النزعة الأشعرية في فكرمحمد سعيد رمضان البوطي

الشهيد الشيخ البوطي

  يحتل تجديد الخطاب الديني الإسلامي مكانة بارزة في الفكر الأشعري، فقد تناولوه بالبحث والدراسة واستخدموه كمنهج للتفكير في بعض المشكلات والمسائل الدينية، ولقد واكب ظهور الإمام “أبي الحسن الأشعري” (ت : 324هـ) علي مسرح الدراسات الكلامية تطوراً هائلاً في المنهج الذي كانت تستخدمه المعتزلة، وهو المنهج الذي اعتمد في جانب كبير منه علي العقل ؛ من حيث أنهم استخدموا بعض الأقيسة والإلزامات وعمدوا كثيراً إلي ضرب الأمثال واستخلاص الأحكام من المعاني المتضمنة في النصوص (1).

   غير أن الإمام الأشعري ؛ قد جعل هذا المنهج أكثر إحكاماً ودقة بمحاولته الاستفادة مما ورد في الفقه الشافعي؛ ويشهد كتاب الإبانة عن أصول الديانة بمقدار تأثر الإمام الأشعري بهذا الفقه ؛ علاوة علي أن جمهرة من العلماء اعتمدوه ونصروه، وخاصة فقهاء الشافعية, والمالكية المتأخرين، والأعلام الذين تبنوه من أمثال: الباقلاني (338 هـ – 402 هـ)، وابن فورك (ت. 406هـ/1015م)، والبيهقي (458 هـ -384هـ)، والإسفراييني (ت. 418 هـ) ، والشيرازي  ( 393 هـ -476 هـ)، والجويني (419 هـ – 478 هـ) ، والبغدادي (392-463 هـ)، والغزالي (ت: 505هـ)، والفخر الرازي (ت: 606هـ)، ، و سيف الدين الآمدي (551 هـ – 631 هـ) ، والعز ابن عبدالسلام (577هـ- 660هـ) ، عضد الدين الإيجي (680 هـ -746 هـ )، وتاج الدين السبكي ( 727 هـ – 771 هـ)، وغيرهم كثير، وتخرج على أيديهم عدد كبير من التلاميذ (2).

    وهؤلاء جميعا أجمعوا علي أن تجديد الخطاب الديني الإسلامي يقوم علي فكرة أساسية وهي الوعي والفهم للإسلام من ينابيعه الصافية، بحيث يفهم فهمًا سليمًا خالصًا من الشوائب، بعيدًا عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ونحن في حاجة ماسة إلى رجال يحسنون عرض الفكر الإسلامي ويصيغونه صياغة جيدة، تنقي الفكر من الخرافة، والعقيدة من الشرك، والعبادة من البدع والأهواء، والأخلاق من التحلل والانهيار.. رجال يتبنون كل تجديد مشروع يجمع بين القديم النافع والجديد الصالح، ويدعو إلى الانفتاح على العالم دون الذوبان فيه، منهجهم الثبات على الأهداف، والمرونة في الوسائل، والتجديد في فهم الأصول، والتيسير في الفروع. وأمتنا الإسلامية اليوم أحوج ما تكون إلى من يجدد لها إيمانها، ويحدد معالم شخصيتها، ويعمل جاهدًا لإيجاد جيل مسلم يقوم في عالم اليوم بما قام به الجيل الأول في صدر الإسلام (3).

  ويعد الدكتور “محمد سعيد رمضان البوطي” ، واحداً من أشهر العلماء والمشايخ  الأشعريين المعاصرين في سوريا في العقود الثلاثة الأخيرة من السنين، فهو متخصص في العلوم الإسلامية، ومن المرجعيات الدينية الهامة على مستوى العالم الإسلامي، وهو عالم عصري مجدّد، ورع مخلص، سليم الطوية، حسن النية والمقصد، غيور على شرع الله والأخلاق الإسلامية، جرئ في الحق، ملأ حياته وحياة الناس بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، والحكمة النافعة بالكتاب والسنة النبوية، متبع للسلف الصالح، محذر من البدع، وداعية إسلامي متفوق في كل ميدان ، اختارته جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم في دورتها الثامنة عام 2004 ليكون “شخصية العالم الإسلامي”، باعتباره “شخصيةً جمعت تحقيقَ العلماء وشهرةَ الأعلام، وصاحبَ فكرٍ موسوعيّ”، واختاره المركز الإسلامي الملكي للدراسات الاستراتيجية في الأردن في المركز 27 ضمن قائمة أكثر 500 شخصية إسلامية تأثيرًا في العالم لعام 2012 (4) ، ويُعد ممن يمثلون التوجه المحافظ على مذاهب أهل السنة الأربعة وعقيدة أهل السنة وفق منهج الأشاعرة.

      وقد شغل “البوطي” عدّة مناصب أكاديمية في حياته، فبعد حصوله على الشهادة من جامعة الأزهر عُيّن مُعيدًا في كلية الشريعة بجامعة دمشق عام 1960م، ثمّ أُوفد إلى كلية الشريعة من جامعة الأزهر للحصول على الدكتوراه في أصول الشريعة الإسلامية وحصل على هذه الشهادة عام 1965م، وفي نفس العام عُين مدرسًا في كلية الشريعة في جامعة دمشق، ثم أصبح أستاذًا مساعدًا، فأستاذًا، ثم في عام 1975م عُيّن وكيلًا لكلية الشريعة فيها، ثم في عام 1977م عُيّن عميدًا لها، ثم رئيسًا لقسم “العقائد والأديان”.

    وقد اشترك في مؤتمرات وندوات عالمية كثيرة تتناول مختلف وجوه الثقافة الإسلامية في عدد من الدول العربية والإسلامية والأوربية والأمريكية. وقد كان عضو في المجلس الأعلى لأكاديمية أكسفورد في إنجلترا. كتب في عدد من الصحف والمجلات في موضوعات إسلامية وقضايا مستجدة ومنها ردود على كثير من الأسئلة التي يتلقاها والتي تتعلق بفتاوى أو مشورات تهم الناس وتشارك في حل مشاكلهم (5).

   ولذلك عُدّ “البوطي”  من أهمّ من دافع عن عقيدتهم في وجه الآراء السلفية، وقد ألف في الموضوع كُتُباً مثل: “السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي” ، و”اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية”. كما ويُعد البوطي من علماء الدين السنة المتخصصين في العقائد والردّ على الفلسفات المادية وقد ألف كُتُباً عنها ، مثل: “أوروبا من التقنية إلى الروحانية، مشكلة الجسر المقطوع”، و”نقض أوهام المادية الجدلية”، هاجم فيه الفكر الشيوعي والإلحادي (6).

    ولذلك كان “البوطي” شخصية فكرية علمية لها وزنها في المجتمع السوري، وثقلها الشعبي في سوريا يوازي ثقل الشيخ “محمد متولي الشعراوي” في مصر على فارق بينهما، ولا يمل السوريون من الفخر به في كل مجلس ومحفل، ولا يقبلون النقد فيه، بسبب أسره لهم بأحاديثه في الإذاعة والتلفزة السورية، وهو صاحب بلاغة وفصاحة آسرة إذا تحدث، وصاحب قلم رشيق مؤثر إذا كتب، وكتابه (فقه السيرة النبوية) الشهير تربت عليه كل الحركات الإسلامية المعاصرة.

   ترك “البوطي”  أكثر من ستين كتاباً في علوم الشريعة، والآداب، والتصوف، والفلسفة، والاجتماع، ومشكلات الحضارة، كان لها أثرٌ كبيرٌ على مستوى العالم الإسلامي؛ وتميّزت كتاباته بأنه لم يقف فيها موقف المدافع الضعيف، بل واجه الغربيين بتسفيه أفكارهم وإبراز الدلائل العلمية على تهافتها، لا سيما تلك التي تتناول حقائق الإسلام، وملتزماً خلال ذلك جانب الدقة والحيطة في كل ما يكتبه أو يقوله.

   كما يعد “البوطي”  من كبار المهتمين بالعقائد والفلسفات المادية، وقد كانت رسالته في الدكتوراه في نقد المادية الجدلية؛ وهو من الناحية الفقهية يعد مدافعًا عنيدًا عن الفقه الإسلامي المذهبي التقليدي والعقيدة الأشعرية في وجه الآراء السلفية. وله في ذلك كتب، ولم تكن علاقته أيضًا بجماعة الإخوان المسلمين في سوريا جيدة، وكان أبدًا من نابذي التوجهات السياسية والعنف الجهادي، وقد تسبّب ظهور كتابه “الجهاد في الإسلام” عام 1993م في إعادة الجدل القائم بينه وبين بعض التوجهات الإسلامية (7).

  وقد استشهد “البوطي” يوم الخميس 21 مارس من عام 2013 ، وذلك أثناء إعطائه درسًا دينيًا في مسجد الإيمان بحي المزرعة في دمشق، فبحسب الرواية الرسمية، فإن تفجيرًا انتحاريًا قد أودى بحياة البوطي و42 شخصًا من بينهم حفيده، بالإضافة إلى إصابة 84 آخرين بجروح (8).

   وقد شُيّع جثمان “البوطي”  يوم السبت 23 مارس 2013 من منزله في دمشق، وصُلّي عليه في المسجد الأموي، ثم دُفن بجانب قبر صلاح الدين الأيوبي المحاذي لقلعة دمشق قُرب المسجد الأموي. وقد حضر الجنازة ممثلون من إيران ولبنان والأردن، كما أعلن يومَ السبت الموافق 23 مارس لسنة 2013 يومَ حداد عام في سوريا على الشيخ البوطي ومن سقط معه (9).

    وتعددت المواضيع التي كتب فيها “البوطي”  لثقافته الواسعة ، واهتماماته الكثيرة ، وقدرته الأدبية الكبيرة في إيصال أفكاره ومبادئه للقارئ ، وعندما يتصفح المتتبع لأعمال كتاباته ، يجد نفسه أمام كم كبير من المؤلفات التي تزخر بالعلم والمعرفة والمواد الصوتية المسجلة كمحاضرات ، أو حلقات تليفزيونية ، إضافة لموقعه علي الإنترنت ، ومع ذلك تبقي كتبه المتداولة بين أيدي القراء مرجعية علمية وثقافية عظيمة يصعب أن تحصي كلها شرحا وتفصيلاً.

  وللدكتور “البوطي”  إنتاج كبير ومتنوع من الكتابات التي تتناول شتي العلوم الإسلامية ، ولا سيما الفقه وأصوله والعقيدة ، وكذلك المناقشات الفكرية والدينية مع المخالفين في المنهج أو التوجه الأشعري الذي يؤمن به البوطي ؛ إضافة إلي المواعظ الرقيقة ، والنفحات الأدبية ، والأخلاقية ، والروحية ، وهو في كل هذا يتمتع بصياغة رشيقة حتي وهو يتناول أعوص المسائل ، ولم تخل غزارة إنتاجه بمستوي الكتابة لديه ، ويمكنه أسلوبه السهل الممتنع من استخدام مختلف أنواع الخطاب تقريراً ، ووصفاً ، ونقاشاً، وتحريضاً ، ودفاعاً ، وانتقاداً ، وحتي تقريعاً في بعض الأحيان ، حيث لا يخلو أسلوبه من حدة في بعض المواقف ضد منتقديه (10).

      ومن أهم ما كتب “البوطي” مؤلفه الشهير ، مع الناس ، المكون من جزأين ، ويتضمن هذا الكتاب الإجابة عن أسئلة وجهات إلي المؤلف من شريحة متنوعة من الناس تصور مشكلاتهم المعاصرة التي تهم كثيراً من المثقفين وتعطيهم رأي الشرع ، أما برنامجه التلفزيوني ” دراسات قرآنية” الذي أصبح عدد أجزاءه حتي اليوم ثلاثة ، فيضم عشرات الساعات الصوتية التي يتناول فيها مواضيع الحياة اليومية ومشكلات المسلمين المعاصرة وغير ذلك من الموضوعات الاجتماعية والفقهية والعلمية بأسلوب واضح (11).

   وفي كتابه ” كلمات في مناسبات ” يتناول “البوطي”  كلمات توجه بها في حديث إلي العالم مرة في كل شهر عن طريق موقعه علي الإنترنت تحت اسم كلمة الشهير ، وباللغتين العربية والإنجليزية معا . ويبرز في كل منها حدثاً شغل العالم في ذلك الشهر بحديث جامع لما ينبغي أن يقال فيه بإيجاز، يخاطب فيها أشتات الناس ممن يتلاقون علي شبكة الإنترنت علي اختلاف انتمائهم وثقافتهم وأوطانهم ، خلال عام ونيف ، وقد راعى البوطي في هذا الكتاب التنويع في الموضوعات، بحسب الأحوال والظروف، وعدد قليل منها كان مقالات كتبت في مناسبة ما، ويقول البوطي :” أن هذه الكلمات قد أخذ في رصدها منذ عشر سنوات، وتدوينها في تلك الورقات” (12).

   والكتاب الذي يستوقفنا جميعا هو ” شخصيات استوقفتني” الذي يبين فيه “البوطي”  مواقفه من شخصيات تاريخية هامة استوقفت المؤلف، الفضيل بن عياض – عبد الله بن المبارك – الإمام الغزالي- جلال الدين الرومي- بديع الزمان النورسي- جمال الدين الأفغاني- مصطفى السباعي- روجيه غاوردي، حيث قام حولها كلام “فيه غموض ، أو لفظ ، أو بطلان دار علي الألسنة ، حتي صار الوهم حقيقة” (13).

     أما كتابه الذي ترجم إلي للفرنسية ” منهج الحضارة الإنسانية في القرآن” ، فيتضمن كشفا عن بنيان قرآني متكامل لتربية اجتماعية فذة تتكفل بنهضة حضارية سليمة راسخة علي طريقة الإمام محمد عبدة في كتابه” الإسلام بين العلم والمدنية” ، ويبدو واضحا من خلال المقدمة التي قدمها البوطي والتي نقتطف جزء منها هنا ؛ حيث يقول :” وبعد ، فإن حديث الحضارة الإسلامية يعد في مقدمة البحوث التي حفلت بها المؤلفات والمقالات المعاصرة بقطع النظر عن مؤلفيها وكاتبيها مسلمين كانوا أو غير مسلمين ، ولكن الذي يلفت النظر أن جل هذه البحوث ، بل أكاد أقول كلها إنما يتناول من حديث الحضارة الإسلامية منجزاتها وآثارها ، في بحوث وصفية لا يري القارئ من خلالها إلا مشاهد وصور من للحضارة الإسلامية التي انبسطت خلال قرن علي ثلاثة أرباع المعمورة آنذاك، ثم امتدت علي أعقاب ذلك بالتأثير والانتشار ، حتي شملت معظم العالم ، تتمثل في علوم وفلسفة وطب وفنون مختلفة” (14).

  وفي كتاب ” فقه السيرة النبوية ” يستعرض “البوطي”  أحداث السيرة النبوية بطريقة واضحة متسلسلة ، حيث يبدأ سرد السيرة النبوية على مراحل تاريخية من ميلاده حتى وفاته صلى الله عليه وسلم. ويختم بموجز جامع لتاريخ كل خلافة من الخلافات الراشدة، ويتحدث عن أهم الأحداث التي جرت في عهد كل خليفة، ويعقب عليها خاصة حين تتعلق بفتنة أو شبهة؛ ثم يعقب علي أهم أحداثها ويستنبط منا الأحكام الدقيقة والدروس المستفادة والعبر (15).

     وإذا انتقلنا إلي إبراز النزعة الأشعري عند “البوطي” ، فنجد أنه خالف علماء السلف الذين يأخذون بخبر الآحاد في العقيدة ، كما قرر في مسألة خلق القرآن طبقاً لمذهب الأشاعرة ، وأكد أن الخلاف بين أهل السنة والجماعة من جهة ، وبين المعتزلة من جهة أخري في هذه المسألة ، إنما هو لفظي ، وأنهم متفقون في المضمون، كما يجير البوطي التوسل بجاه النبي صلي الله عليه وسلم بعد وفاته ، وأكد أن الأدلة الشرعية لا تفرق بين التوسل بحياة النبي صلوات الله عليه أثناء حياته أو بعد مماته (16).

    وقد مثل “البوطي” في منهجه الدعوي وفكره ما يسمي التيار الوسطي ، وهو تيار يقف في الخط الوسط بين السلفية والصوفية ، فيرفض ممارسات الصوفية وسلوكياتها ، كما يرفض في الوقت ذاته تشدد السلفية في إنكار البدع ، وتضليل الآخر ، مع المحافظة علي الفهم الأصولي للإسلام ، ويتميز “البوطي”  بتركيزه علي العبادات ، والأذكار ، والأوراد ، ويعيب علي المفكرين انصرافهم عن هذه الأمور التي تعد الزاد الأول في طريق الدعوة إلي الله (17).

  وفي مجال العقيدة قسم “البوطي”  مباحث العقيدة الإسلامية أربعة أقسام ، وهي : الإلهيات ، والنبوات ، والكونيات ، والغيبيات، جرياً علي منوال “أبو حامد الغزالي” ومن قبله أستاذه “أبو المعالي الجويني” ؛ كذلك يؤيد البوطي الأشاعرة في فكرة “دليل الغائية أو الحكمة والتناسق” ، خلاصة هذا الدليل أنه يتخذ من المخلوقات دليلاً علي وجود الخالق ، وهذه المخلوقات تدل عن قصد في تكوينها ، وحكمة في تسييرها وتدبيرها ، فالنظام، والقصد، والانسجام، والحكمة الظاهرة في الطبيعة ومظاهرها المختلفة المتنوعة طرق ظاهرة لإثبات وجود الله تعالي؛ وهنا نجد “البوطي” يعلق علي هذا الدليل فيقول :” إن هذا الدليل قد نبه إليه القرآن الكريم ، قال تعالي (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ- “سورة الواقعة 68-69”) إلي غير ذلك من آيات الله عز وجل التي تنفي أن يكون هذا الكون قد جاء بالصدفة والاتفاق ، بل لا بد من وجود خالق دبر هذا الكون وجعله متألفا (18).

     كذلك تأثر “البوطي”  بالأشاعرة في قضية إثبات وجود الله فهو يؤيدهم متبنيا وجهة النظر الغزالية فيقول : لإثبات وجود الله عز وجل وما يتبعه منهجان : منهج التدرج من الأعلى ومنهج الصعود من الأدنى ؛ وطريق “التدرج من الأعلى” (19) ، وطريق “التدرج من الأدنى” (20) ، كذلك يتحدث “البوطي”  عن صفات الله تعالي علي نهج الأشاعرة؛ حيث نراه يقسمها إلي ثلاث صفات : نفسية وهي صفة الوجود ، وسلبية وهي صفة الوحدانية ، ثم الصفة المعنوية، وهي التي خالف فيها المعتزلة ، ثم ذكر “البوطي” بإفاضة هذه الصفة وبيان معني كل منها ودليله من حيث العمل، والإرادة ، والقدرة ، والسمع، والبصر (21).

   كذلك أيد “البوطي”  الأشاعرة في قولهم بالإيمان ، حيث اعتبر الإيمان مجرد التصديق القلبي فحسب ، وأن صاحبه ناجي يوم القيامة (22)، كذلك أيدهم في الإيمان بالملائكة والجن ، كما أيدهم في نظرية الرؤية وبالذات في حديثه عن اليوم الآخر وأحداثه، وأثبت رؤية المؤمنين لربهم – عز وجل – يوم القيامة ، إلا أنه نفي الجهة مطلقا مؤيداً بذلك رأي المعتزلة ، كذلك أيدهم عندما اعتبر حكم المرتد من باب الإمامة والسياسة الشرعية مخالفاً بذلك المعتزلة ومؤيدا للأشاعرة عندما اعتبر علة قتل المرتد الحرابة لا الكفر (23).

  لم يكتف “البوطي” بذلك بل  أيد الأشاعرة في قولهم في معارضة المعتزلة، عندما قال معهم بفكرة أنه :” لا يجب علي الله شيء والحسن والقبح في الأشياء اعتباري، حيث تحدث عن معني هذا الكلام ودليله بقوله :” فإن قلت كيف أفهم أن حسن الصدق وقبح الكذب اعتباري فالجواب : الله هو الخالق للأشياء والخالق لصفاتها، وهو الجامع بينهما – إذا أدركت ذلك علمت أن الله ليس مجبورا في خلقه أو حكمه علي شيء – يترتب علي هذا ثلاث حقائق –أولا: الأشياء خالية في أصلها عن سمة الحسن والقبح – ثانيا: يصدق قولنا بأن الله خلق القبيح وخلق الضار –ثالثا: ليس من صفات النقص التي تنزه الله عنها كونه خالقا للقبيح والضار (24)؛ وهنا نفي “البوطي”  تعليل أفعال الله وقال بنظرية الكسب الأشعري التي نادي بها “الباقلاني” ومن قبله أستاذه “أبو الحسن الأشعري” في ركن القضاء والقدر، واعتبر “البوطي”  الحسن والقبح في الأشياء اعتبارياً وليس جوهريا (25).   

     ومن مظاهر النزعة الأشعرية أيضا ما ذكره “البوطي”  حول مصير الإرادة الإنسانية أما إرادة الله ، حيث يقول كيف يكون الله مريداً ويكون الإنسان مع ذلك مريداً وتكون الإرادتان صحيحتان ، وهنا يقول البوطي :” لعلك تسأل : فكيف يعاقب الله الإنسان علي فعل من هو من مرادات الله عز وجل ، والجواب هذا الإشكال فرع من توهم أن الإرادة والرضي بمعني واحد وهو خطأ – لا تنافي بين كون الإنسان مريدا وكونه لا يخطي الإرادة الإلهية فإن قلت : فهذا مقنع لولا قوله تعالي ” وما تشاءون إلا أن يشاء الله ” ، وهنا نجده يصول ويجول لمناقشة هذا الأمر علي نهج الأشاعرة (26).

   وأما في مبحث النبوات رأينا “البوطي” أيضا متأثرا بالفكر الأشعري وخاصة في الحديث عن معنيي النبوة والرسالة ، وظاهرة الوحي من خلال الخبر التاريخي القطعي ،والحديث عن المعجزات وبالأخص معجزة القرآن ، وكذلك حديثه عن النبوة التي لا تأتي عن طريق الكسب (27)، وكذلك تأثر “البوطي”  بالأشاعرة في حديثه عن الغيبيات ؛ مثل حديثه عن الموت وقبضة الأرواح وعذاب القبر ونعيمه ، وأشراط الساعة ، ويوم القيامة وأحداثه  معللا ذلك بأنها واردة من خلال خبر الآحاد (28).

    وفي نهاية مقالي لا أملك إلا أن أقول: إن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا المجدد العظيم حقه بعد أن قُتل غيلة علي يد الداعشيين ، فتحية طيبة للشيخ الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي الذي كان يمثل لنا نموذجاً فذاً لرجل الدين المتحرر، والذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

   رحم الله الشيخ البوطي ، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي. 

أ.د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

الهوامش

1-د. محمود محمد علي : العلاقة بين المنطق والفقه عند مفكري الإسلام ( قراءة في الفكر الأشعري) ط1، عين للدراسات والبحوث الإٌنسانية والاجتماعية، القاهرة، 2000م، ص 9-10.

2- فيضل بن فزار الجاسم : الأشاعرة في ميزان أهل السنة، المبرة الخيرية لعلوم القرآن والسنة، الكويت ، ط1، 2007، ص 111-119.

3-أنظر: برنامج مع البوطي في قضايا الساعة عبر اليوتيوب ، إعداد جمال الجيش ، قناة نور الشام.

4- المرجع نفسه.

5- مناف الحمد: محمد سعيد رمضان البوطي (فكر إطلاقي وبراغماتية متطرفة)، نشر بتاريخ- 19 أكتوبر 2020.

6- أنظر: نبذة عن حياة العلامة الأمام الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي ، موقع نسيم الشام : www.naseemalsham.com

7- أنظر: معالم مدرسة البوطي ، لقاء مع محمد توفيق البوطي، قناة الميادين.

8- أنظر: من قتل الشيخ محمد سعيد البوطي؟ ، قناة الميادين ، وقد أُذيع بتاريخ 27-3-2013.

9- المرجع نفسه.

10- سمير روبين عبد الحليم الجعبري: الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي وآراءه الاعتقادية – عرض ونقد في ضوء عقيدة السلف، متطلب الماجستير في أصول الدين (العقيدة) بكلية الدراسات العليا في جامعة الخليل ،2015، ص49.

11-  ربي محمد ديب الدرع: محمد سعيد رمضان البوطي .. الفقيه والمفكر السياسي، الوعي الإسلامي ، الكويت، س 44 ، ع 502، 2007م، ص 18.

12- محّمد سَعيد رَمضان البوطي: كلمات في مناسبات، دار الفكر ، سوريا ، 2013، ص 34.

13- محّمد سَعيد رَمضان البوطي: شخصيات استوقفتني، دار الفكر ، سوريا ، 1999، ص11.

14- محّمد سَعيد رَمضان البوطي: منهج الحضارة الإنسانية في القرآن، دار الفكر – بيروت، 2015، ص 4-5

15- محمد سعيد رمضان البوطي : فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة ،:  دار الفكر ، سوريا، 2018، ص 33-45.

16- سمير روبين عبد الحليم الجعبري:  المرجع نفسه، ص 55.

17- المرجع نفسه، ص 56.

18- محمد سعيد رمضان البوطي : كبري اليقينيات الكونية وجود الخالق ووظيفة المخلوق، دار الفكر ، سوريا، 1997، ص 148.

19- المرجع نفسه،  ص 142-149.

20- المرجع نفسه،  ص 106.

21- المرجع نفسه،  ص 120-121.

22- المرجع نفسه،  ص 156-159.

23- سمير روبين عبد الحليم الجعبري:  المرجع نفسه، ص 160-161.

24- محمد سعيد رمضان البوطي : كبري اليقينيات الكونية ، ص 149-154.

25- سمير روبين عبد الحليم الجعبري:  المرجع نفسه، ص 161.

26- محمد سعيد رمضان البوطي : كبري اليقينيات الكونية ، ص 155-159.

25- سمير روبين عبد الحليم الجعبري:  المرجع نفسه، ص 161.

27- محمد سعيد رمضان البوطي : كبري اليقينيات الكونية ، ص 179-182

28- سمير روبين عبد الحليم الجعبري:  المرجع نفسه، ص 162.

 

مقالات أخرى

ماجد الغرباوي : سلطة الفقيه والتشريع وفق منهج مقتضيات الحكمة

بيداغوجيا البرهان في فضاء الثورة الرقمية

ثوابت العدوان في العقيدة الصهيونية

2 تعليقات

د. عبد الصمد صقر 7 يونيو، 2021 - 12:10 ص
مقال جيد، ولعل الدكتور المحترم صاحب المقال التبس عليه أمر الأطروحة التي تقدم بها البوطي لنيل درجة الدكتوراه؛ فقد ذهب الدكتور الفاضل محمود محمد علي إلى أن بحثه (بحث البوطي) لنيل الدرجة كان في نقد الفلسفات المادية [ربما كان في ذهن الأستاذ الدكتور كتاب (نقض أوهام المادية الجدلية)] هذا وإن الدكتور البوطي كان منطيقا، وله -عدا نقض أوهام المادية الجدلية- كتاب في بابه هو من الأهمية بمكان؛ أقصد (كبرى اليقينيات الكونية) في حين أن المعروف عنه أنه ناقش أطروحة الدكتوراه في (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية). أترى الدكتور محمود محمد علي أبعد المرمى أم أن لديه معلومات في هذا الشأن يمكن أن يحيل عليها؟ مع خالص تقديري وعرفاني
الحسين بوخرطة 11 يونيو، 2021 - 8:27 م
الشكر الجزيل للدكتور العلامة محمود على هذا المقال الشيق . فعلا، الأهم بالنسبة لمجتمعاتنا العربية هو حاجتها إلى عقلانية شاملة متشبثة بخصوصيتها الإنسانية، عقلانية منفتحة تستمد مقوماتها من مثل المشاريع الفكرية السابقة واللاحقة ( فكر ابن رشد وآخرون كنماذج إبداعية في تاريخ حضارتنا العربية الإسلامية) . في زمننا المعاصر الحرام بين والحلال بين عند شبابنا وكهولنا وشيوخنا إناثا وذكورا، وحتى الأميين منا يميزون الصالح والطالح في القول والسلوك والممارسة، لتبقى التربية على التفكير لأنسنة السياسة والتنمية هدف أسمى في متناول الشعوب والأمة. فإذا كان الواقع يجبر الدول والمجتمعات على التحديث، فإن المنهج المتبع، المبالغ في اعتماد الانتظارية، لا يترتب عنه إلا هدرا زمنيا مذمرا، والتي تقوي مقاموة التعثرات في عبور مراحل المسار التنموي والتنويري. أليس من الأفضل تعميق الحوار والنقاش الفكريين قطريا ثم عربيا لترسيخ قاموس سلوكي وقيمي يليق بتاريخ الأمة العربية العريفة، ومن تم تثبيت مقومات نموذج تربوي وثقافي إدماجي ومندمج ويقوي الروح الجماعية المعرفية فكرا وعلما وأدبا.
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد