ابن المقفع.. الأديب الذي قتلته السياسة ظلماً!

عندما قامت الدولة العباسية، كان للفرس في قيامها تأثير جلي، وبدأت الترجمة على أشدِّها للانتفاع من ثقافة الفرس، والهند، والإغريق الذين سبقوا العربَ في دورهم الحضاري، ولازمت هذه الترجمة، في خط متوازٍ، وحركة تدوين العلوم المختلفة، وأصبحت الدولة تحتاج إلى نظام سياسي وإداري، واقتصادي وعسكري يَحكُمها، ويُدير شؤونها.

 وفي أوَّل نشأة الدولة العباسيَّة لم يكن الفقه الإسلامي قد نضج وتكامل، ولم تكن قواعدُ القضاء قد أخذت وضعها من الاستقرار والوضوح، وفي هذه الحقبة نلْقى “عبد الله بن المقفع” (ت:142 هـ/759م)، أحد أعلام الأدب الإسلامي، واحد أعظم العباقرة الذين عاشوا في عصرين متتالين: العصر العباسي والعصر الأموي، وكان معاصروه يقولون لم يكن للعرب بعد الصحابة أزكي من الخليل بن أحمد ولا أجمع، ولا كان في العجم أزكي من ابن المقفع ولا أجمع استناداً إلي أصله الفارسي، ولكن فارسية ابن المقفع لم تكن سوي أصل ؛ فهو الذي لم تفته هذه الفوضى التي عمَّت الدولةَ العباسية الناشئة في الجند, والقضاء, والخراج، وسوء صحبة الخلفاء من وزراء وعمَّال، فكتب إلي الخليفة “أبي جعفر المنصور” في هذه الموضوعات بأسلوب أدبي قشيب، وكان متأثِّرًا فيما كتب بالثقافة الفارسية.

 وقد كان أبو جعفر المنصور واحداً من أكبر دعاة العهد العباسي الذين نشطت في عهدهم ” الآداب السلطانية” ؛ حيث تنامت وتطورت تلك الآداب في منتصف القرن الثاني الهجري على يد مجموعة من كتبة الدواوين، والذين ينتمون إلي ثقافات قديمة سابقة على الإسلام؛ وبخاصة الثقافة الفارسية، حيث كانت “مرايا الأمراء”، أو “نصائح الملوك”, أو “الآداب السلطانية”، تقع ضمن الموروث الثقافي الذي ورثه الإسلام من موروثات الثقافات القديمة للبلاد التي قام المسلمون بفتحها، وهى عبارة عن مجموعة من النصائح والقيم التي تتعلق بالتدبير السياسي، وتقدم إلي الملوك والأمراء، ويتحدد فيها العلاقة بين أطراف المعادلة في نظام الحكم” (1).

 وكانت ” الآداب السلطانية” قد اعتمدت على نصوص أولى مؤسسة، مثل عهد “أردشير”، ورسائل “عبد الحميد بن يحيى الكاتب” وأعمال “ابن المقفع”، وأعمال “أرسطو” المنحولة, مثل رسالة “سر الأسرار”، ثم بعد ذلك أُعيد إنتاج معظم هذه النصوص في كل أعمال الآداب السلطانية على مدار التاريخ الإسلامي، ولقد انتحلت هذه النصوص بعضها بعضاً، حيث انتحل المتأخر المتقدم، ولذا بدت نصوص الآداب السلطانية لدى البعض بأنها: نصوص لا تنمو، ولا تغتني ولا تتطور، صحيح أنها كتبت في أزمنة مختلفة، ووجهت إلى ملوك وأمراء من عصبيات ودول مختلفة، وأن الذين أنجزوها لم يكونوا كلهم مجرد كُتاب، فمنهم القضاة، والمؤرخون، والفقهاء، والأدباء، والملوك، والوزراء، ومع ذلك ظلت النصوص تتناسل مستعيدة مضموناً معيناً، ووجهة محددة دون أن تتغير (2)؛ فهي تقوم في أساسها على مبدأ “نصيحة أولي الأمر” في تدبير شؤون سلطتهم معتمدة تصورًا براجماتيًا للمجال السياسي، مذوبة لكل تعارض محتمل بين الشرع والسلطان، ما يجعل منها فكرًا سياسيًا لا يطمح إلي التنظير بقدر ما يعتمد التجربة، ولا يتوق إلى الشمولية بقدر ما يلزم حدود الواقع السلطاني، وما يجعل الآداب السلطانية ثقافة سياسية مميزة فيما عرفته الرقعة العربية الإسلامية من ثقافات، وعلى وجه الخصوص الثقافة السياسية الفلسفية, والثقافة السياسية الشرعية (3).

 وتذكر المصادر المختلفة أن عبد الله بن المقفع ولد في قرية من قري فارس اسمها جور وموضعها فيروز آباد الحالية. يقول ابن النديم: أن اسمه بالفارسية “زوربه” ومعناها المبارك. وكان يكني قبل إسلامه بأبي عمرو. فلما أسلم سمي بعبد الله وتكني بأبي محمد. وهناك اختلافات حول مولده. وإن كانت بعض المصادر تذكر أنه ولد بين عامي 106 و107هـ. عاش ابن المقفع في أحضان والده بفارس وهنالك اشتغل بالثقافة الفارسية. ثم رحل في وقت لا نستطيع أن نحدده أيضاَ، وكانت هذه المدينة مليئة بالعلم والعلماء. ويظهر أن ابن المقفع كان على حداثة سنه وقتئذ من سعة العلم ونباهة الشأن وحسن الأدب بحيث اتجه إليه الولاة والأمراء، يطلبون إليه أن يكتب لهم عن دواوينهم، ويتقلد عندهم بعض الوظائف الهامة (4).

 وأما عن ثقافته فقد حوي ابن المقفع العلم في زمانه من أطرافه، فجمع بين ثقافتي العرب والعجم، فقد كان يتقن اللغة الفارسية إتقاناً فريداً، لم يتوفر إلا للقليلين من بني قومه، وحذق العربية وبرع فيها، فما زال القدماء يستشهدون بآرائه في الفصاحة والبلاغة؛ ومن ذلك قول الجاحظ: وقال إسحاق بن حسان بن قوهي: لم يفسر البلاغة تفسير ابن المقفع أحد قط. سًئل ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة، فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جواباً، ومنها ما يكون ابتداءً، ومنها ما يكون شعراً، ومنها ما يكون سجعاً وخطباً، ومنها ما يكون رسائل. فعامة ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعني والإيجاز هو البلاغة. فأما الخطب فهي بين السماطين، وفي إصلاح ذات البين، فالإكثار في غير خطل، والإطالة في غير إملال، وليكن في صدر كلامك دليل علي حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته(5).

 وأما كتاباته فنجدها تحمل فكراً سياسياً إصلاحياً، ففي كتابه (الأدب الصغير) يتحدث عن سياسة النفس. وفي (الأدب الكبير) يكتب عن سياسة الدولة. أما رسالة (الصحابة) فهي أشبه ما تكون بتقرير عن الوضعية العامة في الدولة العباسية الناشئة، مع بيان سبل إصلاح الفاسد منها. والحق أن ابن المقفع كان ” أول من دشن القول في (الأيديولوجيا السلطانية) في الثقافة العربية، وقد انصرف باهتمامه إلى الكتب السياسية، كما كانت في ذلك العهد (الأخلاق والآداب السلطانية)، فترجم فيها عن الفارسية، وأنشأ كتباً من تأليفه الخاص” (6).

 علاوة على أنه كانت لابن المقفع آثار أدبية كثيرة منها: كتاب “فدينامه” في تاريخ ملوك الفرس، وكتاب “آبين نامه” في عادات الفرس ونظمهم ومراسم ملوكهم، وكتاب التاج في سيرة أنوشروان، وكتاب “الدرة اليتيمة والجوهرة الثمينة”، في أخبار السادة الصالحين، وكتاب “مزدك”.

 والحضارة الفارسية التي انتمى إليها ابن المقفع وعمل على سريانها وتغلغلها في الأدب والفكر الإسلامي، هذه الحضارة هي أحد أهم روافد الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية، وفي العصر العباسي كان الفرس هم عماد الدولة يظهر ذلك من قول أبي جعفر المنصور”: ” يا أهل خراسان، أنتم شيعتنا وأنصارنا وأهل دعواتنا ” (7). فهم من قامت على أكتافهم الدعوة العباسية، وحملوا عبء إسقاط الدولة الأموية.

 لم يلبث أن ظهر في المجتمع العباسي أصحاب اللسانيين الذين يجيدون كلاً من العربية والفارسية إجادة تامة، فأدي ذلك إلى أن تنشط حركة الترجمة من الفارسية إلى العربية، ووجد أيضاً من الفرس من تعربوا وتحمسوا للعربية، مثل ابن قتيبة، كل هذه العوامل أدت لتأثر أفكار الناس وسلوكهم بالثقافة الفارسية التي يتعاطونها ويعيشونها ويعاشرون أهلها (8).

 وابن المقفع نتاج للحضارة الفارسية والإسلامية، وقارئ مطلع على الحضارة اليونانية، فجاءت أعماله الفكرية زبدة لهذه الحضارات ونتاجاً لتلك الثقافات التي أنتجتها. وفي مجال الفكر السياسي تعد مؤلفاته في القمة منه حيث تناول العديد من الموضوعات بالبحث والاستقصاء والنقد، وتقديم الحلول للمشكلات المختلفة وقرن بالفكر النظري الآراء العملية (9).

 وابن المقفع من المخضرمين الذين رافقوا الأزمات السياسية في زمن الدولتين الأموية والعباسية، فقد عاش في عصر من العصور الفريدة في حياة الأمة العربية والإسلامية، عصر تبدلات جذرية في البنية الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والروحية. فهو من ناحية عصر انتقال شهد سقوط دولة حاكمة وقيام دولة أخري، وقد بدأ سقوط الدولة الحاكمة بمقدمات عنيفة في القمع السياسي، وتفضيل للجنس غير العربي من الفرس وغيرهم، مما مهد الفرص لظهور الشعوبية والشعوبيين. ومن ناحية أخري فهو عصر تحول حضاري عظيم كانت تضطرب فيه القيم وتتصادم الأهواء، وبهذا تظهر مشكلة محاولة التقريب والجمع بين الجديد الطارئ وأصول العقيدة، والتوفيق بين العادات والقيم العربية وتقاليد غير العرب من فرس، وهنود، زنوج، وبربر، وغيرهم من الأجناس؛ التي أسلمت وخضعت عسكرياً للدولة الإسلامية. ولكن المؤرخين اتفقوا على أن الأجناس المتواجدة آنذاك، لم تكن ترغب في عودة الأمويين، لأنهم كانوا يحاربون كل من لم يوافق هواهم من خوارج وشيعة، ويهاجمون العجم، ويقفون ضد رغبتهم في معايشتهم والبقاء معهم والتعصب للجنس العربي. وبقيام الدولة العباسية بدأ دخول هذه الأجناس، وخاصة ” الفرس” الذين تأثروا بحياتهم السياسية، وأنظمتهم في الحكم حتى شغلوا مناصب عليا في السياسة هي في غاية الأهمية (10).

 واستطاع “ابن المقفع” أن يقنع المتلقي العربي (قارئًا وناقدًا) أنه أديب مهمته توليد المعاني الجميلة في قالب بلاغي أجمل لكنه كان، في حقيقة الأمر، يعمل على ترجمة القيم الكسروية والترويج لها في كتب عديدة بأسلوب عربي واضح وسلس، اعتبره بعضهم أنموذجًا في الكتابة، مما كرسه عبر الأجيال مرجعًا في أدب النفس واللسان. ولإدراك البعد الاستراتيجي لمشروع “ابن المقفع”، لابد من معرفة القضايا التي أثارها بأسلوبه الأدبي التمويهي؛ وهي قضايا ترتبط جوهريًا بموضوع الدولة (السلطان)، مما يجعلنا نشك في البعد الجمالي الذي تقترحه كتابات” ابن المقفع” كما يؤكد بعض الباحثين (11).

 لقد كان الموضوع الذي انكب عليه ” ابن المقفع” وحصر جهده فيه هو الأدب؛ وبالتحديد “الآداب السلطانية”، وتدور حول ثلاثة محاور: طاعة السلطان، أخلاق السلطان، أخلاق الكاتب. وهذا التركيز على السلطان، من حيث التأكيد على طاعته ورسم حدود أخلاقه في علاقة بالكاتب، يؤكد أن “ابن المقفع” كان ينظر لوظيفته من زاويتين:

1- من الزاوية الأولى، عمل على توظيف الأدب لتحصيل السلطة، ولذلك كان “ابن المقفع” يقوم بدور الخبير للدولة الجديدة، دور المفتي في شؤون الإدارة والحكم، وكان من الطبيعي أن تكون فتواه عبارة عن إيجاد السبل لتطبيق القيم الكسروية (12).

2- من الزاوية الثانية، عمل على تغيير الدولة من خلال تغيير السلطان، فقد كان تركيز “ابن المقفع” على السلطان خطة محبوكة لمحاولة تغيير الدولة، من فوق، لأنه كان على وعي بما يتطلبه التغيير من القاعدة من وقت لم يكن بإمكان “ابن المقفع” انتظاره، لأنه كان يفكر في الانتقال إلى الخطة الثانية، وهي إطباق السيطرة على الدولة من طرف العامل الفارسي، ومن ثم إعادة إحياء الإمبراطورية الساسانية، بما تجسده من قيم فكرية وسياسية، في قالب إسلامي.

 ولقد كان الإصلاح السياسي والاجتماعي وكُد ابن المقفع وديدنه، بعد أن تعمق في دراسة الحياة الاجتماعية والسياسية، وتقف أداب قومه الفرس، المتعلقة بشؤون الدولة وقواعد الحكم وسياسة الرعية، فأراد أن يقدم حصيلة معرفته في هذا الميدان ؛ لما يري من اضطراب الأمور، واختلال القيم، وانعدام الحرية السياسية، في عهد تأسيس لسلطة جديدة، لابد لها – والحال هذه – من دستور تعليمي في الحكم، يهتدي الحاكم بهديه، فلا يظلم الرعية، ويحُسن السيرة فيهم ولعل أفضل قالب يصب فيه خبرته ومعارفه تلك، هو القص علي لسان الحيوان أو الحكاية المقنعة – إن صح التعبير – التي يضمن بها غائلة السلطان الجائرة (13).

 ولهذا يعد كتابه ” كليلة ودمنة” من أهم الكتب التي تحكي قصة الصراع بين الإرادة والوعي، أو بين السياسة والثقافة، أو بين السيف والقلم، وكان حس ابن المقفع النقدي الإصلاحي دافعاً إلى تلميحه الصريح – إن جاز التعبير – إلى غايات الكتاب دون مواربة كافية، قصداً إلى توجيه القارئ ليبلغ غايات الكتاب الباطنة.

 ولعل أهم محتويات الكتاب هو الحث على التعقل والتفكير في كل شئون الحياة من أكبرها إلي أصغرها، وعدم الانقياد لأي عقيدة انقياداً أعمي بلا وعي، وعرض أدب السلوك التي يتعين علي صاحب الإمارة مراعاتها إذا ابتلي بها، ذلك بأن يكرس كل وقته لعمله، وأن يكون جازماً في الحق، وحسن الاختيار، لا ينفرد بالرأي ن ولا يعنيه المدح أو الملق، يعاقب المسيء ويثيب المحسن، وعليه أن يسأل الناس، وان يأخذ الرعية بالفضيلة وتجنب الرذيلة (14).

 وإذا كنا في زماننا نقول ما بُني علي باطل فهو باطل، فقد كان ابن المقفع يري أن ما يبني علي غير أركان وثيقة، أي علي غير أساس متين، فإنه يتعرض للتصدع والتداعي ؛ ولسوء ظن ابن المقفع بالملوك نجده يحذر من مصاحبة الملوك، ويدعو للابتعاد عنهم، لأنهم أصحاب أهواء، لا يؤمن جانبهم، وكذلك يحذر الحاشية التي تتعامل مع الملوك من الوقوع في أي خطأ بسبب سوء طويتهم ويتعين علي الخليفة أن يصدر قانوناً يلزم الفقهاء والقضاة بعدم التضارب في أحكامهم علي الواقعة الواحدة ومن بدأ حديثاً يجب أن يتمه، لأن قطعه يثير الريبة، وسخف لا يليق، ولكل حديث موضعه، فإن أتي في غير الموضع فقد طلاوته وبهاءه كما أن خلط الجد بالهزل، أو الهزل بالجد، سخف أيضاً (15).

 ولهذا السبب نجد ابن المقفع يؤكد في كتاب ” كليلة ودمنة”، أن سبب تأليفه الكتاب هو غاية له، في الوقت ذاته فالكتاب – كما هو في الحكاية الإطارية أو الأساسية له – أُعد لإصلاح الملك الطاغية ” دببشليم” الذي طغي وبغي، وتجبر وتكبر، وعبث بالرعية، وأساء السيرة، وكان لا يرتقي حاله إلا ازداد عتواً. وكان في زمانه رجل حكيم فيلسوف، يقال له (بيديا)، فاستقر رأيه أن يواجه الملك، بما يعيده إلى جادة الصواب، ومحجة الهُدي، ثم ألف هذا الكتاب ” ليكون ظاهره لهواً للخواص والعوام، وباطنه رياضة لعقول الخاصة” (16).

 وهكذا يسعي ابن المقفع من خلال الحكاية المقنعة إلى تقويم الملك وإرشاده إلى سبل السلام، مع نفسه ومع الرعية، ومن ثم مع أعدائه ومناوئيه، وفي نهاية المطاف، يتوقف الملك عن توجيه الأسئلة للفيلسوف: ” فلما انتهي المنطق بالفيلسوف إلى هذا الوضع، سكت الملك ” (17). ومن هذه النتيجة للتخلص من فعل السرد أو القص، بيد أنه تخلص موفق محمود مرموز في الوقت نفسه؛ إذ يشعر القارئ أن الفيلسوف، حقق غايته من الكتاب، وهي ما أخبرنا به ابن المقفع نفسه، حيث قال: ” فإنه قد كمل فيك الحلم والعلم، وحسن العقل والنية، وتم فيك البأس والجود، واتفق فيك القول والعمل، فلا يوجد في رأيك نقص، ولا في قولك سقط ولا عيب. وقد جمعت النجدة واللين، فلا توجد جباناً عند اللقاء، ولا ضيق الصدر، عند ما ينوبك من الأشياء (18).

 ولعلنا نتفق مع ما ذهب إليه أستاذنا أحمد أمين، حين رأي أن ابن المقفع في موقفه من الخليفة المنصور، يحاكي موقف (بيديا) من (دبشليم)، لذا رأي أن ابن المقفع أن يفيد من الكتاب، بحسب رؤيته الخاصة به، والمتساوقة مع الإطار السياسي والاجتماعي لعصره، ليعمل في الخلفاء والرعية، ما فعله (كليلة ودمنة) في الملك (دبشليم)، ومن جاء بعده من الملوك في الهند وفارس، وهذا هو الغرض الأقصى من الكتاب، والمخصوص بالفيلسوف (19). وهذا هو واجب الحكماء في كل زمان ومكان، إذ إن ” الملوك لا تفيق من السورة إلا بمواعظ العلماء، وأدب الحكماء والواجب على الملوك أن يتعظوا بمواعظ العلماء. والواجب على العلماء تقويم الملوك بألسنتهم، وتأديبها بحكمتها، وإظهار الحجة البينة اللازمة لهم ليرتدعوا عما هم عليه من الاعوجاج، والخروج عن العدل.

 غير أن الحكاية المقنعة أو التقية إن جاز التعبير لم تُفد ابن المقفع فلم يحقق بغيته، كما حققها (بيديا) الفيلسوف، وذهب ضحية فكره الإصلاحي، وليس قتله عائدا إلى زندقته وشعوبيته – المزعومتين – كما رأي أحد الباحثين، حيث قال: ” إن ابن المقفع دفع دمه ثمناً لأول كتاب من كتب الأدب القصصي العربي المرتبط ارتباطا كاملا بالتراث الأسطوري. ولعل هذه الحقيقة تعطي لهذا الكتاب أهميته الحقيقية في فن الكتابة العربية كلها، كما تعطي ثقلها الحضاري لرجال الفكر العرب، ولدورهم الطليعي في الدفاع عن الفكر، والتضحية من أجل حضارة الإنسانية، وبقاء كرامة الإنسان (20).

 وكانت آخر كلمات ابن المقفع لسفيان بن معاوية: «والله إنَّك لتقتلني؛ فتقتل بقتلي ألف نفس، ولو قُتِل مائة مثلك لَمَا وفُّوا بواحد” (21).

 وهكذا راح الأديب العبقري والإنسان الفاضل، ضحية السياسة والخلافات السياسية داخل الأسرة العباسية، ولم يقتل كخصم سياسي، بل ألصقت به تهمة الزندقة التي هو منها بريء بشهادة مؤلفاته، وبشهادة الأبحاث التي دارت حول حياته وفكره (22).

أ.د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

…………

1- د. أحمد محمد سالم: دولة السلطان – جذور التسلط والاستبداد في التجربة الإسلامية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2011، ص 12-15.

2- المرجع نفسه، ص 16-19.

3- د. عز الدين العلام: الآداب السلطانية – دراسة في بنية وثوابت الخطاب السياسي، سلسلة عالم المعرفة – العدد 324- الكويت، 2006، ص 45.

4- د. عبد الرازق عبد الرازق عيسى: قراءة في الفكر السياسي لابن المقفع، نادي المدينة المنورة الأدبي الثقافي، مج 31، ع62،61، 2007م، ص 277.

5- أبو عمرو بن بحر الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق: عبد السلام هارون، ط5، 1405هـ، 1985م، ج1، ص 115-116.

6- قحطان صالح الفلاح: الأدب والسياسة: قراءة في كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع، جذور، النادي الأدبي الثقافي بجدة، مج 11 ,ج 2، 2009م، ص 66.

7- د. عبد الرازق عبد الرازق عيسى: نفس المرجع، المرجع السابق ص 277.

8- المرجع نفسه، ص 228.

9- المرجع نفسه، ص 228.

10- نوير بنت ناصر محمد عبد الله الثبيتي: تنوع الأداء البلاغي في أدب ابن المقفع، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة أم القري، كلية اللغة العربية، ص 15.

11- د. محمد عابد الجابري: العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته، مركز دراسات الوحدة العربية، ط4، بيروت، لبنان، 2000، ص329 وما بعدها.

12- المرجع نفسه، ص340 وما بعدها.

13- قحطان صالح الفلاح: المرجع السابق، ص 68-69.

14- نبيل فرج: ابن المقفع (724 – 759) الحاكم والرعية، مجلة الديمقراطية، مؤسسة الأهرام، مج 12 ,ع 4، 2012، ص 133

15- المرجع نفسه، ص 133.

16- قحطان صالح الفلاح: المرجع السابق، ص 69.

17- المرجع نفسه، ص 70.

18- المرجع نفسه، ص 71.

19- أحمد أمين: ضحى الإسلام، القاهرة / مهرجان القراءة للجميع 1999، ص 334.

20- المرجع نفسه، ص 72.

21- حسين جمعة: ابن المقفع إبداع بين حضارتين، دار رسلان للطباعة والنشر، 2016م، ص77.

22- ليلى حسن: كليلة ودمنة في الأدب المقارن دراسة مقارنة، مكتبة الرسالة، عمان، 1977م، ص16.

 

 

 

مقالات أخرى

شعريّة اللّباس

الإيهامُ في القصيدة العربيّة الحديثة

خطاب المقدمات في النقد العربي القديم

3 تعليقات

علي القاسمي 28 مايو، 2021 - 9:37 م
شكراً جزيلاً أستاذنا المفكر الكبير الدكتور محمود محمد علي على هذه الدراسة التي أمتعتني والتي تنناول العلاقة بين السلطة وبين المثقف في شخص ابن المقفع. وبوصفك من كبار المناطقة العرب المعاصرين، توقعت أنك ستتطرق إلى جهود ابن المقفع المنطقية الرائدة. ولعلك تريد أن تفرد مقالاً آخر لها. أكرر شكري ومودتي واحترامي. محبكم: علي القاسمي
الحسين بوخرطة 29 مايو، 2021 - 1:22 م
قرأت المقال وشدني بقوة إليه وإلى سطوره كلمة تلو الأخرى، وكأنه قصة محبوكة بإبداع راق جدا قل نظيره. لقد تطرق كاتبنا الكبير محمود محمد علي للروح النضالية الإصلاحية لدى الفاعلين والمثقفين والمبدعين في تاريخ حضارتنا إلى اليوم أمثال ابن المقفع، وهم كثر، وأثار مسألة التقية. لقد تبين بجلاء أن التقية في الكتابة سلاح تنويري فتاك بالاستغفال ولا يطيقه رواد السلطة المتغطرسة، يثير غضب المعنيين بها، ..... وقتل ابن المقفع، وترك لنا دروسا وعبرا في زمن حقوق الإنسان الكونية .....
الحسين بوخرطة 29 مايو، 2021 - 1:25 م
قرأت المقال وشدني بقوة إليه وإلى سطوره كلمة تلو الأخرى، وكأنه قصة محبوكة بإبداع راق جدا قل نظيره. لقد تطرق كاتبنا الكبير محمود محمد علي للروح النضالية الإصلاحية لدى الفاعلين والمثقفين والمبدعين في تاريخ حضارتنا إلى اليوم أمثال ابن المقفع، وهم كثر، وأثار مسألة التقية. لقد تبين بجلاء أن التقية في الكتابة سلاح تنويري فتاك بالاستغفال ولا يطيقه رواد السلطة المتغطرسة، يثير غضب المعنيين بها، ..... وقتل ابن المقفع، وترك لنا دروسا وعبرا في زمن حقوق الإنسان الكونية .....
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد