الحتمية المنطقية في مدرسة وارسو البولندية : لوكاشفيتش أنموذجاً

  ”

المقدمة

     حين صاغ أرسطو (384-322ق م ) ما يعرف بقانون الثالث المرفوع أو الوسط الممتنع Law of excluded Middle في كتابه “العبارة ” ، أكد على أن : ” كل القضايا سواء كانت موجبة أو سالبة إما أن تكون صادقة أو كاذبة ، وكل محمول إما ينتمي إلي موضوع أو لا ينتمي . فكل محمول لابد من أن يثُبت لموضوع أو أن ينفي عنه، فتكون لدينا قضايا إما موجبة وإما سالبة، أو تكون إما صادقة وإما كاذبة ” (1).

     ونلاحظ مع  بعض الباحثين ، أن هذا القانون يقوم علي حصر كل ما في الكون في فئة، أوفي نقيضها ، الذي يصدق علي مالا تصدق عليه الفئة ؛ بحيث لا يبقي أي شيء في الكون ، لا يندرج تحت الفئة أو تحت نقيضها ، فليس هناك أي وسط بين الفئة ونقيضها ، وليس هناك أي احتمال آخر ، يمكن أن يكونه الشئ ، فيندرج تحت  ثالث  ليس  هو الفئة ، وليس   هو نقيضها ،  أو أن يتصف بصفة ثالثة ، ليست هي الصفة أو نقيضها . فهو يقرر مثلاً، أنه ليس هناك ثالث ممكن بين الوجود والعدم ، فالشيء إما موجود وإما غير موجود ، أو بين الصدق والكذب ، فالقضية إما صادقة وإما كاذبة (2).

  وقد دافع الرواقيون عن قانون الثالث المرفوع ، وذلك لارتباطه بمبدأ الحتمية Determinism  التي كانوا من أنصارها في موقفهم الفلسفي القائم علي أن الكون محكوم بقانون القدر الصارم الذي لا يسمح بأي استثناء. إذ لابد وأن تكون اختيارات الإنسان في الحياة اختيارا لما هو ضروري (3).

    ولذلك نراهم يعلقون أهمية كبيرة علي قانون الثالث المرفوع في الصورة الاستدلالية: إما الأول أو ليس الأول ، واستخدموه في البرهنة علي قانون النفي المزدوج أو تكافؤ القضية مع نفي نفيها ، بالاستعانة باللامبرهنتين الرابعة ( إما أن يكون الأول أو الثاني ، ولكن الأول ، إذن ليس الثاني ) والخامسة ( إما أن يكون  الأول أو الثاني ، ولكن ليس الثاني ، إذن الأول). ففي المبرهنة ” إما الأول وإما ليـــس الأول ، ولكـن الأول ، إذن لي ليس الأول ” ، وصلوا إلي البرهنة علي إدخال النفي المزدوج بالاستعانة باللامبرهنة الرابعة ، أو بضرب النفي بالإثبات، وفي المبرهنة :”  إما الأول وإما ليس الأول، ولكن ليس ليس الأول ، إذن الأول ” وصلوا إلي البرهنة علي حذف النفي المزدوج بالاستعانة باللامبرهنة الخامسة أو بضرب  الإثبات  بالنفي وبذلك برهنوا علي قاعدتي النفي المزدوج (4) .

     أما في تراثنا العربي – الإسلامي، فقد تمسك المناطقة العرب بقانون الثالث المرفوع  ،  فنجدهم يأخذون به حين  يعرفون القضية بأنها قول يمكن أن يقال لقائله ، إما أن يكون صادقاً فيه أو كاذباً ، وبعبارة  ابسط هي جملة خبرية تحتمل الصدق أو الكذب . ولذلك أطلقوا علي القضية  اسم ” القول الجازم ” ذلك لأن القول الجازم يقال لجميع ما هو صادق أو كاذب ، أما الأقاويل الأخرى ، فلا يقال لشيء منها أنه جازم ، كما لا يقال أنه صادق أو كاذب (5) .

  وأما في العصور الوسطي المسيحية ، فنجد القديس أبيلارد Abelard ( 1079 م– 1142م )، يأخذ بقانون الثالث المرفوع ، حيث يستند إليه في قاعدتيه ، اللتين تكون ما يسمي الآن بجدول  صدق عامل النفي ، وأعنى القاعدتين “إذا كان الإثبات  صادقاً، فإن النفي يكون كاذباً ، وإذا كان النفي صادقاً ، فإن الإثبات يكون كاذبا “، كما برهن “أبيلارد” علي تكافؤ القاعدتين المعروفتين تحت اسم “الإثبات بالإثبات ” واسم “النفي بالنفي” ، وعلي إمكانية اشتقاق كل منهما من الأخرى بواسطة الرد إلي المحال أو برهان الخلف الذي يستند إلي التسليم بقانون الثالث المرفوع ، وبثنائية القيم ، وبقانون عدم التناقض (6).

    وإذا انتقلنا إلي العصور الحديثة ، فنجد أن معظم المناطقة الرياضيين برغم أنهم عمدوا إلي تنقية المنطق التقليدي من رواسب اللغة العادية ،  ليكتسب مزيداً من الصورية برموز خالصة ذات معان ثابتة وبعلاقات رياضية تتسم كما كان الظن الشائع باليقين المطلق،  فإنما كان منطلقهم وهدفهم في الوقت ذاته، هو تلك الثنائية الراسخة أو بعبارة أخري هو التمييز بين ما هو صادق وكاذب (7).

   ورغم ما أسهم به المناطقة الرياضيون من تأكيد وتطوير للمعايير المنطقية للصدق،  إلا أنهم بتمسكهم بمبدأ الوسط المستبعد؛ حيث إن أي قضية إما أن تكون صادقة أو كاذبة ولا ثالث بينهما لم يتجاوزا المنطق ثنائي القيم ، حيث أنهم يستخدمون فقط قيمتين لقضاياهم علي الرغم من أنهم يؤكدون علي أن بعض القضايا في الرياضيات ، وفي مجالات أخري لا يمكن أن يقال عنها أنها  صادقة  أو كاذبة ، حيث يرجعون ذلك إما لأنها غير ممكن البرهنة علي صدقها أو كذبها ، أو لأنها تؤدى إلي تناقضات فى حالة إذا ما نسبنا إليها آياً من هاتين القيمتين (8) .   وعلي الرغم من الجهود التي بذلها  الكثيرون من الرياضيين  العظماء ، إلا أنه لم يستطيع أحدهم إثبات  ما إذا كانت قضية فيرما صادقة أو كاذبة. وهذا يعني أنها تتجاوز نطاق مبدأ الوسط المستبعد(9).

     ولقد أجبر هذا المناطقة علي إيجاد قيم أخري أيضاً لبعض القضايا غير الصدق والكذب . ولقد اتجه المناطقة إلي المفاهيم الموجهة مثل الممكن والمستحيل والمحتمل والضروري ، حيث أن  مثل هذه القيم يمكن أن تنسب للقضايا التي ليست صادقة  ولا كاذبة، كما تم التوسع أيضاً في فكرة الجهة نفسها عن طريق إضافة  مفاهيم أخري مثل مفهوم ” لا معني له “Senseless  ومفهوم العبثAbsurd   (10).

  وقد جرت عادة الباحثين علي أن يسموا المنطق الذى  يعول علي قانون الثالث المرفوع باسم “المنطق الثنائي ” ، نظراً لاعتماده من وجهه النظر المنطقية الرياضية علي نسق ثنائي القيم، مهما يكن المعني المنسوب لهاتين القيمتين . وبالمثل أيضاً ، فإن المنطق الذى يسمح بوجود ثلاث قيم سوف يسمي بالمنطق ثلاثي القيم ،Three-Valued Logic ، بينما المنطق  الذي يسمى بأربع قيم فيسمي بالمنطق رباعي القيم Four Valued Logic..الخ، ومثل هذا يقال أيضاً عن المنطق الذى يسلم بوجود عدد لا متناهي من القيم يسمي بالمنطق متعدد القيم Many-Valued logic (11).

    ولقد خطا المنطق متعدد القيم أولي خطواته التصويرية علي يد” تشارلز بيرس “Perce C.S..(1839-1914)، حيث قام بيرس بجهود منفردة ومستقلة عن أعلام المنطق الحديث أمثال فريجة  Frege  (1848 – 1925) و” راسل”Russell   (1872 – 1970)،” ووايتهد”  Whithead(1861-1947م) ، لتطوير الجهاز الرمزي المنطقي وسد ثغرات المنطق القديم ، فساهم مثلاً في إقامة أولى نظريات المنطق الرمزي ، وهى نظرية حساب القضايا Calculus of Propositions  ووضع بعض قوانينها . وإليه يرجع الفضل في إقامة نظرية حساب العلاقات ، بادئاً من تلك الإشارات والتوجيهات التي قدمها “دى مورجان ” De Morgan (1806-1887). وفضلاً عن ذلك استخدام بيرس قوائم الصدق ثنائية القيمة ، وقد قادته هذه القوائم إلى تصور إمكانية بناء قوائم أخرى تتسع لقيمة صدق ثالثة ، هادفاً بذلك إلى تعميم المنطق ثنائي القيم  بمجاله المحدود ،ليصبح أكثر فعالية إزاء قضايا لا نستطيع الحكم عليها بالصدق أو بالكذب. غير أن بيرس لم يعمد إلى استكمال هذا البناء المنطقي الجديد ، ولم يكن يتوقع لهذا البناء أن يصبح في يوم من الأيام حقيقة واقعة لها كل هذا الذيوع  التكنولوجي (12).

  ومن هذا المنطلق تأتي هذه الورقة عن نظرية الحتمية المنطقية عند رائد مدرسة وارسو وهو لوكاشِيفتشِ” Jan Luckasiewicz (1878م-1956م) ، وذلك حين وضع عام 1920 نسقاً منطقياً للقضايا ذا ثلاث قيم ، وقد استوحي تصوره لهذا النسق من معالجة أرسطو للحوادث الممكنة المستقبلةFuture Contingencies   في كتابه ” “العبارة”  وكان  لوكاشِيفتشِ يرمى من إنشاء  نسق منطقي  ثلاثي القيم إلى صياغة نظرية تحتوى على  القوانين  التقليدية في المنطق الموجه . وقد حاول أيضاً إنشاء ذلك النسق من أجل أن يتغلب على مذهب الحتمية الفلسفي القائم على مبدأ ثنائية القيم، ولكنه عدُِل فيما بعد عن اعتقاده ذلك، فلم يـَر تعارضاً بين انتفاء الحتمية والمنطق الثنائي القيم.  وبعد إنشاء النسق المنطقي الثلاثي القيم صار من الواضح انه يمكن إنشاء نسق رباعي القيم أو خماسي القيم ، أو نسق عدد القيم فيه أي عدد نشاء، بل نسق يحتوى ما لا نهاية له من القيم.

   وكان لوكاشِيفتش ِيعتقد أول الأمر أن النسق الثلاثي القيم والنسق اللامتناهي القيم هما أكثر الأنساق الكثيرة القيم أهمية من الوجهة الفلسفية، فقد كانا يبدوان أقل هذه الأنساق احتياجا إلى التبرير، ولكنه رأى فى النهاية أن يفسر منطق   الجهات الأرسطي فى ضوء نسق رباعي القيم، ولا يزال الخلاف قائماً حول مسألة إمكان وضع المنطق الموجه فى إطار نسق كثير القيم، ولكن الأهمية الفلسفية لاكتشاف لوكاشييفتش لا يبدو أنها متوقفة على هذه المسألة. لقد مضى زمن طويل احتلت فيه القــوانين المنطقية منزلة تميزها على غيرها من العلوم الطبيعية . وقيل أحياناً في وصف القوانين المنطقية أنها قبلية (أولية) A priori . وقيل أحياناً أخرى أنها تحليلية Analytic، وكان الغرض من هذين  الوصفين هو الإشارة إلى أن قوانين المنطق لا تتصل بالواقع على نحو ما   تتصل به قوانين العلوم الطبيعية ، ولكن لوكاشِيفتشِ قد بيَن باكتشافه الأنساق المنطقية  الكثيرة القيم أن الاحتمالات عديدة أمامنا، حتى لو بلغنا أعلى درجات العموم، كما هو الحال في منطق القضايا. ذلك أننا إذا أخذنا بمبدأ ثنائية القيم، أو أي مبدأ أخر في عدد  القيم ، فنحن عرضة لأن يكذبنا الواقع . وإذا كان الأمر كذلك ، أمكن اعتبار المنطق أعم العلوم الطبيعية ، بحيث يفترضه كل علم طبيعي أخر علي نحو من الأنحاء (13).

    وقد قسمت هذا الورقة إلي  محورين : المحور الأول عرضت  فيه لمنهجية لوكاشِيفتشِ في الحتمية المنطقية من خلال بناءه للمنطق الثلاثي القيم ، المحور الثاني عرضت فيه لتطور منهجية لوكاشِيفتشِ في الحتمية المنطقية من خلال انتقاله المنطق الرباعي القيم إلي المنطق  متعدد القيم ، وسوف نعالج هذين  المحورين بشيء من التفصيل ، وذلك فيما يلي:-

أولاً : منهجية لوكاشِيفتشِ في الحتمية المنطقية وذلك من خلال بناء المنطق ثلاثي القيم

  يري لوكاشيفتش أن المنطق ثلاثي القيم ، اكتشاف قد تبلورت  فكرته سنة 1918 ووضحت فكرته سنة 1920، حيث شرحها في الخامس من يونيه من نفس العام ، أمام الجمعية الفلسفية في Lawow   (14) ، وفكرة هذا المنطق تقوم علي تعديل قوائم الصدق ثنائية القيمة فـي المنطق الكلاسيكي بإضافة قيمة ثالثة ، لتصبح القيم المستـخدمة للحـكم علي أية قضـية هي ” الصدق ” و ” الكذب ”  و ” المحتمل الصدق و الكذب ” ، ويرمز لوكاشِيفتشِ للصدق بـ”1″، والي الكذب بـ “0” وإلي المحتمل بـ¡  (15).

  ثم يؤكد لوكاشِيفتشِ علي أنه توصل إلي فكرة هذا المنطق من خلال دراسة للقضايا الموجهة  Model Propositions    عند أرسطو ، وبالذات جهة الممكن عندما نوه أرسطو إلي أن قانون الثالث المرفوع لا يصح علي الأحداث الفردية المستقبلة ،

وذلك حين ناقش إمكان حدوث معركة بحرية في المستقبل، واقترب كثيراً من تصور منطق كثير القيم ، ولكنه لم يعمل علي توكيد هذه الفكرة  العظيمة ، فبقيت  قروناً  لا تثمر شيئاً ، وبفضل أرسطو استطعت أن اكتشف هذه الفكرة سنة1920 (16).

  والسؤال الآن ، ما هي قصة الأحداث الفردية المستقبلة عند أرسطو، والتى جعلت لوكاشِيفتشِ يكتشف منطقه ثلاثي القيم؟

   والإجابة تتمثل في أن أرسطو حين صاغ قانون الثالث المرفوع أكد أن القضيتين المتناقضتين، تكون إحداهما صادقة  والأخرى بالضرورة كاذبة، وتشترك القضيتان الشخصيتان الموجبة والسالبة في هذا الحكم . غير أن أرسطو رأى أنه إذا كان موضوع القضية فردياً، وكان ماينتمي إليه يتعلق بالمستقبل، فإن الأمر يتغير (17).

   وهذه الجملة الأخيرة كانت مما دعا كثير من الباحثين إلى القول بأن أرسطو قد شكك في مبدأ ثنائية القيم المرتبطة به أو رفضه ، وهذا بالفعل هو ما حدث من أرسطو ، ففي الفصل التاسع من كتابه” العبارة”(18) ، حيث  أكد على أن قانون عدم التناقضNon-Contradiction    لا يسرى علي أحداث الماضي والحاضر فحسب، ولا يسري على أحداث المستقبل الفردية التي لم تتعين بعد، ولا يمكن اختبار صدقه من عدمه، إلا بعد حدوثها و تحولها إلى أحداث حاضرة. أما وهي لا تزال في طي المستقبل، فمن الممكن أن يحدث الشيء أو نقيضه أو يحدث الاثنان معاً أو لا يحدث الاثنان معاً. فعندما توجد قضايا فردية حول المستقبل لا يكون الوضع الفعلي أن من الضروري  أن واحدة سوف تكون صادقة منها، والأخرى سوف تكون كاذبة ، فنحن لم نصل بعد إلي طريقة لمعرفة ذلك . إننا لو قلنا أن قانون عدم التناقض يسري على المستقبل وقضاياه الفردية ، مثل سوف تكون هناك معركة بحرية غداً، لأدي هذا إلى نزعة حتمية يرفضها أرسطو بشدة ، لأنها تؤدي إلي نتيجة تقول بأن كل شئ  سوف يحدث بالضرورة ولا شئ بالمصادفة، وهذا متعارض مع الواقع المشاهد(19).

   وبالتالي ، فلا تكون أحداث المستقبل منغلقة وكاملة كأحداث الماضي والحاضر، بل قابلة للاحتمال، كما أنه لو كان صحيحاً أنها حتمية لما كانت هناك حاجة إلي التروي العقلي وإلى التقدير والحساب ، فما هو آت سوف يأتي سواء رضيت أم لا ، وعلى هذا فإن ازدواج القضايا الذي  يقول : سوف تكون هناك معركة بحرية غداً، وسوف لا تكون هناك معركة بحرية غداً، ازدوجاً ليس متناقضاً بالضرورة، فكلتا القضيتان محتملتان الصدق إلي أن يأتي غداً، ومن ثم فلا تسرى الحتمية المنطقية على المستقبل (20).      

    وانطلاقاً من تسليم أرسطو  بفكرة الاحتمال على الأحداث المستقبلة ، وضع لوكاشِيفتشِ هذه الفرضية لتأسيس منطقه الثلاثي القيم، فيقول : “سوف أحضر إلي وارسو بعد  الظهر في21 ديسمبر العام القادم” ، ثم يتساءل هل هذه الفرضية صادقة أم كاذبة ، فإذا كانت صادقة ، فلابد أن حضوري في الميعاد المحدد سوف يكون ضرورياً. وهذا يصعب التكهن به، وإذا كانت كاذبة بأنني سوف لا أحضر في الميعاد المحدد، فمن الصعب أيضاً التكهن به ، ولذلك فإنني أقول ” من الممكن أن أكون في وارسو يوم 21 ديسمبر”، وتلك القضايا ليست ضرورية ولا صادقة أو كاذبة في اللحظة التي تم فيها تقريرها كقضايا المستقبلات الممكنة عند أرسطو(21).

  وهنا نجد لوكاشِيفتشِ يقدم قيمة ثالثة لمثل هذه القضايا ، وهى القيمة “ممكن”،  ويرمز لها بالحرف “لا”. و لما كان المناطقة  رمزوا في الماضي للكذب بالرمز “0”، وللصدق بالرمز “1”، فإن لوكاشِيفتشِ يرمز للممكن بالرمز”¡” (22).

ولنتناول حساب دوال الصدق في المنطق الثلاثي القيم الذي وضعه لوكاشِيفتشِ سنة 1920 ، وهو يختص بمعالجة قضايا المستقبل بمنهج المصفوفات ، مع الأخذ بالمبدأ القائل : إن كل قضية تثبت أو تنفى مستقبلاً لها قيمة مختلفة عن الواحد والصفر، هي قيمة متوسطة ، وعلى مسافة واحدة على كل منهما ، وإن معالجة مثل هذه القضايا بالحساب الثنائي القيم يوصلنا إلى نتائج متعارضة وغير مقبولة ، مما يجعلنا نحكم عليه بأنه غير ملائم .

ولكي نقيم دوال الصدق في المنطق الثلاثي القيم عند لوكاشِيفتشِ يجب علينا أن نبدأ كما هو معروف في المنطق الثنائي القيم ، بتحديد مصفوفات العوامل الأساسية ، وأعنى النفي والواصل والفصل واللزوم والتكافؤ . وترانا هنا نحافظ على المصفوفات القديمة بشرط أن نطولها بإدخال القيمة ¡ بين القيمتين (1 ، 0 ) بحيث تقتسم هذه القيم الثلاث سطور المصفوفة  (23).

   هذا هو باختصار المنهج الذى صاغه لوكاشِيفتشِ لبناء المنطق ثلاثي القيم ، وقد شيده لضرب مذهب الحتمية الفلسفي ، وهذا المذهب كما وصفه لوكاشِيفتشِ يؤكد على أنه إذا وقع حادث ما وليكن ” ح ” في اللحظة ” ل ” فيصدق في أي لحظة سابقة على  ” ل ” أن ” ح ” يحدث في اللحظة ” ل ” (24) .

     ويسوق لوكاشِيفتشِ مثالاً لتوضيح ذلك فيقول ” جون John    قابل بول Poul  في ميدان البلدة القديم في وارسو ظهر أمس ” ، ويعلق على هذا المثال قائلاً :- من الواضح أن لقاء الأمس لم يعد موجوداً اليوم ، إلا أن حقيقة الأمس لم تعد مجرد وهم اليوم . ولكن جزءً مـن الحقيقة أن ” جون ” و ” بول ” أخذا ذلك في اعتباراهما .كلاهما يتذكر لقاء الأمس، وبالتالي ، فإن آثار وبقايا لقاء الأمس لا تزال موجودة إلى حد ما لديهما اليوم . فكل منهما يستطيع أن يقسم  أو يحلف في محكمة بأنه رأى الآخر في ميدان البلدة القديم في وارسو ظهر أمس . وعلى أساس هذه المعلومة أقول ”  حقيقي فى كل لحظة اليوم أن جون قابل بول في ميدان البلدة القديم في وارسوا ظهر أمس ولا أقصد بهذه الجملة ” جون ” قابل بول في ميدان البلدة في وارسو ظهر أمس ” أنها صادقة في كل لحظة من لحظات اليوم ما لم ينطق بها أو يفكر فيها شخص ما . إن هذه الجملة إن لم ينطق أو يفكر فيها أحد ، فهي بالتالي غير حقيقية، لأنها ليس لها وجود على الإطلاق . وسوف استخدام التعبير ” أنها حقيقية في كل لحظة T that P  ، حيث أن ” لحظة ” تعنى نقطه نحن نعتقد بأن الشئ الذي حدث لا يمكن الرجوع عند حدوثه بمعنى ما قد حدث قد حدث بالفعل ، وبذلك لا يمكن  أن نبطل حدوثه . وما كان صادقا أو حقيقياً سيبقى كذلك إلى الأبد . فالحقيقة كلها خالدة وباقية . وهذه تبدو حدسياًً مؤكدة . لذلك نحن نصدق إذا قلنا أن (أ ) هو( ب) في اللحظة (س) ، وعليه فإن (أ) هو (ب) صادقاً في أي لحظة تلى اللحظة (س) . ولذلك عندما نقول أن جون قابل بول في ميدان البلدة القديم في وارسو ظهر أمس ، فإن هذا القول صادق في لحظة تلى لحظة مساء أمس ” (25).

    ثم يعقب لوكاسيفتش على هذا بأن يتساءل فيقول : ” ولكن المشكلة هنا هل يصدق القول بأن جون قابل بول فى ميدان البلدة القديم في أي لحظة تسبق ظهر أمس ؟ وهل من الصدق أن اليوم الذى يسبق الأمس أو عام مضى وفى لحظة ميعاد جون وأي لحظة تلى ميعاده يكون صادقا ؟ وهل أى شئ سوف يحدث في المستقبل سيكون صادقاً أو حقيقياً في المستقبل هو صادق أو حقيقي اليوم ؟ وهل هو صادق إلى الأبد ؟ وهل كل الحقيقة أبدية.

   ويعلق لوكاشيفتش على هذه التساؤلات بأنها ستكون مثار جدل عنيف ، فالحتميون ستكون إجابتهم بالإثبات ، بينما اللاحتميون ستكون إجابتهم بالنفي . فالحتميون   يرون أنه طالما   ( أ) هو ( ب) فى اللحظة س صادق ، فإن ( أ) هو( ب) في أي لحظة تسبق اللحظة (س) كاذب.

   وهنا يؤكد لوكاشِيفتشِ بأن النظرة التي ينظرها الحتميون لا تجعلهم يفرقون  بين المستقبل والماضي . يقول لوكاشيفش :” فمن يتبنى مثل هذا المنهج ، فإنه لا يستطيع أن يفرق بين المستقبل والماضي . فإذا كان الشئ الذى سيحدث فى المستقبل حقيقياً وصادقاً ، إذا ما حدث اليوم وهو صادق وحقيقي بشكل أبدى، فالمستقبل يعامل كالماضي ، ولا يختلف عنه سوى في كون المستقبل لم يمر أو لم ينقضي بعد (26).

    ثم يوضح لوكاشِيفتشِ السبب الذى جعل الحتميون لا يفرقون بين المستقبل والحاضر فيقول  ” أن الشخص الذى يتمسك بمبدأ الحتمـية ينظـر إلى الأحـداث الكـونية على أنها شريط أو فيلم درامي تتابع حلقاته فى استديو سينمائي كوني ، حيث إننا نعيش هذا العرض ولا نعرف نهايته بالرغم من أن كل شخص ليس فقط مشاهد ، بل ممثل في هذه الدراما . ولكن النهاية موجودة ، حيث إنها موجودة منذ بداية العرض ، وبالنظر بشكل كلى للأحداث ، نجد أن الصورة مكتملة إلى الأبد، وعليه فإن حياتنا بكل ما فيها من أفعال ومغامرات وأحداث وكل أفعالنا وكل ما نأخذه من قرارات إيجابية أو سلبية ، إنما هو مثبت سلفاً من الأزل ، حتى لحظة الموت سواء كانت لحظة موتك أو موتى ، إنما هي مقررة وحادثه سلفاً . وما نحن إلا دمى أو عرائس تحركها الخيوط فى الدراما الكونية . وعليه فنحن لا نملك سوى الانتظار ومشاهدة ما يقع من أحداث متحلين بالصبر حتى نصل إلى النهاية “(27).

  غير أن لوكاشيفتش يرى أن هذه النظرة التي يأخذ بها دعاة الحتمية الفلسفية تقوم على قانون العلية ، القائل بأن كل حادث له عله قائمة في حادث سابق ، وإذا صح ذلك ، فيبدو من البّين أن الحوادث المستقبلة كلها لها علل موجودة من الأزل، وجميعها إذن محتوم قبلاً ، ومن الحق بالطبع أن الفلكيين باعتمادهم على بعض القوانين التى تحكم العالم، يستطيعون التنبؤ مقدماً بمواقع وحركات الأجرام السماوية بشئ كثير من الدقة . وعند لحظة انتهائي من الجملة الأخيرة ، أود أن أتسأل هل ينبغى لى أن اعتقد أن هذا الحادث محتوم أيضاً من الأزل ، وأن الذى تحتمه قوانين مجهولة تحكم العالم ؟ لو قبلنا ذلك لكنا نريد الاسترسال في تظنن لا ضابط له ، منه إلى الاعتماد على مقررات التحقيق العلمى .

    ثم يؤكد لوكاشتفتش بأنه حتى لو قبلنا قانون العلية ، باعتباره قانونا صادقاً على وجه العموم ، فإن الحجة التي ذكرناها الآن قاطعة . فلنا أن نفترض أن تكون لكل حادث حادثة، وأن شيئاً لا يحدث بالصدفة . غير أن سلسلة العلل المنتجة فى المستقبل ، وإن كانت لا متناهية ، فإنها لا تصل إلى اللحظة الراهنة (28) .

ويوضح لوكاشِيفتشِ ذلك بمثال رياضي فيقول:” فلندلل على اللحظة الراهنة بالعدد “0” وعلى لحظة المستقبل بالعدد “1” وعلى لحظات علله بكسور” ¡ ” فلأنه لا يوجد حد أدني للكسور الزائدة علي ¡ فلكل حادثة قائمة في حادث سابق ، ولكن سلسلة العلل والمعلولات بأسرها تتحدد عن اللحظة ¡ ،وهذه اللحظة لاحقة على  اللحظة “0”(29)

     وينتهي لوكاشِيفتشِ إلى هذه النتيجة ،  فيقول :” لنا أن نفترض أن معركة الغد البحرية التي يتكلم عنها أرسطو رغم أنها سوف يكون لها علة ، وهذه العلة سوف يكون لها علة أخرى وهكذا ، فإن هذه المعركة ليس لها اليوم علة . وبالمثل لنا أن نفترض أنه لا يوجد اليوم شئ من شأنه أن يمنع وقوع معركة بحرية في الغد . فإذا كان الصدق قائماً في مطابقة الفكر للواقع ، فلنا أن نقول أن القضايا الصادقة اليوم هي التي تطابق واقع اليوم أو التي تطابق واقع الغد ، من حيث أنها تعينه علل موجودة اليوم . ولأن معركة الغد  البحرية ليست متحققة اليوم ، فالقضية القائلة بأنه ” سوف توجد معركة بحرية في الغد “، ليست اليوم صادقة ولا كاذبة، وإنما يجوز لنا فقط أن نقول : ربما توجد في الغد معركة بحرية ، وربما لا توجد في الغد معركة بحرية . فمعركة الغد البحرية حادث ممكن ، وإذا وجد هذا النوع من الحوادث ، كذب المذهب الحتمي (30) .

          مما سبق يتضح لنا أن لوكاشيفتش،  حين وضع المنطق ثلاثي القيم كان يهدف من وراء ذلك تقويض المذهب الحتمي وحل مشكلة الحرية ، فلقد  اعتقد أن القول بالحتمية ، إنما يرجع إلى تطبيق مبدأ الثالث المرفوع على القضايا المتعلقة بالمستقبل ، فإذا ما خلعنا على تلك القضايا قيمة صدق ثالثة تتوسط بين الصدق والكذب ، أمكننا نزع شوكة الحتمية  المنطقية التي يؤكدها المبدأ .

ثانياً :- تطور منهجية لوكاشِيفتشِ في الحتمية  المنطقية من خلال انتقاله من المنطق رباعي القيم إلى المنطق متعدد القيم         

   إذا كان لوكاشِيفتش ِقد شيد النسق المنطقي الثلاثي القيم ، للتغلب على الحتمية المنطقية ، فذلك لاعتقاده بأنه مرتبط بعدم التسليم بمبدأ ثنائية القيم ، غير أنه عدل فيما بعد عن هذا الاعتقاد ، وذلك يعد أن أدرك أنه ليس هناك تعارض بين انتفاء الحتمية والمنطق الثنائي القيم . وبعد إنشاء النسق المنطقي الثلاثي القيم ، صار من الممكن إنشاء نسق رباعي القيم ، وذلك بإضافة قيمة رابعة ؛ فإذا كان النسق الثلاثي القيم يؤكد على أن القيمة الثالثة هي القيمة ” ممكن ” أي محتملة الصدق أو الكذب ، فإن القيمة الرابعة تكون ليست محتملة الصدق أو الكـذب ؛ أي لا صـادقة ولا كـاذبة .

  والنسق المنطقي الرباعي القيم ، كما يذكر بعض الباحثين ، توصل إليه لوكاشِيفتش سنه 1951 ، وذلك بعد التعديلات التي أجراها على المنطق الموجه حين رأى في النهاية أن يفسر منطق الجهات الأرسطي في ضوء نسق رباعي القيم (31) .

    وفى هذا التفسير وضحت فكرة المنطق رباعي القيم من خلال إعادة النظر فى قضية الممكنات المستقبلة عند أرسطو ، حيث يقول لوكاشِيفتشِ” فنأخذ مثال المعركة البحرية ، ولنفرض أن شيئا لم يتعين بعد اليوم بخصوص هذه المعركة ، وأعنى بذلك أنه لا يوجد اليوم شئ محقق من شأنه أن يكون علة في حدوث معركة بحرية في الغد ، كما لا يوجد شئ من شأنه أن يكون علة في عدم حدوثها ، ومن ثم فإذا كان الصدق ( الحق ) قائماً في تطابق الفكر والواقع ، فالقضية ستحدث معركة بحرية غدا ليست اليوم صادقة ولا كاذبة ” (32) .

    وفى فقرة أخرى يقول ” إذا كان أرسطو ” يرى أن القضية يحتمل أن توجد معركة بحرية غدا ، والقضية يحتمل أن لا توجد معركة بحرية غداً، قد تصدقان معاً اليوم،  و ذلك يتفق مع تصوره للإمكان أنه قد توجد  قضايا ممكنه . هناك طريقان لتجنب هذا التناقص بين رأي أرسطو ونسقنا في المنطق الموجه(ذو الرباعي القيم)، فيجب إما أن ننكر أن تكون أية قضية  ممكنه وصادقة معاً، وإما أن نعدل تعريف أرسطو للإمكان ، وقد اخترت الطريق الثاني (33).

     ثم يعلن لوكاشِيفتشِ أن الطريق الثاني للإمكان يتمثل في أن حدوث معركة بحرية غداً لا صادقة ولا كاذبة اليوم، يقول لوكاشِيفتشِ:” إذا قلنا مع أرسطو أن بعض الحوادث المستقبلة كأن تقع اليوم معركة بحرية – متصفة بالإمكان ، فالقضية التي ننطق بها اليوم عن مثل هذه الحوادث لا تكون صادقة ولا كاذبة ، ومن ثم يجب أن تكون لها قيمة غير القيمتين [0،1] (34).

   وانطلاقاً من هذا شرع  لوكاشِيفتشِ يشيد المنطق رباعي القيم من خلال طريقة الجداول التي أخذها من” بيرس” و”شرودر” كما يقول ، وهذه الطريقة تختلف عن طريق الجدول في المنطق الثلاثي القيم ، حيث تتراجع قيم [1 ،¡،0 ] ويأخذ بدلاً من ذلك طريقة أخري.

    وينتهي لوكاشِيفتشِ من المنطق المتعدد إلي حقيقة هامة ، وهي أن القوانين المنطقية ليست قوانين يقينية، وإنما قوانين احتمالية شأنها شأن قوانين العلوم الطبيعية ، وفي هذا يقول ” تشسلاف نقلاً عن أستاذه لوكاشِيفتشِ : ” لقد مضي زمان طويل احتلت فيه القوانين المنطقية منزلة تميزها علي غيرها من قوانين العلوم الطبيعية . وقيل أحيانا في وصف القوانين المنطقية إنها قبلية ( أولية ) ، وقيل أحياناً أخري أنها تحليلية ، وكان الغرض  هذين الوصفين ، هو الإشارة إلى أن قوانين المنطق لا تتصل بالواقع على نحو ما تتصل به قوانين  العلوم الطبيعة، ولكن المنطق المتعدد القيم بّين أن الاحتمالات عديدة أما منا ، حتى ولو بلغنا  أعلى درجات العموم ، كما هو الحال في منطق القضايا . ذلك أننا إذا أخذنا بمبدأ ثنائية القيم أو أي مبدأ آخر في عدد القيم ، فنحن عرضة لأن يكذبنا الواقع ، وإذا كان الأمر كذلك ، أمكن اعتبار المنطق أعم العلوم الطبيعية، بحيث يفترضه كل علم طبيعي أخر علي نحو من الأنحاء ” (35).

   وثمة نقطة أخيرة نود الإشارة إليها ، وهى أن الحتمية المنطقية عند “لوكاشيفتش”  لا تخلو من أصالة تعبر عن جذوره ، وفى الوقت نفسه ليس شاغرا من الطرافة المتمثلة في مواكبته للثقافة التي طرح فيها.

الخاتمة :

        بعد هذه الإطلالة التي قمنا فيها بمعالجة نظرية الحتمية المنطقية عند “لوكاشيفيتش” يمكن أن نستخلص النتائج التالية:

1- إن الحتمية المنطقية عند “لوكاشيفيتش” لم تكن سوى استجابة للواقع الثقافي والعلمي المعاصر الذي رفض الحتمية بكل صورها ، ليفسح الطريق أمام الممكن والجائز والمحتمل، وغير ذلك من صيغ قد عبرت عنها النظريات المعاصرة في شتى المعارف الإنسانية ، الأمر الذي يؤكد أن ما جاء به “لوكاشيفتش” يعد نسقاً منطقياً متطوراً للمنطق الرياضي الكلاسيكي.

2- إنه من الخطأ الاعتقاد بأن الحتمية المنطقية التي تبناها “لوكاشيفتش” قد قضت على المنطق ثنائي القيم ، بل على العكس من ذلك تماماً ،فقد بين “لوكاشيفتش” أن العلاقة بين المنطق الثلاثي القيم والمنطق الثنائي القيم علاقة تحاور وليست علاقة تصادم أو تزاحم. وذلك لأن المنطق متعدد القيم قد أسهم بفاعلية في تعديل قوائم الصدق ثنائية القيمة ، علاوة على أن جميع قوانين المنطق الثلاثي القيم هى قوانين في المنطق الثنائي القيم الذي هو أساس الحتمية المنطقية.

3- إن “لوكاشيفتش” قد أراد، من خلال تبنيه للحتمية المنطقية ، وضع حد للأحكام القطعية التي طالما تبناها معظم المفكرين والميتافيزيقيين علي مر العصور ، الذين وضعوا أسساً حتمية مسبقة للوجود دون أدنى تدخل للإنسان فيها ، فهي كلها من صنع القدر. فإذا كان مكتوب على (ص) أن تصبح صادقة ،أو أن (أ) سوف يبعث في أخر الزمان ، وغير ذلك من الأمور القطعية ،فإن “لوكاشيفتش” يرى أن نسبة الصدق فيها يجب أن تخضع لنسبية الحكم بقدر تحققها في الحدث، وتبيت بذلك العلاقة بين العلة والمعلول ليست ضرورية، بل ممكنة، من الصفر إلى الواحد.

4- إن الحتمية المنطقية عند “لوكاشيفتش” كانت بمثابة المكاشفة التي جعلته يتوصل إلي وضع تعريفات جديدة لدوال الصدق تعتمد على فكرة درجات الصدق العادية المتصلة دون قطوع أو فجوات في فاصل مغلق من الأعداد الحقيقية اللامتناهية يبدأ من الصفر وينتهي بالواحد، كشف لنا أنه من الصعب أن نقيم مصفوفات لتلك الدوال .وهذه الصعوبة تزداد بزيادة عدد القيم ،إلي أن يصبح الأمر مستحيلاً بالنسبة لحساب له عدد لامتناهي من القيم تناظر لانهائية درجات الممكن أو الاحتمالات غير المتناهية التي تنحصر بين الصفر والواحد، والتي تحتاج لوجود قواعد متناسقة تناظر على نحو ما قواعد حساب الاحتمالات.

5- إن الحتمية المنطقية التي تبناها “لوكاشيفتش” امتاز بتوسيع الإطارات التقليدية بالنسبة للقضايا بعامة، والموجهة بخاصة، فقد أفضى هذا المنطق قيمة على القضية : ~ ق  ق ، حيث جعلها تعريفاً للإمكان ، وأمكن البرهنة على جميع مبادئ المنطق الموجه، التي أدى البرهنة عليها بالحساب الثنائي القيم إلى نتائج غير مقبولة.

6- إن الحتمية المنطقية الذى تبناها “لوكاشيفتش” كشفت لنا عن قضايا لا يمكن أن توصف، وبالأخص الآن بأنها صادقة أو كاذبة ، فتكون محل إشكال ،أو احتمال .وقد تتحدد قيمة صدقها ،أو كذبها في المستقبل القريب أو البعيد، وقد لا نستطيع أن نحكم على القضية بأنها صادقة أو كاذبة بسبب جهلنا. وعندئذ قد ندخل قيمة ثالثة أو رابعة متوسطات بين القيمتين صفر وواحد وعلى مسافة واجدة من كل منهما.

7- إن تبنى “لوكاشيفتش” لمنطق الحتمية لا يخلو من أثر على بعض فلسفات اللغة المعاصرة التي جعلت للألفاظ والعبارات والتراكيب اللغوية معان ودلالات يمكن الخلاف حولها تبعاً لرؤية القارئ دون التقيد بقيمة ثنائية يمكن القطع فيها صدقاً أو كذباً. وبمعنى أخر تعدد الدلالات.

8- على الرغم من عدم وجود الحتمية المنطقية عند المدرسة المشائية العربية التي عولت في مباحثها على المنطق الأرسطى ،إلا أننا لا نستطيع القطع بعدم معرفة العرب لهذا المنحى ،إذ نجد له إرهاصات فى المنطق الأصولي ،وذلك في أقيسة الفقهاء المتضمن فى الجائز والمكروه والحسن ،وغير ذلك من الأحكام التي تعد وسطاً قيمياً بين الحرام بالقطع والحلال بالقطع.

الهوامش

1- السرياقوسي ( محمد) : أهمية قانون الوسط الممتنع والنتائج المترتبة علي التخلي عنه ، دار الثقافة للنشر والتوزيع ، القاهرة، 1993، ص 21.

2- نفس المرجع، ص 33.

3- مراد ( محمود ) : الحرية في الفلسفة اليونانية ، دار الوفاء لدينا الطباعة والنشر ، الإسكندرية ، 2000 م ، ص 36.

4- السرياقوسي ( محمد) : الرمجع السابق، ص 78.

5- ابن سينا ، الشيخ الرئيس : الشفاء – للمنطق ( العبارة ) ، تحقيق د . محمود الخضيري ، تصدير ومراجعة د. إبراهيم مدكور، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ، 1903 هـ – 1970م، ص 11.

6- غيتمانوف ( الكسندر ) : علم المنطق ، لم يرد اسم المترجم، دار التقدم ،  موسكو ، 1989 ، ص 133.

7- ديمتريو : تاريخ المنطق ، جـ 4 ، قراءات حول التطور المعاصر للمنطق الرياضي ،و ترجمة ودراسة وتعليق د . إسماعيل عبد العزيز، دار الثقافة للنشر والتوزيع 1997 ، ص89.

8- عثمان ( د. صلاح محمود) : المنطق متعدد القيم بين درجات الصدق وحدود المعرفة ، منشأه المعارف ، الإسكندرية، 2002، ص 34.

9-نفس المرجع ، ص36.

10- نفس المرجع ، ص37.

11- نفس المرجع ، ص 39.

12- نفس المرجع ، ص 56.

13-  نفس المرجع ، ص67.

14-Rescher ,Nicolas: The Degree of Completeness of The m-Valued Luckasiewicz:  Propos ional Calculus,  The journal of the London Mathematical Soci-ty,27,1952,P.43.

15-Ibid.

16- لييفسكي ( تشسلاف) : يان لوكاشِيفتشِ ومدرسة وارسو   المنطقية ، ترجمة عبد الحميد صبرة ، ضمن كتاب لوكاشِيفتشِ ( نظرية القياس الأرسطية ) ، منشاة المعارف ، الإسكندرية ،    1961 .

15- نفس الرجع، ص 77.

17- نفس الرجع، ص112.

18- نفس الرجع، ص123.

19- نفس الرجع، ص 155.

20- نفس الرجع، ص 165.

21- نفس الرجع، ص 177.

22- نفس الرجع، ص 178.

23- نفس الرجع، ص 189.

24- نفس الرجع، ص 232.

25- نفس الرجع، ص 234.

26- نفس الرجع، ص 238.

27- نفس الرجع، ص 244.

28- نفس الرجع، ص 245.

29- نفس الرجع، ص 247.

30- نفس الرجع، ص 249.

31- نفس الرجع، ص 248.

32- نفس الرجع، ص 250.

33- نفس الرجع، ص 333.

34- نفس الرجع، ص 345.

قائمة المصادر والمراجع

أولاً قائمة المصادر

أ – مؤلفات يان لوكاشيفتش

1- مؤلفات مترجمة إلي اللغة العربية

1- لوكاشِيفتشِ( يان ) : نظرية القياس الأرسطية من وجهة نظر المنطق الصوري الحديث ، ترجمة وتقديم  د. عبد الحميد صبرة ، منشأة المعارف ، الإسكندرية ، 1961 .

2- مؤلفات باللغة الإنجليزية

 2- Luckasiewicz ، Jan : Philosophical Remarks on Many –Valued Systems of Propositional Logic , In Jan Luckasiewicz : Selected Works , Edited by L.Borkawski, North Holland Publishing Company – Amsterdam, London,1970.

3 – :On The Three Valued Logic, In Jan Luckasiewicz :  Selected Works,1970.

4-On Determinism ,In Jan Luckasiewicz : Selected Works,1970.

 5-A Numerical Interpretation of  The Theory of Proposition, In Jan Luckasiew-icz :Selected Works,1970.

ثانياً: قائمة المراجع

أ – مراجع عامة باللغة العربية

1- ابن سينا ، الشيخ الرئيس : الشفاء – للمنطق ( العبارة ) ، تحقيق د . محمود الخضيري ، تصدير ومراجعة د. إبراهيم مدكور، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ، 1903 هـ – 1970م.

2- الفارابي ( أبو نصر ) : كتاب في المنطق ، العبارة ، تحقيق د. محمد سليم سالم ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1976 .

3- السرياقوسي ( محمد) : أهمية قانون الوسط الممتنع والنتائج المترتبة علي التخلي عنه ، دار الثقافة للنشر والتوزيع ، القاهرة، 1993.

4-  التعريف بالمنطق الرياضي ، الإسكندرية ، 1987 .

5- ديمتريو : تاريخ المنطق ، جـ 4 ، قراءات حول التطور المعاصر للمنطق الرياضي ،و ترجمة ودراسة وتعليق د . إسماعيل عبد العزيز، دار الثقافة للنشر والتوزيع 1997 .

6- عثمان ( د. صلاح محمود) : المنطق متعدد القيم بين درجات الصدق وحدود المعرفة ، منشأه المعارف ، الإسكندرية، 2002.

7- غيتمانوف ( الكسندر ) : علم المنطق ، لم يرد اسم المترجم، دار التقدم ،  موسكو ، 1989 .

8- لييفسكي ( تشسلاف) : يان لوكاشِيفتشِ ومدرسة وارسو   المنطقية ، ترجمة عبد الحميد صبرة ، ضمن كتاب لوكاشِيفتشِ         ( نظرية القياس الأرسطية ) ، منشاة المعارف ، الإسكندرية ،    1961 .

9-  مراد ( محمود ) : الحرية في الفلسفة اليونانية ، دار الوفاء لدينا الطباعة والنشر ، الإسكندرية ، 2000 م .

ب – مراجع عامة باللغة الإنجليزية

1-Ackermann , Robert : An Introduction to Many-Valued Logics , Rout ledge & Kegen Paul Limited , London , 1967.

2-Albritton , Rogers : Present Truth and Future Contingency , Philosophical Review , January, Vol .LXVI, No . 377,1957.

3-Anscombe ,G.M : Aristotle and The Sea Battle Mind , Vol..IXV, 1956

4-Aristotle De Interpretione , Trans . by E. M . Edghill Under The Editor Ship University of  Notre Dame Press, 1961 .

 5- Ghang , C.C : A New Proof of The Completeness of Luckasiewicz Axiom:              

   W.D . Ross, Oxford Univ. Press, 1950.

6-Bochenski ,  I.M : A history of Formal Logic , Trans . by :  Ivo Thomas , ms , Transactions of American Mathematical society , 27 , 1959 .

7-Haack , Susan : Deviant Logic , Cambridge Univ  Press , 1974 .

8- Kneale , w . kneale , M :  The Development of Logic , Clarendon Press, Oxford, 1966.

9-Lewis , C.J , Langford, H : Symbolic Logic, Published by The Century Co. New York & London , 1932 .

10-Meredith ,C.A.: The Dependence of an Axiom of luckasiewicz , Transactions of The American Mathematical Society , Vol . 87,No . 1, January1958.

11- Prior ,A.N.: Formal Logic ,Oxford University Press, London,1962.

12-Rescher ,Nicolas: The Degree of Completeness of The m-Valued Luckasiewicz:  Propos ional Calculus,  The journal of the London Mathematical Soci-ty,27,1952.

13-Many Valued Logic ,In His Book, Topics In Philosophical Logic ,D, Reidel Publishing Company,Dordrecht,Holland,1968.

14-Rosser ,J.B. , Turquette , R: Many Valued Logics , North-Hollend and Publishing Company ,Amesterdam,1952.

15-Struik , Dirks J. : A concise History of Mathem-atical ,G. Bell and Sons LTD,London,1956.

16-Strang , colin: Aristotle and  The Sea Battle,Mind,Vol.LXV,1956.

17-Taylor , Richard : The Problem of Future Contingencies , Philosophical Review ,Vol . LXVI , No 377, January , 1957 .

18-ZinovEv , A.A : Philosophical Problems of Many-Valued Logic , Trans . By Guido kung and David Dins More comey  ,  D .Reidel Publishing Company , Dordrecht , Holland , 1963.

 

 

 

 

مقالات أخرى

نظريّة العدالة كأنصاف عند” راولز”

لمحة عن مظاهر التّسامح والتّطرّف بين المكوّنات الدّينيّة  في المغرب

تسريد القيم

4 تعليقات

نجلاء حسن علي مفرح 5 أغسطس، 2021 - 3:16 م
الحتميةفرضية فلسفية تقول ان كل حدث في الكون بما في ذلك إدراك الإنسان وتصرفاته خاضعة لتسلسل منطقي سببي محدد سلفا ضمن سلسلة غير منقطعة من الحوادث التي يؤدي بعضها إلى بعض وفق قوانين محددة، يؤمن البعض بأنها قوانين الطبيعة في حين يؤمن آخرون بأنها قضاء الله وقدره الذي رسمه للكون والمخلوقات، وبالتالي فنظرية الحتمية يمكن تبنيها من قبل أشد الناس إلحادا وتمسكا بالقوانين العلمية كما يمكن تبنيها من قبل أشد الناس إيمانا وقدرية
شهد محمد الختلان 22 أغسطس، 2021 - 1:05 ص
الحتمية. فرضية فلسفية تقول ان كل حدث في الكون بما في ذلك إدراك الإنسان وتصرفاته خاضعة لتسلسل منطقي سببي محدد سلفا ضمن سلسلة غير منقطعة من الحوادث التي يؤدي بعضها إلى بعض وفق قوانين محددة، يؤمن البعض بأنها قوانين الطبيعة في حين يؤمن آخرون بأنها قضاء الله وقدره الذي رسمه للكون والمخلوقات، وبالتالي فنظرية الحتمية يمكن تبنيها من قبل أشد الناس إلحادا وتمسكا بالقوانين العلمية كما يمكن تبنيها من قبل أشد الناس إيمانا وقدرية في الحتمية، لا يمكن حدوث أشياء خارج منطق قوانين الطبيعة (ووفق التفسير الديني للحتمية وضع الله القوانين في الطبيعة ليسير كل شيء وفقها)، وبالتالي لا مجال لحوادث عشوائية غير محددة سلفا، ويعترف الحتميون بأنه ربما يصعب على الإنسان أحيانا معرفة النتيجة مسبقا نتيجة عدم قدرته تحديد الشروط البدئية للتجربة، أو عدم امتلاكه للصياغة الدقيقة للقانون الطبيعي، لكن هذا القانون موجود والنتيجة محددة سلفايمكن لمصطلح «الحتمية» أن يشير إلى أي من وجهات النظر التالية:الحتمية السببية: هي «الفكرة التي تقول إن كل حدث يكون محتمًا من قبل أحداث وشروط سالفة جنبًا إلى جنب مع قوانين الطبيعة». غير أن الحتمية السببية مصطلح فضفاض بما يكفي ليأخذ بعين اعتباره أن «الاستقصاءات التي يجريها المرء والخيارات التي يتخذها والأفعال التي يقدم عليها غالبًا ما تكون حلقات ضرورية في السلسلة السببية التي تنتهي إلى حدوث شيء ما. بصياغة أخرى، رغم كون استقصاءاتنا وخياراتنا وأفعالنا حتمية في حد ذاتها، شأنها في ذلك شأن أي شيء آخر، يظل حدوث أشياء أخرى أو وجودها –وفقًا للحتمية السببية- معتمدًا على استقصائنا واختيارنا وفعلنا بطريقة ما». تقترح الحتمية السببية أن ثمة سلسلة متتابعة لا تنقطع من الحوادث السابقة التي تمتد عائدة حتى تصل إلى منشأ الكون. وقد لا تكون العلاقة بين الأحداث قابلة للتحديد، ولا منشأ ذلك الكون، غير أن معتنقي الحتمية السببية يعتقدون أنه لا يوجد شيء في الكون بلا سبب أو مسبب لذاته. ويمكن اعتبار الحتمية التاريخية (وهي نمط من تبعية المسار) مرادفًا للحتمية السببية. كما اعتُبرت الحتمية السببية –على نحو أعمّ- الفكرة التي تؤكد أن كل شيء يحدث أو يوجد يحدث بسبب شروط وظروف سابقة. وفي حالة حتمية النواميس المنطقية، تعد هذه الظروف أحداثًا هي الأخرى، ما ينطوي بداية على أن المستقبل يتحدد بشكل حتمي كامل من خلال الأحداث السابقة، وهي مجموعة مؤلفة من الحالات السابقة للكون وقوانين الطبيعة، غير أنه من الممكن كذلك اعتبارها ما ورائية المنشأ (كما في حالة الحتمية الإلهية) حتمية النواميس المنطقية: هي أشيع أشكال الحتمية السببية، وهي التصور الذي يفترض أن الماضي والحاضر يُمليان المستقبل بأكمله وبالضرورة استنادًا إلى القوانين الطبيعية الصارمة، وأن كل حادثة تنجم بشكل محتوم عن أحداث سابقة. توضَح حتمية النواميس المنطقية في بعض الأحيان بمثال هو تجربة «شيطان لابلاس» الفكرية، ويُطلق على حتمية النواميس المنطقية أحيانًا اسم «الحتمية العلمية»، رغم أن هذا الاسم مغلوط. وبشكل عام، يُستخدم مصطلح «الحتمية الفيزيائية» مرادفًا لحتمية النواميس المنطقية (ونقيضه هو اللاحتمية الفيزيائية) الضرورانية: ترتبط بالحتمية السببية -التي ورد وصفها آنفًا- ارتباطًا وثيقًا، وهي مبدأ ماورائي ينكر كل الإمكانيات المجردة؛ إذ يقول إنه ثمة طريقة واحدة فقط يمكن للعالم أن ينتهجها. وقد زعم ليوكيبوس أن لا وجود للأحداث غير المسبَبة، وأن كل شيء يحدث لسبب. الحتمية المسبقة: هي الفكرة التي تقول إن كل الأحداث محددة مسبقًا. وعادةً ما تحاوَل برهنة الحتمية المسبقة بالاستناد على الحتمية السببية، والإشارة الضمنية إلى وجود سلسلة متتابعة لا تنقطع من الحوادث السابقة التي تمتد عائدة حتى تصل إلى منشأ الكون. وفي حالة الحتمية المسبقة، فقد ثُبِّتت سلسلة الأحداث هذه مسبقًا، ولا يمكن للأفعال البشرية أن تتدخل في حصائل هذه السلسلة المثبّتة مسبقًا. يمكن استخدام مصطلح الحتمية المسبقة للدلالة على ما يمكن اعتباره نوعًا من الحتمية السببية المسبقة، فتُصنف في هذه الحالة على أنها نمط محدد من الحتمية. ويمكن كذلك استخدام المصطلح بنفس دلالة الحتمية السببية ضمن سياق قدرتها على تحديد الأحداث المستقبلية المحتومة. وعلى الرغم من كل هذا، عادةً ما تُعتبر الحتمية المسبقة مستقلة عن الحتمية السببية. ويُستخدم مصطلح الحتمية المسبقة بشكل متكرر في سياق علم الأحياء والوراثة كذلك، ويمثل في هذه الحالة شكلاً من أشكال الحتمية الأحيائية يمكن تمييز القدَرية عادةً عن «الحتمية»، باعتبارها شكلًا من أشكال الحتمية الغائية. وتُعرف القدرية على أنها الفكرة التي تقول إن كل شيء مقدر الحدوث، وبالتالي فلا يملك البشر سيطرة على مستقبلهم. يتمتع القدر بقوةٍ كيفية مستبدة، ولا يحتاج إلى الامتثال لأي قوانين سببية أو حتمية. تنطوي أنماط القدرية على الحتمية الإلهية الصارمة وفكرة القضاء والقدر، إذ ثمة إله يحدد كل ما سيفعله البشر. ويمكن تحقيق ذلك إما عن طريق المعرفة المسبقة بأفعالهم، بواسطة شكل ما من العلم اللانهائي، أو عن طريق القضاء بحدوث أفعالهم مسبقًا الحتمية الإلهية شكل من أشكال الحتمية يعتقد أن كل الأحداث التي تحدث مقضي بها مسبقًا، أو مقدر لها أن تحدث سلفًا، من قبل إله أوحد، أو أن حدوثها مقدر ضمن العلم اللانهائي. يوجد شكلان اثنان للحتمية الإلهية، ستجري الإشارة إليهما هنا بالحتميتين الإلهيتين القوية والضعيفة. وأولاهما، الحتمية الإلهية القوية، قائمة على مفهوم إله خالق يُملي كل أحداث التاريخ: «إن كل شيء يحدث مقدر حدوثه سلفًا من قبل ذات إلهية كلية المعرفة وكلية القدرة». أما الشكل الثاني، وهو الحتمية الإلهية الضعيفة، فيقوم على مفهوم المعرفة الإلهية المسبقة؛ «لأن علم الله اللانهائي كامل، فما يعلمه الله عن المستقبل حادث لا محالة، ما يعني -بناء على ذلك- أن المستقبل متبلور أساسًا». وثمة تنويعات طفيفة على التصنيف الوارد أعلاه، إذ يدعي البعض أن الحتمية الإلهية تتطلب التقدير المسبق لكل الأحداث والحصائل من قبل الذات الإلهية (على سبيل المثال، لا يصنف هؤلاء الشكل الأضعف على أنه «حتمية إلهية» إلا إذا افتُرض أن الحرمان من الإرادة الحرة الليبرتارية هو إحدى العواقب)، أو أن الشكل الأضعف لا يُعد «حتمية إلهية» على الإطلاق. في ما يتعلق بالإرادة الحرة، «الحتمية الإلهية هي الفرضية التي تقول بوجود الإله وامتلاكه علمًا معصومًا يحيط بكل المسائل الصحيحة ومن ضمنها المسائل المتعلقة بأفعالنا المستقبلية»، وقد وُضعت المزيد من المعايير الأصغرية للإحاطة بكل أشكال الحتمية الإلهية. يمكن كذلك أن يُنظر إلى الحتمية الإلهية على أنها أحد أشكال الحتمية السببية، التي تكون الشروط السالفة –وفقًا لها- هي طبيعة الإله ومشيئته. وقد أدخل القديس أوغسطينوس الحتمية الإلهية إلى المسيحية في عام 412 م، بينما كان كل سابقيه من المؤلفين المسيحيين يدعمون الإرادة الحرة مقابل الحتمية الرواقية والغنوصية.
شهد محمد حمد الختلان 22 أغسطس، 2021 - 1:07 ص
الحتمية. فرضية فلسفية تقول ان كل حدث في الكون بما في ذلك إدراك الإنسان وتصرفاته خاضعة لتسلسل منطقي سببي محدد سلفا ضمن سلسلة غير منقطعة من الحوادث التي يؤدي بعضها إلى بعض وفق قوانين محددة، يؤمن البعض بأنها قوانين الطبيعة في حين يؤمن آخرون بأنها قضاء الله وقدره الذي رسمه للكون والمخلوقات، وبالتالي فنظرية الحتمية يمكن تبنيها من قبل أشد الناس إلحادا وتمسكا بالقوانين العلمية كما يمكن تبنيها من قبل أشد الناس إيمانا وقدرية في الحتمية، لا يمكن حدوث أشياء خارج منطق قوانين الطبيعة (ووفق التفسير الديني للحتمية وضع الله القوانين في الطبيعة ليسير كل شيء وفقها)، وبالتالي لا مجال لحوادث عشوائية غير محددة سلفا، ويعترف الحتميون بأنه ربما يصعب على الإنسان أحيانا معرفة النتيجة مسبقا نتيجة عدم قدرته تحديد الشروط البدئية للتجربة، أو عدم امتلاكه للصياغة الدقيقة للقانون الطبيعي، لكن هذا القانون موجود والنتيجة محددة سلفايمكن لمصطلح «الحتمية» أن يشير إلى أي من وجهات النظر التالية:الحتمية السببية: هي «الفكرة التي تقول إن كل حدث يكون محتمًا من قبل أحداث وشروط سالفة جنبًا إلى جنب مع قوانين الطبيعة». غير أن الحتمية السببية مصطلح فضفاض بما يكفي ليأخذ بعين اعتباره أن «الاستقصاءات التي يجريها المرء والخيارات التي يتخذها والأفعال التي يقدم عليها غالبًا ما تكون حلقات ضرورية في السلسلة السببية التي تنتهي إلى حدوث شيء ما. بصياغة أخرى، رغم كون استقصاءاتنا وخياراتنا وأفعالنا حتمية في حد ذاتها، شأنها في ذلك شأن أي شيء آخر، يظل حدوث أشياء أخرى أو وجودها –وفقًا للحتمية السببية- معتمدًا على استقصائنا واختيارنا وفعلنا بطريقة ما». تقترح الحتمية السببية أن ثمة سلسلة متتابعة لا تنقطع من الحوادث السابقة التي تمتد عائدة حتى تصل إلى منشأ الكون. وقد لا تكون العلاقة بين الأحداث قابلة للتحديد، ولا منشأ ذلك الكون، غير أن معتنقي الحتمية السببية يعتقدون أنه لا يوجد شيء في الكون بلا سبب أو مسبب لذاته. ويمكن اعتبار الحتمية التاريخية (وهي نمط من تبعية المسار) مرادفًا للحتمية السببية. كما اعتُبرت الحتمية السببية –على نحو أعمّ- الفكرة التي تؤكد أن كل شيء يحدث أو يوجد يحدث بسبب شروط وظروف سابقة. وفي حالة حتمية النواميس المنطقية، تعد هذه الظروف أحداثًا هي الأخرى، ما ينطوي بداية على أن المستقبل يتحدد بشكل حتمي كامل من خلال الأحداث السابقة، وهي مجموعة مؤلفة من الحالات السابقة للكون وقوانين الطبيعة، غير أنه من الممكن كذلك اعتبارها ما ورائية المنشأ (كما في حالة الحتمية الإلهية) حتمية النواميس المنطقية: هي أشيع أشكال الحتمية السببية، وهي التصور الذي يفترض أن الماضي والحاضر يُمليان المستقبل بأكمله وبالضرورة استنادًا إلى القوانين الطبيعية الصارمة، وأن كل حادثة تنجم بشكل محتوم عن أحداث سابقة. توضَح حتمية النواميس المنطقية في بعض الأحيان بمثال هو تجربة «شيطان لابلاس» الفكرية، ويُطلق على حتمية النواميس المنطقية أحيانًا اسم «الحتمية العلمية»، رغم أن هذا الاسم مغلوط. وبشكل عام، يُستخدم مصطلح «الحتمية الفيزيائية» مرادفًا لحتمية النواميس المنطقية (ونقيضه هو اللاحتمية الفيزيائية) الضرورانية: ترتبط بالحتمية السببية -التي ورد وصفها آنفًا- ارتباطًا وثيقًا، وهي مبدأ ماورائي ينكر كل الإمكانيات المجردة؛ إذ يقول إنه ثمة طريقة واحدة فقط يمكن للعالم أن ينتهجها. وقد زعم ليوكيبوس أن لا وجود للأحداث غير المسبَبة، وأن كل شيء يحدث لسبب. الحتمية المسبقة: هي الفكرة التي تقول إن كل الأحداث محددة مسبقًا. وعادةً ما تحاوَل برهنة الحتمية المسبقة بالاستناد على الحتمية السببية، والإشارة الضمنية إلى وجود سلسلة متتابعة لا تنقطع من الحوادث السابقة التي تمتد عائدة حتى تصل إلى منشأ الكون. وفي حالة الحتمية المسبقة، فقد ثُبِّتت سلسلة الأحداث هذه مسبقًا، ولا يمكن للأفعال البشرية أن تتدخل في حصائل هذه السلسلة المثبّتة مسبقًا. يمكن استخدام مصطلح الحتمية المسبقة للدلالة على ما يمكن اعتباره نوعًا من الحتمية السببية المسبقة، فتُصنف في هذه الحالة على أنها نمط محدد من الحتمية. ويمكن كذلك استخدام المصطلح بنفس دلالة الحتمية السببية ضمن سياق قدرتها على تحديد الأحداث المستقبلية المحتومة. وعلى الرغم من كل هذا، عادةً ما تُعتبر الحتمية المسبقة مستقلة عن الحتمية السببية. ويُستخدم مصطلح الحتمية المسبقة بشكل متكرر في سياق علم الأحياء والوراثة كذلك، ويمثل في هذه الحالة شكلاً من أشكال الحتمية الأحيائية يمكن تمييز القدَرية عادةً عن «الحتمية»، باعتبارها شكلًا من أشكال الحتمية الغائية. وتُعرف القدرية على أنها الفكرة التي تقول إن كل شيء مقدر الحدوث، وبالتالي فلا يملك البشر سيطرة على مستقبلهم. يتمتع القدر بقوةٍ كيفية مستبدة، ولا يحتاج إلى الامتثال لأي قوانين سببية أو حتمية. تنطوي أنماط القدرية على الحتمية الإلهية الصارمة وفكرة القضاء والقدر، إذ ثمة إله يحدد كل ما سيفعله البشر. ويمكن تحقيق ذلك إما عن طريق المعرفة المسبقة بأفعالهم، بواسطة شكل ما من العلم اللانهائي، أو عن طريق القضاء بحدوث أفعالهم مسبقًا الحتمية الإلهية شكل من أشكال الحتمية يعتقد أن كل الأحداث التي تحدث مقضي بها مسبقًا، أو مقدر لها أن تحدث سلفًا، من قبل إله أوحد، أو أن حدوثها مقدر ضمن العلم اللانهائي. يوجد شكلان اثنان للحتمية الإلهية، ستجري الإشارة إليهما هنا بالحتميتين الإلهيتين القوية والضعيفة. وأولاهما، الحتمية الإلهية القوية، قائمة على مفهوم إله خالق يُملي كل أحداث التاريخ: «إن كل شيء يحدث مقدر حدوثه سلفًا من قبل ذات إلهية كلية المعرفة وكلية القدرة». أما الشكل الثاني، وهو الحتمية الإلهية الضعيفة، فيقوم على مفهوم المعرفة الإلهية المسبقة؛ «لأن علم الله اللانهائي كامل، فما يعلمه الله عن المستقبل حادث لا محالة، ما يعني -بناء على ذلك- أن المستقبل متبلور أساسًا». وثمة تنويعات طفيفة على التصنيف الوارد أعلاه، إذ يدعي البعض أن الحتمية الإلهية تتطلب التقدير المسبق لكل الأحداث والحصائل من قبل الذات الإلهية (على سبيل المثال، لا يصنف هؤلاء الشكل الأضعف على أنه «حتمية إلهية» إلا إذا افتُرض أن الحرمان من الإرادة الحرة الليبرتارية هو إحدى العواقب)، أو أن الشكل الأضعف لا يُعد «حتمية إلهية» على الإطلاق. في ما يتعلق بالإرادة الحرة، «الحتمية الإلهية هي الفرضية التي تقول بوجود الإله وامتلاكه علمًا معصومًا يحيط بكل المسائل الصحيحة ومن ضمنها المسائل المتعلقة بأفعالنا المستقبلية»، وقد وُضعت المزيد من المعايير الأصغرية للإحاطة بكل أشكال الحتمية الإلهية. يمكن كذلك أن يُنظر إلى الحتمية الإلهية على أنها أحد أشكال الحتمية السببية، التي تكون الشروط السالفة –وفقًا لها- هي طبيعة الإله ومشيئته. وقد أدخل القديس أوغسطينوس الحتمية الإلهية إلى المسيحية في عام 412 م.
نور سعود العازمي 26 أغسطس، 2021 - 11:30 ص
كل الشكر لجهودك دكتورنا الفاضل على معلوماتك وجهودك الاكثر من رائعة ،، بدايةً ، يعترف الحتميون بأنه ربما يصعب على الإنسان أحيانا معرفة النتيجة مسبقا نتيجة عدم قدرته تحديد الشروط البدئية للتجربة، أو عدم امتلاكه للصياغة الدقيقة للقانون الطبيعي. لكن ذلك القانون موجود والنتيجة محددة سلفاً فيمكن لمصطلح «الحتمية» أن يشير إلى أي من وجهات النظر التالية:الحتمية السببية: هي «الفكرة التي تقول إن كل حدث يكون محتمًا من قبل أحداث وشروط سالفة جنبًا إلى جنب مع قوانين الطبيعة».
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد