماعية المختلفة والمتغيرة بحيث توجه حياتهم بذكاء، وحتى تستطيع ذلك لابد أن تكون تربية يستمتع فيها الشباب بقسط كاف من الحرية يؤهلهم لحياة اجتماعية مدرسية تنسجم مع تيار التغيير وتعمل على مواكبته” (كلباتريك، 1958، 12).

     ومن أجل ذلك لا بد من مساعدة الشباب على أن يعيشوا في تفاعل مع بيئتهم الطبيعية والثقافية، لأن الإنسان بصفة عامة ليس شيئًا منفصلًا عن المجتمع، وإذا كانت الذات الفردية تنمو في اتجاهات مختلفة فإن الشخصية تتحدد من خلال عملية التفاعل التي تحدث بين الإنسان والوسط الثقافي الذي يعيش فيه، ومن ثَمَّ فإن الطبيعة الإنسانية يجب أن تكون طبيعة منفتحة، وغير محدودة، وتسمح بالتنوع والاختلاف، وتفسح المجال أمام الحرية إلى إطلاق قدرات الإنسان.

     كما يجب أن تؤمن التربية بقدرة الشباب على تغيير أنفسهم بما لديهم من إمكانات حسب مقتضيات الموقف حتى نفتح الطريق إلى حرية الشباب ونموهم، فالحرية الفعلية أو الإيجابية ليست موهبة فطرية وإنما قدرة مكتسبة، والنمو الشخصي ليس هدفًا ثابتًا وإنما هدفاً متحركاَ، لأن كل نمو يهدف إلى نمو أكثر كما يرى فلاسفة البرجماتية (التغيير نحو الأفضل)، فالخبرة تُعلمنا أن كل شيء يتغير، وأنه لا يوجد ثبات أو سكون، لا في ميدان المادة ولا في ميدان العقل.

     وعليه، فإنه يجب علينا أن ندع ميادين الحرية مفتوحة للشباب، وأن نعمل دائمًا على محاربة الثبات، إذ لا يمكن أن يكون الشباب أحرارًا إلا عندما يستمروا في تحقيق إمكاناتهم، وإعادة خلق أنفسهم، أي أننا أحرار بقدر ما نصبح بخلاف ما كنا عليه، وهذا ما دفع “ديوي” إلى التساؤل عن دور الثقافة في جعل الإنسان أكثر حرية، إذ أشار إلى أن مشكلة خلق حرية حقيقية لا تُعالج بنجاح، نظريًا وعمليًا، إلا إذا خلقنا من الأحوال الثقافية الحاضرة نوعًا من التكامل العقلي والأخلاقي. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف نعمل على إحداث التغيرات الثقافية الملائمة لحاجة الشباب حتى يُصبحوا أكثر حرية؟

     يجيب “ديوي” “بأنه لا سبيل إلى بلوغ ما نصبو إليه من تقدم في المجال الاجتماعي، وإلى تحقيق ما نهدف إليه من حرية، إلا بتطبيق المنهج العلمي في مجال الحياة الإنسانية، وفي المشكلات الثقافية التي تُحاصر المجتمع. ويرى أننا بحاجة إلى رأي عام واعٍ ومدرك لمواجهة المشكلات الاجتماعية، ولن يتشكل مثل هذا الوعي لدى الشباب إلا عن طريق استخدام المنهج العلمي، فمثل هذا المنهج يساعدهم على بلوغ الحرية الحقّة التي تظهر في مجال التفاعل بين مقومات كل من الطبيعة البشرية والثقافية” (ديوي، 1982، 56).

       ومن ثَمَّ، فإن حرية الفرد مرتبطة بحرية الثقافة، وهذه تتوقف على استخدام العلم في مجالها، وباستخدام المنهج العلمي في ميادين الحياة الإنسانية، وفي معالجة مشكلات الشباب، نكون قد فتحنا آفاقًا جديدة أمامهم، لأن استخدام المنهج العلمي في مجال الثقافة يؤدي إلى إطلاق الثقافة وتقدمها، كما يؤدي إلى قيم جديدة تعكس نفسها في حياة الشباب وحريتهم، في الوقت الذي يجب أن نتصدى فيه إلى كل ما هو غير عقلاني في الثقافة السائدة، وتناوله بالنقد البناء، وكذلك كشف زيف الأيديولوجيا الشعاراتية التي تصدر عن قوى إيديولوجية سلطوية تبشر بالإصلاح الشامل، لكنها لا ترغب  في إحداث أي تغيير جذري في البنى السياسية والاجتماعية والثقافية، كما هو واقع الحال في الوطن العربي. 

 

مراجع المقال

– ديوي، جون (1982) رسالة في فلسفة التربية الحديثة، ترجمة أحمد احسان القوصي، القاهرة، دار المعارف.

– كلباتريك، وليم (1958) المدنّية المتغيرة التربية، ترجمة عبد الحميد السيد، القاهرة، مكتبة مصر.

مقالات أخرى

التربية الجنسية في الفلسفة الكانطية

صابر جيدوري : ثنائية الفرد والمجتمع وانعكاساتها التربوية

ثنائية المعرفة: من العقل إلى التجريب

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد