التعليم بين السفسطة والمعرفة- بقلم الدكتور صابر جيدوري

 

    قضية الثنائيات في الفكر الفلسفي والتربوي ليست قضية معاصرة، بل هي قضية شغلت الفلسفة عبر تاريخها الطويل. ومن الثنائيات التي تناولتها الفلسفة وانعكست آثارها على الفكر التربوي وتطبيقاته المختلفة، ثنائية السفسطائي والمعارف، وثنائية الوراثة والبيئة، وثنائية العام والخاص، وثنائية الخير والشر، وثنائية المثالي والواقعي، والديني والعلماني، والتلقينية والتكوينية، وغيرها الكثير من الثنائيات التي اختلف الناس حولها، فمنهم من انحاز لطرفها الأول، ومنهم من انحاز لطرفها الثاني، وقد نتج عن هذا الاختلاف اختلاف في نوع التربية وأهدافها وطرائقها ومحتواها.

     في هذا المقال سوف أعرض لثنائية السفسطة والمعرفة، لما تثيره من إشكالات على صعيد العمل التربوي، ولكي تتضح هذه الثنائية للقارئ يُمكن صياغتها على النحو الآتي: هل ينبغي الاهتمام في التربية بوسائل الدرس أكثر من الدرس نفسه؟ أي هل ينبغي الاهتمام بالخطاب السفسطائي أم بمضمون الخطاب أو المحتوى المعرفي؟ ثم أيهما أهم الوسائل أم الغايات؟ بعبارة أخرى، أيهما أهم الخطاب السفسطائي بوصفه وسيلة من وسائل الدرس، أم الغايات بوصفها أهداف معرفية يجب أن تتحقق؟ وإذا سلّمنا بأن الهدف هو توفير الوسائل، ألا يؤدي ذلك إلى التفريط بالمضمون المعرفي؟ كيف يُمكن تجنب هذا المنحدر الذي لم يستطع السفسطائي رغم حذره الشديد من تجنبه؟

     قبل الدخول في مناقشة هذه الثنائية تجدر الإشارة إلى أن السفسطائية مدرسة فلسفية يونانية ظهرت في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، وعُرفت هذه المدرسة بفنون الخطابة والجدل واستمالة الجمهور، وتشير الكلمة اليونانية “سوفيسطوس” الى معلم علم البيان والجدل، مع أن السفسطائية في بداياتها كانت صفة تميز الشخص الخطيب المتمكن من قواعد الجدل والبلاغة، غير أن معانيها أخذت تتجه نحو تمويه الحقائق، وقلبها باستعمال أدوات الخطابة وأساليب المنطق، مع صرف الذهن أيضاً عن الحقائق والأحوال الصحيحة، أو المقبولة في العقل، وتضليل الخصم عن الوجهة الصحيحة، وقد كان من زعمائها البارزين “بروتاجوراس”، و”جورجياس”، و”بروريكوس”.

    هذا الخطاب الذي كانت تهتم به السفسطائية أكثر من المحتوى دفع بأفلاطون وأرسطو إلى توجيه نقد لاذع لخطابها، وما كان يرد فيه من مغالطات يقصد بها خداع السامعين. ومن ثم، فإن المتتبع لتاريخ الخطاب السفسطائي في صورته التي فرضها النقد الأرسطي والأفلاطوني سوف يجد أن النقد الأفلاطوني والأرسطي اتجه نحو ثلاث نقاط هي: فسادهم الخلقي، وفساد قولهم المنطقي، وتركيزهم على شكل الخطاب على حساب المحتوى، فقد ألح أفلاطون بلسان سقراط على نقد الفساد الخلقي معتبراً السفسطائيين قوماً يتاجرون بالمعرفة، ويعلمون الخطابة للسياسيين حتى يُمكنوهم من مغالطة الرأي العام بهدف رضا الناس على حساب الحقيقة.   

     ومن الجدير بالذكر أن تركيز السفسطائي على شكل الخطاب وإهمال محتواه، دفع أفلاطون إلى التسليم بخطر الأسلوب السفسطائي، حتى انه اعتـبر إصلاحه السيــاسي والخـلقي رهـين التخلص من نمط التربية السفسطائية المستندة إلى أدوات التعبير الأدبي، حيث للخـطـابـة والشـعر دور التخـديـر الإيديولوجـي والتمويه الخلقي، اللذين يقـابـلان أسلوب سقراط التوليدي صاحب التوعية الفلسفية والتنوير الخلقي.

     ومما يستحق التنويه إليه، أن السفسطائية أشاعت التعليم أمام الكل مقابل ثمن، وهذا خرق أخر في فلسفتهم، لأن الطابع الأخلاقي للمعرفة يرفض إباحته للعامة، ومما عمق ثنائية السفسطة والمعرفة أكثر هو قيام السفسطائية بتأويل جديد يرفض تعالي المعرفة أو الحقيقة على الخطاب. وهذا يعني أن المعلم السفسطائي معني بتنميق خطابه أكثر من محتوى الخطاب، وهذا ما سيطر على التعليم السفسطائي الذي كان ميدانا للنقد الأفلاطوني والأرسطي، بل ولكثير من الفلاسفة العرب، وقد استمرت هذه الدلالة الشائنة لصيقة بالفكر السفسطائي حتى لحظتنا المعاصرة، حيث نقرأ عند أشهر مؤرخي الفلسفة العرب “يوسف كرم”، بأن “السفسطائيين كانوا مجادلين مغالطين، وكانوا متاجرين بالعلم. أما الجدل، فقد وقفوا عليه جهدهم كله، وكانوا يفاخرون بتأييد القول الواحد ونقيضه على السواء، وبإيراد الحجج الخلابة في مختلف المسائل والمواقف. ومن كانت هذه غايته، فهو لا يبحث عن الحقيقة، بل عن وسائل الإقناع والتأثير الخطابي” (كرم، 1972، 53).

     وهكذا نجد أن السفسطة والمعرفة هي أولى الثنائيات التربوية وأقدمها، حيث تتصل بالتعارض بين المنهج والمضمون في الخطابات التربوية، إذ يذهب الفكر التربوي السفسطائي إلى إعطاء الأولوية إلى الوسائل التربوية أكثر من اهتمامه بنتائج التربية. فقد كان المعلم أو الخطيب السفسطائي تربوياً من المرتبة الأولى، كما كان اهتمامه ببنية ما يقوله من الخطاب أكثر من اهتمامه بنتائج خطابه، وفي هذا الاتجاه سار النقد الأفلاطوني لهم معتبراً أنهم لا ينتهون إلى تعليم الحقيقة بمقدار تركيزهم على فنون الحوار والاقناع والتأثير.

     ولأن الأمر كذلك، فإنه لم يعدّ صالحاً في ميدان التربية والتعليم المعاصر الاهتمام بخطاب المعلم دون مضمونه، فكما أن خطاب المعلم مهماً، كذلك أيضاً لا بد أن تكون معلومات الدرس لها فوائد جمة، وهذا التكامل بين شكل الخطاب في الدرس وأدواته، وبين مضمونه هو الذي يعمل على إنضاج الشخصية الإنسانية، التي تتفاعل في مجتمعها بشكل متوازن وسليم، مما يتطلب تكاملاً في برامج وطرائق التعليم، حتى لا يهمل جانب من جوانب التنمية المعرفية أو الوجدانية أو السلوكية أو العملية.

     ومن ثم، فإن التعليم اليوم مطالب بتحقيق تكامل وتوازن بين الجانب المعرفي وبين الوسائل، التي من بينها خطاب المعلم، للوفاء بمتطلبات التربية والمجتمع في حياة متقدمة عصرية، حتى لا يتحول التعليم إلى أساليب تلقينية أو خطابية لفظية، ولهذا ندد المربون منذ القدم بهذه الطريقة التلقينية في التعليم المعادية للذهن.

     من هنا يجب أن ينصب الاهتمام على عمليات التفكير العلمي، والتفكير الناقد القائم على الحوار من أجل نمو طاقات الإنسان ودفعها نحو التجديد والابتكار. وهذا يعني ضرورة أن نعيد الثقة إلى الوظيفة التعليمية المتكاملة، وأن نحول المدرسة إلى بيئة تربوية تُعطي أهمية للوسائل كما تُعطي الأهمية نفسها للغايات، حتى تنضج الملكات، وتتفتح القدرات وتصبح التربية أنشطة وأساليب فعّالة لتكوين شخصية الطلبة بشكل ناضج.

     يبقى أن نشير إلى ملحوظة تتصل بالتعليم السفسطائي، فبالرغم من سهام النقد التي وجهت إلى تعليم السفسطائيين، وما أثاره خطابهم من مغالطات، غير أن السفسطائيين هم أبناء عصرهم؛ أي أنهم يعكسون بأفكارهم وتصوراتهم روح عصرهم وزمانهم، ولذلك ينبغي وصل التعليم السفسطائي بسياق اللحظة التاريخية التي عاشوا فيها لكي نفهم دلالته ومنحاه. فالمدينة اليونانية الجديدة ونظام مؤسساتها، جعلا امتلاك مهارة الخطاب الاقناعي مطلباً مهماً، وبالتالي كان لزاما توفر نمط من التعليم يلبي هذه الحاجة الجديدة لدى الإنسان اليوناني، وهي الحاجة التي تتصل بتربية الإنسان على الخطابة، والقدرة على التأثير في الناس، ومع ذلك فهذا لا يعني أن يسير التعليم المعاصر على هذا النهج، فكما أشرنا لا بد من التكامل بين طرفي الثنائية وتوجيه الاهتمام إلى الوسائل والمحتوى أو إلى الخطاب ومضمونه على حد سواء.

 

المراجع

  • كرم، يوسف (1972) تاريخ الفلسفة اليونانية، دار القلم، بيروت.

مقالات أخرى

التربية الجنسية في الفلسفة الكانطية

صابر جيدوري : ثنائية الفرد والمجتمع وانعكاساتها التربوية

ثنائية المعرفة: من العقل إلى التجريب

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد