التربية على ثقافة السلام – بقلم الدكتور صابر جيدوري

      من يطلع على قضايا فلسفة التعليم المعاصر يجد أن سؤال أفلاطون حول شروط إمكانية تدريس الفضيلة ما زال حاضراً ومحفزاً على أسئلة أخرى مثل: كيف نكوِّنُ الإنسان ليصير إنساناً حراً ومحباً للسلام والمساواة؟ وهو ما استندت إليه الكثير من أنظمة التعليم في العالم، ومنها نظام التعليم الفرنسي الذي اتخذ من شعار الثورة الفرنسية (حرية، مساواة، أخوة) فلسفة له، وهو السؤال نفسه الذي نستند إليه في الإجابة عن سؤال: كيف تتم أنسنة التربية على ثقافة السلام؟

     ولكن قبل الدخول في ماهية الإجابة عن هذا السؤال، لا بد من إطلالة على الفكر الفلسفي لرصد ما جاء على لسان بعض الفلاسفة بشأن ثقافة السلام وأهميتها في المجتمعات الإنسانية. ولو بدأنا بالفكر الاغريقي القديم سوف نجد أن فكرة السلم فكرة قديمة اتجه إليها حكماء العصور الماضية وحمل لواءها الفلاسفة الرواقيون منذ القرن الثالث قبل الميلاد، حين أهابوا بالإنسانية أن تحرر نفسها مما يفرق بين الإنسان وأخيه الإنسان من فروق اللغات والأديان والأوطان، ونظروا إلى الناس جميعاً وكأنهم أسرة واحدة قانونها العقل ودستورها الأخلاق.

     وإلى هذه الفكرة دعا الدين الإسلامي دعوة صريحة في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (البقرة: 208)، وقوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (الأنفال: 61)

     وقد توالت الدعوات إلى السلم العالمي من قبل الكثير من الفلاسفة والمفكرين على مرّ العصور، فقد كتب الفيلسوف الألماني “كانط” كتابه “مشروع للسلام الدائم” أعلن فيه “أن إنشاء حلف بين الشعوب هو السبيل الوحيد للقضاء على شرور الحرب وويلاتها” (كانط: 1952 :64). وكذلك فعل الفيلسوف الإنكليزي “برتراند رسل” في كتابه “آمال جديدة في عالم متغير” الذي أشار فيه إلى أن بقاء الحضارة الإنسانية مرهون بإنشاء الحكومة العالمية، وحتى يتحقق ذلك لا بد من إرساء فكرة السلم العالمي، والتوسع في فكرة المواطنة العالمية (رسل، د. ت: 95).      كما مارست اليونسكو في هذا المضمار دوراً رائداً، إذ أقر المؤتمر العام لليونسكو في دورته الثامنة عشر (1974م) توصية خاصة بالاهتمام بالتربية من أجل التفاهم العالمي، والتعاون والسلام، والتربية من أجل حقوق الإنسان (اليونسكو، 1991: 18).

    وبناء على ذلك، فإن هذه الدعوات وغيرها، التي تؤكد على أهمية تعزيز ثقافة السلام في المجتمعات كافة، تتطلب من دون أية مواربة أنسنة العملية التربوية وتوجيهها نحو غرس كل المفاهيم المرتبطة بالسلام ونبذ العنف والكراهية، ولذلك أكدت اليونسكو في معظم مؤتمراتها على ضرورة أن تعزز المناهج الدراسية بجميع المراحل التعليمية ثقافة السلام، وقد تبلورت نتيجة لذلك أهم مبادئ التعليم من أجل السلام والتفاهم الدولي، التي تمحورت حول ضرورة أن يُسهم التعليم في تحقيق التفاهم الدولي، وتعريف التلاميذ بثقافات الشعوب المختلفة، وتوضيح الاعتماد المتبادل بين الشعوب، والتعاون في تناول القضايا والمشكلات العالمية، وكذلك التأكيد على أهمية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية

     وبما أن التربية هي إحدى السبل التي من شأنها إقامة مجتمع عالمي خالٍ من النزاعات والصراعات، تحترم فيه الدول والأفراد الاختلافات الثقافية والاجتماعية والعرقية للآخر، وتؤمن بحق الجميع في العيش في سلام وأمان، وذلك استناداً إلى التوصيات الواردة في المؤتمر العام لمنظمة (اليونسكو) في العام 1974، فإن ما يجب أن تقوم به التربية العربية عبر مؤسساتها المختلفة هو أن تعمل من أجل إنماء التلامذة العرب إنماءً كاملاً، وتعزيز ثقافة احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في المدارس، وكذلك تنمية التفاهم والتسامح والحوار، فضلاً عن تعزيز ثقافة التربية من أجل السلام.

     مع ملحوظة أنه عندما نجعل من التربية عملية إنسانية عندها يمكن توجيه العملية التربوية والتعليمية للعمل على ثلاثة محاور: أولها، المحور المعرفي، الذي تُقدم فيه للمتعلم حقائق ومفاهيم ومعلومات غرضها توسيع مدارك المتعلم حول ايجابيات ثقافة السلام والتسامح، وأخطار العنف وأشكاله ونتائجه السلبية على الفرد والمجتمع والعالم. وثانيها، المحور الذي يتجه نحو تشكيل مواقف المتعلم واتجاهاته نحو تفضيل السلوك اللاعنفي (السلمي) وثالثها، المحور الذي يركز على تنمية قدرات ومهارات المتعلم على استخدام وتطبيق الاستراتيجيات والأساليب التي تساعد في حل الخلافات وتجنب العنف. مع التأكيد أن تعزيز المحاور الثلاثة في سلوك الطلبة يتطلب من المؤسسات التربوية استثمار القيم والمثل الدينية والثقافية والاجتماعية والإنسانية المؤيدة للسلام والتسامح، والنابذة للعنف في تشكيل شخصية تعيش بسلام حقيقي مع ذاتها ومجتمعها المحلي والعالمي.

     ولهذا اعتَبر “باولو فريري أن قضية “الأنسنة” هي القضية المركزية بالنسبة للإنسان التي تكتسب طابع القطعية، إذ إنها تُعدّ احتمالاً ممكناً وقابلاً للحياة، لأنه في المقابل يشكل تجريد الإنسان من إنسانيته خطراً محتملاً على حياته، ولذلك يؤكد أن الخيار أمام الإنسان هو بتحقيق “الأنسنة” بشكل عام، عبر النضال من أجل تحرير الأجيال، لأن استلاب إنسانية الإنسان، رغم كونه حقيقة تاريخية ملموسة ولكنه ليس مصيراً محتوماً، وإنما نتيجة لنظم تربوية تولّد العنف لدى المضطهدين وتجردهم من إنسانيتهم (فريري، 1980، 65)

     من هنا فقد أكدت النزعة الإنسانية في التربية على إحياء فكرة التربية الحرة وفقاً للتصورات اليونانية والرومانية القديمة. وكانت هذه الحركة الإحيائية تمثل الرغبة الكبرى في نمط متجدد من الحياة والتربية يختلف عن معايير وقيم  التربية الترويضية السائدة في العصر الوسيط (وطفة، 2009).‏

     ولو راجعنا منظومة التصورات الإنسانوية التي نجدها عند أيراسموس ورابليه ومونتين وغيرهم لوجدنا لديهم خطاباً تربوياً إنسانياً يؤكد على نبذ الفردية التي تضعفنا إنسانياً وثقافياً، ويركز على ضرورة أنسنة التعليم من خلال دور المدارس والجامعات في تنشئة الشباب، ومساعدتهم كي يصبحوا بُناة عالمٍ مسالم وأكثر تعاضداً.

     وعلى هذا الأساس يجب أن يراعي التعليم إنسانية المتعلم من خلال تهيئة مواقف وخبرات ونشاطات تعزز ثقافة السلام لديه، وتتيح له الفرص لإظهار مشاعر المحبة والتعاطف مع الآخرين، وزرع الأمل والتفاؤل والنظرة الإيجابية، والتطلع للمضي قدماً من أجل التطوير والنماء، وقبل هذا وذاك توفير بيئة خالية من العنف والقسوة، وتشجيع العمل الجماعي التعاوني ونبذ الفردية.

     ومن ثم، فإن المطلوب من أنظمة التعليم في الوطن العربي، وبخاصة في الدول التي تشهد حروب وصراعات أن تبدأ في بناء برامج للتربية من أجل السلام تُركز على التأثير في القيم والسلوك، فينبغي التركيز على السلام كقيمة، وكذلك على القيم الأخرى كاللاعنف والحوار والتسامح والانفتاح، بالإضافة إلى ضرورة التدريب على مهارات وعادات الاصغاء والاتصال الفعال، واتخاذ القرارات، والعمل ضمن فريق، وحل المشكلات عن طريق التفاوض، وذلك في مراحل التعليم المختلفة حتى تصبح نمط حياة يستخدمها الفرد بصورة يومية في جوانب حياته كافة.

     أما عن المداخل التي يمكن استخدامها في أنسنة التربية على ثقافة السلام فهي كثيرة ومتعددة، فهناك مدخل قائم على الديمقراطية وحقوق الإنسان، وآخر قائم على حماية البيئة، ومدخل ثالث قائم على المواطنة أو نزع السلاح.. ألخ، وقد يتم الجمع بين مدخلين أو أكثر، إلا أن غالبية المربين المعاصرين يؤمنون بدمج هذه المداخل في مدخل شمولي واحد يجمعها بلا استثناء، ومن ثم يتم تكييف البرامج المنفذة مع كل دولة حسب احتياجاتها وظروفها وسياقها العام، فيتم التركيز على بعض الموضوعات وجعلها موضوعات محورية في برنامج دولة ما، في حين يتم معالجة البعض الآخر كموضوعات مساعدة أو فرعية، الأمر الذي قد يختلف تماماً عند التطبيق في سياق دولة أخرى.

     فعلى سبيل المثال، يكون مدخل “التربية متعددة الثقافات” هو الأنسب في مجتمع يمر بصراع سببه التنوع العرقي، ويكون مدخل “التربية على حقوق الإنسان” أكثر ملائمة لمجتمع تُثار فيه قضايا العدالة الاجتماعية والاقتصادية، كما تشير الممارسات الفعلية لتطبيقات متنوعة في هذا المجال، فقد تبنت الولايات المتحدة الامريكية بعض مشروعات التربية من أجل السلام لمواجهة العنف المدرسي، وتعزيز بيئة آمنة للطلاب، بينما تبنت جنوب أفريقيا المدخل القائم على المجتمع الديمقراطي.

     أما اليابان فقد تبنت مدخل لتعريف الأجيال بمشكلات الحرب والدمار، وفي ايرلندا الشمالية انصب الاهتمام على مدخل التفاهم المتبادل بين البروتستانت والكاثوليك، وفي الدول النامية ما زال التركيز منصب على معالجة قضايا الفقر وحقوق الإنسان في إطار برامج التربية من أجل السلام ومشروعاتها المختلفة (محمد، أمل احمد، 2017).

     ومن الجدير بالذكر، أن أنسنة التربية على ثقافة السلام تقتضي اهتمام المناهج الدراسية، ومضامين الكتب المدرسية حول العالم بالتركيز على المجالات التي لخصها تقرير التربية من أجل السلام، الذي تم إعداده برعاية جامعة السلام في كوستاريكا، وهي: (اليونسكو، 1991، 22)

  • حقوق الإنسان، وما يندرج تحتها من حقوق الطفل والمرأة، والحقوق المدنية والسياسية، وحقوق كبار السن وغيرها.
  • التحول نحو اللاعنف، وتسوية الصراعات وإدارتها، والتعليم من أجل العدالة الاجتماعية، ومحاربة الفقر.
  • التعليم متعدد الثقافات، كالتحيز الثقافي والعنصري، والصور النمطية، والتمييز، ومعالجة مشاكل اللغة والعرق.
  • تعليم السلام الشخصي والداخلي، والصفات الشخصية، كالثقة بالنفس، والرحمة والوفاء، ومحبة الآخر المختلف.
  • التنمية المستدامة، كقضايا الصحة والأمن البشري، والأضرار البيئية، وتنمية مهارات الحكم والقيادة من خلال الديمقراطية، والمواطنة والتربية المدنية، والعمليات الانتخابية والمشاركة، وغير ذلك مما تتطلبه عملية أنسنة التربية على ثقافة السلام.

     أختم هذا المقال بالقول: لقد أصبح التعليم من أجل نشر ثقافة السلام والتسامح ومنع العنف ضرورة حتمية في الوقت الراهن، وبخاصة في الدول العربية التي تعصف بها متغيرات كبيرة ومتسارعة، فهي بحاجة ماسة لتحقيق السلام والقضاء على الصراعات، ويجب أن ندرك جميعاً أن سوريا التي انهكتها الحرب منذ عشر سنوات تحتاج اليوم إلى تعليم ينشر ثقافة السلام والتعايش في فضاءات المجتمع المختلفة، وهذا يستلزم تضمين مفاهيم السلام والتسامح ونبذ العنف والتعايش المجتمعي في البرامج التعليمية بالمراحل المختلفة. وإن مثل هذا التعليم هو الكفيل بتعزيز ثقافة السلام لدى الشباب بالجامعات وطلاب المدارس، فهؤلاء يشكلون الشريحة الأكبر والأوسع انتشاراً، والأكثر تأثيراً في مستقبل سوريا، ولا بد من التوجه إليهم بتعليم ينبذ الحرب ويعزز ثقافة السلام.

مراجع المقال

– رسل، برتراند (د. ت) آمال جديدة في عالم متغير، ترجمة عبد الكريم احمد، دار سعد للطباعة والنشر والإعلان، القاهرة.

– كانط، إيمانويل (1952) مشروع للسلام الدائم، ترجمة عثمان أمين، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.

– فرايري، باولو (1980) تعليم المقهورين، ترجمة نور عوض، دار القلم للنشر والتوزيع، بيروت.

محمد، أمل احمد (2017) برامج التربية من أجل السلام بالتعليم قبل الجامعي، متاح على الموقع الالكتروني: https://www.academia.edu  

– اليونسكو (1991) التفاهم الدولي في المدرسة، حلقة عمل عن شبكة المدارس المنتسبة، رسالة اليونسكو، العدد (61) يونيو/حزيران.

وطفة، علي (2009). النزعة الإنسانية في التربية: أنسنة التربية وتربية الإنسان، متاح على الموقع الالكتروني https://stst.yoo7.com/t826-topic

 

مقالات أخرى

الفروق الثقافية في التعليم:

قراءة معرفيّة في سوسيولوجيا التّجربة المدرسيّة:

سيميائية التحول الجندري في الرواية التّونسية  بين البحث عن الهوية وتخريبها:

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد