تُشكل المؤتمرات العلمية فرصة طيبة، لالتقاء أصحاب الفكر مِن المتخصصين فى فروع العلم والمعرفة المُختلفة، كونها أحد مَنافذ الاتصال العلمي، والتى ظهرت خلال القرن السابع عشر عندما اجتمعت كل منLincei, the Investiganti, the Cimento and Royal Society))؛ بهدف نشر المعرفة وأحدث الاتجاهات بين المُنتسبين لتلك الجمعيات العلمية من الدارسين والباحثين، كما كان تنظيم تلك اللقاءات يتم بواسطة الجمعيات العلمية والمؤسسات الأكاديمية المحلية بشكلٍ مستمر قبل منتصف القرن التاسع عشر.
وبدأت المؤتمرات العلمية تنطلق من المحلية إلى العالمية، وشَرعت المؤسسات العلمية والأكاديمية لإقامتها، تحقيقًا لثلاثة وظائف رئيسة، وهي: مساعدة الدارسين بتخصص معين، لتحسين بحوثهم من خلال المناقشات العلمية، والتغذية الراجعة فى ظل لقاءات بباحثين آخرين بنفس المجال، كما أنَّها تُشكل وسيلة لفتح باب النقاش والحوار العلمي حول قضايا جديدة بنفس التخصص وتبادل الآراء والخبرات بينهم، وكذلك تمثل أداة لتبادل المعلومات والمعارف التى يصعب تضمينها بمقالٍ مثل: التقارير، والنظريات.
تلك اللقاءات التى تُسهم بشكلٍ علمي فى التعرف على اتجاهات ومدارس متنوعة يَحفل بها تخصص معين، بل تغير من قناعات البعض، نتيجة التباحث حول قضايا علمية ومهنية مختلفة، وقد حظيت في الآونة الأخيرة باهتمامٍ صارت به صناعة مستقلة، وأصبح لها منصاتٍ علميةٍ واجتماعية اتخذتها مؤسسات علمية وكيانات أكاديمية متخصصة مِنبرًا؛ لدعوة الباحثين والمتخصصين لتقديم إنتاجٍ علمي.
وقد استفدت منها على المستوى الشخصي عندما شاركت فى المؤتمر العلمي الخامس لإعداد المعلم بجامعة أم القرى، والذي ساهم فى ثقل وتطوير أدائي العلمي والمهني إلى حد ما، وما زلت أسعى لتجويده، خاصة أنَّ مشاركتي نالت استحسان مِن قِبل الحضور؛ ممّا دفعني للسعي الجاد والمستمر بالمشاركة فى المؤتمرات المُختلفة داخل وخارج مصر، وهذا ما أشار إليه سعيد اسماعيل على (1990) قائلًا: وإنني لأذكر بهذه المناسبة أول مؤتمر أحضره خارج مصر، حيث كان ببغداد عام 1975، فقد كان له أثر كبير فى تحول فكرى هام لدى”.
وبناءً على ذلك، صارت تلك المؤتمرات أحد المصادر الرئيسة لطرح المعلومات والمعارف حول قضايا محددة داخل التخصص، وإن اختلفت حول قيمتها العلمية من تخصص إلى أخر، ليُشكل الفيصل هنا ما أشارت إليه أماني السيد (2010) إلى مدى تغطية أعمال مؤتمر ما من جانب خدمات التكشيف والاستخلاص التي تحدد مجموعة من المعايير والأسس لتقييم البحوث قبل تضمينها ضمن الخدمة.
وأصبحت المؤتمرات ذات أبعاد علمية وسياسية واقتصادية واجتماعية وإعلامية، ولها مؤسسات متخصصة لتنظيمها، والتي تتفاوت من حيث الجدية والتنفيذ من قبل المنظمين، وصارت تنافسية تجارية قبل أن تكون علمية، وهذا ما آلت إليه العديد من المؤتمرات فى الآونة الأخيرة، بل أكاد أجذم بأنَّها مصدر للرزق، خاصة فى ظل وجود مؤسسات مُنحت تراخيصها بعيدًا عن وزارتي التعليم، تحت مسمياتٍ عديدة مثل: الأكاديميات، والجمعيات، وقد يُعارض البعض ذلك بحجة وجود مثلها فى السابق، لكن هل هذا يُشبه ذلك؟ سؤال يحتاج للإجابة عليه مقالاتٍ كُثر، خاصة وأنها صارت ساحة مستباحه.
كما أنني لست معارضًا لقيام تلك المؤسسات، بل اعتبرها مصدرًا للتنافسية العلمية والاستثمار فى البحث العلمي، بل شريك مساعد، ووجودها مطلب” لازم لازب” على حدّ قول استاذنا العقاد، وأمرًا ضروريًا للاستمرار، وعلى الرغم من وجودها الضعيف والقليل مقارنة بالجامعات والأكاديميات والمعاهد العلمية، بل وجودها أشبه بقانون “پاريتو”(80/20)، لذا فنحن لسنا بحاجةٍ لتلك النسبة، لكونها لن تُؤتى ثمارها المرجوة، بل يجب تصحيحها لكي تكون المنافسة عادلة ومتكافئة.
كما دعا ذلك القائمون على تنظيم المؤتمرات بتلك المؤسسات لفرض اشتراكاتٍ مالية- سبقتها الجامعات في هذا الدرب- وتتزايد كل عام لمن كُتب لها الانتظام والانعقاد، كما أنها أصبحت تضم فئاتٍ من المضطرين للاشتراك بها من الباحثين عن النشر بهدف الترقية، وقد خلت من الكثرة الكثيرة من الأساتذة المتخصصين فى المجال؛ فضعف الانتاج وفقد اللقاء.
وقد برز ذلك بصورةٍ جلية وجود إحدى هذه الأكاديميات تُعلن عن ثلاثة مؤتمرات علمية لا يكاد يفصل شهرًا بينهم، وتحمل عنوانًا مفتوحًا، فكان نتاجها بحوثًا تحكمها المعايير الفنية، ويغيب عنها الرؤى الفكرية والعلمية، مما استوجب علىّ طرح سؤالٍ: متى تُحكم هذه الأبحاث؟ وكيف اطمأن للجنة العلمية مِصداقية تصحيح الأبحاث وفق معايير التحكيم المحددة؟ لتكون المفاجأة ” نتسلم الملخصات ونترك لك المجال شهرًا لتسليم البحث بصورةٍ كاملة” ليتبادر للذهن: كيف خرجت توصيات المؤتمر قبل الانتهاء من الأبحاث محكمة بشكلها العلمي؟ وهل ترتبط النتائج بما توصلت إليه البحوث؟
لنجد أنفسنا أمام مشكلة تلو الأخرى، فبدلًا من قيام اللجنة المنظمة بالإعلان عن كثرة الأبحاث المشاركة، وجودتها العلمية التى قد تُسبب ضغطًا فى الجلسات لزيادة عدد الأبحاث المقدمة، ويترتب عليها غياب المناقشات العلمية لتلك البحوث، حيث يقف أصحابها للتفاعل المباشر مع الحضور فى لحظةٍ “أشبه بالمسرح فى مجال الفن”، على حدّ تعبير (سعيد إسماعيل على،1990)، نجد إعلانًا بصفحات ومواقع عليمة تم التعاقد مع الرعاة للمؤتمر، مُنوهين عن فنادق الإقامة، والانتقال… وغيرها، لتتحول إلى مؤتمراتً تهتم بالشكلانية لا الجوهر العلمي.
وأخيرًا: هذه بعض من سلبيات المؤتمرات، تجعلنا نطرح العديد من التساؤلات حولها، لتتكاتف الجهود بهدف توفير المقومات الأساسية المادية منها والمعنوية والبشرية، لضمان التغلب عليها، حيث إن استمرارها يشكل خطورةٍ يجعلها تتحول لما يسمى بــ “التأطير” فتصبح أطر وبراويز قوالب فكرية تتكرر تَفقد الواقع والواقع يَفْتقد نتائجها.
الدكتور: محمد فكري فتحي صادق، مصري الجنسية، استاذ أصول التربية المساعد، كلية العلوم التربوية، الجامعة الإسلامية بمينيسوتا الأمريكية، ومدير وحدة المجلات العلمية بالجامعة، عمل سابقًا بجامعتي الملك سعود وأم القرى، له العديد من المقالات العلمية والصحفية في المجال: التربوي، والاجتماعي والسياسي، والأدبي.
المراجع
- السيد، أماني محمد محمد. (2010). نظم إدارة المؤتمرات العلمية ودورها في تحكيم ونشر بحوث المؤتمرات: دراسة للمواصفات الوظيفية. اعلم: الاتحاد العربي للمكتبات والمعلومات، ع 7، ص ص 338-389.
- علي، سعيد إسماعيل. (1990). المؤتمرات العلمية التربوية. دراسات تربوية: رابطة التربية الحديثة، مج5 , ج 26، ص ص 13-21.
7 تعليقات