قراءة في الثابت والمتحول

لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان

منذ أطلق تيار التنوير صيحته التاريخية التي أذن بها الكواكبي وجمال الدين الأفغاني والمنطقة تعيش على صدى خطاب التجديد تبشيراً ورفضا وقبولاً ورداً، وفي هذا السياق يمكن إدراج أكثر من ثمانين بالمائة مما يكتب في الشأن الإسلامي منذ أكثر من مائة عام!!

ومن وجهة نظري فإن أكبر تحد للنهضة يتمثل في المنطق الأصولي الماضوي الذي توقف عند لحظة محددة يعتبرها نهاية للتاريخ، ويعتبر أن أي توجه للتطوير هو عدوان على قرار الشريعة اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.

وقد بات اكتمال الدين مانعاً من وجهة نظرهم من أي تطوير، ومنع النظر والاختيار والاكتفاء بقواعد توليتارية شمولية يوتوبية على صيغة: قف على ما وقف عليه الأولون فإنهم عن علم وقفوا، ولو كان خيراً لهدوا إليه، وما ترك الوحي للعقل من عناء، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

ويستند الفهم الأصولي إلى عمومات شديدة الصرامة ثم يجللها سرمدياً بدثار الغيب بحيث تستحيل مناقشتها أو الخوض في تأويل ظاهرها أو تخصيص عامها أو تقييد مطلقها أو حتى تنقيح مناطها، بحيث تصبح كليات شرعية لا تحتمل النقاش ومن السهولة بمكان إذن إلقاء الآخر المختلف خارج هذه الدائرة، حتى يتعين رفضه وانتباذه.

  • قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات والأرض
  • قل أأنتم أعلم أم الله؟
  • وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم
  • اتبع ما أوحي إليك من ربك
  • اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء
  • وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم.
  • فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً.

وبالوسع أن نضيف أكثر من مائة نص كلها تحث على طاعة الله ورسوله وهو أمر يؤمن به كل مسلم ولكن يتم هنا اختزاله على شكل نصوص مطلقة منع فيها التأويل والتخصيص والتقييد، وأصبح أي إعمال للعقل في المسألة التشريعية نوعاً من العدوان على النص الحكيم، وهو ما أدى إلى تجنب كثير من الحكماء الدخول إلى تلك المنطقة الحمراء واجتنابها بالكلية.

مع أننا نستطيع ببساطة أن نورد طائفة من النصوص القرآنية والنبوية الواضحة التي أمرت باستعمال العقل إلى الغاية ودعت إلى تغير الأحكام بتغير الأزمان ولكنها عوملت من التيار إياه بالتقييد والتخصيص والتأويل الذي يصرفها عن أن تكون قواعد فكرية للحوار والمعرفة:

  • لا أكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي
  • قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق
  • فاعتبروا يا أولي الأبصار
  • لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط
  • إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي
  • فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره

وكذلك وصايا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:

  • أنتم أعلم بأمور دنياكم
  • إذا أمرتكم بالأمر من أمور دينكم فهو مني وأنا قلته وإن أمرتكم بالشيء من أمر دنياكم فإنما أظن ظناً.
  • إن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب
  • إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض

إن استعراض منهج النبي الكريم في عصر الرسالة في وعيه بما هو ثابت وما هو متحول يجعلنا نقف مشدوهين أمام الإرادة العجيبة في التطور والتحديث التي ظهرت في عصر الرسالة ففي إطار القرآن الكريم الذي هو المقدس الأول تم نسخ عشرين آية على الأقل خلال عشر سنوات من عمر الرسالة، وعدد مماثل من السنن النبوية، وفي هذا المنسوخ أحكام تتصل بالحدود والحكام والعبادات والمعاملات وسائر فروع التشريع، بل إن مسألة القبلة التي هي أوضح ملامح الشريعة ورموزها قد نسخت مرتين على الأقل فمضى الأمر في أول عصر الرسالة إلى استقبال الكعبة ثم بيت المقدس بعد فترة ثم عاد الأمر باستقبال الكعبة: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره.

وفي نكاح المتعة تمت الإباحة مرتين والتحريم مرتين خلال عصر الرسالة، وفي النهي عن ادخار لحوم الأضاحي، وتحريم تزويج الزانية والزاني على العفائف الذي نسخ فيما بعد.

ولا شك ان هذه المواقف الحكيمة هي التي أسست للقاعدة الفقهية الشهيرة: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.

وهكذا فإن أمر النسخ الذي هو أوضح أشكال المتغير في إطار النص استمر طول عهد النبوة، ومع أن من المنطقي ان نقول إنه توقف عند موت الرسول الكريم ولكن الأمة مضت في إعمال قواعد أخرى تحقق الغرض نفسه من الاستجابة لمتغيرات الحياة في التشريع ولكن عبر تسميات أخرى كتخصيص العام وتقييد المطلق وتأويل الظاهر، وعلى سبيل المثال فإن حد القطع المنصوص عليه في القرآن الكريم والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله، تم تخصيص عمومه من خلال اجتهاد الفقهاء، ولم يمض عصر التدوين حتى نص الفقهاء على عدد من أنواع السرقة لا قطع فيها مع أنها مشتملة بعموم النص، فالنباش والطرار والمختلس والغال والغاصب والنشال والمكره لا يقام عليهم الحد رغم أنهم مشمولون بعموم النص، وذلك إعمالاً لقاعدة ادرؤوا الحدود بالشبهات، وتحقيقاً لعلة التشريع، ومضى الفقهاء إلى وضع أكثر من ثلاثة عشر قيداً على حد القطع بحيث لا يقام إلا في إطار ضيق جداً، وهو ما يفسر لك منطق البحث عن الغايات في الأحكام.

وعلى ذلك مضى الفقهاء يؤمنون بالعصر والزمان والمكان، ففي فقه الشافعي على سبيل المثال فإن الشافعي كتب فقهه في العراق في كتابه الحجة، ولكن ما إن تحول إلى مصر حتى تبينت له مسائل كثيرة لم تكن بادية فيما قبل، وبالفعل شرع بكتابة فقهه الجديد في كتابه: الأم، وعندما انتهى الإمام من تحريره وقف بكل شجاعة وجرأة يقول: لا أحل لأحد أن يفتي بمذهبي القديم، بعد أن حررت المذهب الجديد، وليس هناك نظرياً أدنى شك أنه كان سيقف الموقف ذاته لو عاش عشر سنين أخرى، ودخل أمصاراً أخرى كالمغرب والأندلس مثلاً، وقد مضت الشافعية إلى ترك الفتيا بمذهب الشافعي القديم إلا في أربع عشرة مسألة، وقد كتب مؤخراً عبد العزيز قاضي زاده رسالة ماجستير استقصى فيها سائر المسائل التي يفتي بها الشافعية من المذهب القديم فكانت ثلاثين مسألة لا غير!!.

يمكن قراءة مشهد آخر لا يقل ألقاً عن موقف الإمام الشافعي في فقه الإمام الجليل مالك بن أنس عندما أتم إعداد كتابه الموطأ وهو من أوثق كتب السنة وأجمعها، حتى طار صيته في الآفاق وحين لقيه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور أعجب بعلمه غاية الإعجاب وقال له فيما قال: أنت والله أعقل الناس وأعلم الناس ولكنك تكتم، وأمر أبو جعفر أن ينادى في المدينة: ألا لا يفتى ومالك بالمدينة. ثم قال والله لئن بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف ولأبعثن به إلى الآفاق فلأحملهنم عليه!! فقال مالك: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول تفرقوا في الأمصار وإن تفعل تكن فتنة!! لقد كانت في الواقع فرصة تاريخية للإمام مالك بن أنس لو أراد أن يغتنمها حيث سيصبح حينذاك صاحب الكتاب الثاني في الإسلام وسينشر علمه في كل أفق بسلطان الدولة، ولكن الإمام مالكاً أظهر موقفاً حضارياً فريداً يوم رفض هذا العرض المغري المثير، وقال بمنطق ديمقراطي وحضاري فريد، لا يا أمير المؤمنين، لا تحمل الناس عليه، إن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار، وقد حدث كل بما سمع، …..

إنه وعي آخر في ثقافة الثابت والمتغير جعلت إمام أهل المدينة يقف هذا الموقف الفريد، الذي قد يبدو مقاوماً لإرادة الخليفة في توحيد الأمة، ذلك أنه أدرك أن الوحدة الفكرية ليست قراراً سياسياً تتخذه السلطة، وأنه ليس من مقتضى التوحد إقصاء الفكر الآخر وإلزام الناس بالثابت من أفق واحد، في وعي فريد لحاجة الحياة إلى التطور والتحديث في كل أفق.

بالتأكيد لن تستطيع مقالة كهذه أن تعالج مسألة دقيقة وصاخبة كهذه المسالة، ولكن بإمكانها أن تطرح بعض التساؤل حول ثقافة الثابت والمتغير، وفق الآية الكريمة: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً فاستبقوا الخيرات، وكذلك الآية: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة.

إن منطق الثوابت والمتغيرات ينبغي أن يتبرأ من الشخصانية والطائفة والفئة، ويحلق صوب المقاصد الكبرى للإسلام، ولا يقتضي ذلك مفهوم التذويب والصهر بحيث تنتهي الخصوصيات، وإنما هو إقرار بالخصوصية الناشئة لدى كل فريق، وفي الوقت عينه، بالروح الجامعة التي يأوي إليها الكل، فما كان ثابتاً في مدرسة فقهية معينة قد يكون من باب المتغير في مدرسة فقهية أخرى، وهو ما يعبر عنه عادة بلازم المعتقد ولازم المذهب، فقد لا يتم الاتفاق في إطار لازم المذهب ولكن يلزم الاتفاق في لازم المعتقد، وعلى منطق الثابت والمتغير أن يرتقي إلى أفق توحيد جمعي يتسع للكل ولا يضيق بأحد من أهل لا إله إلا الله.

مقالات أخرى

شعريّة اللّباس

الإيهامُ في القصيدة العربيّة الحديثة

خطاب المقدمات في النقد العربي القديم

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد