أدب السخرية السياسية بين “باسم يوسف” و”جو شو” ” قراءة نقدية”

السخرية السياسية

1-تقديم

 تعد السخرية سلاحا ذا حدين، فهي دائما تميل إلى استخدام الكلمة الغاضبة والرافضة للأوضاع والسلوكيات، وعلى هذا أصبح أسلوباً شائعاً لدى العديد من الكتاب يتبعونه بطريقة غير مباشرة في النقد والتطوير والتغيير، إما في الجانب الشخصي أو في جوانب الحياة المختلفة، لأتها تهدف إلى تعرية الواقع وكشف الزيف الموجود فيه من خلال أساليب ّ مختلفة، تتبعها في بث رسائل مشفرة إلى المتلقي لكي يفك رموزها ويقوم بعملية التأويل، وإعادة النظر في هذه الحياة وتصحيح، ما يجب أن يصحح بلسان ساخر متهكم يترك أثراً قويا وعميقاً في القارئ، والكاتب الساخر له نظرة عميقة للواقع وقدرة على نقده وكشف عيوبه، فهو إنسان ثائر على المجتمع لا يرضى بالواقع، فهو في سعي دائم لتغييره يستخدم السخرية سالحا لمواجهة التناقضات الموجودة في المجتمع (1).

 وللسخرية السياسية مجال له خصوصيته في حقلي الرأي والتعبير، فحين تضيق مساحات الرأي ويعتمد النظام على الصوت الواحد فلا صوت يعلو فوق صوت السلطة؛ يلجأ الأفراد إلى مجال السخرية السياسية ليكونوا هم الفاعلين الرئيسيين فيه، يخلقون لأنفسهم أدوات شديدة البلاغة في الإشارة إلى مواطن قصور الممارسات السياسية للسلطة معتمدين في نقدهم على الهزل والرمزية، فالسخرية السياسية لها القدرة على اختصار خطابات النقد الطويلة من خلال نكتة موجزة تنتشر بين الناس، أو إثارة قضايا حيوية برسـمة ساخرة، كما يمكنها التأثير على الرأي العام عبر أغنية متداولة بين التجمعات غير الرسمية (2).

 وقد شهدت السخرية السياسية تجددا مستمرا عبر تاريخ المجتمع المصري، ففي كل أدوات وفنون جديدة للمعارضة السياسية والإشارة إلى الفساد السياسي والبطش الاجتماعي بشكل هزلي، يتضح هذا التنوع والتطور عبر التراث التاريخي والموروثات الثقافية على جدران الأبنية التاريخية وبين أوراق الروايات الخيالية، وعلى خشبات المسارح وشاشات السينما وموجات الراديو، استطاعت تلك الفنون أن تنقل لنا العلاقة الصراعيـة بيـن السخرية السياسية والظواهر الاستبدادية في كل عصر، حتى وصلت السخرية السياسية إلى مرحلة متطورة وأصبحت تستخدم الفضاء الخارجي والمواقع الافتراضية لتنال من تلك النظم.

 ولذلك عندما يعيش الواقع المعاش مفتقداً لأبسط أنواع التفكير العقلي، وأبسط أنواع المنطق، هنا يصاب المرء بالدوار، ويعتريه الكثير من الحالات النفسية الغير إيجابية، منها الاكتئاب، والحيرة، والضيق.. ودخول الذات لتلك الحالة تعني أنها أصبحت ذات سلبية، بل قد تصل أن تكون مدمرة، سواء لذاتها وللمحيط الذي تعيش فيه، وفي تلك الحالة الآسنة والمقبضة تجيء السخرية والفكاهة بمثابة تخفيف من تلك الحالة، وهي محاولة للتنفيس لما يعتمل داخل الذات (3).

 إن السخرية من الواقع المرير يجعل الذات تعيد ترتيب نفسها، من خلال البحث عن إيجاد مساحة من التخفيف والتلطيف من الواقع، بحيث تتمكن الذات في محالة لتجعل الحياة والواقع ممكن، وربما قد تتغير الأحوال.. ومع انعدام تلك الفكاهة والسخرية لا تجد الذات إلا التدمير لنفسها أو للمحيط الذي تعيش فيه.

2- باسم يوسف وكوميديا الموقف:

 لم يسبق أن شهد العالم العربي برنامجا لقي كل هذا الجدل كما هو الحال مع “برنامج” الإعلامي المصري “باسم يوسف”، الأمر الذي جعل من هذا البرنامج يمثل لحظة إعلامية استثنائية في تاريخ السخرية السياسي في مصر زمن ثورات الربيع العربي؛ حيث لم يستثني باسم يوسف أحدا من تلك السخرية، والتي اعتبرها “سلاحا ضد ثقافة التكفير والتخوين وصناعة الفراعنة السائدة في مصر (4).

 ومع ذلك فالرجل يعتمد في أسلوبه على السخرية اللاذعة بأدب جم، وبكوميديا أقرب إلى الكوميديا الراقية المعروفة فنياً باسم ” كوميديا الموقف “، فالرجل يبرز التناقضات المتعددة في المواقف وتصريحات الرئيس المصري “محمد مرسي” مع بعض التعليقات الظريفة الخفيفة التي تتسم بخفة ظل الإنسان المصري البسيط، مما يدخل البهجة والفرحة في قلوب المصريين، وفي نفس الوقت تشكل تعليقاته نقداً سياسياً عميقاً وقوياً ولاذعاً يكشف فساد وتخريب حكم جماعة الإخوان المسلمين من “محمد مرسي” إلي أصغر مسؤوليه (5).

 وربما تكون القيمة الحقيقية في النجاح الساحق لبرنامج “باسم يوسف” الأسبوعي، الذي أصبح موعداً مع السعادة في أمرين هما: الأول: إنه نوع جديد من النقد السياسي الهادف البناء الذي يكشف ويجرح ولا يسيل الدماء.. الثاني: يسد نقصاً هائلاً في أداء الإعلام المصري، وينجح في الوصول إلي أوسع الجماهير الشعبية بقناعة وأسلوب سهل يدخل القلوب قبل العقول، وهنا أضحي باسم يوسف يمثل في نظر الكثير من الشعب المصري يمثل ظاهرة جديدة غير مسبوقة في الأداء التلفزيوني والإعلامي، أو علي الأقل ظاهرة لم يعرفها الإعلام المصري من قبل، ظاهرة لا تتجسد في النجاح الجماهيري ونسبة المشاهدة المرتفعة فقط، وإنما تتجسد في درجة التجاوب الجماهيري العالية جداً مع باسم يوسف، وبشكل أدخله بسبب انتقاداته اللاذعة لجماعة الإخوان المسلمين في قلوب الملايين من المصريين البسطاء (6).

 وباسم يوسف (من مواليد عام 1974)، حيث كان في حقيقة الأمر طبيب جراح اختار أن يترك مهنة الطب وأن يعلق بسخرية عن الوضع السياسي في مصر بعد ثورة 2011 عبر اليوتيوب وبإمكانيات بسيطة؛ مستخدماً في سبيل ذلك مجرد طاولة وكرسي وكاميرا واحدة ولوحة جدارية تضم صوراً التقطها الهواة من ميدان التحرير، قبل أن تعرض عليه قناة أون تي في إذاعة البرنامج على شاشتها، لتقديم ذات البرنامج الذي يحاكي في برنامجه التلفزيوني البرنامج الأمريكي “ذا دايلي شو” الذي يقدمه الناقد الساخر جون ستيوارت (7).

 ثم سرعان ما لقيت هذه الفيديوهات نجاحا جماهيريا، لتطلب منه قناة “الأون تي في” المصرية أن يقدم برنامجا ساخرا خاصا به تحت عنوان “البرنامج”، وقد تحول العرض الأسبوعي لبرنامج ” البرنامج” إلى موعد ينتظره الملايين في العالم العربي، بل وأصبحت المقاهي تحرص على عرضه وكأنه مباراة لكرة القدم، إذ يجتمع الناس لمشاهدته (8).

 وهذا الأمر يعد سابقة في العالم العربي بالنسبة لبرنامج تلفزيوني، فهو أول برنامج سياسي هزلي –ساخر في مصر، وكان له ذلك الصدى المؤثر بين الناس، والاهتمام الواضح في الأوساط الإعلامية والسياسية محلياً، وعربياً، وعالمياً، وللبرنامج فكر سياسي واضح وثابت، يقوم على جمع الأخبار السياسية الأسبوعية وعرضها بطريقة نقدية –هزلية في حلقة واحدة (9).

 لقد بدأ باسم يوسف في تقديم البرنامج الأول مرة على قناة الأون تي في” المصرية، ثم انتقل إلى مرحلة جديدة على قناة “السي بي سي” في 23 نوفمبر 2012، وكان البرنامج أيضا يمثل حلقة أسبوعية كل جمعة (تكون مسجل مع الجمهور قبلها بيومين) وبدأ التنوع في الفقرات يظهر بشدة هذا الموسم حيث كان يبدأ بتعليقات باسم الساخرة عن الأحداث الجارية في مصر قبل أن ينتقل في النصف الآخر لفقرة ترفيهية واستضافة لفنانين ومشاهير (10).

 وهنا حظي “باسم يوسف” بمسرح كبير خاص به مع جمهور حقيقي يتفاعل معه. هذه المرحلة الجديدة تصادفت أيضاً مع مرحلة حكم الإخوان المسلمين في مصر، الذين وجه لهم وللرئيس” محمد مرسي” نقدا ساخراً لاذعاً؛ ومن سوء حظ الرئيس المصري “محمد مرسي”، هو وجود معلق كوميدي بحجم “الظاهرة” باسم يوسف. الكثيرون انتقدوا مرسي من صحافيين ومذيعين وحتى دعاة وفنانين، ولكن نقد باسم يوسف موجع ومؤلم جداً، وذلك في كونه يبالغ في النقد الشخصي الحاد جداً الذي يصل إلى الرغبة في تدمير الشخصيات. نرى ذلك مثلاً في نقده أسماء صحفية وعامة بشكل مبالغ فيه. رأينا ذلك مع “عماد الدين أديب”، وكذلك مع المستشار “مرتضى منصور”. من الطبيعي أن يتنقد ويسخر من هذين الاسمين أو غيرهما، ولكن المبالغة في السخرية من الأشخاص، مسألة تطرب لها الجماهير، ولكنها ستنحرف بالبرنامج ليتحول إلى ردود شخصية مطولة ومبارزات استعراضية وأحقاد (11).

 وقد استقطب هذا البرنامج الكوميدي عدداً كبيرا من المتابعين، الأمر الذي جعل البرنامج يحقق نسب مشاهدة تفوق برامج أخرى كثيرة وأن نسبة مشاهدته زادت كثيراً بعد عزل الرئيس الإخواني” محمد مرسي”، حيث بلغت نسبة المشاهدة 33 نقطة في وقت كان يحقق برنامج “ذا فويس” 11 نقطة فقط (12).

 كما حظي باسم يوسف بشهرة كبيرة محليًا وعالميًا فاهتم به الإعلام الأوروبي والأمريكي ووصفه العديد بأكثر المذيعين المصريين جرأة، كما استضافه المذيع الشهير جون ستيوارت وأثنى عليه، كما رشحه اليوتيوب ليكون أفضل برنامج على اليوتيوب لعام 2013، كما كرمه اليوتيوب بأي حال لتجاوزه؛ وربما كان أكثر نجاح له هو اختياره ضمن قائمة أفضل 100 شخصية مؤثرة في العالم من قبل مجلة التايم الأمريكية (13).

 لقد كان الشعب المصري بكل طوائفه ينتظر الإعلامي الساخر باسم يوسف مطلع كل أسبوع.. كي يستمتع بأداء راق ونقد بناء في شتى المجالات يهجو فيها المسئولين ويهاجم فيها كبار الدولة.. واستطاع يوسف أن يقدم للشعب المصري والعالم العربي أقوى برنامج شهدته الفضائيات في الحقبة الأخيرة.. واستطاع برنامج البرنامج أن يحقق أعلى نسبة مشاهدة وأكثر وقت تجارى للدعاية والإعلان.. لدرجة أن فريق الإعداد كان يرفض الإعلانات لشركات كبيرة بملايين لضيق الوقت.. وكان المبلغ الذي يتقاضاه باسم يفوق الخيال لدرجة قتال بين مسئولي القنوات الفضائية عليه بمجرد الموافقة على العمل معهم بشيك مفتوح.. فكان له حظ كبير من حب الناس والتأثير عليهم والشهرة التي فاقت الحدود.. وعمل يوسف على استقطاب القاعدة من الشعب المصري؛ وذلك حسب قول سامي خير الله (14).

 لقد فرح الكثيرين بباسم يوسف عندما كان كرباجا على جماعة الإخوان المسلمين، وسخر منهم وفضح أكاذيبهم، ولا أنسى قفشاته المدمرة وأشهرها «جبنة نستو يا معفنين»، و«جاز وكحول دونت ميكس».. ولكن باسم يوسف أغضب الكثيرون منه عندما بدأ يتطاول على الرئيس عبد الفتاح والجيش المصري، في وقت كانت فيه البلاد على حافة الخطر الأكبر، ولا تحتمل السخافة ولا السماجة، ولا المواقف المزدوجة والمثيرة للجدل، وبدا واضحا أنه يوظف سخريته لحسابه الخاص، ولا يفرق بين عصابة احتلت مصر وأرادت محو هويتها، وبين جيش وطني تعلقت به القلوب لتخليصها واسترداد مكانتها (15).

 ومن هنا وجدنا الكثيرين ممن تعاطفوا معه في الماضي أخذوا يهاجمونه بشراسة وضراوة، فوجدنا الأستاذة “أماني ابراهيم”، حيث تقول:” لقد دأب هذا الـ “باسم يوسف” على تقديم معلومات كاذبة ومضللة للرأي العام وهدفه الوحيد هو نشر الفوضى والاضطرابات في البلاد ولن ينجح أبداً بإذن الله تعالي في هذه المحاولات القذرة لأن الشعب المصري يعلم تماماً أن هذا الشخص أداة في يد أجهزة مخابراتية أجنبية ويتقاضى مئات الآلاف من الدولارات شهرياً لتنفيذ مخططاتها وكان هذا العميل قد وجه عبارات كلها سفالة وقذارة إلى جيشنا العظيم.. وهي عبارات لا يتفوه بها سوي إنسان سافل وعديم التربية” (16).

 كما وجدنا الأستاذ “حسين الزناتى “، حيث يقول:”… إن الباعث الوطني من وجهة نظرنا لم يكن وحده الذي يحركه في انتقاد باسم يوسف لأحوالنا بهدف اصلاحه، بل كان دائماً ما يبث «السم في العسل» وأن كثيرين منا بلع هذا السم، بدعوى الأفكار الثورية، بينما هو يضرب في عصب مؤسساتنا الوطنية، وفى مقدمتها جيشنا العظيم الذي وصفه في تصريحات دنيئة له بـ “الميليشيات المسلحة”. إن من يقول مثل هذه التصريحات ضد جيش بلاده، ويسمح بوضع علم اسرائيل بدلا من فلسطين المحتلة ببرنامجه على خريطة الوطن العربي، الذي يعرض في أمريكا، لا نتصور أن يبقى لديه مريدون إلا إذا كانوا من نفس نوعه!” (17).

 ونفس الشيء وجدنا الأستاذ “علا السعدنى” يقول: وأظن أنه لم يعد خافيا على أحد أن هناك من الإعلاميين الذين يعملون معهم سرا ولكن الفرق الوحيد بينهم وبين ” باسم يوسف ” وشركاه أنهم يضربون من تحت الطرابيزة لكي يبدو ظاهرهم فيه الرحمة والحب للجيش والدولة بينما باطنهم به كل العذاب بما يدسوه لنا من سم في معسول كلامهم الذي يضحكون به علينا كل ليلة من خلال أمسياتهم الساهرة! والغريب أنه لو حدث ودافعنا نحن عن تلك المؤسسة الوطنية وأن تدخلها يأتي دائما لصالحنا، فإذا الدنيا تقوم عند هؤلاء ولا تقعد ونتهم بالتطبيل والتهليل وبأننا عبيد للبلادة، بينما هم المسموح لهم فقط بالسب والشتيمة وإهانة الدولة بكل مؤسساتها بما فيها الجيش أيضا تحت زعم الحرية والديمقراطية” (18).

 لا شك في أن باسم مرسي كان ظاهرة جيدة في السخرية السوداء التي استخدمت بشكل حرفي ضد جماعة الإخوان المسلمين لإخراجهم من المشهد السياسي المصري والعالمي، ولكن عندما بدأ بظهر على مقدرات الدولة المصرية بالتشويه والتنكيل بمؤسسات الدولة.. وفقا لأجندة أمريكية خالصة.. تركه مشاهدوه وقادوا حملة ضده لعدم ظهوره على شاشات الفضائيات ولاقى هجوما لم يتوقعه من قبل، وهذا ما سيستفيد منه عزمي بشارة عندما كان يحارب جماعة الإخوان المسلمين الموالين لوضاح خنفر والمنافسين له في التمويل المالي القطري وذلك باستنساخ سيناريو باسم يوسف من خلال برنامج جو شو الذي يعده من قناة العربي يوسف حسين (19).

3-جو شو والتنكيت السياسي:

 أما إذا انتقلنا إلي يوسف حسين والمدعو باسم جو شو، فنجد أن أدب السخرية لديه أخذ مسار مختلف عن باسم يوسف، والذي المسار هو ما نطلق عليه ” التنكيت السياسي” ؛ فكثيرا ما يقال بأن عالم النكتة ملئ بالمواقف الساخرة والناقدة والمضحكة، والتي تسري علي ألسنة الناس، كما تسري النار في الهشيم، والنكتة تعبير عن موقف هزلي بأسلوب ساخر يحيي بروح نقدية، ونجاح النكتة، لابد لها أن تكون بأسلوب مقتضب موجز جداً، وساخر يحمل معني كبيراً غير مباشر في باطنه، وكلما تكون مثيرة للضحك فهي أقوي وقعاً وتأثيراً وبالتالي نجاحاً (20).

 والنكتة في حد ذاتها معالجة لوضع، أو حدث غير مرض عنه، وحياة النكتة تطرقت لمواقف عدة في الحياة وجوانيها بأساليب مختلفة، فأخذت الشك الخطابي أو الحركي أو المكتوب أو التحريري أو رسوم كاريكاتورية تعبر عن هذه المواقف (21).

 وتعد النكتة خطاباً ناقداً يختزن حمولات حجاجية، مبنية علي مناقضة الآراء والأفكار، والوقائع، والاحتجاج عليها، هذا الاحتجاج يتخذ صوراً تعبيرية عدة تتيحها الوسائل والوسائط المستعملة في توصيله، وإثارة ردود الأفعال ؛ التي تستجيب – عادة – باستعمال السياق والصورة والشكل التواصلي، ولا تعتمد التواصلية بمختلف أشكالها وأنواعها ومضامينها علي الفكرة تحديداً ؛ بقدر ما تقع بكل ثقلها علي الوسيط، ومفهوم الوسيط هنا يتخذ بعده الألي الوسائلي، كما يظهر بعده الصيغي الذي يتلبس رداءً ثقافياً دارجاً، ومتداولاً يعطي هذه التواصلية بعدها المأمول، وقد يطمح بها في جنوح بعيد إلي أبعاد أخري، تتنامي داخل المحض الثقافي للفكرة، وقد يفيض لتتكتل في وسائط وأفكار أخري تتجاوز المدار الأولي إلي مدارات أحري، ويمكن لهذا الكلام أن يحاكي في شيء من الحقيقة المفهوم القريب والبعيد للنكتة، والنكتة المتعددة النابعة من عمق المعايشة، الرفض، الاستنكار، القبول، اللاموقف الذي يشكل موقفاً بحد ذاته في تجلية صاحب النكتة (22).

 هذا النوع هو ما كان يبغيه الدكتور “عزمي بشارة” (رئيس قناة العربي والتي تُبث من إنجلترا)، عندما أختار يوسف حسين ليجسد له برنامج “جو شو”، للدفاع عن فكر جماعة الإخوان المسلمين الذين سقط مشروعه عقب أحداث ثورة الثلاثين من يونيه 2013، هذا من ناحية، واستخدامه كمخلب قط ضدهم في حالة انقلابهم على مشروع عزمي إسلام الذي يزعم الدعوة للقومية العربية (المزيفة).

 وبرنامج “جو شو” من البرامج التي ما تزال مستمرة حتى الآن، وهو يذاع في العاشرة مساءً بتوقيت السعودية في كل خميس علي قناة العربي؛ وجو شو وسابقًا “جو تيوب”، هو كما قلنا برنامج تلفزيوني سياسي كوميدي ساخر يتألف من فقرات تتناول الأوضاع السياسية في العالم العربي، ويسخر من الأوضاع السياسية في مصر بعد ثورة الثلاثين من يونيه عام 2013.

 وفي عام 2016، انتقل يوسف حسين من برنامجه على منصة يوتيوب ليقدم برنامجه باسم جو شو عبر شبكة التلفزيون العربي الذي يبث من لندن، بعنوان “جو شو” بداية من شهر رمضان 1438 هـ وتعرض حلقاته أيضًا على قناة سوريا؛ وجو تيوب، أو جو شو، أو يوسف حسين، وأبو ليلي ونعنيعة.. وأسماء كثيرة لشخص واحد، وهو برنامج أسبوعي، يتحدث عن الأوضاع الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية؛ وبخاصة في مصر.

 ويوسف حسين ظاهرة إعلامية عُرفت وعرفها الملايين في الوطن العربي من خلال اليوتيوب وقناة سوريا وقناة العربي، بجرأته وخفة دمه.. ظهر في فترة كانت موجودة بكثرة البرامج الساخرة التي تزعم أنها تنقد الأوضاع السياسية في زمن الربيع العربي؛ وخاصة فيما يتعلق بالقضايا السياسية المستجدة من خلال الكوميديا السوداء وهو ليس له حدود لا في النقد ولا في السخرية.. والعديد من الإعلاميين شبهوه بالإعلامي باسم يوسف المزيف والمخادع، لكنه في فترة قصيرة حاول أن يكون له بصمة خاصة به من خلال الفبربيكات الإعلامية، وصارت لديه قاعدة جماهيرية كبيرة من الشباب والشيوخ (المغرر بهم والمؤهلين للاستماع والإصغاء لأي شيء يقدح في النظام المصري الحالي).

 وقد شكل يوسف حسين حالة من التمرد على نظام الدولة المصرية الحالي بطريقة سلمية تأخذ فكرة تكتيكات “حرب اللاعنف” عند جين شارب (والتي تمثل النواة الصلبة لحروب الجيل الرابع) (23)، إلى أن اصطدم مع السلطة في المملكة العربية السعودية، وسوريا، والجزائر، واليمن، وفلسطين، وأمريكا، وغيرها الكثير بملوكها وأمرائها ورؤسائها، كانت مادة دسمة عبر برنامجه الشهير ” جو شو ” الذي أصبح يتناول البرامج العربية والمصرية، وبموقع انتقاد، أو ما يمكن تسميته بالكوميديا السياسية السوداء.

 لقد بات “جو شو” يمثل حاضنة شعبية لبعض المصريين وفي العرب (المغرر بهم كما قلت)، واستطاع أن يحول كل شيء لكوميديا سوداء، إلى أن عده بعضهم أيضا حاضنة لكثير من المؤيدين باطنيا لفكر جماعة الإخوان والسلفيين المسلمين؛ وعلى الرغم من محبي جو شو القلائل فلا يخلو الوضع من انتقاد الآخر (أي الكُثر) له لاتهامه بعدم الموضوعية، وعدم التزام الحياد، واتباع توجهات وسياسة القناة التابع لها، وعدم تخطي ما يمكن تسميته بالخطوط الحمراء.

 وحول نشأة البرنامج قال ” يوسف حسين” (حسب موقع ويكبيديا): أنه بعد بداية الربيع العربي لم يكن لدى فريق العمل أدنى فكرة بإنشاء قناة جوتيوب في البداية، وأتت الفكرة “بمحض الصدفة” حسب ما قال يوسف حسين في لقاء على قناة سوريا، (بعد ثورة الثلاثين من يونيه عام 2013)، قام يوسف حسين وأحمد الذكيري بإنشاء مقطع فيديو سياسي ساخر مدافعًا فيه عن الرئيس السابق مرسي وتحميله على موقع اليوتيوب، وحقق أكثر من نصف مليون مشاهدة في وقت قصير، وبعد شهر تقريبًا قام جو “يوسف” والذكيري بتكوين فريق عمل صغير، وإنشاء قناة جوتيوب على اليوتيوب، وعلى مدار شهور قاموا بعمل 12 حلقة ساخرة عن تناقضات التيار الليبرالي السياسي، وتناقض الإعلامين (بعد ثورة الثلاثين من يونيه)، فقام فريق جوتيوب بعمل 31 حلقة ناقش من خلالها جميع الأحداث التي مرت بمصر بشكل ساخر، وتخطى مشتركو قناة اليوتيوب أكثر من مليون ونصف مشترك وقامت بعض القنوات التلفزيونية بعرض الحلقات على شاشاتها مثل الجزيرة مباشر مصر، وقناة الشرق وقناة رابعة (24).

 وقد كان الهدف من برنامج جو شو كما قلت، هو تكرار نفس المهمة التي كان يقوم بها برنامج البرنامج لباسم يوسف، مع اختلاف الغايات والتوجهات (وإن كان كلاهما يصبان في نفس الاتجاه وهو الفوضى الخلاقة)؛ بمعني أن نفس المواضع هو تكرار برنامج جو شو للمواضع المتعلقة بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وخطاباته السياسية، وكيفية تعامل الرئيس السيسي معها من خلال عرضها بطريقة ساخرة، وجاء في المرتبة الثانية موضوع الإعلام، وكيفية معالجته للأحداث السياسية في مصر، وكيفية تعامل الإعلاميين المصريين لهذه المواضيع.

 وهذا يشير إلي أن برنامج جو شو قد حرص علي متابعة تطورات الحياة السياسية في المجتمع المصري بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013، ويظهر ذلك من تركيز البرنامج علي الرئيس السيسي وخطاباته السياسية بشكل كوميدي يغلب عليه التنكيت المخادع، وكذلك معالجة القضايا السياسية التي تهم المجتمع المصري حالياً بشكل ساخر ومضحك، ومن ثم تناوله لمعالجة الإعلاميين المصريين لهذه القضايا، وهذا يظهر أن سر قدرة برنامج يوسف حسين علي اجتذاب الجماهير ومتابعة المشاهدين له بشكل كبير آتيا من تركيز البرنامج علي حصر المضمون السياسي للقضايا اليومية المستجدة.

 أما فيما يخص الموضوع الوطني وتغطية القضايا الوطنية ومعالجتها سواء السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، فنجد أنها لا تشكل محور اهتمام بالنسبة ليوسف حسين، مما يعكس عدم أهمية مناقشة وعرض هذه القضايا الوطنية في برنامجه، وهذا يعكس غياب الحس الوطني لبرنامج جو شو الذي يقدمه يوسف حسين.

5- الخاتمة:

 وختاماً نود أن نقول بأن باسم يوسف ويوسف حسين (جو شو)، كلاهما يتفقان شكلاً ومضموناً علي تتناول المواضيع السياسية التي يطرحها في برنامجهما في إطار الخبر التلفزيوني، وهذا يعكس قدرتهما علي عرض المواضيع وتناولها بتنكيت زائف وذلك لكونهما ناقلان للخبر بأسلوب ساخر، يترك للمشاهد عدم الحرية في تناول وفهم الخبر، ويعكس في الوقت ذاته براعتهما، وقدرتهما الإعلامية علي طرح المواضيع والمضامين والمحتوي السياسي، بأسلوب الخبر الصحفي ليظهر، وكأنهما ناقلان للخبر من ناحية وصانعان له من ناحية أخري بما يثبت عنهما صفة التدخل الشخصي وعرض آرائهما الشخصية في المواضيع التي يعالجانها.

 ومن الأمور الأخرى التي لاحظناها في برنامج كل من باسم يوسف وجو شو، أن وحدة التحليل الرئيسية التي تم تناولها باسم يوسف (من قبل) ويوسف حسين (من بعد) للمواضيع السياسية، كانت تتمثل في استخدام كل منهما لمتغير الوقت والفترة الزمنية التي يغطيها برنامج كل منهما الساخر، وجاء بالدرجة الثانية استخدامهما الكلمة، ثم الفقرة، وأخيراً الجملة، ويعكس ذلك مستوي تركيز كلاهما وهدفهما من إيصال معلومة معينة، أو خبر معين للمتلقي، أو أن يوجه المضمون السياسي باتجاه معين من خلال استخدام متغير الوقت ومستوي تكراره لبعض الكلمات والمصطلحات، وهذا فيه إشارة واضحة لتدخل باسم يوسف ويوسف حسين علي أنهما يريد إيصال معلومة معينة للمتلقي في المضمون السياسي للحلقات التي يعرضها كل منهما.

 كذلك وجدنا برنامج باسم يوسف (من قبل) وجو شو (من بعد) كلاهما يتخذ مواقف معارضة لوجهات النظر التي يعرضها كل واحد منهما في برنامجه، وهذه تعبر عن شخصية باسم يوسف (من قبل) وجو شو (من بعد) ومواقفهما الايديولوجية، تجاه القضايا السياسية والاجتماعية، مما يشير إلى أن كلاهما لم يكونا صرحاء لآرائهما الشخصية ومواقفهما تجاه القضايا المطروحة، وهذا يشكل تدخلاً أو انحيازاً لدي كل منهما وينفي عنهما صفة الموضوعية إذا تم عرض هذا الرأي بأسلوب صريح وواضح.

 أيضاً كشف لنا برنامج باسم يوسف (من قبل) وجو شو (من بعد) أن الطريقة الهزلية هي الصفة المميزة لبرنامجهما، مما يعكس أهمية التركيز علي هذه الطريقة لتناول كلاهما لعرض الموضوع، بما يعبر عن شخصيتهما وما يميز برنامجهما عن البرامج الأخرى، ثم جاءت طريقة عرض برنامج كلاهما بأسلوب ساخر تعبر عن القدرة الكبيرة لكلاهما في عرض المواضيع، وهذا يشير إلي أن الصفة الأساسية للبرنامج لديهما هي عرض الموضوع بأسلوب ساخر هزلي انتقادي، وهذا ما يميزهما عن البرامج الأخرى، فقدرة باسم يوسف ويوسف حسين علي استخدام السخرية في توصيل المضمون السياسي يعكس براعتهما في إيصال ما يريده للمتلقي بطريقة غير مباشرة…. ونكتفي بهذا القدر وبالله التوفيق..


الهوامش : 

1- مي عبد الجليل: السخرية السياسية كأداة للمعارضة: مصر نموذجًـا 2010: 2013، أركان للدراسات والأبحاث والنشر، 2019، ص 15.

2- المرجع نفسه، ص 23.

3- المرجع نفسه، ص 29.

5- المرجع نفسه، ص 29.

6- حسن يوسف طه: الواقع وجماليات السخرية عند باسم يوسف، حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، العدد 328، 2013، ص 221.

7- المرجع نفسه، ص222.

8- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

9-أمانى إبراهيم: “وقفة مصرية.. حاكموا باسم يوسف”.. مقال.

10-الأستاذ علا السعدني: ” أزمة باسم يوسف مع “لبن الأطفال”! مقال.

11- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

12- حسن يوسف طه: المرجع نفسه، ص223.

13- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

14- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

15- الأستاذ كرم جبر: باسم يوسف.. سخرية تضحك أحيانا من شدة سخافتها! مقال.

16- أماني إبراهيم: المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

17- الأستاذ حسين الزناتى: “بضمير.. مفاجأة باسم يوسف.. للمصريين!”.. مقال.

18- الأستاذ علا السعدني: المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

19- هنيدة أحمد خليل: درجة توجه المضمون السياسي لبرنامج باسم يوسف الساخر، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة الشرق الأوسط، كلية الأعلام، الأردن، 2015، ص122.

20- الشعيبي، صالح بن عبد العزيز: الصفحة الأخيرة: عالم النكتة، الأمن والحياة، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، مج 8، ع 9، 1989، ص 62.

21- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

22- هاجو مدقن: السخرية الرفيعة في النصوص التفاعلية الرقمية: قراءة في الأدبيات الساخرة في الفيسبوك، سياقات اللغة والدراسات البينية، العلوم الطبيعية للنشر، ع4،3، 2016، ص 116.

23- أنظر كتابنا حروب الجيل الرابع وجدل الأنا والآخر، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، 2017، ص 166.

24- جو شو (برنامج).. ويكيبيديا.

 

 

مقالات أخرى

الإيهامُ في القصيدة العربيّة الحديثة

خطاب المقدمات في النقد العربي القديم

الصّوت والمعنى من خلال كتاب جاكوبسون

2 تعليقات

الحسين بوخرطة 17 يوليو، 2021 - 9:57 م
أمام ضعف الإقبال على القراءة، يبقى هذا النوع من الفن والإبداع آلية قوية لمعالجة الإشكالات المختلفة، وبعث الرسائل القوية للجماهير. والخالة هاته. يبقى توسيع حرية التعبير هامة في هذا المجال. حفظكم الله ورعاكم سيدي محمود على هذا المقال الرائع. معزكم الحسين بوخرطة
الحسين بوخرطة 9 أغسطس، 2021 - 12:04 ص
مجال الأدب والفن الساخرين سيف ذو حدين. حساسية المعروض وإيصاله بتقنيات فنية وتواصلية مؤثرة تتطلبان التروي والحكمة والإعداد الجيد. بالطبع تحديد الخط التحريري للساخر أمر غاية في الصعوبة، يجب أن يوليه عناية فائقة، وأن يغنيه بأفكار جديدة، ويقيه من الانزلاقات التناقضية، وأن يحرص على توجيه فحواه ومقاصده لخدمة الوطن والمجتمع بالصدق المتناهي. أشكرك أستاذي الأديب والمفكر الموسوعي الدكتور محمود محمد علي على هذا الموضوع الشيق والمفيد.
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد