الذات العربية بين الجلد والنقد

“نحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي”   محمد عابد الجابري 

 بعد توالي الهزائم والانكسارات العربية، على إثر الاصطدامات والرجات الحضارية التي خضخضت الكيان العربي في علاقاته بالحضارات الأخرى، خاصة حضارات الغرب، وعلى إثر زرع الصهاينة في فلسطين، التي لم تنفك معها الجروح تقطر دما.. وأيضا خيبات الأمل تتناسل الواحدة تلو الأخرى، بات من الطبيعي أن يتبادر إلى أذهان العرب مجموعة من الأسئلة من وراء هذا الوجود المستلب والمفعول فيه وبه في الآن نفسه، في احتكاك مع القضايا الوجودية التي تقض مضجعهم في كل حركاتهم وسكناتهم، حيث لا زالت قائمة بين أضلعهم، ولا وجود لمخارج منها إلا بالمزيد من التراكمات السلبية والتخلفية، هنا أتى العقل العربي منتقدا ليقف على تخوم الأزمات البنيوية المعاشة بمرارة لا حد لها، فحاول ولا زال يحاول، بالرغم من انحسار الفعل العقلي والتأملي في دوائر ضيقة من الشعوب العربية، إيجاد الإجابات والتأويلات والتفسيرات لكل الإشكاليات المطروحة، ومحاولات طرح البدائل الممكنة لتجاوز وتحقيق الخلاص من ربقة الانتكاسات الماضية والحاضرة، بحيث كل القراءات التي تناولت الأوضاع، السياسية، الثقافية، الاقتصادية، الفكرية، والاجتماعية، توقفت عند محطات الأزمة البنيوية التي جعلت من الكيان العربي يجتر ويلوك أسبابها المتعددة، بذلك نشأ سؤال النقد الثقافي على طول وعرض جغرافيتها من المحيط إلى الخليج.
 كل ثقافة في المعمورة لها رصيد ثقافي نقدي خاص بها، إذ لا يمكن أن نجد ثقافة تخلو من أسئلة مقلقة اتجاه ذاتها، ولا يمكن لأي كان ينتسب لثقافة ما إلا وانشغل عقله بشيء ما يعيه على خلاف ما هو معطى في الواقع بداخل كيانه، هذا هو شأن المثقف العربي الذي يوجه انتقاداته في اتجاهات عدة، صوب الدولة، النظام، المجتمع، السياسة، الثقافة، والسلوك البشري والمؤسساتي بداخل مجتمعاته، معتمدا على تأملاته وملاحظاته مع اختلاف في الأنماط التفكيرية لدى المثقفين العرب، حيث كل من موقعه المذهبي والأيديولوجي، متسلحا بأدواته المعرفية ومناهجه ووسائله الإجرائية للعمل على نقد الواقع المعاش، ولما لا وهو الأمين على الرساميل الرمزية والثقافية والفكرية والتربوية، وطليعة المجتمع في عمليات التوجيه العلمي والحضاري، شريطة اعتماده على الوضوح والشفافية في مسيرته النقدية من دون عقدة خوف ولا مجانبة الصواب والمعقول العقلي في مشروعه هذا، لأنه هو الكفيل بتشخيص المشكلات والأمراض، معريا على الحقائق الزائفة، كاشفا المغالطات السائدة في كل جوانب الحياة، فاضحا الأيديولوجيات المغرضة والمستهجنة، مخلخلا البنيات الثقافية والفكرية والسياسية الاستبدادية والتسلطية أو التي تنطوي على قدر كبير من الديماغوجيات والاستلابات كيف ما كانت طبيعتها، يقضا حيال كل فكرة فاحصا إياها برؤية تخالفها، نابشا في الحقائق الثاوية خلف الظواهر والسلوكيات. 
 وعلى إثر كل هاته الانتكاسات المتتالية في الواقع العربي، تأبدت الأوضاع التخلفية والرجعية على أكثر من صعيد، واستأسدت السلبية على كل أهرام المؤسسات، حتى غدا الإنسان العربي لقمة سائغة في أفواه القوى الرجعية الداخلية ومادة متناولة في وسع القوى العالمية، سياسيا، اقتصاديا، عسكريا، ثقافيا وأيديولوجيا، تغولت بداخله كل التحالفات بكل إمكاناتها المادية والرمزية، ليصدح صوت المثقف النقدي ويصرخ في وجه كل القوى المتكالبة على وجوده في أفق حماية ما تبقى من ماء وجه الكرامة، بمختلف الأجناس الثقافية، مستنهضا همم الجماهير الشعبية على أمل محاربة كل أشكال الهدر والضياع ومقومات الوجود الفعلي الموروثة عبر محطات تاريخية وحضارية، محينا لها ونافخا فيها روح الاستمرارية في الوجود، واضعا اليد على الجروح المندملة، كاشفا الأخطاء القاتلة، جاردا خانات الأزمات البنيوية، ليتقول البعض عن النقد الثقافي العربي كأنه نوع من الأمراض النفسية، الذي أصيب به المثقف، ووصمة عار في ذاته، فكيل له الاتهام بكونه يمارس عملية ” جلد الذات “، على غرار الفرد الفاشل أو إنسان له نزوع نحو القيام بإيذاء ذاته ونفسه، والذي أصبح عرضة الحالات النفسية المضطربة في نظر من يخالفه الرأي، كل من موقعه، علما أننا لم نستوف الشروط الكاملة للصيرورات الثقافية النقدية، في واقعنا العربي والإسلامي معا.
 لذا فقد بات النقد الثقافي في الساحة العربية / الإسلامية من الأسلحة الفعالة في وجه كل المتنكرين له في لبوس عدة، فحاجتنا إليه كبيرة كما حاجاتنا البيولوجية، لا زلنا في بداياته الأولى مادام أن الهوة تزداد اتساعا بيننا وبين الحضارات الأخرى تصاعديا، ولم نخرج من دوائر الأزمة القائمة، على أمل التغيير المنهي لكل شعارات الزيف والمغالطات والتخلف والاستبداد والفكاك من تحكمات القوى والقيود التي تكبل الفكر والعقل والإرادة نحو وجود أرحب في سلم حضارات الأمم والشعوب المتقدمة.

مقالات أخرى

أيّ نموذج إيتيقي للإنسانيّة المعاصرة

معطّلات الفهم في الشعر العربي المعاصر

شعريّة اللّباس

5 تعليقات

زينب سعيد 18 يونيو، 2021 - 8:13 ص
صديقي عبد المجيد، يسعدني ان نلتقي هنا مرة ثانية، لك كل الالق ومزيدا من العطاء
عبد المجيد بن شاوية 18 يونيو، 2021 - 5:44 م
كم أسعدتني طلتك البهية صديقتي العزيزة والفاضلة وأنا أقرأ تعيلقك الموسوم بصدق المشاعر النبيلة، الشكر الموصول لك على مرورك الطيب والعطر، والفضل يرجع لك حين قرأت مقالة الأستاذ الدكتور علي أسعد وطفة على صفحتك الفيسبوكية، في دخولي موقع مجلة نقد وتنوير، ومن ثمة الإطلاع على مواده المتميزة حقا، وكذا قراءة مقالك الجاد حول الترجمة، وقراءتك لكتاب حول الهجرة،كرافعة بناءة لأجل رقي الفكر العربي والإسلامي. تحياتي ومودتي ومحبتي الدائمة لك صديقتي العزيزة مجددا.
الحسين بوخرطة 18 يونيو، 2021 - 9:23 م
مقال هام يؤكد مجددا اعتماد تراكم المعارف الشخيصية العقل العربي، ويبرز الحاجة إلى نماذج سلوكية وتعليمية وتربية واضحة على شاكلة مساطر مرنة وقابلة للتطور والتأمل والتأقم مع مستجدات الحضارية، وإلى خطط ومناهج واضحة لتفعيلها.
الحسين بوخرطة 18 يونيو، 2021 - 9:27 م
مقال هام يؤكد مجددا اعتماد تراكم المعارف التشخيصية للعقل العربي وما ترتب عنه من ثقافة فردية وجماعية متباينة، ويبرز الحاجة إلى نماذج سلوكية وتعليمية وتربوية واضحة على شاكلة مساطر مرنة وقابلة للتطور والتأمل والتأقم مع المستجدات الحضارية، وإلى خطط ومناهج واضحة لتفعيلها.
عبد المجيد بن شاوية 19 يونيو، 2021 - 2:29 م
تحياتي لأستاذنا العزيز سيدي الحسين، أسعدت مجددا للمرة الثانية، بمروركم الكريم وبتوقفكم على وجهة نظر بسيطة للغاية لما نحن عليه وما يعتمل بدواخلنا من رجات ذهنية تؤرقنا كثيرا، ونحن العرب والمسلمون في أمس الحاجة لإعادة النظر والتأمل وإنتاج وإعادة إنتاج معارفنا نقدا وإبداعا، ليتسنى لنا مبتغى ما تفضلتم به في تعليقكم هذا. ولكم مني التقدير والإعتزاز مجددا أخينا الفاضل.
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد