قراءة في كتاب فلسفة هيوم الأخلاقية – للأستاذ الدكتور محمد محمد مدين

 1-تقديم:

 مازلت أومن بل ربما أكثر من أي وقت مضي بأن الفلسفة الحديثة بدءً بـ” ديكارت” Descartes (1596 – 1650)، حاولت أن تركز اهتمامها علي معرفة الإنسان لذاته وللعالم ، ولكن هذا التركيز بقي غامضاً وعاماً أكثر مما يجب ؛ وكما أوضح الفيلسوف الاسكتلندي ” ديفيد هيوم” David Hume ( 1711-1776) في القرن الثامن عشر ، فإن هذا التركيز لا يؤدي إلي معرفة العالم علي الإطلاق ؛ إذ شكك ” هيوم” في إمكانية تخطي معرفة الإنسان لانطباعاته الحسية، أو الذاتية إلي معرفة العالم الخارجي (1) ، فهو الفيلسوف الذي شيد وجهة النظر الطبيعية عن العالم بقدر ما يمكن التعبير عنها في الفلسفة في صورة مجردة .

    وهذا بالضبط ما دفع هيوم إلي ضرورة دراسة علم ” الطبيعة البشرية” ، وموضوع هذا العلم هو تفسير مبادئ الطبيعة البشرية ، والمنهج الذي يفترضه هو المنهج التجريبي ، الذي يركز إما علي الاستبطان الداخلي ، أو التأمل الذاتي للظواهر العقلية ، أو علي الملاحظات الخارجية للسلوك البشري .

    ويصرح هيوم بأن جميع العلوم ترتبط ارتباطاً لا تنفصم عراه بعلم الطبيعة البشرية ، بل حتي الرياضيات، والفيزياء، والدين تعتمد علي هذا العلم ، فهي موضوعاته ؛ كما يرتبط المنطق أيضاً بهذا العلم ، أعني” علم الطبيعة البشرية”، لأن الغاية الأساسية للمنطق هي تفسير مبادئ ملكتنا الاستدلالية وعملياتها وتفسير طبيعة أفكارنا ، وتعني الأخلاق بدراسة السلوك الإنساني بما في ذلك الطبيعة البشرية ، وتعني السياسة بدراسة حياة الناس، من حيث هم متحدون ويعيشون داخل المجتمع ، ويعتمد كل واحد منهم علي الآخر. وهكذا نجد أن العلوم كلها تعتمد ، في رأي “هيوم” علي علم ” الطبيعة البشرية” (2).

   وهنا نجد “هيوم” يشترط علي الفلسفة أن تسلك المنهج التجريبي ، وفي اعتقاده أن هذا الأمر مرهون بطبيعة الحال، بأن يقبل موضوع الفلسفة هو نفسه هذا التطبيق ، وهذا ما لا يتوفر في الموضوع القديم للفلسفة ، سواء كان الوجود العام والمجرد ، أو الله ، أو المبادئ الأولي للمعرفة لأنها مواضيع ميتافيزيقية يستحيل التجريب عليها . وهذا بالضبط ما دفع بهيوم إلي ضرورة البحث عن موضوع جديد للفلسفة يتوفر فيه شرط التجريب، ووجد هذا الموضوع في الإنسان ، فأصحبت الفلسفة معه هي ” علم الإنسان” ، أو كما يُفضل أن يسميه ” علم الطبيعة البشرية” ، وإن كان يُطلق عليه أحياناً اسم الفلسفة الأخلاقية ” (3).  

     تنقسم الطبيعة عند “هيوم” إلي قسمين لا ثالث لهما ، هما الطبيعة المادية والطبيعة البشرية . تكمن الطبيعة المادية في عالم الأجسام ، وقد تكفل “نيوتن” ومن خلال عبقريته بدراسة هذا العالم علي الوجه الأكمل ، بحيث إنه لم يترك للعلماء ما يمكنهم أن يضيفوه إليه ، إذ يعتقد “هيوم” أن “نيوتن” نجح في بناء فيزياء شاملة وكاملة ، استطاعت أن تكتشف قوانين العالم المادي. أما القسم الثاني من الطبيعة فهو الطبيعة البشرية؛ أي عالم الإنسان ، وبالرغم من أهميته إلا أنه لم يسترعي إليه اهتمام الفلاسفة بالقدر الكافي ، فهو يعاني الإهمال الكبير ، وحان الوقت للالتفاف إليه ودراسته بجدية وعمق ، وهذه هي المهمة التي سينذر “هيوم” نفسه لها (4). 

    وبناء علي ما سبق سيظهر لنا أن المشروع الفلسفي لهيوم يتلخص في تطبيق المنهج التجريبي علي الطبيعة البشرية ؛ والحقيقة أن “هيوم” مقتنع تماماً أنه لا يوجد أمامنا طريق آخر لمعرفة الطبيعة البشرية سوي الملاحظة والتجربة ، ومن ثم يجب علي الفيلسوف أن يستنتج هذه المبادئ من التجربة فقط ، ولا يلجأ إلي التخمين والافتراض مطلقاً .

  قصدت أن أقدم هذه المقدمة عن “فلسفة هيوم” لأمهد للحديث عن تحليلي للكتاب الشيق الذي بين يدي، وهو كتاب بعنوان ” فلسفة هيوم الأخلاقية ” للدكتور محمد محمد مدين  (ويقع في (192) صفحة من القطع الكبير)، وفي رأيي أن هناك نمطان من الأساتذة الجامعيين ، نمط تقليدي تتوقف مهارته عند تقليد الآخرين والنقل عنهم وضبط الهوامش، والحرص علي أن يكون النقل أميناً، وكلما كان من مصادر ومراجع أجنبية كان أفضل ، وكلما قل فيما يقولون فإن ذلك هو الصواب عينه ، ونمط مبدع يسخر قراءته لإبداء الرأي أو للتدليل علي صواب الاجتهاد العقلي الشخصي ، وبالطبع فإن النمط الثاني هو الأقرب إلي النمط الفلسفي الحق ، فالتفلسف ينتج الإبداع ولا يتوقف عند النقل وإثراء الهوامش .

     ولا شك في أن أستاذنا الدكتور “محمد محمد مدين” من هؤلاء الذين ينتمون إلي النمط الثاني ، فهو صاحب موقف فلسفي ونقدي واضح من كل ما يقرأ ولا يكتب إلا في حول أو في قضايا فلسفية ” حديثة ومعاصرة”  بغرض بلورة موقف مبدع ومستقل عن كل المواقف ومختلف عن كل الآراء المطروحة حول نفس الموضوع سواء قيل من قبل أو لم تعبث به يدي الباحثين.

   علاوة علي أن “محمد مدين” ( مع حفظ الألقاب) يعد واحداً من أساتذة الفلسفة الذين يعملون في صمت وتواضع ودون ضجيج، أو تعالٍ لخدمة تخصصهم الدقيق، فهو كما بحق كما قال عنه أستاذنا الدكتور ” مصطفي النشار ” :”مؤلف ومترجم العديد من الكتب الرصينة فى الفلسفة المعاصرة عموماً والفلسفة التحليلية منها على وجه الخصوص، وهذا مجال انفرد به” محمد مدين” بعد الجهود الرائدة للدكتور” زكى نجيب محمود” ، والدكتور “عزمى إسلام، والدكتور “محمد مهران”.. رحمهم الله.. وأسلوبه شديد العذوبة والسلاسة لدرجة يحس القارئ معها أنه يقرأ كتابا مؤلفا وليس مترجما وهذه خاصية لم يتمتع بها ممن ترجموا المؤلفات الفلسفية إلى العربية إلا عدداً محدودا من أساتذتنا كعثمان أمين ، وفؤاد زكريا، وأبو العلا عفيفى، وزكى نجيب محمود، وأحمد فؤاد الأهوانى.. رحمهم الله جميعا” (5).

2-أهمية الكتاب:

   إن البحث الفلسفي في نظر الدكتور “محمد محمد مدين” تعبير خالص عن الموقف الفكري المستقل الخالص بالباحث وليس مجرد مجموعة من النقول والشروح والتعليقات المفتعلة . وعلاوة علي ذلك فإن جدية “محمد مدين” وأصالته تتكشف عندما يطرح القضايا الفكرية والسياسية ، حيث نجد الغاية من هذا الطرح ليست مجرد تكرار للأفكار ، وإنما يسلط الضوء علي أفكار وقصايا بعينها ، من أجل أن يكشف عن المجتمعات العربية عموما ، والمجتمع المصري خصوصا ، وكذلك من أجل أن يستقي القارئ العربي منها مصادر خلاصة من مشكلاته التي تؤرقه وخاصة مشكلة وجوده كإنسان له كرامته الأصلية.

    ولهذا يعد ” محمد مدين” واحداً من أبرز الوجوه الثقافية من زملائنا المعاصرين ، وهو يمثل قيمة كبيرة وشعلة من التنوير الفكري التي بدأها منذ ربع قرن باحثاً ومنقباً عن الحقيقة والحكمة . إنه الباحث عن سبيل يحفظ للإنسان حريته وكرامته فهو ينقب في ثنايا الفكر العربي الحديث والمعاصر ، لكنه لا يسلم به من ما يكتب عنه من قبل زملائه الباحثين، بل لديه قدرة عظيمة علي أن يلقي بنفسه في خضم المشكلات المطروحة ، ويشق لنفسه طريقه الخاص غير عابئ بما يقوله هذا الفيلسوف أو ذاك من أعلام الفلسفة الشوامخ.

    وإذا ما أكتب اليوم عنه هذه الورقة ، فما ذلك إلا نقطة في بحر فكره ، وقد آثرت أن تكون ورقتي منصبة حول أحد إسهاماته في الفلسفة الحديثة ، وقد اخترت كتابه الذي بين يدي وهو بعنوان “فلسفة هيوم الأخلاقية” ، حيث يعد هذا الكتاب واحداً من تلك المؤلفات التي عني بها مؤلفها “محمد مدين” بالدفاع عن  “منطق النقد الأخلاقي” (6).

  وهنا نجد “محمد مدين” في معالجته لهذا الكتاب يتحرك من اتجاه فلسفي يشغل في خريطة الفلسفة المعاصرة من مكان القلب ، وهذا الاتجاه هو ” الاتجاه التحليلي” ، وقد كان أستاذنا الدكتور ” زكي نجيب محمود ” ، ومن بعده أستاذنا الدكتور ” محمد مهران رشوان” ، هما الرئدان له في فكره التحليلي ،  إلا أنهما يعكسان بجانب ذلك حماسة وروح “محمد مدين” الشابة ، تلك الروح التي تذكرنا بحماسة “ألفريد أير” وروحه الشابة في كتابه القيم ” اللغة والصدق والمنطق ” كما يعترف هو بذلك (7).

     وكما قال ” محمد مدين” عن كتاب “خرافة الميتافيزيقا” للدكتور “زكي نجيب محمود” ، وكتاب ” اللغة والصدق والمنطق” لألفرد أير ، أنهما يعكسان الروح الشابة ، والحماس الفلسفي لصاحبيهما (8)، فإن ” هيوم” بالنسبة لـ”محمد مدين”  يعكس بدوره روح ” محمد مدين” الشابة وحماسه الفلسفي ؛ وليس من قبيل المبالغة وصف ” هيوم – مدين” بأنه من بين ما صدر عند ” هيوم” بلغتنا العربية هو الأعمق والأشمل . ناهيك عن صدوره في زمن كانت ” توزن فيه الكلمات بالذهب” (9).

    ولم يكن ” محمد مدين” في كتابه الذي بين أيدنا مجرد عارض موضوعي لفلسفة هيوم الأخلاقية ، وإنما نجد فيه عقلاً في مواجهة عقل ، وقد تجلي ذلك في كثير من المواقف النقدية التي اتخذها ” محمد مدين” من فلسفة هيوم ، ومن الأفكار السائدة والشائعة عن أن “هيوم” لم يقدم مذهباً معيارياً في الأخلاق ، بل كان هدفه دراسة الأخلاق علي نمط “العلوم الوضعية” ، أعني دراستها دراسة تجريبية لا مكان فيها للمبادئ والمسائل التي تتخطي نطاق التجربة.

   لذلك نجد ” محمد مدين ” في معالجته للمشكلة الأخلاقية عند “هيوم” يختلف مع كثير من الباحثين الذين تعرضوا لدراسة الفلسفة الخلقية عند “هيوم” ؛ حيث يشير في مقدمة الكتاب إلى موقف فلاسفة الأخلاق من نظریة دیفید ھیوم في القیمة والأخلاق ، وكیف أنهم استقبلوا نظريته استقبالاً فيه الكثیر من “الجفوة” و”عدم التعاطف” ، لأنه– من وجهة نظرھم – لم ینصف الدور الذي یقوم به العقل في الأحكام الأخلاقیة والقیمیة والسلوك الأخلاقي . وأنهم اعتمدوا في رأيهم هذا على العبارة الشائعة لهيوم التي یقول فيها “إن العقل وحده لا يمكنه بحال، أن یؤثر في الأفعال ، وأنه  عبد “العواطف” … فلا جدوى من زعمنا أن الأخلاق یمكن اكتشافھا بالاستدلال العقلي وحده” (10).

    والذي یمكن أن یُفهم من هذه العبارة- من وجهة محمد مدين – لیس أن هيوم یرفض دور العقل في الأخلاق بإطلاق ، وإنما كان یرفض أن ینفرد العقل وحده بهذا الدور دون استعانة بالعاطفة ؛ أي أن ھیوم  في نظر مدين هنا كان یعمل باتجاه تركیب المفاھیم (العقل والعاطفة) لا باتجاه تحلیلها وفصلها (العقل أو العاطفة) على نحو ما ذهب معارضوه في توجهاتهم الأخلاقیة النظریة ؛ أي أن الإشكالیة نشأت عند النظر إلى المسألة من زاویة التحلیل من قبل البعض ، ورؤیتها من زاویة التركیب من قبل البعض الآخر (ھیوم).  ومن أجل تجاوز ھذه الإشكالیة يذهب “محمد مدین” إلى زاویة النظر التركیبیة (الكلیة) التي یقف عندها “هيوم” ومؤیدوه لیقرر أن “القراءة المتأنیة والمدققة لرسالة “هيوم” في “كلیتها وبدون التوقف عند جزء منها وخاصة لو كان الجزء “الأول” من الرسالة واعتباره معبراً عن “منهجیة الرسالة كلها”.. سوف تنتهي بنا إلى تأكید قصور ھذه الفكرة السائدة عن “هيوم”  في كثیر من الأوساط الفلسفیة وعجزھا عن تفسیر ما نجده في هذه الرسالة من عدم اتساق (11).

   والحقیقة أن التركیب ینبغي أن یسبقه تحلیل ، و”محمد مدین” لا یرغب في الجمع بین العقل والعاطفة، قدر رغبته في قراءة ھیوم على النحو الذي یعید فيه الاعتبار الدور العقل في تأسس الأخلاق ، ووسیلته إلى ذلك ، إنما هي “إعادة بناء الرسالة” ، بحیث تسبق الأخلاق المعرفة النظریة ولیس العكس (12) ؛  إلا أن ” محمد مدين” يري أنه لا يوجد في الفلسفة الحديثة فكرة أُسيئ فهمها وتقديرها ، مثل هذه الفكرة التي نسبت إلي ” هيوم” ، والتي يُنظر إليها علي أنها فضيحة هيوم Hume`s Scandal ، وقد يُشار إليها ، في بعض الأحيان بأنها مقصلة “هيوم” Hume`s Guillotine.

  وهنا يتساءل محمد مدین قائلا: ما الأساس الذي دفع دیفید ھیوم إلى كتابة الفلسفة؟

   وهنا نجد ” محمد مدين ” يبين لنا أنه قد حاول ماكناب MacNabb في كتابه عن دیفید هیوم 1951 ،علـى حـد تعبیـر مـــدین، أن یـــدافع عـــن هیـــوم ویكشـــف عـــن دور العقـــل وأهمیتـــه فـــي نظریتـــه الأخلاقیـــة والقیمیـة وكیـف أنـه لـم یغفـل دور العقـل. ولعـل كتـاب “راشـیل كیـد” Kydd Rachael عــن العقــل والســلوك فــي رســالة “هیــوم” یعــد أفضــل المحــاولات الفلســفیة التــي حاولــت إنصاف دور العقل في نظریة دیفید هیوم القیمیة والأخلاقیـة؛ حیـث تقـدم فیـه “راشـیل كیـد” تحلیلاً مسهباً للأدوار المختلفة والمتغیرة للعقل في الرسالة (13).

    وبالإضـافة إلـى ذلـك، نجـد أن ” محمد مـدین” یتفـق مـع “نورمـان كمـب سـمیث” Norman Smith Kemp  فـى كتابـه عـن “فلسـفة دیفیـد هیـوم”، علـى أن القـارءة المتأنیـة والمدققـة لرسـالة “هیـوم” فـي “كلیتهـا”، وبـدون التوقـف عنـد جـزء منهـا، وخاصـة ولـو كـان هـذا الجـزء هو “الأول” من الرسالة واعتباره معبراً عـن “منهجیـة” الرسـالة كلهـا، وهنا يقول مدين بأن هـذه القراءة  المتأنیـة سـوف تنتهـي بالباحـث بنـا إلـى تأكیـد قصـور هـذه الفكـرة السـائدة عـن “هیـوم” فـي كثیــر مــن الأوســاط الفلســفیة وعجزهــا عــن تفســیر مــا نجــده فــي هــذه الرســالة مــن “عــدم إتسـاق”، فهـي تخفـق فـي تفسـیر المواقـف المتناقضـة التـي قـام “دیفیـد هیـوم” بتـوریط نفسـه فیهــا، ومنهــا علــى ســبیل المثــال، معرفــة الســبب الــذي مــن أجلــه فكــر وبوضــوح، وجــود إنطبـاع للـنفس، وذلـك فـي الكتـاب الأول مـن الرسـالة، فهـو یؤكـد علـى أنـه “لا یوجـد لـدینا إنطبـــاع یقابـــل الـــنفس”، بینمـــا فـــي الكتـــاب “الثـــاني” مـــن الرســـالة نجـــد أن نظریتـــه فـــي العواطـف غیـر المباشـرة ، وهـي النظریـة المعروضـة بإسـهاب شـدید، تقـوم علـى افتراض أننـا، فـي الواقـع، نعـاني ونختبـر إنطباعـاً للـنفس، بـل إن هـذا الإنطبـاع، لـیس إنطباعـاً مؤقتـاً وعـابراً، إنمـا هـو إنطبـاع مصـاحب دومـاً لنـا ولا یفارقنـا”؟ ولمـاذا إختـار “هیـوم” عنـد دخولـه عـالم الفلسـفة ومجالاتهـا للمـرة الأولـى أن یقـدم مشـروعاً عریضاً واسع المدى إلى حد بعید، وهـو المشـروع الـذي جعلـه “هیـوم” لا یتضـمن فحسـب نظریة في المعرفـة، وهـي نظریـة تكفـي وحـدها لتكـون مشـروعاً طموحـاً وكافیـاً، وإنمـا قـدم بجانب ذلك نظریة في العواطف ونسقاً في القیمة والأخلاق؟(14).

       ثم یمیز “محمد مدین” بین الكتاب الأول في رسالة ھیوم (في الفهم on understanding (والكتاب الثاني ( في العواطف on passion  ( والكتاب الثالث (في الأخلاق on morals (على أساس الاعتبارات التصوریة والمنهجیة، ومدى تأثیر ھذه الاعتبارات على منهج البحث الأخلاقي؛ ومن الواضح أن تمییز د. محمد مدین بین الكتب الثلاثة لـ”ھیوم” یقوم على أساس فهمه لدور العقل فيهم. وعلى خلاف ما یحاول أن یقدمھ السابقیون ألا وھو تطبیق دور الحس والتجربة، ویرید مدین “أن یعید بناء الرسالة من جدید على اختلاف الترتیب الذي رتبه ھیوم لرسالته (15).

     ويعد كتاب (فلسفة هيوم الأخلاقية) عصارة تفكير الدكتور محمد مدين في الفلسفة الحديثة، ولذلك لم أهدر الفرصة وحاولت أن أغتنمها لقراءة هذا الكتاب الرائع، وذلك لما فيه خير للإنسانية في الاستفادة من بعضها بعضا. فكانت هذه القراءة التي نتناولها في  ثلاثة أقسام : مدار القسم الأول على التقديم المادي للكتاب من خلال ثنائية البنية، والقسمين : الثاني والثالث ينصبان على أهم القضايا التي بسطها الكتاب للدرس والتأمل والحوار من خلال البنية الثنائية التحليلية والبنية الثنائية التركيبية.

    وبذلك يمكن قراءة أهداف المؤلف في هدفين أساسيين ، أو جعلهما في دافعين :

الدافع الأول : نظري معرفي يقوم علي ضروة إعادة النظر في الدور الذي يقوم به العقل في نظرية الأخلاق عند هيوم (16).

الدافع الثاني : عملي واقعي ، حيث يعول علي أن  رسالة هيوم برغم ظهورها علي النحو الذي تداولها به أو الترتيب الذي تعامل به “محمد مدين” مع مكوناتها ، فإن هيوم عند كتابتها ، لم يكتب بنفس الترتيب الذي يراها عليه “محمد مدين” ، ومن ثم فإن القراءة الجديدة التي يقترحها “محمد مدين” هي التي تقضي بعدم النظر إلي الجزاء الخاصة بنظريته الأخلاقية علي أنها مجرد تطبيق لنظريته في المعرفة أو الفهن وحسب ، وهي النظرية التي تشغل الكتاب الأول ، ومن هنا كان تبرير العنوان لكتاب محمد مدين بأنه ” إعادة بناء الرسالة” (17).

  ولأكثر من سبب فقد جعل الدكتور “محمد مدين” مضمون الكتاب وفحواه ومادته في الاستدلال علي الهدف الأول ، أي علي الجانب النظري المعرفي ، مستغلاً كل فرصة للتعليق بالسلب علي أصحاب الدافع الثاني ، بين نقد أو نقض؛ والدليل علي ذلك ما قاله المؤلف في مقدمة كتابه :” ونحن لو نظرنا إلي القائمة الطويلة التي كان هيوم قد ذكرها في مقدمة الرسالة للفلاسفة الذين سبقوه في مهامه الجديدة فسوف نتبين كم هي قائمة “شاذة” و” غريبة” لو اعتبرنا نظريته في الأخلاق ، وكما يفترض علي نحو عام وشائع ، مجرد تطبيق وحسب للمبادئ التي كان قد توصل إليها في مجال آخر . وهذه القائمة المشار إليها فيما تشتمل ” جون لوك” و”ماندفيل” و” شافتسبري” و”هاتشيسون” . بالإضافة إلي أن هيوم قد حدد بنفسه المهمة التي استهدفها من تأليف الرسالة ، وذلك فيما وضعه لها من عنوان فرعي توضيحي ؛ فالرسالة في النهاية تعبر ، عن محاولة من جانب ديفيد هيوم لا ستخدام منهج الاستدلال التجريبي في القضايا الأخلاقية ومشكلات القيمة (18)

    ومن هنا كانت مهمة “محمد مدين” في مقدمة كتابه أن يعرف القارئ بمقصوده بفلسفة هيوم الأخلاقية ، وأن يبين أن فلاسفة الأخلاق قد أخطأوا عندما استقبلوا نظرية هيوم في القيمة والأخلاق بشئ من الجفوة وعدم التعاطف بحجة أنه لم ينصف الدور الذي يقوم به العقل في الأحكام الأخلاقية والقيمية والسلوك الأخلاقي (19).

   والواقع أنه إذا كان صحيحاً القول بأن للفيلسوف حدثاً واحداً يتكرر كل عدة سنوات كما قال الفيلسوف الفرنسي المعاصر ” هنري برجسون”؛ فإنه صحيح أيضاً القول بأن للمفكر المتميز خطاباً واحداً يتكرر دائماً عبر مستويات عديدة تعكس كلها رؤية واضحة ومتفردة، كتلك التي نجدها متضمنة في جميع أعمال “محمد مدين” ، كتاباً كانت .. أم ترجمة؛ وهذه الرؤية متجسدة في أسلوبه الفلسفي ومدي ارتباطه بالحركة التحليلية ، إذ تشكل تفكير “محمد مدين” من خلال الأطروحات الرئيسة للحركة التحليلية التي تجعل الفلسفة منصبة علي اللغة وتحليلاتها للتخلص مما يشوب التعبيرات اللغوية من لبس أو غموض ، أو خلط زائف فهناك توجه منطقي لغوي للفلسفة التحليلية . وربما هذا ما دفع “محمد مدين” للاهتمام باللغة .. فهو مهموم بها ، يلقي الضوء علي المفاهيم بهدف الكشف عن أصولها واستيعاب معانيها ودلالاتها الحقة وإيضاحها ، وهذا ما شكل لدي “محمد مدين” قناعته الخاصة المستمدة من تأثره بالحركة التحليلية بان اللغة هي الوسيلة الوحيدة لفهم العالم بصفة عامة ، والإنسان بصفة خاصة ، وهي الأداة الفعالة لحل الإشكالات الفلسفية (20).

  ومن هنا يقع كتاب (فلسفة هيوم الأخلاقية) الذي نحن بصدده الآن ضمن الدوال الرئيسية علي معالم هذا الخطاب الذي يمثل بحق اتجاهاً معرفياً جديداً في حقل الفلسفة الحديثة ..

3-التعريف بصاحب الكتاب:

   أما المؤلف فهو الدكتور الأستاذ الدكتور ” محمد محمد مدين” – أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة المتفرغ بكلية الاداب – جامعة القاهرة، حيث يعد من أكثر المتخصصين الذين اهتموا بالفلسفة التحليلية المعاصرة في مصر، وناقش قضاياها وأطروحاتها المختلفة، حيث بذل جهداً كبيراً في كتابة الكثير من الدراسات والأبحاث الأكاديمية حولها، له منهجية متميزة في توضيح معالمها وأركانها، فهو واحداً من المفكرين المصريين الذين اغترفوا من جورج إدوارد مور، وارتشف جون ديوي، ونهل ألفريد يونج، وشرب ديفيد هيوم، وارتوي والتر ستيس حتي أصبح رائداً من رواد الفلسفة التحليلية في مصر والعالم العربي، ورائداً للقضايا المتخصصة في التصورات الميتأ أخلاقية، وأحد المفكرين المصرين الذين لهم باع طويل في الكتابة عن نظرية القيمة والكتابة عن الحركة التحليلية في الفكر الفلسفي المعاصر، وقد وصفه بعض الباحثين بأنه : “إذا كان بالمر Palmer أحد أساتذة جورج سانتيانا في هارفارد يقول عن أستاذه (سانتيانا) أنه يحتفظ بهيوم داخل عظامه، وبصورة أخص يمثل الدكتور مدين الحدسية الأخلاقية وتوجهاتها الميتا أخلاقية في الدراسات العربية” (21).

    كما وصفه أيضا ً “د. السيد علي عبد الفتاح جاب الله” بأنه” أحد أبرز رواد الفكر التحليلي علي الصعيد العربي في الوقت الراهن، فالقارئ لكتاباته ودراساته الأخلاقية لا يجده مجرد عارض موضوعي لفكر الآخرين، بل يجده محللاً وناقداً قوياً من نقاد الفكر الفلسفي المثالي (22).

    لقد أكد محمد مدين أن النقد هو روح الفلسفة وقلبها النابض، وهو الباعث الأساسي لتحولاتها المتتابعة منذ نشأتها العقلية والمنهجية الأولى عند الإغريق حتى صورها وأشكالها المختلفة عند المحدثين والمعاصرين، فقرر أنه لا يمكن أن يكون هناك مفكر أصيل بدون موقف نقدي، فالموقف النقدي هو بمثابة نقطة الانطلاق، كما أنّه ليس ثمة معرفة مقبولة إلا بعد بحث وفحص وتمحيص، فالنظرة النقدية تكون الحافز والدافع للباحث لسبر غور موضوعه، ولولا النظرة النقدية للظواهر الكونية ولفكر السابقين لما وجد لدى الباحثين والعلماء والمفكرين موضوعات للبحث والدراسة، ولأصبح الإنسان تابعاً لا مبدعاً، مقلداً لا مجدداً، وبدون هذه النظرة أيضاً تموت روح الابتكار والإبداع.

     ولد الدكتور محمد محمد مدين في محافظة الدقهلية (في دلتا مصر) في الثالث من شهر يناير لسنة 1947م، حيث التحق بكلية الآداب – جامعة القاهرة، وحصل علي ليسانس بتقدير “جيد جداً” مع مرتبة الشرف، وعين معيداً بقسم الفلسفة سنة 1969م وسجل درجة الماجستير في موضوع بعنوان فلسفة القيم عند “جون ديوي”، تحت إشراف د. يحي هويدي سمة 1976م بتقدير “ممتاز”، والدكتوراه في موضوع بعنوان “النظرية الأخلاقية عند جورج مور”، تحت إشراف د. أميرة حلمي مطر سنة 1983 بتقدير مرتبة الشرف الأولي، ثم تدرج في سلك التدريس بجامعة القاهرة، حتي حصل علي درجة الأستاذية عام 2003م وأعير للتدريس بجامعة السلطان قابوس بعُمان من 1987- 1991م، ثم أستاذاً زائراً بجامعة الإمارات العربية المتحدة في سنة 1992، وترأس قسم الفلسفة بآداب القاهرة سنة 2003م، كما تولي الإشراف علي قسم الفلسفة والاجتماع بكلية التربية جامعة الفيوم، وكذلك الإشراف علي قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة الفيوم (فرع جامعة القاهرة سابقاً)، والآن يترأس قسم التفكير العلمي بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا.

     من مؤلفاته : كتاب جورج إدوارد مور: بحث في منطق التصورات الأخلاقية، وكتاب الحدس الخلقي: الإطار النظري والمنهجي، وكتاب الحركة التحليلية في الفكر الفلسفي المعاصر “دراسة في مشكلة المعني، وكتاب الحدس الخلقي “مقال في المنهج الأخلاقي”، وكتاب منطق البحث “دراسة في منطق الفيلسوف الأمريكي جون ديوي “، وكتاب فلسفة هيوم الأخلاقية، وكتاب ألفريد يونج : دراسة في منطق النقد الأخلاقي، وكتاب مقدمة في الفلسفة العامة، وكتاب دراسات في النظرية الأخلاقية الحديثة، وكتاب الاكسيولوجيا في الفكر الفلسفي المعاصر، وكتاب نظرية القيمة عند ديفيد هيوم “بحث في إعادة بناء رسالة في الطبيعة البشرية “، وكتاب التوجهات الميتا أخلاقية للنظرية المعيارية، وكتاب النظرية الطبيعية في الفن، وكتاب التعادلية في القيمة، وكتاب المنهج التحليلي في برنكيبيا مور، وكتاب النظرية الأخلاقية عند برتراندرسل .

    كما له عدة دراسات منشورة في المجلات العلمية، ونذكر منها : دراسة بعنوان : نقد الخطاب الوضعي في خرافة الميتافيزيقيا “دراسة في وضعية زكي نجيب محمود “، ودراسة عن ” الواقعية في فكر يحيي هويدي “، ودراسة عن “قراءة في فكر محمد مهران التحليلي، دراسة عن الاستخدام السياسي للغة الدينية منشورة ضمن أبحاث في مؤتمرات علمية للجمعية الفلسفية المصرية والعربية، وبحث بعنوان نظرية السببية عند ديفيد هيوم “قراءة لغوية تحليلية ” منشورة ضمن الجمعية الفلسفية، ودراسة بعنوان الإرهاب “دراسة مفهومية” ضمن منشورات الجمعية الفلسفية “، ودراستان عن الحركة التحليلية، والمنهج التحليلي ضمن الموسوعة الفلسفية التي أشرف عليها الدكتور معن زيادة.

    كما أن له العديد من الترجمات، ومن أبرزها : ترجمته وتقديمه لكتاب مشكلة القيم في فلسفة هارتمان ولويس تأليف، وترجمة كتاب ” حل المشكلات اليومية بالمنهج العلمي: كيف نفكر مثل العالم “تأليف ماك دون (وأخرين)، وترجمة كتاب عن ” النزعة الإنسانية، وكذلك ترجمته لكتاب ” الفلسفة  الفرنسية في القرن العشرين … وغيرها.

    وقد أسهم الدكتور “محمد مدين” بعضويته في كثير من المؤسسات العلمية، ومراكز البحث العلمي العالمية، وألقي العديد في بحوث في مؤتمرات وندوات محلية ودولية، منها أبحاث في متخصصة نشرت في دول عربية، كما حاضر عن فلسفة التحليلية والفكر الغربي المعاصر في جامعتي السلطان قابوس بعمان والإمارات العربية المتحدة.

4- مناقشة بنية الكتاب :

   والسؤال الذي أود أن أسأله للأستاذ الدكتور ” محمد مدين”: لماذا اختار لكتابه عنوان “فلسفة هيوم الأخلاقية “، ولم يختار له اسم “إشكالية الفلسفة الأخلاقية عند ديفيد هيوم “، أو ” دفاع عن فلسفة ديفية هيوم الأخلاقية ” أو ” الفلسفة الخلقية عند ديفيد هيوم بين المحنة والمنحة ، أو “قراءة في فلسفة ديفيد هيوم الأخلاقية”.. الخ؟

   وهنا يجيبنا ” محمد مدين” ضمن ملاحظة سجلها ” نورمان كمب سميث ، وأخذ بها “محمد مدين” وهي أن ديفيد هيوم  قد دخل عالم فلسفته من باب الأخلاق، والنتيجة المنطقثية الهامة التي تترتب علي ذلك ، وهي أن الكتاب الثاني والثالث من الرسالة لهيوم يسبقا ، في تاريخ تأليفهما ، عمله في النظريات التي تناولها هيوم في الكتاب الأول ؛ ويشير بجانب ذلك المؤلف “محمد مدين” نقلا عن “كمب سميث” أيضاً، وتأكيدا لهذه الوجهة من النظر ، إلي خطاب من خطابات هيوم كان قد أرسله إلي طبيبه المعالج 1734م يخبره فيه صراحة بأن فلسفته ” نشأت ” أو ” ترعرت ” في الحقيقة في عمله وانشغاله بالقضايا والمشكلات الأخلاقية (23)، وهذه هي الفرضية التي بني محمد مدين فكرته كلها في مناقشة قضايا الكتاب الذي بين أيدينا.

    وهذا الكتاب ليس رواية من نسيج الخيال، ولا سرد لأحداث للفلسفة الأخلاقية عند “هيوم”، وإنما هو عبارة عن مراجعة لمئات المصادر والمراجع، وكذلك تحليل فلسفة هيوم الأخلاقية من وجهة نظر جديدة تختلف عما قدمه السابقون عليه ، حيث طبق “محمد مدين” علي رسالة “هيوم”  المنهج التحليلي بربطه منهجية الفصل الأول من (أصول الأخلاق) لـ”مور” بالكتاب الأول من رسالة “هيوم”، وذلك على اعتبار أن النظریة التألیفیة في التعریف لا تنطبق على التصورات الخلاقیة، وبالذات تصور “الخیریة” ، مما یعني أن منهجية الكتاب الأول من الرسالة لا تنطبق على الكتاب الثاني والثالث (24).

  ولا شك أن “محمد مدين” في هذا الكتاب قد اختلف عن سابقيه في توضیح  دور العقل، وھو الذي أهمله سابقون، حيث أراد أن یثبت أن منهج “هيوم” في الرسالة لیس منھجا واحدا، وأن یربط بین “هيوم” وفلاسفة التحلیل، وعلى رأس هم “مور” و”رسل”، علاوة علي توضيحه لدور العقل من مقولة ھیوم عن أن التأمل والفھم ضروري للمجتمع، بالإضافة إلي القراءة الكلیة للرسالة، وذلك لإثبات أن الأخلاق الهدف من كتابته للرسالة، لينتهي إلي إثبات أن الأخلاق عند ھیوم لا تقوم على العقل بمفرده، ولا العاطفة بمفردھا، وإنما على الاثنین (25).

  علاوة علي أنه جعل من خلال كتابته لهذا الكتاب فلسفة “هيوم” قريبة إلي أذهان ومشاعر المثقف المصري والعربي، حيث جمع أسلوبه في هذا الكتاب  بين الأسلوب المباشر والعميق في ذات الوقت، وهو ما يمكن تسميته بالسهل الممتنع في الكتابة الفلسفية والعلمية. واتسمت لغته الفلسفية في هذا الكتاب بالصياغة الإشكالية للموضوع ، فمن يقرأ له مقدمة الكتاب يعيش في إشكالية الموضوع، كما اتسم أسلوبه في هذا الكتاب أيضا بالتماسك فهناك ترابط ونسقية محكمة بين أجزاء الموضوع وهو لا يميل إلى المقدمات المطولة التي تصيب القارئ بالملل والضجر.

  ولذلك نجد “مدين” في عرضه لأقسام الكتاب لا يستخدم طريفة الفصول أو الأبواب أو المباحث أو ، وإنما يلجأ إلي الطريقة التي كان يكتب بها فتجنشتين ، سواء في الرسالة المنطقية ، أو البحوث الفلسفية ، حيث نراه في يبني كتابه في حوالي عشرين فقرة وذلك علي النحو التالي :

1-الفقرة الأولي : وهي بعنوان ” في ضرورة التمييز المنهجي بين الكتاب الأول في الرسالة والكتابين الثاني والثالث ” (26) ، ویبدو أن “محمد مدين” هنا یرید من خلال هذه الفقرة أن يكشف لنا ضروة التمييز في رسالة “هيوم” بين الكتاب الأول من جهة ، والكتاب الثاني والذي موضوعه ” في العواطف “، والكتاب الثالث والذي موضوعه في الأخلاق، وذلك من جهة أخري ، ويقوم تمييز “محمد مدين” هذا علي الاعتبارات التصورية والمنهجية وتأثير هذه الاعتبارات علي منهج البحث الأخلاقي ، والذي عرضه هيوم في الكتابين الثالث والثالث من الرسالة ، وكيف أن هذه الاعتبارات في نظر “محمد مدين” تدعو إلي ضرورة النظر في منهجية بناء الرسالة ، وكيف أن منطق الكتاب الأول يختلف عن منطق الكتابين الثاني والثالث وكيف أن كثير من الانتقادات التي وجهت إلي نظرية هيوم الأخلاقية في نظر “محمد مدين” مردها إلي تصور غير صحيح ، وأن الرسالة بأجزائها الثلاثة يسودها منطق واحد ، وهو منطق الجزء الأول منها (27).

2- أما الفقرة الثانية: وهي بعنوان ” في أن نظرية التعريف الشيئ المطروحة في الكتاب الأول لا تنطبق علي محمولات القيمة (28)..، ویبدو أن محمد مدين هنا یرید من خلال هذه الفقرة أن یبین أن ھیوم لم يقدم صراحة نظرية بديلة للنظرية التأليفية فمن الواضح أنه قد استخدم في البحث الأخلاقي منهجاً بدلاً في التحليل والتعريف ، ومن ثم فإن ” آلية ” التعريف والتحليل في البحث الخلقي ليست هي إحصاء البسائط كما في النظرية التأليفية ، وإنما تتلخص هذه الآلية في تعيين الكيفيات التي يميز تصوراً ما من تصوراتنا الأخلاقية عن كل التصورات الأخري (29)؛ علاوة علي أن “محمد مدین” یقدم مصطلح “الخبرة الأخلاقیة” بدلا لاستخدام ھیوم للأفكار، وكذلك مصطلح (الأنماط الأخرى من الخبرات) بدلا للانطباعات ؛ فنراه يقول :” إن إدراك التمییز بین الأفكار والانطباعات أو بین الخبرة الخلقیة ، والأنماط الأخرى من الخبرات یعد ضرورة منھجیة لفھم تناول ھیوم للأخلاق” (30).

3- وفي الفقرة الثالثة ، وهي بعنوان ”  في أن لدي “هيوم ” نوعين من السيكولوجيا : الأولي تستلهم فلسفة هاتشيون والثانية مستمدة من العلوم الطبيعية ” (31) ، وفي هذه الفقرة يعضد ” محمد مدين” رأي ” نورمان كامب سميث” بوجود نموذجين مخنلفين من السيكولوجيا يسودان الرسالة ، وهما سيكولوجيا مستمدة من فيلسوف الحاسة الأخلاقية ” فرنسيس هاتشسيون” ، وسيكولوجيا تعتمد علي مفهوم المماثلة Analogy ، وهي سيكولوجيا مستمدة كلياً من العلوم الطبيعية (32) .

  ثم يضيف ” محمد مدين” بأن رسالة “هيوم” تحمل نوعين من التعريف : الأول وهو التعريف أو التحليل الذي جاء علي المثال المأخوذ من العلوم الطبيعية ، ويعني به ” محمد مدين”  النظرية التأليفية أو التركيبية ، والثاني وهو التعريف أو التحليل الذي يتأسس علي واقع البرة الخلقية (33) ، وبالرغم من أن هيوم في نظر ” محمد مدين”  يدعم علي نحو واضح وصحيح النظرية التأليفية في التعريف كما وردت في الكتاب الأول من الرسالة باعتبارها نموذج أو مثال المنهج الناجح للتعامل مع الأفكار المركبة ، وهي الموضوعات التي تؤلف موضوعات تفكيرنا واستدلالنا وباعتبارها ، وعلي نحو عام ، مبدأ التوحيد بين أفكارنا البسيطة ؛ فإنه في الكتابين الثاني والثالث كما يتصور ” محمد مدين”  قد تناول الأفكار المركبة في مجال الفلسفة الخلقية والسياسية علي نحو جد مختلف ومغاير (34) .

   ويخلص ” محمد مدين”  من هذه الفقرة إلي نتيجة مهمة وهي كما يقول :” أنه سواء كانت سيكولوجيا هيوم وتحليله للعواطف الإنسانية ، سيكولوجيا صحيحة وشاملة أم لا ، فإن هذا ليس هو مناط بحثنا ولا موضوع اهتمامنا هنا ، فإن الفكرة الهامة التي إبرازها هنا والتأكيد عليها هي أن نضع أيدينا علي ادلور الهامة التي تحتله مشكلة التعريف في تحديد الطبيعة النهائية للبحث الأخلاقي ، وذلك علي المستوي الذي يبدو علي أنه محايد ، وأعني مشكلة التعريف في الكتاب الثاني من الرسالة ، وهو الذي يتناول فيه هيوم مشكلة العواطف الإنسانية .. (علاوة علي) أننا لو رفضنا تصور هيوم للتعريف في الكتاب الثاني ، فإننا بدورنا نرفض كل دور فلسفي يمكن أن تقوم العواطف الطبيعية في البحث الخلقي ” (35) .

4- ننتقل للفقرة الرابعة ، وهي بعنوان :” في أن هيوم لم يكن يستهدف إيجاد تعريفات لغوية لمحمولات القيمة ” (36) ، وفي هذه الفقرة يشجب محمد مدين افتراض جورج مور بفكرة تحليل الكل إلي أجزاء مؤكداً أنه افتراض لا يمكن تبريره أو الدفاع عنه ، فلم يكن هيوم كما يعتقد ” محمد مدين” يستهدف بحال أن يجد التعريف لتصورات الخيرية أو العدالة ولا أي تصور أخلاقي آخر ، فإذا كانت المشكلة التي كان مور يهدف إلي أن يجد لها حلاً مشكلة لغوية فإنها لم تكن كذلك بالنسبة هيوم كما يري ” محمد مدين” ، ويبدو هذا بوضوح في تناول “هيوم” لقضية العلية ، بينما مشكلة التعريف في الكتابين الثالث لم تكن بحال مشكلة لغوية.. وما يريد أن يؤكد عليه ” محمد مدين” هنا في هذه الفقرة هو أن “هيوم” لا يمكنه بجال قبول هذه الوجهة من النظر والتسليم بها ، وذلك فيما يختص بالتصورات الأخلاقية المركبة ، برغم الدليل القوي الذي يطرحه الكتاب الأول من الرسالة ، وهو الدليل الذي يتناقض مع ما يذهي إليه ” محمد مدين” ، ويظهر هذا بوضوح من تأكيد “هيوم” علي أن العواطف تلعب دوراً أساسياً في كل من الفكر والعمل الأخلاقيين (37).

5- وفيما يخص الفقرة الخامسة ، وهي بعنوان :” في تباين معاني الذاتية الشخصية و” الإدراك ” المطروحة في الكتاب الأول عن معانيها الموجودة في الكتابين الثاني والثالث (38) ، وفي هذه الفقرة يقول “محمد مدين” :” فإن هذا الاعتراض ذاته  ، وخلافاً لمقصده ، يعد شاهدا لنا لا علينا . فهو يزودنا بدليل إضافي علي وجهة نظرنا التي نؤكد فيها علي أن التمييز بين الكتاب الأول من الرسالة هذا من جهة ، والكتابين الثاني والثالث من هذه الرسالة من جهة أخري هو تمييز منهجي وضروري لفهم فلسفة هيوم الأخلاقية (39) ، علاوة علي أن المنهج الأخلاقي الطبيعي ، وهو الموجود في الكتابين الثاني والثالث من الرسالة ، وهو المنهج الذي يراه “محمد مدين” لا ينطبق عليه بحال نظرية التعريف التي عرضها هيوم في الكتاب الأول والتي تبناها “جورج مور” في أصوله وطبقها علي نحو خاطئ في الكتابين الثاني والثالث (40) ، فلقد كان “هيوم” كما يري “محمد مدين” في الكتاب الأول علي ثقة تامة بصحة المحورين الثالث والرابع صحة كاملة ، ولم ينتبه ، في هذا الكتاب بشأنهما شك ؛ فنراه كما يري “محمد مدين” يؤكد علي أن الواقعة الأولي التي أعلن “هيوم” أنها استلفتت نظره واستحوذت علي انتباهه هي التماثل العظيم بين انطباعتنا وأفكارنا في كل حالة مفردة وجزئية ، فيما عدا درجتهما من القوة والحيوية ، فإن فكرة الأحمر التي نكونها في الظلام ، وذلك الإنطباع الذي يستلفت أنظارنا في ضوء الشمس ، إنما يختلفان في نظر “هيوم” فيما بينهما فقط في الدرجة ، ولا يختلفان بحال في الطبيعة (41) ، ولا يضعف من قوة تأكيد “محمد مدين” علي اقتناع “هيوم” بصحة المحورين الصالث والرابع صحة كاملة ، وأنه لم ينتباه بصددهما شك أن يلجا “هيوم” إلي البرهان غير المباشر (42).. ليس هذا فقط بل نجد “محمد مدين”  يقول :” ويمكننا أن نصف أسلوب “هيوم” بأنه نوع من التحدي ، فهو يتحدي نقاده ويدعوهم ، وذلك فيما يتعلق بالمحور الثالث أن يأتوا بمثال مناقض لما يؤكد “هيوم” نفسه بقوله “.. وأما إذا لم يستجيبوا لهذا التحدي وهم يقيناً لن يفعلوا ، فبإمكاننا ابتداء من صمتهم هذا من ناحية ، وملاحظتنا من جهة أخري ، أن نؤكد ما توصلنا من نتائج (43).

6- وفيما يخص الفقرة السادسة ، وهي بعنوان:” في أن محمولات القيمة لا تقبل التحليل أو التعريف ” (44) ، وفي هذه الفقرة يوضح لنا ”  محمد مدين ” حقيقة مهمة ، وهي كما يقول :” فما يؤكد عليه “هيوم” هنا هو أننا لا نستطيع بحال القيام بعملية تحليل الأفكار المركبة التي تعبر عن العواطف إلي أبسط عناصرها ، أو مكوناتها ، أعني أن هذه الأفكار المركبة المعبرة عن العواطف هي أفكار لا تقبل التحليل أو التفكيك الذي يقوم علي علاقة ” الجزء – الكل ” وذلك إذا كانت هذه الأجزاء أو هذه العناصر ” عواطف بسيطة ” . وخلافاً للأفكار البسيطة في مجال الفهم ، وهي الأفكار التي لا تسمح بحال بقيام وحدة تامة وكلية بينها ؛ حيث إنها تتصف بخاصية النفاذ وعدم الاختراق ، وهي الخاصية التي تستبعد بها كل فكرة من هذه الأفكار أختها ؛ فإن العواطف البسيطة تتصف في المقابل ، بإمكانية قيام وحدة تامة وكلية بينها ، ويمكن أن تختلط وتمتزج علي نحو ، بحيث تفقد كل عاطفة من هذه العواطف ذاتيتها وهويتها ، وتساهم فحسب في تلوين الانطياع الناشئ عن الكل (45) .

  ويستطرد ” محمد مدين” فيقول :” وإذا كان ذلك كذلك ، فإن الأفكار الأخلاقية المركبة لا تسمح بحال وجود عمليات التحليل أو التعريف وهي العمليات التي تقوم علي علاقة ” الجزء – الكل” ، وفي حدود البسائط المطلقة . فعلي سبيل المثال فإن انطباع أو فكرة الخيرية سوف تتضمن مركباً يؤدي فيه امتزاج العناصر وتأليفها إلي وجود أصيل علي نحو تام وكلي ، ومن ثم فإننا لو سألنا ، فيما يتعلق بمثل هذه المركب ، عن ما إذا كان التعريف المقترح هو التعريف في حدود البسائط الأصلية والذي يكون وصفياً علي نحو تام ، فإننا نكون هنا قد وقفنا ، منذ البداية ، موقفاً تعسفياً من عملية التعريف فمن الواضح أننا إذا أردنا للتعريف في مجال البحث الأخلاقي          أن ينجح فينبغي أن يكون نموذج التعريف المستهدف هنا هو من نوع بحيث يتوافق مع العواطف والانفعالات     والمشاعر الإنسانية . ومن ثم يمكننا أن نضيف إلي النتيجة التي توصل إليها “هيوم” وذلك فيما يتعلق بالخاصية الفذة والفريدة الذي يتميز بها الذهن الإنساني ، وأعني بها أكثر ظواهر الذهن البشري تميزاً ، تفرداً هي تلك المستمدة من هذه الخاصية التي تتميز بها العواطف الإنسانية (46).

  ثم يخلص ” محمد مدين ” من هذه الفقرة إلي حقيقة مهمة وهي أن “هيوم” لا يتحدث هنا عن الموضوع الذي يحتل جانباً كبيراً من الكتابين الثاني والثالث من الرسالة ، وأعني به التأكيد علي أن التمييزات الأخلاقية هي  تمييزات تتعلق بشئون الواقع ولا تتعلق بعلاقات الأفكار . وهذه الوجهة من النظر في ذاتها تعد متوافقة مع موقف الكتاب الأول . ولكن الذي يريد أن يؤكد عليه “هيوم” هنا هو أن التمييزات الخلقية تعتمد علي الانطباعات ولا تعتمد علي الأفكار . ولكن إذا كانت الأفكار نسخاً طبق الأصل من الانطباعات وتشبهها في كل شئ سوي درجة الحيوية والنضارة كما يؤكد هيوم في الكتاب الأول ، فسيكون التمييز اللازم هنا ليس هو التمييز بين الأفكار الخلقية والانطباعات هذا من جهة والأفكار غير الخلقية من جهة أخري ؛ أعني ما الذي تتميز به الأفكار الخلقية عن الأفكار غير الخلقية طالما أن الأساس في كل الأفكار هو الانطباعات (47)!.

7- وننتقل إلي الفقرة السابعة ، وفيها يقول ” محمد مدين ” :” في اختلاف نظرية “هيوم” المعرفية عن منهجية تحليل الظواهر الأخلاقية ” (48) ، وفي هذه الفقرة يريد ” محمد مدين ” أن يؤكد علي أن المنهجية التي تقوم عليها نظرية “هيوم” المعرفية لا تنطبق بحال علي تحليل “هيوم” للظواهر الأخلاقية ونعني بهذه المنهجية تأكيده علي أن كل فكرة هي صورة طبق الأصل للانطباع الذي تناظره وتتطابق معه ، وأن المعيار الذي نميز به بين الأفكار والانطباعات هو فحسب درجة الحيوية (49).

   وعلي نحو عام يخلص ” محمد مدين ” بأن موقف “هيوم” يتجسد في القضية التالية :” أن الأخلاق تعتمد علي عواطفنا وتتأسس عليها ، وإذا كان الحال هكذا ، فإن بإمكاننا أن نفترض أن اختبار صحة فكرة أخلاقية ما ، ومن ثم حكم أخلاقي ما ، سوف يتضمن القيام بمقارنة هذه الفكرة أو هذا الحكم بالانطباع الخلقي ” المتوافق” و” المناظر” له . ولكن “هيوم” أدرك أنه إذا كان هو المعيار الوحيد للحكم علي صحة الفكرة أو الحكم الأخلاقي ، فإن الأخلاق ستصبح ، من ثم ، ذاتية علي نحو خالص .. فالعاطفة وجود أصيل ، أو إن شئت قل ، إن العاطفة صبغة الوجود ، وهي لا تتضمن أية كيفية أو خاصية ” تمثيلية” ، ويكون من شأنها جعلها نسخة لأي وجود أو صبغة أخري ، فعندما أكون غاضباً خائفاً ، فإنني أكون في هذه الحالة “مستحوذا” و”مستوعباً” بالفعل في العاطفة ، ولا يوجد في هذه العاطفة أية إشارة إلي أي موضوع آخر ، أكثر مما في حالة كوني عطشاناً أو مريضاً . ومن ثم فمن المستحيل صد هذه العاطفة ومجافاتها بالعقل ، أو معارضتها ومناقضتها للصدق والذهن ؛ طالما أن هذا الصد ، وهذه ” المجافاة” تتأسس في اختلاف الأفكار وتناقضها ، وهي الأفكار التي ينظر إليها علي أنها “نسخ” تتطابق أصيلة مع”الموضوعات” التي تكون هذه الأفكار تمثيلاً لها (50) .

8—وفيما يخص الفقرة الثامنة ، فنجد ” محمد مدين ” يقول :” في التمييز بين العلوم الأخلاقية  والطبيعية” (51) ، هنا نجد ” محمد مدين ” يريد أن يؤكد بأنه ليس أمامه إلا طريقة واحدة لتأكيد التمييز بين العلوم الأخلاقية والعلوم الطبيعية ، وذلك بالإشارة إلي التقابل بين الإثنين وذلك فيما يتعلق بأمرين هما : منهج البحث الخاص بكل منهما ، وموضوع البحث الخاص بكل منهما . فإن هناك ، فيما يري ”  محمد مدين” ، علاقة جدلية بين ، ” المنهج” و ” الموضوع” ، فالأول منهما يحدد الثاني والعكس أيضاً صحيح ، حيث يحدد الموضوع بدوره منهج تناوله .. فالكتاب الأول يتناول عالم الخبرة الإنسانية ، وهو عالم معطي لنا باعتباره سلسلة من البسائط ، وهي ، ” الجزئيات” أعني معطيات حسية ، والمعرفة هنا معرفة ” مركبات” من هذه ” الجزئيات” ، وينظر إلي الذهن هنا علي أنه ” حاصل جمع خبرته” ، ومن ثم يمكن ، من الناحية النظرية علي الأقل ، القيام بعملية ” تحليل” أو “رد” هذا الذهن إلي حشد الجزئيات الأصلية التي كان قد إختبرها وعاناها ؛ فالكتاب الأول يتضمن نظرية في المعرفة والإدراك تقوم علي مفهوم ” السببية” ؛ وبعبارة أخري نظرية ” ميكانيكية” ” آلية” ، وإذا كان ذلك كذلك ، فإن محتوي الذهن يمكن رده إلي جزئيات وبدون أن يتبقي شئ ، بينما يتضمن الكتاب الثاني والثالث معني وقيمة العالم ، فلا تقدم لنا النظرية الأخلاقية خبرتنا فحسب ، فهي لا تتعامل مع العالم باعتباره معطي جاهز لخبرتنا به ، وإنما تزودنا بمعني وقيمة هذه الخبرة (52) .

9- وفي الفقرة التاسعة ، نجد ” محمد مدين” يقول :” في المشكلة المنطقية الخاصة بعلاقة ” الواقعة” و” القيمة” (53) ، وفي شرح هذه الفقرة يقول ”  محمد مدين” :” ولعلنا لا نعدو الصواب ، لو قلنا أن الصعوبة الأساسية في محاولة مناقشة ” ثنائية الواقعة  – القيمة وتقدير أهمية هذه الثنائية تتلخص في أنه ليس من الواضح ، بالنسبة لكثير من فلاسفة الأخلاق ، ما هو الذي يمكن أن نستخدمه كدليل علي هذا التمييز ، أو هذه الثنائية ، أعني ما الذي يمكن أن نستهدفه بحيث يكون هو دليلنا علي التمييز بين الواقعة والقيمة (54) .

ويستطرد ” محمد مدين” فيقول :” فمن المؤكد أنه بالإمكان أن نبين ، وعلي نحو مستقل ، كيف أن التصورات ، أو الحدود الأخلاقية ، أو القيمية مختلفة ، وعلي نحو أساسي ، عن التصورات ، أو الحدود الواقعية ، أو الوصفية ، مما يترتب عليه أنه من غير الممكن للأحكام القيمية التي تحتوي علي تصورات أخلاقية أصيلة وخالصة أن تستدل استدلالا صحيحاً من أحكام واقعية خالصة ، ولكن لا يتأتي عن هذا أنه حتي في حالة ما إذا استطعنا تقديم برهان مستقل ، أو تدليل قائم بذاته ، علي “عدم إمكانية استدلال” القيمة من الواقعة فقط ، أن يكون هناك لذلك ، اختلاف مبدئي وأساسي بين بين القيمة من جهة والواقعة من جهة أخري : فإن عدم إمكانية استدلال ” الينبغية” من ” الكائنية” ، إنما ينتج عن حقيقة التمييز بين ” القيمة” و” الواقعة” ، والعكس غير صحيح (55) .

10- وأما الفقرة العاشرة ، وفيها يقول ” محمد مدين” في المقارنة  بين التبرير اللغوي للفصل بين الواقعة والقيمة والتبرير القانوني للرباط بينهما ، وفي توضيح هذه الفقرة يقول مؤلفنا :” ولعل الفيلسوف الإنجليزي ” ريتشارد هير” هو أفضل تعبير عن هذه الحالة التي يتآزر فيها المنهجان كما يظهر بوضوح في كتابه ” لغة الأخلاق” الذي يقدم فيه مثالاً لهذا التناول المصحوب بالاعتماد علي التمييزات اللغوية .. فقد قدم لنا قضيتين كما يري المؤلف ويمكن تلخيصهما علي النحو التالي: أن اللغة الأخلاقية في استخدامها الأساسي هو استخدام إرشادي وإيعازي وليس استخداماً وصفياً ، كما أنه لا يمكن استدلال أن كل الحقائق من قبيل ” أن هذا خير في ذاته” هي حقائق مستقلة منطقياً عن أية حقائق تتعلق بما هو موجود (56) .

  ولما كان ” ريشارد هير ” كما يري  المؤلف ينظر إلي الأخلاق علي أنها ” الدراسة المنطقية للغة الأخلاقية ” ، إلا أن اللغة المنطقية لغة تبدو في كثير من الحيان لغة عصية وليس من اليسير الاستحواذ عليها ، ومن ثم فإن “التحليل الفلسفي” ، هذا التحليل الذي لا يكون مجرد تحليل لغوي ، هو فقط الذي يمكنه ” الكشف” عن “الطبيعة المتميزة لهذه اللغة ” ، ومن ثم يلزم للتحليل اللغوي أن يسلم بان كل التعبيرات اللغوية التي تشتمل علي ما يعد حدوداً اخلاقية أصيلة هي بدورها تعبيرات لغوية ذات طبيعة أخلاقية علي الأصالة ، ومن هذه الحدود الأخلاقية حدوداً من قبيل ” الينبغية” و” الوجوب” و” الخيرية” و” الصواب” .. الخ (57).

ويخلص المؤلف ” محمد مدين قائلا:” ولعلنا لا نجانب الصواب لو قلنا أن هذا هو السبب الدي دفع ” ريتشارد هير” إلي أن ينظر إلي القضية التي تقول ” ينبغي علي أداء س” ” قضية قيمية عصية” ؛ فما أن نقبل بالمعيار اللفظي أو اللغوي ” للحكم الخلقي” إلا ونجد أنفسنا مدفوعين ليس فقط إلي إاقمة تمييز بين الحدود “الوصفية” و” القيمية” ، وإنما نجد أنفسنا ، بجانب ذلك ، مضطرين إلي أن نلجأ في نهاية التحليل إلي التعريف اللفظي لكي ندافع عن هذا الفصل والتمييز وذلك كما فعل “هير” نفسه (58).

11- وفيما يخص الفقرة الحادية عشر ، فنجد المؤلف ” محمد مدين”، يقول :” في أن هيوم لم ينكر إمكانية العلاقة بين ” الواقعة” و” القيمة” ، أو العلاقة بين الكائنية والينبغية ” (59) ، ولتوضيح هذه الفقرة يقول المؤلف :” ونحن إذا كنا نعرض لموقف ” هيوم” من قضية “عدم إمكانية الاستدلال” ، أعني عدم إمكانية استدلال ”  الينبغية” و” الكائنية” “فليس هذا بهدف توضيح مواقفه العام فحسب ، وإنما لمناقشة الفكرة الشائعة عنه ، ويعني بها المؤلف أن هيوم يدعم الفصل بين ” القيمة” من جهة ، و”الواقعة” من جهة أخري . فالدليل الذي يقدم من جانب أصحاب هذا الرأي كما يري المؤلف هذا الرأي مثل ” هير” ، علي أن هيوم ينكر إمكانية الاستدلال ، أعني عدم إمكانية استدلال ”  الينبغية” من ” الكائنية” ومن ثم الفصل بين القيمة والواقعة والتمييز بينهما هو دليل يعتمد علي فقرة واحدة ذائعة الصيت في كتابات فلاسفة الأخلاق المعاصرين ، وهي الفقرة الأخيرة في القسم الذي جعل “هيوم” عنوانه ” التمييزات الأخلاقية غير المستمدة من العقل” ، وهو الموجود في الكتاب الثالث من الرسالة (60) .

  وهذه الفقرة تؤكد وبوضوح كما يري المؤلف علي أن “ينبغي” و” لا ينبغي” علاقة مختلفة ومتميزة عن علاقة “يكون” و” لا يكون” ، وأن استقدام العلاقة الأولي في المذاهب الأخلاقية يقتضينا ملاحظته وتفسيره ؛ ولكننا لا نستطيع كما يؤكد المؤلف علي هذا وحده أن نستنتج أن ” هيوم” يقيم فصلاً منطقياً بين ”  الينبغية” و” الكائنية” لأننا لو افترضنا هذا فسيكون افتراضنا كما يقول المؤلف مساوياً لأن نفترض أن هيوم عند هذه النقطة في الرسالة يقيم تمييزاً من شأنه تدمير برنامج الجزء المتبقي من الكتاب الثاني وكل الكتاب الثالث ويقضي عليه (61) .

12- وننتقل إلي الفقرة الثانية عشر ، وفيها يقول المؤلف :” في أن كيفيات القيمة ليست مستقلة عن الذات ” (62) ، وفي شرح هذه الفقرة ، يقول المؤلف بأن ” إذا كان “هيوم” يعيب علي فلاسفة الأخلاق تصورهم للوجود المستقل للكيفيات الأخلاقية والقيمية عن الذات فإنه يعيب بالمثل علي المناطقة تمييزهم بين التصور والحكم والاستدلال ، ويري أن الصواب هو رد هذه الأفعال الثلاثة إلي الفعل الأول ، فهي ليست شيئاً سوي أنها “طرق معينة” للإدراك ، أعني ” إدراك الموضوعات” .. ولكن بالرغم من أن الإدراك المباشر يؤدي بنا إلي أن نشعر بأننا لسنا علي خطأ ، وذلك بالنظر إلي المحتوي الموضوعي للوعي ، فإننا ، مع ذلك نقع دوماً في خطأ . وهذه هي الفجوة الحقيقية التي أشار إليها هيوم عندما كان يتحدث عن التمييز بين ” الكائنية والينبغية” . ومن ثم فإن مهمة البحث عن معيار موضوعي للأحكام الأخلاقية هي ” التحدي ” الذي تصدي له هيوم في الكتابين الثاني والثالث من رسالته ، مما أدي في النهاية إلي استبعاد كل الأنساق الأخلاقية التي يصفها بأنها أنساق رديئة وفاسدة (63) .

  إن هيوم كما يري المؤلف ينتقد هنا النظريات الأخلاقية التي تحاول التوحيد بين ” الأخلاقية” و” السلوك العقلي” ، فقد لاحظ هيوم وذلك قبل فقرة ” الكائنية- الينبغية مباشرة ” أنه لا شئ أكثر شيوعاً في الفلسفة ، بل وفي الحياة اليومية الجارية أيضاً، أكثر من الحديث عن صراع العاطفة والعقل ، وضرورة أن نعطي الأفضلية في هذا الصراع للعقل ، وأن نؤكد علي أن الناس يصبحون فقط  فضلاء بقدر توافقهم مع أوامر العقل ونواهيه ، وأن التوحيد بين الرذيلة والفضيلة من جهة والسلوك العقلي من جهة أخري سيؤدي وبوضوح إلي اسبتعاد مشكلة ” الكائنية/ الينبغية ” وذلك لأن عملية الاستنباط التي ننتقل فيها من ” ما هو كائن” إلي ” ما ينبغي أن يكون ” سوف تتضمن “عملية” عقلية برهانية ؛ أعني ” عملية عقلية يمكن التدليل عليها” وبناءً علي هذه الوجهة من النظر كما يري المؤلف فإنه ينبغي علي المرء أن يؤدي ما يقضي به العقل ؛ أعني ما هو متضمن عقلياً في الظروف الفعلية ، وأن يؤدي ما يخلص إليه العقل ” بعد النظر في الظروف الفعلية” (64).

13-  وفيما يخص الفقرة الثالثة عشر ، فنجد المؤلف ” محمد مدين يقول :” في أن هدف نظرية القيمة اكتشاف المبادئ التي تتأسس عليها أحكام القيمة” (65) ، وفي هذه الفقرة يشرح الخلاف بين “هيوم” وغيره من الفلاسفة في هذا السؤال : هل نستهدف من بحثنا الاخلاقي تقديم تعريفات للتصورات الأخلاقية في حدود العقل والحكم التأملي المجرد أم نستهدف تقديم تعريفات لهذه التصورات في حدود العواطف الإنسانية والعادة والحاجة العملية؟

  وهنا يؤكد المؤلف بأن هيوم يشير مراراً إلي أن الأخلاق تهتم أساساً وعلي نحو كلي بالعاطفة ، وأن العقل أو الحكم لا يلعب باعتباره كذلك دوراً حيوياً في المشكلات الأخلاقية ، وقد أشار “هيوم” كما يقول المؤلف لهذه المقولة عندما كان اهتمامه موجهاً لبيان ” أسبقية العاطفة” ودورها المحوري في النظرية الأخلاقية ، وقصور العقل ودوره غير المحوري في السلوك  (66).

14-  ونتقل للفقرة الرابعة عشر ، فنجد المؤلف ” محمد مدين يقول :” في قصور التفسيرات الذاتية لنظرية هيوم في القيمة” (67) ، وفي تفسير هذه الفقرة يقول ” محمد مدين” : ” وتعد محاولة “شارلي برود” C.D.Broad لتفسير موقف هيوم الأخلاقي مثالاً واضحاً لفهم عبارات هيوم فهما حرفيا وبدون أية محاولة من جانبه لتأويلها وتفسيرها ، فقد رد ” برود” موقف ” هيوم” إلي صورة من صور ” الذاتية الخالصة” ، وإن مدعمة بتأييد اجتماعي ، وبرغم هذا يعترف “برود ” بأن ” هيوم” قد استهدف في حقيقة الأمر أن يكون ، في موقفه الأخلاقي ، موضوعياً وأن يقدم ” الأساس” أو “القاعدة” للخطاب الأخلاقي الصحيح ، ولذلك فإن ” هيوم” يسلم بأن عبارة ” س خير” ينبغي أن يكون معناها أكثر من مجرد قولي ” أنا أستحسن من هنا والآن” فإذا كانت عبارة ” أنا استحسن س هنا والآن” تعبر عن حكم خلقي فردي ، فإن عبارة ” س خير ” ينبغي ، إذا ما كانت صادقة ، أن تعني أن ” معظم” الناس يستحسنون بالفعل س أو يمكنهم استحسانه (68) .

 ولكن هذه النظرة  إلي موقف هيوم الأخلاقي كما يري المؤلف نظرة جزئية وذات بعد واحد ، ومع ذلك فقد يكون هناك بعض التبرير لموقف ” برود” من ” هيوم” وذلك لأن هيوم نفسه هو الذي أوحي لمفسريه بهذا الموقف ، وذلك في عبارته الشهيرة والتي أخذها النقاد علي نحو حرفي ونعني العبارة التي يقول فيها هيوم بأن “الأخلاق تتأسس علي مشاعرنا وعواطفنا وتعتمد عليها “، وهي العبارة التي اعتبرها المؤلف تعبر عن الموقف النهائي لهيوم (69) .

  والحق كما يقول المؤلف بأن المهمة الأساسية التي واجهت هيوم وتواجه كل فيلسوف يبحث في النظرية الأخلاقية ، هي محاولة إيجاد معيار موضوعي للتقييم الأخلاقي والدفاع عن هذا المعيار . ومن ثم فإننا في فهم نظرية “هيوم” كما يقول المؤلف عند العبارة الشهيرة التي أشار إليها فسنجد كيف أنه من المعقول أن تقابل دعوة “هيوم” إلي إيجاد معيار موضوعي بقليل من الاهتمام والتحمس من جانب كثير من النقاد وأن يرتد بها هؤلاء إلي موقف ذاتي خالص كما فعل ” جورج مور” و” برود” وغيرهما ، وذلك لأن دعوي الموضوعية من جانب “هيوم” سوف تتعارض في جوانب كثيرة هامة مع تأكيداته الأولي في الكتاب الأول من الرسالة وهي التأكيدات التي تتعلق بدور العقل في السلوك الإنساني والعلاقة بين التمل والإدراك المباشر (70).

 15- وفيما يخص الفقرة الخامسة عشر ، فنجد المؤلف ” محمد مدين يقول :” في التآزر بين العقل والعاطفة في حكم القيمة ” (71) ، وفي توضيح هذه الفقرة يقول المؤلف :” ويترتب علي تحليل ” هيوم” للتقويم الخلقي نقطتان هامتان في نظر المؤلف : الأولي : الأولي : أنه كان التقييم الأخلاقي لا يتأسس فقط علي العاطفة أو الوجدان ، فإن بإمكاننا أن نحسم اختلافتنا ونزعاتنا الأخلاقية . وهذا يعني كما يقول المؤلف أن بإمكاننا تطوير معايير أخلاقية موضوعية .. والثانية : أن العقل يقوم علي التقييم الأخلاقي بدور ضروري فليس العقل مجرد خادم للعواطف ، وإنما هو ضروري لهذه العواطف الخلقية بنفس القدر الذي تكون فيه هذه العواطف ضرورية للفعل ذاته (72) .

16-وإذا ما انتقلنا إلي الفقرة السادسة عشر ، فنجد المؤلف ” محمد مدين ” يقول :” في أن العقل شرط ضروري لحكم القيم الكلي والعام والمحايد ” (73) ، وفي توضيح هذه الفقرة يقول ” محمد مدين” :” .. فمن خلال العقل أو التأمل يتأسس التمييز بين العاطفة الأخلاقية ومجرد اللذة ، ومن ثم وفي هذا السياق فإن العاطفة ، وليس العقل ، هي الخاملة والقاصرة . فالتمييزات الأخلاقية هنا يتم إدراكها بالعقل و” هيوم” لا يجري هنا كما يري المؤلف استثناء من موقفه الأصلي الذي يقرر فيه العقل أو (التأمل) وحده لا يستطيع ، بحال ، إدراك الرذيلة والفضيلة أو يزودنا بدافع للسلوك الخلقي . والأخري ..  والأحري هنا كما يقول المؤلف أن نقول مع “هيوم” بأن العقل شرط ضرروي للتقييم الخلقي ، فليس هناك تقييم يمكننا وصفه بأنه تقييم أخلاقي ، إلا إذا كان هذا التقييم ناتجاً من وجهة نظر كلية وعامة ، أعني وجهة نظر نزيهة ومحايدة ، ولا يمكننا بحال تحقيق هذه الوجهة من النظر إلا من خلال الـتأمل والعقل (74) .

  ومن ثم فلا علاقة للمعايير الأخلاقية أو شأن بعدد الأفراد الذين يسعدون ، أو يشقون بشئ ما من الأشياء في نظر المؤلف ، وإنما تتعلق هذه المعايير الأخلاقية بالأسلوب ، أو بالنهج ، أو بالشروط التي يتم بها إدراك سعادتنا ، أو شقائنا وبؤسنا . وذلك يقول المؤلف بأن العاطفة والعقل يزوداننا معاً ، حيث لا يكفي الواحد منهما فقط ؛ بشروط التقييم الأخلاقي ، فلا يمكن بحال للعاطفة وحدها إن تحملنا وراء خبرتنا المباشرة ، وبالرغم من أن العاطفة الجمعية كما يقول المؤلف نقلاً عن “هيوم” بأن العاطفة الجمعية أو عاطفة الأغلبية يمكنها أن تزودنا بمعيار كلي وعام ، فإنها لا تستطيع ، علي أي نحو من الانحاء ، أن تزودنا بمعيار أخلاقي (75).

17- وعن الفقرة السابعة عشر ، فنجد المؤلف ” محمد مدين ” يقول :”في أن النموذج البيولوجي الدينامي ، وليس النموذج الميكانيكي الآلي ، هو الذي يمكن تطبيقه علي طبيعة هيوم القيمية” (76) ،  وفي شرح وتفسير هذه الفقرة يقول المؤلف :” إن الصوبة الأساسية في محاولة إظهار قصور التفسير السابق لموقف ” هيوم” لا توجد فقط في حقيقة أن ” هيوم” نفسه قد دعم ، وذلك في بعض المواضع في رسالته ، هذا التفسير ، ولكن الصعوبة هنا مردها إلي أن ” هيوم” لم يكن ، وذلك في بعض الأحيان ، يواجه المشكلات الفلسفية التي تواجهه مباشرة ، وإنما كان يواجهها علي نحو غير مباشرة ، فعندما كانت مبادئ فلسفته العامة تخفق في المواجهة الناجحة للمشكلة التي يكون بصدد إيجاد حل لها ، كان “هيوم” يقوم ، ليس علي نحو مباشر ، وإنما علي نحو غير مباشر ، بتعديل هذه المبادئ العامة ومراجعتها . فقد راينا كما يقول المؤلف ، علي سبيل المثال ، كيف أن ” هيوم” في الكتاب الثالث من رسالته ، قد ناقض وبوضوح موقفه الأصلي المتعلق بالنفس الإنسانية ، وهو الموقف الذي كان قد عبر عنه في الكتاب الأول ، فقد تحول هيوم من النظر إلي النفس باعتبارها حزمة من الجزئيات المنفصل كل منها عن الآخر والمتميز كل منها علي الآخر علي نحو مطلق إلي النظر إلي هذه النفس باعتبارها كل أو وحدة لدينا لها دوماً انطباعاً جلياً ، وقد حدث هذا التحول من جانب هيوم بدون تعقيب منه ، أو محاولة إعادة بناء موقفه الأصلي (77) .

 18- وفيما يخص الفقرة الثامنة عشر ، فنجد المؤلف ” محمد مدين ” يقول :” في ضرورة العلاقة بين الوقعة والقيمة ، وبين القيمة والإلزام ، وبين الكائنية والينبغية” (78) ، وفي تفسير هذه الفقرة يقول ” محمد مدين” :” ومن ثم فإن الزماتنا الأخلاقية تتعادل مع فضائلنا الخلقية وتتناسب معها ، وبعبارة أخري يمكننا أن نقول إن لدي هيوم علاقة ضرورية بين القيمة والإلزام ، أعني بين الخيرية والوجوب . فإن تحديد قيمنا الخلقية يعادل منهجياً ، تحديد إلزاماتنا الأخلاقية ، وبالمثل فإن تحديد الواقعة ، أو الحكم التجريبي يعد ضرورياً وشرطاً لازماً بالنسبة إلي الإلزام الخلقي بقدر ضرروته للاستحسان الخلقي ، فإن أي تغيير في الطبع والمزاج وظروف النوع الإنساني يمكن أن يؤدي بدوره إلي تغيير جذري في واجباتنا وإلزاماتنا (79).

   وعلي ذلك تكون العلاقة بين الكائنية والينبغية في نظر محمد مدين علاقة حميمة كتلك العلاقة الموجودة بين العاطفة والإرداة . وبعيارة أخري كما يقول المؤلف ، يمكننا أن نقول أن الينبغية الأخلاقية تتأكد ويتم تعزيزها بالعاطفة بعد أن تكون موضوعاً للنظر والتأمل ، أعني أنها تتأكد ويتم تعزيزها بعاطفة الاستحسان الخلقي (80) .

19- وإذا ما انتقلنا إلي الفقرة التاسعة عشر ، فنجد المؤلف ” محمد مدين ” يقول :” في أن دافع العدالة يوجد في العقل العملي وليس في العواطف الطبيعية” (81) ، ويفسر المؤلف هذه الفقرة قائلا:” ويجيب هيوم علي هذه الفقرة بقوله كما يذكر المؤلف بأن الكثير من فضائلنا واهتماماتنا الاجتماعية مستمدة من المبادئ الطبيعية للطبيعة الإنسانية ، وإن كان ذلك علي نحو غير مباشر ، فالعدالة علي سبيل المثال نجد دافعها المباشر والصريح في العقل العملي وليس في العواطف الطبيعية (82) .

  ثم يؤكد المؤلف فيقول :” إن تحليل هيوم لمفهوم العدالة ليس تحليلا موضوعيا بالمعني الذي يقدمه ، علي سبيل المثال ، جورج مور لهذا امفهوم في البرنكيبيا ، فلم يكن هيوم معنياً بأن يقدم للعدالة تعريفاً واضحاً وصحيحاً ، فالعدالة فيما يتصور ” هيوم” تصور اجتماعي دينامي ، متغير ، ومتطور ، ومن ثم لا يمكن ، بحال أن يخضع لهذا النوع من التعريف ، أو التحليل الشئ كالذي نجده في البرنكيبيا ، أو في الكتاب الأول من الرسالة ، وذلك لأن التغيرات في المزاج والتقلبات في الأحوال والظروف التي تحيط بالنوع البشري يمكنها أن تؤدي إلي تغير جذري فيما هو ملقي علي عاتقنا من الواجبات والإلتزامات ؛ فواجباتنا والتزاماتنا ليست ثابتة ، وإنما هي متغيرة بتغير الظروف والأحوال (83).

 20- وأخيراً نجد الفقرة العشرين ، حيث نجد المؤلف ” محمد مدين ” يقول :”في أن حكمة الرسالة في التأكيد علي أن تمييزات القيمة وقائع وأن التحليل لا يستهدف اللغة الأخلاقية ، وإنما وقائع الخبرة الخلقية ، وأن مشكلة نظرية القيمة منهجية (84) ، وفي تفسير هذه الفقرة نجد المؤلف يقول :” إنها لحقيقة واضحة كما يؤكد ” هيوم” ، أن ظروفنا تتغير وتتحول وتنقلب ، وأنه ينبغي علينا ، من ثم القيام دوماً بتقويم قيمنا ومؤسساتنا ، وأن نقوم باستمرار بإعادة تقييم هذه القيم من حين إلي حين .. وأنه إذا كان ثمة معايير أخلاقية ، فإنها إبداع بشري ، فالبشر هم الذين يبدعونها ويخلقونها ، وأنه إذا كان هناك معني للتاريخ ، فإن البشر هم الذين يخلعون علي التاريخ هذا المعني .. وبرغم أن هذا يعني أن القيم ليست مطلقة ، وليست نهائية ، فلا يترتب عليه افتقار هذه القيم إلي الاستقلال والموضوعية ، فالأخلاق مستقلة ، وهذه هي النتيجة اللازمة عن التحليل المنطقي ، ولكنه ليس التحليل الذي ينتهي إلي تعريفات لفظية مركبة ، وإنما هو التحليل الذي ينتهي بنا إلي وقائع الخبرة الأخلاقية فالتمييزات الأخلاقية وقائع ، ومن ثم فإن التعرف علي هذه الوقائع والقيام بعملية تحليل لما هو ما يميز نظرية القيمة والنظرية الأخلاقية عن غيرها من الدراسات من بعض مظاهر الفاعلية الإنسانية موضوعاً لها ؛ بالإضافة إلي أن المشكلة الأساسية التي تواجه نظرية القيمة ليست هي المشكلة الخاصة بالعلاقة بين القيم النهائية والقيم النسبية ، وإنما هي بالأحري مشكلة منهجية ، فهي مشكلة تتعلق بتحديد المنهج الذي يمكنه أن يزودنا ، بنجاح بنتائج موضوعية (85).

الخاتمة:

    في هذه الخاتمة أود أن أتساءل: هل نجح المؤلف  في تحقيق هذا الهدف الذي نذر كتابه له؟

  وهنا يمكن القول بأن “محمد مدين” كشف لنا من خلال هذا الكتاب الذي قمنا بتحليله أنه يعد بحق واحداً من المفكرين المصرين الذين نجحوا في تطبيق المنهج التحليلي علي الأخلاق ، ففي هذا الكتاب الذي بين أيدينا حاول ” محمد مدين” إعــادة النظــر فــي الدور الذي یقوم به العقل في نظریة القیمة والأخلاق عند هیـوم.

   كذلك وجدنا خلال مسيرتنا في هذا الكتاب الذي بين أيدينا وجود تطـابق بـین وجهـة نظـر “محمد مـدین” ومـا ذهـب إلیـه رسـل فـي 1946 بأن ” هیوم” كان یعتبر نفسه، فى المقام الأول، “فیلسـوف أخـلاق” وكـان تقـدیره لنفسـه كفیلســوف أخــلاق یفــوق تقــدیره لنفســه باعتبــاره “فیلســوف نظــرى”. ویعتــرف “هیــوم” بــأن كتاب “بحث فى مبادئ الأخلاق” هو أفضل أعماله على الإطلاق؛ إلا أن رســل یأســف، علــى حــد تعبیــر مــدین، علــى أنــه لــیس هنــاك مــن الفلاســفة المحدثین من یشاطره هذا الرأي ، ولكنـه یـرى أن هیـوم نفسـه یتحمـل جانبـاً مـن المسـئولیة، ولـیس ذلـك لعیـب فـى كتاباتـه الأخلاقیـة أو قصـور فیهـا كما يذكر تلميذنا المبدع ” د. السيد عبد الفتاح جاب الله” ، وإنمـا لأن هیـوم لـم یفصـح فـى هـذا الكتـاب صـراحة عـن “ماهیـة” التحلیـل الـذى أدى بـه إلـى الإدراك السـدید للمشـكلات التى لم یكن أحد من الفلاسفة السابقین علیه واعیاً بها (86).

    وفي النهاية لا أملك إلا أن أقول بأن كتاب ” فلسفة هيوم الأخلاقية” ، كشف لي بأنني إزاء نموذج نادر يصعب أن يتكرر، لمثقف واسع الثقافة، وكذلك لمفكر حر نزيه لا يقيم وزناً ولا يحسب حساباً إلا للحقيقة العلمية وحدها، وفوق ذلك وأهم من ذلك بالنسبة لنا، أنه كان يقدم مادته العلمية فى أسلوب بالغ الجاذبية والتشويق تجعلها أشبه ما تكون بالعمل الفني الممتع دون أن تفقد مع ذلك شيئا من دقتها الأكاديمية ، ولهذا لم يكن الدكتور ماهر عبد المحسن حين قال  بأنه :” یظل “محمد مدین” صاحب كاریزما ذات مسحة إنجلیزیة خاصة، في الحیاة وفي التألیف ، وروح مصریة متفجرة بالعواطف الإنسانیة الجیاشة.. فمن أراد أن یقرأ مدین فعليه بالكتابین الأول والثاني – إذا استخدمنا مصطلحات الدراسة – المعنیین بعلم الأخلاق، ولیس الكتاب الأول المعني بالتعریف النظري العقلي الصارم. فالدخول إلى عالم مدین یكون من خلال التركیب أكثر من التفكیك ، أي من خلال وضع نصوصه تحت أكثر من ضوء من أجل الخروج من البنیة المفاهيمية المغلقة التي تبدو – للوھلة الأولى – مهيمنة على النص ومانعة من الخروج منها .

  فتحية خالصة لأستاذي “محمد مدين” الذي كان وما يزال رمزاً من رموز المعرفة الموسوعية الفريدة، وواحداً من أصحاب الرؤية الفكرية والثقافية الشاملة.. بارك الله فى “محمد مدين”، وأفاد تلاميذه وقراءه بعلمه ووطنيته، بفكره وموضوعيته، بنقائه وطبيعته.

الأستاذ الدكتور / محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط .

مراجع وهوامش

1-إبراهيم يوسف النجار: الفلسفة التحليلية : من هيوم إلي راسل ، الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، مج 12، ع 63، 1991، ص61.

2-محمود سيد أحمد : الاعتقاد الديني عند هيوم : رؤية نقدية، عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مج 29 ,ع 1، 2000م، ص 110.

3-سليمة قايد : التصور التجريبي للفلسفة عند دافيد هيوم، مجلة الحكمة، مؤسسة كنوز الحكمو للنشر والتوزيع، العدد 31، 2014، ص 27.

4-المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

5- د. مصطفى النشار: د. محمد مدين وفلسفة القرن العشرين، مقال منشور بجريدة الوفد المصرية، Friday, 09 August 2019 19:23.

5- محمد محمد مدين : فلسفة هيوم الأخلاقية ، ص

6- محمد محمد مدين : قراءة في فكر مهران التحليلي، مجلة أوراق فلسفية، العدد العاشر، 2004، ص239.

7-المرجع نفسه،  ص 239.

8- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

9- ماهر عبد المحسن: فلسفة الأخلاق: مدين قارئاً هيوم، مجلة أوراق فلسفية، العدد 60، 2018، ص104.

10- المرجع نفسه،  ص 105.

11- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

12- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

13- السيد عبد الفتاح جاب الله: مدين “محمد” المنهج التحليلى فى الدراسات الأخلاقية، مجلة أوراق فلسفية، نشر أحمد عبد الحليم عطية، العدد 51، 2016، ص782

14- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

15- محمد محمد مدين : فلسفة هيوم الأخلاقية ، دار التنوير ، بيروت ، لبنان، 2008، ص 12.

16- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

17- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

18- المصدر نفسه، ص 7.

19- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

20-غادة إمام : منطق النقد الأخلاقي عند محمد مدين، مجلة أوراق فلسفية، العدد 60، 2018، ص 115.

21- “سعيد علي عبيد: منطق التصورات الأخلاقية في الدراسات العربية ” محمد محمد مدين أنموذجا، مجلة أوراق فلسفية، العدد 60، 2018، ص67.

22- السيد عبد الفتاح جاب الله:  المرجع نفسه، ص 777.

23- محمد محمد مدين : فلسفة هيوم الأخلاقية ، ص 10-11.

24-جوليا رخاوي: جوليا رخاوي: تحليل كتاب فلسفة هيوم الأخلاقية للدكتور محمد مدين، مجلة أوراق فلسفية، العدد 60، 2018، ص 152.

25- المرجع نفسه، ص 161.

26- محمد محمد مدين : المصدر نفسه، ص 14.

27- المصدر نفسه، ص27.

28- المصدر نفسه، ص28.

29- المصدر نفسه، ص29.

30- المصدر نفسه، ص31.

31- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

32- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

33- المصدر نفسه، ص32.

34- المصدر نفسه، ص32.

35- المصدر نفسه، ص 36-37.

36- المصدر نفسه، ص 41.

37- المصدر نفسه، ص42.

38- المصدر نفسه، ص45.

39- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

40- المصدر نفسه، ص48.

41- المصدر نفسه، ص50.

42- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

43- المصدر نفسه، ص51.

44- المصدر نفسه، ص57.

45- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

46- المصدر نفسه، ص 58.

47- المصدر نفسه، ص ص 59-60.

48- المصدر نفسه، ص 65.

49- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

50- المصدر نفسه، ص69.

51- المصدر نفسه، ص 75

52- المصدر نفسه، ص 76.

53- المصدر نفسه، ص 86.

54- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

55- المصدر نفسه، ص 87

56- المصدر نفسه، ص 88.

57- المصدر نفسه، ص 99.

58- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

59- المصدر نفسه، ص 100.

60- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

61- المصدر نفسه، ص 103.

62- المصدر نفسه، ص 111.

63- المصدر نفسه، ص 112.

64- المصدر نفسه، ص 113

65- المصدر نفسه، ص 123.

66- المصدر نفسه، ص 124.

67- المصدر نفسه، ص 133

68- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

69- المصدر نفسه، ص 135.

70- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

71- المصدر نفسه، ص 145

72- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

73- المصدر نفسه، ص 151.

74- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

75- المصدر نفسه، ص 152.

76- المصدر نفسه، ص 161،

77- المصدر نفسه، ص 162.

78- المصدر نفسه، ص 173

79- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

80- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

81- المصدر نفسه، ص 179.

82- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

83- المصدر نفسه، ص 182

84- المصدر نفسه، ص 187.

85- أنظر السيد عبد الفتاح جاب الله : المرجع نفسه ، ص 762-783

 

 

مقالات أخرى

تقديم كتاب:”خطاب الاستعراب بتونس في عهد الحماية، الخصائص والخلفيّات” لنجاة قرفال

قراءة نقدية لكتاب الفلسفة الأخيرة: رؤية معرفية سلوكية للفكر العربي للدكتور ظريف حسين

الاجتماع الديني الشيعي للدكتور علي المؤمن

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد