مفهوم السرقة في العقل العربي

 

“بثت الفضائية الإخبارية العراقية تقريراً صحفياً مصوراً مساء يوم 10/7/2021عن ظاهرة تفشت في بعض محافظات العراق مفادها تواطؤ كثير من الأطباء وأصحاب الصيدليات على سرقة المرضى وذلك بتقاضي الأطباء أجور خيالية، والصيدليات أسعار مبالغ فيها، وأن الأطباء يضمِّنون وصفاتهم رسائل مشفرة إلى أصحاب الصيدليات، وأن الحكومة لا تراقب لا الأجور ولا الأسعار.” 

تمهيد:                                                        

” أعمامي سبعة… رأيتهم على ضوء شعلة النفط المسودة الحواف، وهم يستعدّون للذهاب لسرقة المعدان، ونهب جواميسهم وخرافهم وبقرهم ودجاجهم وذهبِ نسائهم. وهم يدعون الله مخلصين أن يوفِّقهم في غزوتهم، ويعمي عيون المعدان فلا يرونهم… ورأيتُ جدتي وسطهم بملابسها السوداء ولفافة رأسها البيضاء، توقظ هذا، وتجر الغطاء عن ذاك، وتشجع هذا، وتنغز ذاك بكوعها. وعندما خرجوا من الدار توضأتْ وصلت، ودعت لهم الله أن يعيدهم سالمين غانمين…” فيصل عبد الحسن (رواية “ تحيا الحياة” ص 19)

 في أواخر عام 2002 أصدر الأديب العراقي فيصل عبد الحسن مجموعته القصصية ” أعمامي اللصوص” وتفضّل بإهداء نسخة منها إليَّ. قرأتها، فجذب انتباهي أنه يتحدَّث عن أعمامه السبعة الذين على الرغم من عملهم اليومي المعتاد، فقد كانوا يقومون كل ليلة بغزوتهم على المعدان، لنهب ماشيتهم أو سرقة ما خف حمله وغلا ثمنه من بيوتهم. إضافة إلى ذلك فالمجموعة القصصية تحفل بأنواع متنوعة من السرقة بأسلوب تهكمي ساخر يبعث على الضحك.

 أثارت هذه القصص بعض ذكريات طفولتي، فقد نشأتُ في بلدةٍ في محافظة القادسية، وكان أبناء عشيرة عربية مجاورة تعمل في الزراعة، يقومون كل ليلة تقريباً بسرقة بيتٍ أو أكثر من بيوت البلدة على الرغم من وجود حارس ليلي في البلدة تدفع له البلدية راتباً شهرياً.

اتصلتُ بالسيد فيصل وسألته ما إذا كانت قصة ” أعمامي اللصوص” لها صلة بالواقع والحقيقة، فأكّد لي صدق القصة وواقعيتها وخلوها من أيِّ خيال أو تخييل ذاتي. ولما كانت القبيلة التي ينتمي إليها الكاتب من القبائل العربية ذات الأمجاد العريقة، وأن القبيلة المجاور لبلدتنا قبيلة مشهورة “محترمة”، فقد تساءلتُ ما إذا كان الإسلام، بكل قدسيته ووضوح تعليماته، لم يستطِع أن يغيّر من القيم والعادات المتوارثة لدى القبائل العربية، أو أن نجاحه اقتصر على عصر من العصور أو قرن من القرون. فعزمت على أن أعكف على دراسة الموضوع.

السرقة ظاهرة بشرية معقّدة:

وقبل أن أشرع في دراستي كنتُ أدرك أمريْن مهمين:

الأول، أن السرقة لا تقتصر على أمَّة من الأمم أو شعب من الشعوب، بل هي ظاهرة إنسانية، فهي كالموت عامٌّ خاصٌّ. عام من حيث وجودها لدى جميع الأمم، وخاص لأن كل أمَّة تسرق بطريقتها الخاصة.

وعلى الرغم من شيوع هذه الظاهرة فإن الأمم تتفق على تحريمها وتجريمها. فقد حرّمتها كل الأديان السماوية وغير السماوية. فالوصايا العشر التي أوحيت إلى النبي موسى (ع) (1463 ـــــ 1316 ق.م.) والتي أقرها السيد المسيح (ع) (4 ق.م. ـــــ 30/33م) تضمِّنت تحريم السرقة: ” لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهد زوراً، إلخ.”. أما المبادئ الخمسة التي وضعها بوذا (563 ـ 483 ق.م.) فهي قريبة من ذلك: ” لن اقتل أي كائن حي، لن أسرق، لن أمارس الزنا، لن أكذب، لن أشرب المسكرات”. وتحريم السرقة في جميع الأديان والفلسفات يدلّ كذلك على وجودها في جميع الأمم ومختلف العصور.

الثاني، أن دراسة أية ظاهرة اجتماعية هي دراسة معقّدة تحتاج إلى فحص جميع العوامل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والسياسية التي تؤدي إليها؛ وأن أيَّ تعميمٍ أو نسبة ظاهرة من الظواهر الاجتماعية إلى أمَّة من الأمم هو من باب الإيديولوجيا وليس من العلم الموضوعي في شيء. قد تتفشى ظاهرة في رقعة جغرافية وخلال فترة تاريخية لأسباب كثيرة، كما قد تختفي نسبياً أو تتضاءل لأسباب أخرى.

وإدراكاً مني أن عدم الاستقرار، والاضطرابات الاجتماعية، والنزاعات المسلحة، والحروب بمختلف أشكالها وصورها، تؤدّي إلى ضعف السلطة، وعدم استتباب الآمن، وتفشي الجريمة بما فيها السرقة، وتكاثر مَن يسمّون بأثرياء الحرب وأصحاب الدخل غير المشروع، عن طريق الرشوة والغش والاختلاس، فقد عَدَلتُ عن إعداد الدراسة، واكتفيتُ بكتابة مقالٍ عن المجموعة القصصية فيه إشارة خفيفة إلى ظاهرة السرقة لدى بعض القبائل العربية.

تأجيل النشر:

كنتُ على وشك نشر المقال عندما وقع الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 الذي رافقه في أيامه الأولى هجوم بعض الفقراء والمضطهدين على المؤسَّسات الحكومية ونهبها، فأحجمتُ عن نشر المقال، لئلا يقال إن لدى العراقيين عادة السرقة بالوراثة و” شهد شاهد من أهلها.”. فقد كنتُ ممن كتب أن الغزو الأمريكي للعراق هو غزو استعماري صريح، وأن الاستعمار ـــ في جوهره ـــ هو الاستيلاء على بلدان الغير بالقوة لغرض نهبها وسرقة كنوزها الثقافية وتدميرها والتصرف بثرواتها الطبيعية والبشرية والفكرية وغيرها. فهو أسوأ أنواع السرقة. وقد ذكر تقرير التنمية الإنسانية العربية الصادر سنة 2004 بعنوان ” نحو الحرية في الوطن العربي“، أن دبابة أمريكية هي التي اقتحمت المتحف العراقي ببغداد وفتحت بابه للمهاجمين. (ربما لتغطية سرقة الغزاة للمتحف من الداخل)، كما تبيَّن فيما بعد أن كثيراً من النهب والحرق قد تمّ بتدبير مسبق من قبل جهات خارجية وداخلية.

العودة إلى الدراسة:

ولكن بعد عودة الحكم إلى حكومات عراقية مؤلَّفة في معظمها من أحزاب دينية ذات مرجعية إسلامية، أخذ الفساد ينتشر بصورة لا مثيل لها من قبل. ويتمثل هذا الفساد بنهب ثروة البلاد وأموال الشعب من قبل مسؤولين معدودين وتحويلها إلى البنوك الغربية، في حين ظلّت الأغلبية الساحقة من الشعب تعاني الفقر والمرض والجهل، وتفتقر إلى أدنى متطلبات العيش الذي يليق بالكرامة الإنسانية، بحيث أمسى العراق يوصف عالمياً بأنه أغنى بلد يسكنه أفقر شعب. كل ذلك دفعني للعودة إلى دراسة ظاهرة السرقة لدى القبائل العربية الجاهلية.

مؤشر اللغة والأدب:

ولما كنتُ معجمياً من حيث المهنة، فإني أؤمن أن المعجم سجلٌ لحضارة الأمة التي تنتجه، فهو يعكس ثقافتها بما فيها من قيم ومُثل وأخلاق. فمن المبادئ اللسانية التي يتعلّمها الطلاب في أوائل دراستهم لعلم اللغة، هو مبدأ (الكفاية اللغوية) الذي يشير إلى استجابة اللغة، أية لغة، لحاجات الناطقين بها، بحيث تولِّد الألفاظ اللازمة لوصف محيطهم، والتعبير عن عواطفهم وأحاسيسهم، وتسمية مفاهيمهم. ولهذا تتباين اللغات من حيث معجمها، كمّاً وكيفاً، طبقاً لتقدّمها الحضاري والبيئة التي تُستعمَل فيها. ومن الأمثلة التي تضرب في هذا الباب: غنى لغة الأسكيمو في القطب المتجمد الشمالي بالألفاظ الدالة على الثلج في حالاته المختلفة ومراحل تكوينه المتعدّدة، بالمقارنة مع فقر لغة البدو في الصحاري القاحلة التي لا تشتمل إلا على ألفاظ قليلة تتعلّق بالثلج، في حين أن لغة هؤلاء البدو غنية بالألفاظ المتعلّقة بالجمل وشؤونه، بالمقارنة مع لغة الأسكيمو حيث لا يعيش الجمل في تلك البيئة الجغرافية. وهذا يدخل في مجال علم “الجغرافية الثقافية”.

لذلك كله، قمت بدراسةٍ إحصائيةٍ تتناول مفهوم السرقة وأنواعها في المعجم العربي، وفي معاجم اللغات التي أستعملُها أو أستطيع فهمها مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية. واعتمدت كذلك على معاجم المترادفات والمتواردات في تلك اللغات. وهالني أن اللغة العربية تتفوَّق على تلك اللغات جميعاً بوفرة مفرداتها الدالة على أنواع السرقة، فهي أثرى تلك اللغات جميعاً في ذلك الحقل الدلالي.

فالعربية تتفوّق على تلك اللغات بفارق كبير (يُعتدّ به إحصائياً) من المفردات التي تنتمي إلى الحقل الدلالي للسرقـة، مثل: الغزو، والإغارة، والاثتلام، وقطع الطريق، والنهب، والسطو، والفتك (السطو وقطع الطريق)، والسرقة، والسَّل، والنشل، والاختلاس، والارتشاء، والنبش (استخراج المال المدفون وسرقته)، إلخ. وهذا لا يعني أن الناطقين بتلك اللغات الأخرى لم يعرفوا السرقة ولم يمارسها بعضهم، وإنما يدل على أن السرقة أكثر انتشاراً بين العرب، ربما بسبب بيئتهم الصحراوية الجرداء والجوع الذي يصيبهم من جراء ذلك.

وحتى النقّاد العرب الذين تناولوا ظاهرة السرقات في الأدب العربي، لاحظوا أنواعاً متعدِّدة من السرقات في الشعر العربي. ولهذا كثرت المصطلحات النقدية التي تدلُّ على أنواع هذه الظاهرة المختلفة، وقد اقتبسها النقاد من المصطلحات التي تسمّي مفاهيم السرقة المادية. وهكذا فنحن نجد الانتحال، أي أخذ الشاعر بيتاً من شعر غيره وادعائه لنفسه؛ والسلخ وهو أخذ الشاعر معنى البيت وتغيير بعض لفظه؛ والاهتدام، وهو سرقة ما دون البيت على سبيل الادعاء لا التضمين ولا الاستشهاد؛ والإغارة وهو أن يأخذ شاعرٌ مشهور بيتاً من شاعر مغمور فيُروى له دون قائله؛ والإلمام وهو أخذ معنى البيت لا لفظه؛ والغصب وهو أخذ بيت أو أكثر من قائله الذي يتنازل عنه تحت التهديد للغاصب، وغير ذلك كثير من المصطلحات النقدية التي يبدو أن نقادنا استعاروها من الحياة الاجتماعية الزاخرة بأنواع متعددة من السرقات.

ولا تقتصر ظاهرة السرقات الأدبية على الشعر فحسب، بل تشمل كذلك سرقة الحقوق الفكرية التي يمارسها كثير من الناشرين العرب الكرام في وضح النهار وعلانية. وتشمل كذلك سطو بعض الباحثين العرب المرموقين على كتابات غيرهم ونسبتها إليهم، وتحضرني في هذه اللحظة إغارة عالم لساني عربي كبير، تعلّمتُ منه الكثير، كان يعمل عميداً لأحدى الكليات المرموقة التي تنتمي إلى مؤسسة دينية في بلد عربي كبير، على ترجمة كتاب لمستشرق ألماني أنجزها في الستينيات لغوي من أبناء جلدته كان قد توفيّ، ونشرها فضيلة العميد ولم يغيّر فيها سوى اسم المترجم. وقد تقدمت عائلة المتوفى بشكوى إلى المحكمة التي أدانت فضيلة العميد، فأعفته جامعتُه من العمادة، وخفَّضت رتبته العلمية من أستاذ إلى أستاذ مشارك، وبعد سنة أو سنتين مات كمداً.

 تاريخ السرقة لدى العرب:

يشير مصطلح ” أيام العرب” إلى المعارك والوقائع التي كانت تحصل باستمرار بين القبائل العربية قبل الإسلام. والسبب الرئيس لهذه المعارك هو غزو بعض العشائر لبعضها الآخر بقصد النهب والسلب. فقد كانت كثير من القبائل العربية تعيش على النهب والسلب وقطع الطرق. ولم يكن هذا الغزو مقتصراً على عصر من العصور بل عمَّ جميع العصور من الجاهلية حتى العصر الحديث. ويخبرنا تاريخ العرب قبل الإسلام أن العِير (أي القوافل التجارية والميرة) كانت تُبِذْرَق (أي تُحرَس وتُخفَر) من منطقة إلى أخرى طبقاً للقبال التي تعيش في كلِّ منطقة، وإلا فهي معرَّضة لقطاع الطرق والسلب والنهب من قِبل تلك القبائل.

ويخبرنا توماس أدورد لورنس (1888 ـ 1935) في كتابه ” أعمدة الحكمة السبعة ” الذي يتحدَّث فيه عن حياته وعمله جاسوساً بريطانياً شارك في خديعة العرب وحملهم على مناصرة بريطانيا في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) ضد الدولة العثمانية، ـــ يخبرنا أنه كان يدفع مالاً أو صكوكاً لا رصيد لها للقبائل التي يمر بالقرب من مضاربها لمنعها من مهاجمة قوافله ونهبها، ولكي تقوم بدلاً من ذلك، بحراستها في تلك المنطقة.

وكانت ظاهرة الصعلكة منتشرة في العصر الجاهلي والعصور التي تلته. والصعاليك هم ” طوائف من قطاع الطرق كانوا منتشرين في أرجاء الجزيرة العربية، ينهبون من يلقونه في صحرائها الموحشة الرهيبة، ويتلعبون به، ويتخطفونه، ويأكلون ماله..” (يوسف خليف…). ويستعمل مصطلح ” ذؤبان العرب” للدلالة على ” لصوصهم وصعاليكهم الذي يتلصصون ويتصعلكون” على حد تعريف معجم ” لسان العرب”.

ولبعض هؤلاء الصعاليك، مثل الشنفرى (قُتل سنة 70 ق.هـ.)، وعروة بن الورد (ت 15 ق. هـ.)، وتأبط شراً (قُتل حوالي 530 م) والسليك بن السلكة، أشعار يفتخرون بها ذاكرين قوتهم وسطوتهم، وبعضهم يفتخر بمساعدته الضعفاء، كما فعل الشنفرى في قصيدته المسماة بلامية العرب التي تقارن بلامية العجم للطغرائي (ت 513 هـ) لأنهما يمثّلان قيماً وأخلاقاً مختلفة. وقد تصعلك بعضهم احتجاجاً على الظلم وانتفاء العدالة الاجتماعية وعدم تساوي الفرص أمام الأفراد، والشعور بذلك يؤدي إلى بغض المجتمع والنقمة عليه. وقد ورد في شعر الأحيمر السعدي ( ت 170 هـ/ 787م) ما يدل على ذلك:

 عوى الذئب فاستأنست بالذئبِ إذ عوى.. . وصوّتَ إنسان فكدتُ أطيرُ

 يـــــــرى الله أني للأنيـــسِ لكــــارهٌ.. . وتبغضهم لي مقلةٌ وضميرُ

 وأنــــي لأستحـــيي من الله أن أُرى.. . أجرِّر حبلاً ليس فيه بــعيرُ

 وأنْ أســـألَ المرءَ اللئيمَ بـــعيرهُ.. . وبعرانُ ربّي في البلادِ كثيرُ

 

وإذا كان دافعهم إلى قطع الطرق هو الفقر والجوع أو الانتقام من المجتمع الذي لم ينصفهم، فإن ذلك قد يخفِّف من الحكم عليهم، ولكن لا يغير من حقيقة كونهم مجرمين يعتدون على أناس أبرياء، ويستحوذون على أموالهم بالقوة دون وجه حق. ولا يغفر لهم أنهم أحيانا يشركون غيرهم من الصعاليك الفقراء فيما يصيبون من طعام ومال أو يطعمون بعض الأرامل واليتامى، كما زعموا. كما لا تغفر لهم قوتهم الجسدية وسرعة عدوهم وجرأتهم، تلك الأفعال المنافية للأخلاق الكونية. فكرم أولئك الصعاليك ناتج من عمل إجرامي لا أخلاقي، والقوة الجسدية ليست محمودة، بل مهانة مذمومة إذا استخدمت وسيلة للشرّ والأذى.

والمؤلم حقاً أن السرقة لم تقتصر على الصعاليك، بل عمّت كثيراً من العرب العاديين، وشملت كثيراً من زعماء العشائر وشيوخها. يخبرنا التاريخ ” أن هوذة بن علي زعيم قبائل بني حنيفة في منطقة اليمامة بالجزيرة العربية، وفدَ على كسرى أنوشروان بن قباذ من أشهر ملوك الفرس وأعظمهم ذكراً، فأكرمه كسرى وسأله عن أحواله، فأخبره أنه في عيش رغد، وأنه يغزو المغازي فيصيب.” (محمد أحمد جاد المولى وعلي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم. أيام العرب في الجاهلية. بيروت: المكتبة العصرية. ب.ت. ص 3). وما هذه المغازي التي يتحدّث عنها هذا الزعيم ويفتخر بها، إلا غارات مسلحة يقوم بها هو وأفراد عشيرته على أناس غير مستعدين، بقصد سلبهم ونهب أموالهم المنقولة.

وهكذا فإن كلاً من الصعلوك الذي يعتزل قبيلته ويعيش بعيداً عنها في قفار الأرض ومجاهلها ويتكسّب بقطع الطريق، والشيخ الذي تكرِّمه قبيلته وتحترمه وتأتمر بأمره وتتبعه في إغارته على أناس آمنين بقصد السلب والنهب، كلاهما يزاول جريمة السرقة وكلاهما يفتخر بها. والفرق بين الصعلوك وشيخ القبيلة أن الأول يقترف جريمة قطع الطريق بمفرده أو بمعونة عدد محدود من الصعاليك أمثاله، أما شيخ القبيلة فيقوم بالسلب والنهب بمؤازرة أبناء قبيلته الذين يأتمرون بأمره، ويؤازرونه ويحيطون به ويدعمونه في جريمته. وهذا دليل على أن السرقة لم يُنظر إليها خلة أو عاراً، ولا يتبرأ كثير من العرب في الجاهلية منها، بل على العكس يفتخر اللص بفعلته، كما ورد في بيت شعر لم أقف على قائله:

 وكم بيتٍ دخلتُ بغير إذنٍ وكم مالٍ أكلتُ بغير حلِّ!

ومعظم أيام العرب في الجاهلية التي شاركت فيها كثير من القبائل العربية، كان سببها غزو بعضهم البعض بقصد السلب والنهب. فيوم الرغام، مثلاً، كان في الأساس ” إغارة بني ثعلبة من قبائل تميم على طوائف من بني كلاب لسرقة إبلهم. وبعد أن سرقوها، لحقت بهم بنو كلاب فأدركتهم ووقع القتال بين الطرفين. ووقع يوم جِزع ظلال بعد أن أغار بنو فزارة على بني عبد مَناة، ” وملئوا أيديهم غنائم وإبلاً ونساءً”. ويوم ذات الأثل كان بسبب غزو بني سُليم لبني أسد من خزيمة ونهب إبلهم. (المرجع السابق، ص 373)

والذي يثير انتباهنا وعجبنا في يوم الأثل هذا أن قائد غزوة بني سُليم هو زعيمها صخر بن عمرو بن الشريد، وقد جرح في المعركة وبقي طريح الفراش مدة طويلة ثم مات. وبعد موته فُجعت أخته غير الشقيقة الشاعرة الخنساء (ت 24هـ/645م)، فأقامت الدنيا ولم تقعدها على هذا الزعيم ” الجواد، الشهم، الجريء، الفتى، إلخ من أوصاف النبل والشرف “، كما وصفته في مرثياتها الكثيرة، ولم تقلل إغاراته العديدة للسلب والنهب من مقامه في عينيها ولا من محبته في فؤادها. ويدلنا هذا على أن السرقة لم تعُد في ذلك الوقت عاراً لدى كثير من قبائل العرب في العصر الجاهلي.

لنستمع إلى بعض أبيات مقتطفة من مرثيات الخنساء الكثيرة:

 أعيني جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر الندى؟!

 ألا تبكيان الجريء الجواد ألا تبكيان الفتى السيدا؟!

 طويلُ النجاد رفيع العمادِ، ساد عشيرتَه أمردا…

وفي المدرسة الابتدائية، حفَّظنا المعلّمُ قصيدة الخنساء السينية في رثاء أخيها صخر. ولم يشرح لنا ـ مع الأسف ـ أن صخر جُرح (ثم مات) في إغارة للنهب والسلب على عشيرة أخرى، على الرغم من أن بعض الكتّاب اليوم يحاولون تبرير فعلته على أنها ثأر للشرف. فنحن العرب نلمّع تاريخنا وننقيه من الشوائب ونميط عنه العيوب والمخازي، بدلاً من دراسته بصورة موضوعية لنفهم أسباب القوة وعوامل الضعف. وهذا من أخطاء المنهجية التربوية المتبعة في بلداننا العربية، فهي تؤدّي إلى نوع من الشوفينية، وترسِّخ الاعتقاد بأننا دائما على صواب، وأن الأخر على خطأ. إن الدراسة الموضوعية للتاريخ تساعدنا على تكوين جيل يؤمن بأننا بشر نصيب ونخطئ، وان من المحتمل أن يكون الآخر على صواب، فنحن لا نملك الحقيقة الكاملة ولا نستأثر بها. وهذا المنهج الموضوعي يؤدي إلى تنشئة أجيال تتحلى بالتسامح، والتفاهم، والاحتفاء بالتنوع، وقبول الآخر.

تقول الخنساء في قصيدتها السينية:

 يؤرقني التذكُّر حين أمســـــي فأُصبح قد بُليتُ بفرطِ نُكسي

 على صخرٍ، وأيُّ فتى كصخرٍ ليوم كريهةٍ وطعانِ حِلسِ…

 ولولا كثرةُ الباكين حولـي على إخوانهم لقتلتُ نفســــي

 وما يبكون مثل أخي ولكن أُعزّي النفسَ عنه بالتأسّـي…

وهكذا نرى أن ما قام به صخر من إغارة بقصد السلب والنهب، لم يقلّل من فتوته وجوده وشرفه في عيني أخته الخنساء، فذرفت عليه الدمع مدراراً، وناحت عليه مراراً، كما لو كان مثالاً للعفة والأمانة والاستقامة؛ ما يدل على أن أعمال السرقة لا تُعدّ عاراً ولا شناراً في عيون كثير من أجدادنا العرب في الجاهلية.

وأثّرت عادة السرقة التي استفحلت في ذلك العصر، في العلاقات الاجتماعية، والحياة الاقتصادية، وحتى في العمارة العربية خاصة في أشكال الشبابيك وأحجامها ومواضعها، التي كانت تتوخى درء السرقة، وتتوقى الأحوال المناخية، ولعوامل أخرى.

الإسلام وعقوبة السرقة:

وبعد أن يقف الإنسان على بشاعة السرقة لدى أهل الجاهلية، وتفاخر بعضهم بها وعدم اعتبارها عاراً، يدرك لماذا جاء الإسلام بأقسى عقوبة للسارق، إذ ورد في القرآن الكريم (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله، والله عزيز حكيم.) (المائدة: 38). ومن يدرس معاني كلمة (نكال) في مختلف سياقاتها، يجد أن معناها ليس (العقاب) فقط وإنما تعني العقاب القاسي الذي يؤدي إلى المنع والردع. وفي آخر هذه الآية تذكير لنا بأن وراء هذا العقاب القاسي حكمة وهو تخليص المجتمع من هذه الجريمة النكراء.

وتحدثنا السيرة النبوية أن امرأة مخزومية شريفة سرقت في عهد النبي (ص)، فأراد أسامة بن زيد أن يشفع فيها فغضب النبي (ص)، وقال: ” أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟! إنما أهلكَ الذين من قبلكم كانوا إذا سرق فيهم الغني تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها. ” (البخاري: أحاديث الأنبياء 3216).

فهذه العقوبة الصارمة إنما قررها الإسلام لوضع حدٍّ لجريمة تفتُّ في المجتمع ويفتخر بها كثير من الناس. ففي هذا الحديث إشارة واضحة إلى أن تفشي السرقة دون عقاب يؤدي إلى أضعف الدول بحيث تمسي (دولة فاشلة)، كما يطلق عليها اليوم. وهذا ما حدث في العراق مؤخراً عندما انشغل أهل الحل والعقد بسرقة أموال الشعب، فاحتل المرتزقة نصف البلاد وعمّت الاضطرابات في البلاد، وتقاتلت العشائر على مناطق نفوذ السلب والنهب والخطف وقطع الطرق.

وتدل دراسة للفقه الإسلامي على أن هذا الحدّ القاسي لا يُطبَّق إلا إذا اجتمعت شروط عديدة تبلغ أحد عشر شرطاً لدى بعض الفقهاء، ومنها أن يكون السارق بالغاً عاقلاً مختاراً وليس مضطراً بسبب جوعه أو فقره، وأن يكون المال المسروق محفوظاً في حرز أو خزانة، وليس مهملاً بحيث يغري الفقير على سرقته، وأن يكون السارق عالماً بعقوبة السرقة، وأن يأخذ المال على وجه الخفية، وألا يكون من أهل الدار، وألا يكون محتاجاً، وأن تثبت السرقة بالإقرار أو الشهود أو هما معاً، وغير ذلك. فإذا اختل شرط من شروط إقامة هذا الحد، أو وجدت شبهة في النازلة، عندئذ يُدرأ الحد ويستعاض عنه بالتعزير. قياساً على ما ورد في القرآن الكريم (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) (المائدة: 3). ولهذا فقد أوقف الخليفة عمر بن الخطاب (ر) إقامة حد السرقة عام المجاعة.

وخلاصة القول إن مَن يتمعّن في عقوبةً قطع يد السارق التي جاء بها الإسلام، يجدها عقوبة قاسية، ولكنها وضعت من أجل ردع عرب الجاهلية وإقلاعهم عن عادة الغزو والإغارة والنهب والسطو التي استحكمت فيهم، وتحويلهم إلى أمة ذات رسالة. ولكن إقامة هذا الحدّ يحتاج إلى شروط لا تجتمع إلا نادراً بحيث لا يمكن تطبيقها اليوم ـ ولو بالقياس ـ إلا على بعض المسؤولين ورؤساء الأحزاب العلمانية والدينية من مختلف الطوائف وشيوخ القبائل وغيرهم من الذين يسرقون أموال الشعب ويحوّلونها إلى البنوك الأجنبية، أو ممن يبعثون برجالهم للسطو على البنوك أو الممتلكات العامة والخاصة أو قطع الطرق، أو خطف المواطنين وسلبهم وأخذ أموال أهاليهم فدية، ثم يستمرون برئاسة أحزابهم وعشائرهم وإدارة مناصبهم بكل فخر، ويتركون معظم الشعب عاطلاً جائعاً مريضاً.

اللصوص في جميع العصور:

ولكن المؤسف أن الإسلام لم يتمكَّن من وضع حد للسرقة والصعلكة التي استمرت ولم تقتصر على العهد الجاهلي، بل عمّت جميع عصور الثقافة العربية. ويدلنا على ذلك كثرةُ ما كُتِب عن هذه الظاهرة. ويذكر لنا الدكتور محمد نبيل الطريفي في كتابه الممتع ” ديوان اللصوص في العصرين الجاهلي والإسلامي”، عدداً من هذه الكتب مثل كتاب لقيط بن بكير المحاربي (ت 190 هـ) ” الخراب واللصوص”، ولكنه مفقود حاليا. وألف أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت 216 هـ) ” كتاب لصوص العرب” ولكنه مفقود اليوم. وكتب الجاحظ (ت 255 هـ) كتابا عن اللصوص وحيلهم بعنوان ” أخلاق الشطار” ولكنه مفقود اليوم.. وأعدَّ أبو الحسن السكري (ت 275 هـ) كتاباً بعنوان ” أشعار لصوص العرب”، جمع فيه أشعار مشاهير اللصوص، وألف الأسود الغندجاني (ت 430 هـ) كتاباً بعنوان ” السل والسرقة”، وهذا الكتاب هو الآخر مفقود. [وقد يحسب القارئ الكريم أن اللصوص يسرقون هذه الكتب التي تسيء إلى ذكرهم].

وأفردت كثيرٌ من كتب الشعر والأدب فصلاً لأدب اللصوص، فكتاب ” مجموعة المعاني” لمؤلف مجهول يفرد فصلاً عنوانه ” فصل في التلصص والتسرُّق”. وياقوت الحموي (ت 616 هـ) طعّم كتابه ” معجم البلدان” بأبيات ومقطوعات لشعراء لصوص.

وفي العصر الحديث، ألفَّ الأستاذ عبد المعين الملوحي كتاباً يقع في ثلاثة أجزاء عنوانه ” أشعار اللصوص وأخبارهم”، واعتنى الدكتور نوري حمودي القيسي بجمع أشعار اللصوص في بعض الدواوين التي جمعها أو حققها.

وتدلنا هذه الكتب على استمرار ظاهرة السرقة بصورة كبيرة في جميع عصور الثقافة العربية، ولم تقتصر على العصر الجاهلي، بل شملت حتى العصور الذهبية للأمة العربية الإسلامية التي توفّرت فيها سبل الكسب والعيش.

أسباب عودتي إلى دراسة موضوع السرقة:

ومما دفعني إلى العودة إلى دراسة مفهوم السرقة في العقل العربي أربعة أمور:

الأول، المعلومات التي توفّرها منظمات دولية حكومية وغير حكومية في تقارير سنوية على قدر من الموضوعية، خاصة تقرير التنمية البشرية الذي يصدره البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، ويرصد فيه أحوال كل دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في مختلف المجالات، خاصة التعليم والصحة وهما أساس التنمية البشرية. وتقرير منظمة الشفافية الدولية الذي يرصد الفساد السياسي وغيره في حوالي 176 دولة في العالم.

صدر تقرير التنمية البشرية الأول عام 1990 عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وقد جاء هذا التقرير بمفهوم جديد للتنمية، يختلف عن مفهوم التنمية الاقتصادية التي تقيس تقدم البلاد بالزيادة في الدخل القومي، بل يؤكد المفهوم الجديد على تنمية الإنسان نفسه ورفاهيته بوصفه غاية التنمية ووسيلتها. وابتكر البرنامج مؤشر التنمية البشرية الذي يتألف من عناصر أساسية ثلاثة:

  • مستوى الصحة: ويُقاس بمتوسط العمر المتوقع للمواطن عند الولادة، وهذا يعني توافر الخدمات الصحية والطبية التي تقدمها الدولة.
  • مستوى التعليم: ويقاس بنسبة التمدرس في البلاد ونسبة الأمية،
  • مستوى المعيشة: ويقاس بتمتع المواطن بدخل يؤمّن له معيشة تليق بالكرامة الإنسانية.

وعندما أخذ البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة يترجم تقاريره السنوية إلى لغات العمل الست في منظمة الأمم المتحدة ومنها اللغة العربية، استخدمني في مراجعة الترجمة الإنجليزية ـ العربية، فتألمتُ كثيراً عندما رأيتُ أن كثيراً من الدول التي كانت أكثر تخلفاً من البلدان العربية في الستينيات من القرن الماضي، مثل كوريا التي كانت أفقر دولة في آسيا، وفنلندا التي كانت أفقر دولة في أوربا، حققت، خلال جيل أو جيلين، تنمية مرتفعة جداً عن طريق التزام الدولة بتأمين تعليم إلزامي ذي جودة باللغة الوطنية المشتركة لجميع أبناء الشعب، وتوفير الخدمات الصحية، واستخدام التقنيات الحديثة في الإنتاج والخدمات، وضمان حقوق الإنسان، واتباع حكم ديمقراطي رشيد، وتوفير الأمن البشري. بيد أن العراق ظل يسير من سيء إلى أسوء كما يشير إلى ذلك دليل التنمية البشرية السنوي الذي يصدره البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة. ويدلنا آخر تقرير للتنمية البشرية، وهو تقرير 2016، على أن ترتيب العراق هو 121 من مجموع 188 دولة. ويعزى هذا التخلف إلى ابتلائنا خلال قرابة الخمسين أو الستين سنة الأخيرة تقريباً بحكام متسلطين يعالجون الأمور، الداخلية والخارجية، بالنار والحديد، ويعكفون على سرقة موارد البلاد ويحولونها إلى بنوك الغرب بلا خشية ولا استحياء.

ومما يؤيد استنتاجنا هذا مؤشر الفساد الذي تصدره (منظمة الشفافية الدولية)؛ وهي منظمة دولية غير حكومية تأسَّست سنة 1993 ومقرها برلين، ولها حوالي مئة فرع محلي، وهي متخصِّصة في رصد الفساد السياسي وغيره في دول العالم، وهدفها إيجاد عالم من دون فساد. وتصدر تقريراً سنوياً ترتِّب فيه حوالي 176 دولة حسب مؤشر الفساد الذي يتدرج من علامة 1 إلى علامة 100، بحيث تحصل الدولة الأكثر فساداً في العالم على الرقم 1، وتحظى الدولة التي ينعدم فيها الفساد على الرقم 100. وفي تقريرها لعام 2016 حصل العراق على رتبة متقدمة جداً في الفساد، هي 23، وليس أسوأ منه وقبله إلا بعض الدول الأفريقية التي ما زال معظم شعبها حافيا عارياً.

الثاني، تفاخر الطبقة السياسية في العراق بسرقاتها، وقد اتخذ هذا التفاخر أشكالاً متعددة، منها التصريحات الإذاعية والتلفزية المباشرة مثل: ” كلنا نسرق، وكلنا نرتشي، وكلنا نكذب: المعمم والأفندي والمعقَّل.”، أو غير المباشرة، مثل ” لا حل للسرقة والرشوة في العراق فقد أصبحت جزءاً لا يتجزء من النظام السياسي والإداري.”؛ ومنها التباهي بالسرقات بصور متعددة مثل قيادة السيارات الفارهة ( وهذا يذكرنا بيخوت وقصور بعض الرؤساء السابقين في حين أن نصف الشعب العراقي يعيش في سكَنٍ لا يليق بالكرامة الإنسانية)، أو بناء أضرحة فخمة لذويهم الأموات تكلف الملايين، في حين أن نصف الأحياء في العراق جائع تحت خط الفقر، أو ما أشبه.

والعجيب في الأمر أن المتعلّمين والمثقفين من الشعب، يدركون فساد الطبقة السياسية، ويشجبونه في مقالاتهم، وأشعارهم؛ ويحتجّون عليه في مظاهراتهم المستمرة، وفي هوساتهم الدائمة، مثل هوسة ” باسم الدين باقونا (سرقونا) الحرامية”. [وكلمة (باقَ) هي أشد من كلمة (سرق) في اللغة العربية الفصحى، إذ إنها تدل على سرقةٍ يصاحبها هجوم على قوم أبرياء، وكذب عليهم، وشرٍّ وخصومة، كما يخبرنا معجم “لسان العرب” لابن منظور، وقد ورد الاسم من هذه الكلمة بصيغة الجمع في حديث شريف هو: ” لا والله لا يؤمن. لا والله لا يؤمن. لا والله لا يؤمن” قالوا: ومن ذاك يا رسول الله؟ قال: “جار لا يأمن جارُه بوائقَه” قيل: وما بوائقه؟ قال: ” شرّه”]. ومع ذلك كلّه فإن رجال السياسة من السارقين لا يأبهون ولا يعيرون بالاً لهذا الشعب الكريم المغلوب على أمره.

الثالث، ولكي يستمر أولئك الساسة في سرقة الشعب باسم الدِّين، فإنهم يعملون على تجهيله وتأخير تنميته البشرية، لا بنهب أموال الدولة التي ينبغي أن تخصَّص للتعليم والخدمات الصحية والبنية التحتية فحسب، بل أيضاً بعرقلة التعلُّم والشغل والإنتاج؛ وذلك بالإكثار من الزيارات المليونية مشياً، لتعطيل التعليم والعمل؛ وإنشاء محطات تلفزيونية متخصصة في تعليم الناس اللطم والبكاء، أو إثارة الكراهية في النفوس، بدلاً من محطات تلفزيونه تيسِّر لهم اقتناء المعرفة النافعة، والتحلي بالأخلاق القويمة، وتطلعهم على التقنيات الحديثة. (ولم نرَ أبداً واحداً من أولئك الحرامية يلطم جالساً ولا ماشياً، كما يقول أحد الصحفيين الأشراف). ونحن جميعاً نعلم أن الإمام الحسين (ع) لم يبذل دمه الزكي في سبيل اللطم والتجهيل والتعطيل، بل من أجل أن يعيش الإنسان بالمعرفة والكفاف والكرامة، ولوضع حد لما كان يفعله حكام الأمويين من تحريفٍ لأحكام الدين الحنيف، ونهبٍ لأموال الناس، وجور عليهم، وتنكيل بهم. فقد كانوا، مثلاً، يفرضون الجزية حتى على الذين دخلوا الإسلام في إيران وشمال إفريقيا، لإنفاقها على ملذاتهم (كما شرح ذلك جرجي زيدان في كتابه “تاريخ التمدن الإسلامي”، بيروت: مكتبة الحياة، ب.ت. الجزء الثاني ص بت 272 ـ 281، وكما شرح ذلك المؤرّخ حسين مؤنس في كتابه “فتح العرب للمغرب”).

والرابع، قمتُ بترجمة كتابٍ بعنوان ” الدماغ الخبيث” لعالم التحليل النفسي العراقي الأمريكي الدكتور طالب الخفاجي. ويشتمل الكتاب على التجارب العلمية التي تقيس أجزاء الدماغ ومواقع وأوقات اتخاذ القرار فيه بأجهزة حديثة كهرومغناطيسية؛ وتوصلـت إلى أن العقل يتكوَّن من العقل الواعي الذي يشتمل على العمليات الذهنية التي ندركها، والعقل اللاواعي الذي يشتمل على ما لا ندركه من الغرائز البيولوجية والرغبات والميول والأفكار والذكريات التي توجِّه سلوكنا من غير أن نعرف ذلك. وكثيراً ما يملي عقلنا اللاواعي القرارات على عقلنا الواعي، ويتحكم في 95% تقريباً من القرارات التي نتخذها والأفعال التي ننجزها، ويدير كل أجهزة جسمنا وكل خلية فيه.

وقد جاء عالم التحليل النفسي السويسري الدكتور كارل يونغ (1875 ـ 1961) بمفهوم ” اللاوعي الجماعي” الذي يؤكد أننا جميعاً نمتلك خبرات جماعية لم يتم تطويرها بصورة فردية، بل موروثة جماعياً من أسلافنا. وقد أيدت البحوث العلمية التي جرت في السنوات العشر الأخيرة هذا الرأي، وأكدت أن العقل اللاواعي هو بمثابة القرص الصلب في حاسوبنا العصبي، وهو يعمل طبقاً لنماذج أو برامج غُرست فيه؛ ويتألف النموذج من مجموعة من العادات، والأفكار، والعواطف، والذكريات، والرغبات، والحوافز، التي هي خارج إدراكنا، ولكنها مغروسة ومثبتة في عقلنا اللاواعي، ولها هيمنة شبه مطلقة على سلوكنا جينياً واجتماعياً، وتغيير هذه النماذج أو البرامج يحتاج إلى جهد كبير من التوعية والتعليم والإرادة.

وهنا أخذتُ أتساءل بقلق: هل ورثنا عادة السرقة من أسلافنا في الجاهلية؟

 

 

مقالات أخرى

شعريّة اللّباس

الإيهامُ في القصيدة العربيّة الحديثة

خطاب المقدمات في النقد العربي القديم

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد