كثيراً ما نلجأ، في محاولة فهم حركة العالم، إلى المواد التي تنشرها مراكز الأبحاث والدراسات في الغرب. وفي غالب الأحيان، تكون القراءات والتأملات التي تضمها تلك المنشورات غنية المحتوى والمقاربات والخُلاصات. وما من شك في أنّ الكثير من تلك النتاجات المُحترفة تصبح مُدخلات حتميّة في صناعة القرار السياسي ووضع الاستراتيجيات القوميّة، والتي تزوّد المعنيين بالاستبصارات والإضاءات المعرفية في أكثر من حقل، لتتم إقامة الصلة بينها وتجميعها في أجندة عَمليّة يمكن كثيراً تعقُّب أصولها النظرية إلى أصحابها. وإذا نظرنا إلى تعريفات المفكرين الذين ينتجون هذه المواد المتنوّرة، وجدنا أكثرهم من أساتذة الجامعات، في العلوم السياسية والاقتصاد والفلسفة ومختلف صنوف المعرفة.
وهنا، نفتش عن دور أكاديميينا في الجهود المبذولة لتشخيص حالة بلداننا، واقتراح مخارج من أزماتها السياسية والاقتصادية، فلا نكاد نعثر له على أثر. وعلى سبيل المثال، يتوقع المرء من أساتذة العلوم السياسية والاقتصاد والفلسفة في الأردن تقديم قراءات ومقترحات قابلة للتطبيق لإدارة خروج اقتصادنا من أزمته وفق خصوصيّاته المعروفة، وأخرى لترتيب مشهدنا السياسي الذي يعاني من الفوضى والأزمة هو الآخر. وباستثناء بعض المواد التي تنجزها مراكز الدراسات القليلة من حين لآخر، والتي يغلب أن تكون استطلاعات رأي غير استراتيجية في طبيعتها، فإنّه يصعب الحديث عن مفكرين استراتيجيين يتمتّعون بالجديّة والواقعية والإقناع في بلدنا ومحيطنا العربي. ويخلص المرء إلى استنتاج أنّنا لم نصل بعد إلى تصديق جدّية الفكر النظري وأهميّته كمقدمة ضروريّة لا غنى عنها لإنتاج البرامج والسياسات العملية .
قد يُعزى هذا الكسل الغريب في الإنتاج المعرفي إلى قلّة الطلب، بمعنى أنّ العقل السياسي المعنيّ باتخاذ القرار غير راغب في استشارة الأكاديميين، أو أنّ الجمهور لا يُعنى بقراءة نتاجاتهم. كما أنّها ليست هناك جهات بحث ومؤسسات فكريّة كافية تستكتبهم وتتبنى مشاريعهم وتنفق عليها. وهذا صحيح على الأغلب. غير أنّ هناك أيضاً دوافع أخرى شخصيّة مُهملة غالباً لدى أكاديميينا، مثل الرغبة الخالصة في تعميق المعرفة وإنتاجها، وتحقيق الذات بوضع بصمة شخصيّة في العالم الحقيقي، وإفادة الوطن الذي ينتمون إليه. وقد أصبحت غاية الكثيرين من أكاديميينا تجميع كتاب منهجيّ يفرضون شراءه ودراسته على الطلبة؛ أو إنجاز أبحاث لأغراض الترقية بلا شغف، ونشرها في المجلات المحكمة التي لا يقرؤها سوى المختصّين؛ وتقديم بعض الاستشارات المسطحة أحياناً لتضمينها في المواد الصحفية، باعتبارها آراء خبراء .
لا غرابة إذن في أن تخرّج جامعاتنا طلبة سيئي التأهيل، وأن يكتنفها العنف وينقصها الانتماء وحبّ المكان. وثمّة فارق أكيد بين طالب يتتلمذ على مفكّر متفتح العقل، واضح الملاءة والجديّة في توليد المعرفة الجذّابة وتحريض العقل، وآخر يرى أستاذاً بلا هيبة، يُلقي عليه منهاجاً محفوظاً عفا عليه الزمن، ويكرره طوال عقود من عمله في بعض الأحيان، ويجهل قطعاً أين وصل العالم في الحقل الذي يُفترض أنه متخصص فيه . ولا أزعم بأنّ كل أكاديميينا لا ينطوون على إمكانات أفضل من ذلك، وإنّما تتضافر مجموعة العوامل الموضوعية والذاتية لتُجهض الحافز لدى المجتهدين، ويُصبح الانكفاء المعرفي هو العُرف والقاعدة .
إنّ المنطق الذي يحكم كل مسألة العِلم في بلادنا يقوم على فكرة تحصيل الشهادات من أجل العثور على عمل، فحسب. ويتأسس هذا الشعور في مراحل التعليم الأولى، حيث يسود الانطباع بأنّ الدراسة عمل منفّر وواجب ثقيل، لا متعة فيه ولا جدوى عمليّة. وتعمل المناهج التلقينية التي تُساعد كسل العقل على ترسيخ ثقافة استهلاك المعرفة المستوردة، مثل كل شيء آخر، وعدم تكلّف عناء تصنيع معرفة محليّة ربّما تكون رديئة وغير قابلة للتسويق. ولا يخفى أننا ننشغل دائماً بمجرد تقليب النظريات المستوردة الجاهزة، وبمحاولة تكييفها على مقاس مجتمعاتنا في أحسن الأحوال. ويغلب أن يُنتج ذلك رداءً مختلّ المقاييس وواضح التشويه.
الكثيرون من الأكاديميين يحبّون تسمية أنفسهم “علماء” في حقولهم. ويقتضي شغف العالِم بالاكتشاف، تجاوزه سلبيتنا السائدة البارعة في تعطيل القدرات، والعثور على شيء يصنعه بالأسس المعرفية التي حصّلها ودفع ثمنها مالاً ومجهوداً. ونحن أيضاً، نحبّ أن نرى عمَل علمائِنا في تشخيص عِللنا، وتنويرنا حول ما يجري، وما ينبغي.
2 تعليقات