سؤال الحداثة والتحديث في التعليم العربي – بقلم الدكتور صابر جيدوري

     تعرض التعليم العربي في العقود الماضية إلى سلسلة من التغييرات المتنوعة والمتزامنة مع الأحداث التي شهدها العالم وتطوراتها، حيث بدا ذلك بوضوح بما اتصف به النصف الثاني من القرن الماضي، وما نعاصره اليوم من تسارع في تغيير أشكال التعليم وأنماطه وصوره وملامحه، وتحول عناصره وأدواته المعروفة من ـالكتاب الورقي، والقلم واللوح التقليدي، والحفظ والفهم، والاختبارات، والتعلم المباشر عبر المعلم، والشهادة الوطنية، إلى الكتاب أو الحقيبة الالكترونية، والقلم المغناطيسي، واللوح التفاعلي أو ما يعرف باللوح الذكي، والتعليم الإلكتروني أو التعليم عن بعد، والتواصل أونلايـن ONLIN، والتعلم الذاتي، والاختبارات العالمية كـ TIMSS  وPISA، والتدقيق الإلكتروني المباشر، والشهادات الدولية، وغير ذلك من المصطلحات والعناوين التي تزخر بها لغة التعليم المعاصرة، ولا شك أن ذلك كله يشكل انعكاساً للثورات العلمية والمعلوماتية والتقنية التي بُنيت عليها العولمة واقتصاد المعرفة.

    وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك فعلاً، يصبح من حقنا أن نسأل عن توصيف ما نحن بصدده من تغيرات وتحولات في وسائل التعليم وأدواته، وهل ما يحصل هو مجرد حداثة أم تحديث في التعليم العربي؟ لا شك أن الواقع يظهر يومياً التداخل الكبير بين مفهومي الحداثة والتحديث، فغالباً ما يجري استخدام مفهوم “التحديث” للدلالة على “الحداثة”، وعلى خلاف ذلك، كثيراً ما يستخدم مفهوم “الحداثة” للإشارة إلى “التحديث”، وهذا ما نلحظه بوضوح في رغبة الكثير من المعلمين في إدخال الكمبيوتر في مقرراتهم، وفي التوجه لتعميم تطبيقات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في العمل التعليمي، ولكن هل هذا يحقق الحداثة أم التحديث؟

     للإجابة عن هذا السؤال لا بد من التأكيد أن مفهوم “الحداثة”Modernity  يتمايز عن مفهوم “التحديث Modernization، فـ “الحداثة” تُعبّر عن موقف عقلي تجاه مسألة المعرفة، وإزاء المناهج التي يستخدمها العقل في التوصل إلى معرفة تفاعلية ملموسة للواقع. أما “التحديث” فيقتصر على استجلاب التقنيات الجديدة، بحيث توظف في مجال التربية أو غيرها بغرض إحداث تغيير عقلي أو ذهني محدود للمتعلم، وهي بذلك عملية لا تعدو كونها مجرد إدخال للمخترعات الحديثة بالمعنى الزمني للكلمة، بهدف إجراء تحديث شكلي أو خارجي لا يرافقه أي تغير جذري مقصود في المناهج الدراسية ومخرجاتها (سبيلا و بنعبد العال، 1996).

     ومن ثم فإن جوهر الحداثة يمكن إدراكه كونها طاقة مجددة متحركة تمثل الماضي والحاضر وتعيد إنتاجهما بروح مستقبلية جديدة، وهي تمثل نواة تطور العملية التعليمية في المجتمع العربي، والتي من دونها يظل المجتمع على حافة التطور الحقيقي، إذ يشمل مفهوم الحداثة مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية التي تؤثر كثيراً في نجاح التعليم، إلا أنه يأخذ اليوم مكانه في حقل المفاهيم الغامضة في مجال التعليم، ويشتد هذا الغموض لدى العاملين في مجال تكنولوجيا التعليم، ويأخذ مداه ليطرح نفسه إشكالية فكرية مهمة تتطلب بذل مزيد من الجهود العلمية لتحديد مضامينه وتركيباته وحدوده.

     إن ما نأخذ به في العديد من مؤسساتنا التعليمية، إذا ما قورن على سبيل المثال مع المؤسسات التعليمية في فرنسا، لا يعني إلا مظاهر الحداثة وقشورها، وليس اللحظة الواعية نحو اندفاعة تعليمية قادرة على إحداث تحولات عميقة في البنية الاجتماعية والبنائية للمجتمع، وهي تتجلى اليوم بالاستيراد المنظم لشكليات الحداثة من أجهزة وبرامج تعليمية دون دراسة لواقع الجسم التربوي واحتياجاته الفعلية.

     إن الواقع يؤكد أن المؤسسات التعليمية في العالم العربي ما زالت تأخذ طابع المحاكاة الجوفاء لمظاهر الحداثة، وهذه المظاهر لا تنم عن حالة حضارية أو حداثية تنبثق من صميم المجتمع وتتكون في رحمه الحضاري، وهو ما أدى وما يزال إلى مزيد من التردي في مخرجات العملية التعليمية. من هنا يمكن القول: قد يتناقض واقعنا التعليمي في كثير من جوانبه مع جوهر الحداثة، فنحن ما زلنا بعيدين عن امتلاك الحداثة الفعلية، والروح العلمية الكامنة في أصلها، وفي القدرة على إنتاجها وتصنيعها أو تعديلها، وهذا ما يجعلنا غير قادرين على الانتقال من مظاهر الحداثة إلى جوهرها، ومن ثم إلى عملية الإبداع والابتكار في مجال التعليم والتعلم.

     فإذا أردنا العمل لكي تأخذ الحداثة موقعها الأساسي في بنية التعليم العربي، وأن تظهر تجلياتها من خلال المنجزات المادية والتطورات العلمية والتكنولوجية، وفي السلوك والشعور والقيم الإنسانية، لا بد أولاَ من تحديث العقل العربي، وتخليصه من الأوهام والخرافات والتفكير الأسطوري، والدفع به نحو التجديد في التعليم والإبداع فيه، دون الحاجة للتحديث فقط بإدخال أعمى للكمبيوتر والتكنولوجيات التربوية في كل مقرراتنا، فحيث نجد إبداعا نجد عملاً حداثياً، وبهذا المعنى، فإن الحداثة ظاهرة تاريخية إنسانية عامة نجدها في مختلف الثقافات، وتتحدد الحداثة في هذا المعنى بعلاقتها التناقضية مع ما يسمى بالتقليد، فالحداثة خروج عن التقاليد لحالة من التجديد. ولذا فالحداثة في التعليم تعني البحث المستمر والسيطرة على مدخلات ومخرجات العملية التعليمية، والتطوير المستمر من أجل الارتقاء الدائم بالمتعلم.

     من هنا، “فإن أي مشروع تربوي تنويري لا بد أن يكون محور اهتمامه هو التحرر عن طريق تنمية الأفراد المستقلين والعقلانيين في مجتمع ديمقراطي يؤمن بالحوار، ويحمي الإنسان من القهر الذي تمارسه الأفكار البيروقراطية التي تربط بشكل حاسم بين الوسائل والغايات في التنظيم الاجتماعي”. (باركر، 2007، 95). وفي هذا السياق يؤكد الدكتور “علي وطفة” على أهمية الوعي الإنساني في فكرة الحداثة، وضرورة الحضور الثقافي لهذا الوعي في مختلف مجالات الحياة حضوراً يؤكد تنامي العقلانية والتنوير والقدرة على امتلاك اللحظة الذاتية في الوعي الاجتماعي”. (وطفة، 2019).

     وعليه، فإن الحداثة التي يُفترض أن ينشدها التعليم العربي تُحتم رؤية جديدة لإعادة توظيف العاملين في العملية التعليمية بطريقة منهجية عقلية مرهونة بزمانها ومكانها، وهي تدور في فلك الإبداع الذي هو نقيض الإتباع، كما تعني العقل الذي هو نقيض النقل، كما إنها رفض لجمود العقل والانغلاق في تقبل الجديد والقبول بمبادئ الانفتاح والتفاعل مع الثقافات الإنسانية الأخرى، وإرساء للقيم الإنسانية الأصيلة التي تضع الإنسان في صدارة غاياتها.

     وهذا مطلب ليس غريباً عن ثقافتنا العربية والإسلامية، والمتأمل في قوله تعالى: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم: آية: 1) سوف يجد أن الخروج من الظلمات إلى النور حاجة ضرورية لحياة الإنسان، ولا اعتقد أن إنسانا واحداً يأبى أن يخرج من الظلمات ويصير في النور. السؤال هنا: هل تحمل هذه الآية أي معنى من معاني الحداثة في التعليم؟

     بكل تأكيد تحمل الكثير من معاني الحداثة، لأنه عندما يأخذ التعليم قيمة الإبداع على محمل الجد ويهجر تربية الذاكرة عندها يستطيع إخراج الأجيال من الظلام إلى النور، وعندما يعتمد الحوار أسلوباً ويرفض التلقين، وعندما يعزز ثقافة الديمقراطية ويرفض التسلط على عقول التلاميذ يستطيع إخراج التلاميذ من العتمة إلى النور والحداثة، وكذلك عندما يعتمد على التربية العلمية الناقدة ويهجر أسلوب النقل والتسليم يكون قادراً على الدخول بالأجيال إلى عصر الحداثة من أوسع أبوابها. 

     وفي هذا السياق الحداثي يجب التأكيد على تكوين الفكر الناقد، ورفض النزعة الأمعية لأنها سمة الحمقى والمغفلين، والإنسان الحر لا يكون أحمقاً أو مغفلاً. كما إن الإمعية دليل على تغلغل سمات الخنوع والاستكانة والذلة والهوان والتراجع والتقهقر، وهي ليست من سمات الحرية، ولا من سمات الحداثة.

وعليه، فإن على التعليم العربي أن يُحجم عن اغتيال العقول والنفوس، وتعبئتها بما تشاء السُلط الحاكمة من أفكار واتجاهات وقيم دون أن تعي هذه العقول ذلك وعياً حراً. أما وسائل تكوين هذا الفكر النقدي فكثيرة، يمكن أن نذكر منها: “تدريب النشء على أساليب الحكم الصحيح والمحاكمة السليمة، واهتمام مناهج التعليم وطرائقه بتدريب الطلاب على مناهج اكتشاف المعرفة والحقائق العلمية، بدل أن نقدم لهم المعرفة جاهزة” (عبد الدائم، 1991).

من هنا نفهم أيضا ما ذهب إليه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وقد عبر خير تعبير عن مفهوم الحداثة في التعليم، بقوله: “علموا أولادكم على غير شاكلتكم؛ فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم”. حيث يترتب على ذلك خلق عقلية تؤمن بالتغيير، وما يتطلبه هذا التغيير من وسائل، لأن خلق مثل هذه العقلية هو المدخل الأساس إلى الحداثة في ميدان التعليم وميادين أخرى، كما هو المدخل إلى تكوين المتعلم، وتنمية الدافع الذاتي للتعلم لديه، وتحويله إلى باحث نشط عن المعلومات وليس متلقياً لها.

 مراجع المقال

– سبيلا، محمد، وبنعبد العال، عبد السلام (1996) الحداثة: دفاتر فلسفية، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر.

– عبد الدائم، عبد الله (1991). نحو فلسفة تربوية عربية: الفلسفة التربوية ومستقبل الوطن العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية.

– باركر، ستوارت (2007) التربية في عالم ما بعد الحداثة، ترجمة سامي نصار، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية.

– وطفة، علي (2019) مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة، متاح على موقع مركز نقد وتنوير الالكتروني.

 

مقالات أخرى

أيّ نموذج إيتيقي للإنسانيّة المعاصرة

معطّلات الفهم في الشعر العربي المعاصر

شعريّة اللّباس

2 تعليقات

فداء أبو تركي 16 يوليو، 2021 - 5:49 م
أبدعت ثم أبدعت أستاذنا الفاضل
صابر جيدوري 16 يوليو، 2021 - 7:10 م
الزميلة الفاضلة دكتورة فداء ابو تركي شكرا لك دكتورتنا العزيزة.. حياك الله.
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد