المقدمة:
يعدّ كتاب الدكتور علي أسعد وطفة من الأعمال النادرة التي تناولت (إشكاليّات التّعليم الإلكترونيّ وتحدّياته في ضوء جائحة كورونا – قراءة سوسيولوجيّة في جدليات التّفاعل والتّأثير) ” ويحرز هذا الكتاب قصب السبق في ميدان، وهو علاوة على ذلك متميز في موضوعه، جديد في أسلوبه ومنهجيه، ويعد إضافة معرفية نوعية في منهجه ومضامينه الفلسفية .
وعندما وقعت على كتاب المفكر السوري العتيد الدكتور علي أسعد وطفة (إشكاليّات التّعليم الإلكترونيّ وتحدّياته في ضوء جائحة كورونا )، والذي صدر أخيراً مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية 2021م، امتلكني إحساس عميق وشامل بالسعادة وغمرتني حالة من النشوة الفكرية لاقتناعي الفائق بأن الكتاب يحمل في طياته رؤية نقدية جديدة لإشكاليات التّعليم الإلكترونيّ وتحدّياته في ضوء جائحة كورونا، بحثا في جدليات التفاعل والتأثير بين مختلف عوامل هذه القضية ومتغيراتها، ويستقصي مختلف الجوانب الإشكالية التي تتعلق بالتربية والتعليم الإلكتروني في زمن الكورونا (4).
وليس ثمة غرابة أو مغامرة في أن يخوض المؤلف الدكتور وطفة خوضا نقديا إبداعيا في قضايا المدرسة والعولمة والثقافة، لما عرف عنه من حصافة فكرية ونزعة نقدية وروح ثورية جعلته من أكثر المفكرين العرب في مجال علم الاجتماع التربوي قدرة على تناول القضايا الفكرية التربوية المعاصرة تناولا فذا وأصيلا بحكم خبرته الطويلة وأصالته العلمية وانتسابه إلى المدرسة الفرنسية النقدية لعلم الاجتماع النقدي الجديد بزعامة المفكر النقدي الكبير بيير بورديو الذي أسس فضاء فكريا متجددا وحداثيا للعلاقة بين التربية والحياة السياسة الرأسمالية (5).
2 -الکتاب ودوافعه:
يلامس المؤلف في كتابه (إشكاليّات التّعليم الإلكترونيّ وتحدّياته في ضوء جائحة كورونا) أكثر قضايا التربية والتعليم حساسية وجوهرية في ظل جائحة كورونا (كوفيد-19)، حيث دفعت تلك الجائحة المؤسّسات التعليمية في مختلف دول العالم إلى تطوير بدائل مناسبة ومبتكرة للتعامل مع الواقع الذي فرضته الجائحة، وأهمّها الانتقال إلى التعلّم عن بعد، وتدريب أعضاء هيئة التدريس على استخدام برامج التعليم وموادّه وأدواته عبر الإنترنت، إضافة إلى تدريب الطلبة على التعامل مع تلك البرامج وكيفية استخدامها. وتهدف هذه الدّراسة إلى إطلاع المسؤولين عن التعليم والباحثين وصنّاع القرار على الآثار التي خلّفتها الجائحة على العملية التعليمية، والسياسات والبرامج وتدابير الطوارئ التعليمية التي تسهم في الحدّ من تداعياتها على تلك العملية، وكيفيّة الاستفادة من التّعليم الإلكتروني باعتباره بديلا مناسبا في ضوء انتشار الجائحة واستمرار تأثيرها ربّما لأشهر مقبلة (6).
ويعد كتاب (إشكاليّات التّعليم الإلكترونيّ وتحدّياته في ضوء جائحة كورونا) عصارة تفكير الدكتورعلي وطفه في الفلسفة والثقافة التربية والعلوم والمعرفة الكونية، ولذلك لم أهدر الفرصة وحاولت أن أغتنمها لقراءة هذا الكتاب الرائع، وذلك لما فيه خير للإنسانية في الاستفادة من بعضها بعضا. فكانت هذه القراءة التي نتناولها في قسمين كبيرين: مدار القسم الأول على التقديم المادي للكتاب، والقسم الثاني على أهم القضايا التي بسطها الكتاب للدرس والتأمل والحوار.
وبذلك يمكن قراءة أهداف الدكتور علي وطفه في هدفين أساسيين، أو جعلهما في دافعين:
الدافع الأول: نظري معرفي يقوم علي تناول مختلف مظاهر التفاعل بين الأزمة التي أحدثها فيروس كورونا المستجدّ المسبّب لمرض (كوفيد-19) والتعليم الإلكترونيّ عن بعد في مختلف مستويات المراحل التعليمية. وتسعى إلى تقديم صورة متكاملة للتفاعلات القائمة بين تلك الجائحة والتحديات التي فرضتها على التعليم، وإلى تقديم تصوّر شموليّ لتأثيرها في العملية التعليمية ولا سيما إغلاق المدارس والمؤسسات الأكاديمية في مختلف أنحاء العالم، وتتطرق إلى مناقشة مختلف الإشكاليات والتحديات الاجتماعية والسّيكولوجية والتربوية التي تواجه المؤسّسات التعليمية في تعاملها مع هذه الأزمة (7).
الدافع الثاني: عملي واقعي، يقوم علي تحليل أبعاد جائحة كورونا وتفاعلاتها في المستويات العربية والعالمية، ولاسيما في مستوى التأثير المدمّر لهذه الجائحة على أطفال المدارس وشباب الجامعات، كما على الآباء والأمّهات، كما تحاول الكشفَ عن الأبعاد الاقتصادية، وعلاقته بإمكانيّة تدمير الثراء الفكري للبشر، المتمثل في التربية المعنيّة بإعداد العقول وتكوين الأدمغة وتشكيل الخبرات وإعداد المهارات في مواجهة تحدّيات المستقبل، الذي نرجو له أن يبدّد العتمة، ويدمّر الظّلمة ويخرج فتيّا منيرا يضيء زمن البشرية، ويبهج من جديد طفولتها الضّائعة (8).
ولأكثر من سبب فقد جعل الدكتور علي وطفه مضمون الكتاب وفحواه ومادته في الاستدلال علي الهدف الأول، أي علي الجانب النظري المعرفي، مستغلا كل فرصة للتعليق بالسلب علي أصحاب الدافع الثاني، بين نقد أو نقض.
من هنا كانت مهمة الدكتور علي وطفه في مقدمة كتابه أن يعرف القارئ بمقصوده بإشكاليّات التّعليم الإلكترونيّ وتحدّياته في ضوء جائحة كورونا”، وأن يبن أن الجائحة الحالية تمثل ظاهرة عالمية كوكبية، وترتسم مفصلا تاريخيا لمرحلة جديدة في تاريخ الفكر الإنساني، ويتجلّى تأثيرُها الصّارخ في مختلف الاتّجاهات العلمية والمعرفية؛ في مجال الفن والتاريخ، كما في مجال الأدب والفلسفة وعلم الاجتماع والاقتصاد والتربية.. وهكذا، فالكارثة اليوم لا تتمثل جوهريّا في الأعداد الهائلة للمصابين بالجائحة بل في مضاعفاتها الهائلة في مختلف مجالات الحياة (9).
والواقع أنه إذا كان صحيحاً القول بأن للفيلسوف حدثاً واحداً يتكرر كل عدة سنوات كما قال الفيلسوف الفرنسي المعاصر ” هنري برجسون”؛ فإنه صحيح أيضاً القول بأن للمفكر المتميز خطاياً واحداً يتكرر دائماً عبر مستويات عديدة تعكس كلها رؤية واضحة ومتفردة، كتلك التي نجدها متضمنة في جميع أعمال الدكتور “علي وطفه”: كتاباً كانت. . أم ترجمة.
ومن هنا يقع كتاب (إشكاليّات التّعليم الإلكترونيّ وتحدّياته في ضوء جائحة كورونا) الذي نحن بصدده الآن ضمن الدوال الرئيسية علي معالم هذا الخطاب الذي يمثل بحق اتجاهاً معرفياً جديداً في حقل الثقافة العربية المعاصرة. . اتجاها احتل مكانته في قلب هذه الثقافة عن جدارة واستحقاق بصرف النظر عن مدي الاتفاق أو الاختلاف مع ما يمثله من قيمة معرفية ومنهجية في دراسة علوم التراث ونصوصه، وهي قيمة ولا ريب عظيمة ولو كره الشائنون..!
3 -المؤلّف وحضوره العلمي :
أما المؤلف فهو الدكتور الأستاذ الدكتور ” علي أسعد وطفه”، أستاذ علم الاجتماع التربوي بكلية التربية –جامعة الكويت، وهو أيضاً باحث وأكاديمي سوري، يشغل منصب أستاذ علم الاجتماع التربوي، ورئيس تحرير مجلة نقد وتنوير الصادرة عن مركز نقد وتنوير للدراسات الإنسانية، عضو اتحاد الكتاب العرب، عضو رابطة الكتاب السوريين، عضو اتحاد كتاب سورية الأحرار، عضو الشبكة العالمية للتربية على حقوق الإنسان، عضو المجلس العربي للعلوم الاجتماعية في بيروت، عضو الهيئة الاستشارية لمجلة متنوري بجامعة قسطنطينة في الجزائر، عضو الهيئة الاستشارية لمجلة دراسات الصادرة عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات العربية المتحدة. حائز على جائزة حميد بن راشد للعلوم الاجتماعية سنة 2014، وعلى جائزة البحث المتميز لجامعة الكويت في مجال الآداب والعلوم الإنسانية سنة 2009، وعلى شهادة تقدير من صاحب السمو سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة سنة 2001. له العديد من المؤلفات، من بينها: “العنف والعدوانية في التحليل النفسي”، و”الجمود والتجديد في العقلية العربية”، و”بنية السلطة وإشكالية التسلط التربوي في الوطن العربي”، و”التنشئة الاجتماعية في دولة الكويت”، و”المدخل إلى التربية”، و”الشباب والمرأة”، و”الشباب قيم واتجاهات ومواقف”، و”التربية وحقوق الإنسان”. وله مجموعة من الترجمات، من بينها: “إميل دوركهايم: التربية والمجتمع”، و”بيير بورني: فلسفة الحب”. وله مجموعة من الأبحاث العلمية المحكمة، من بينها: “التحديات الإعلامية في الوطن العربي: مواقف الشباب من تلفاز الشرق الأوسط، دراسة سوسيولوجية إعلامية في جنوب سورية”، و”الاغتراب والأنسنة في مفهوم الفردانية: المغامرة الفكرية الفردانية في الثقافة الغربية.
4 -الکتاب وموضوعه :
والسؤال الذي أود أن أسأله للأستاذ الدكتور علي وطفه: لماذا اختار لكتابه عنوان “إشكاليّات التّعليم الإلكترونيّ وتحدّياته في ضوء جائحة كورونا “، ولم يختار له اسم “مشكلة التعليم الالكتروني في ظل جائحة كورونا “، أو ” أزمة التعليم الالكتروني في ضوء تحديات جائحة كورونا ” أو ” التعليم الالكتروني وجائحة كورونا بين المحنة والمنحة، أو “التعليم الالكتروني.. ضرورة تفرضها جائحة كورونا”.. الخ؟
وهنا يجيبنا الدكتور علي وطفه ضمن ملاحظة سجلها ضمن تلخيصه للكتاب فقال: ” يتناول الكتاب إشكاليات التّعليم الإلكترونيّ وتحدّياته في ضوء جائحة كورونا، ويبحث في جدليات التفاعل والتأثير بين مختلف عوامل هذه القضية ومتغيراتها، ويستقصي مختلف الجوانب الإشكالية التي تتعلق بالتربية والتعليم الإلكتروني في زمن الكورونا (10).
والكتاب عند أول صدوره يقع في (425) صفحة، وهذا الكتاب ليس رواية من نسيج الخيال، ولا سرد لأحداث تاريخية عن التعليم الالكتروني في ظل جائحة كورونا، وإنما هو عبارة عن مراجعة لمئات المصادر والمراجع، وكذلك البحث بصورة نقدية للدراسات التربوية والأبحاث العلمية في محاولة للكشف عن الجوانب المظلمة للأزمة، وابتكار وسائل المواجهة وطرق الدّفاع والحماية، ودراسة التّأثير البعيد والقريب لهذه الأزمة في المجتمع الطلاّبي على مستوى الكوكب، في محاولة جادّة لفهم ما يجري، ومن ثم الانطلاق إلى مواجهة التّحدّيات الصّعبة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا (11).
ولهذا أكد المؤلف بأن هذه الدراسة تهدف إلى إطلاع المسؤولين عن التعليم والباحثين وصنّاع القرار على الآثار التي خلّفتها الجائحة على العملية التعليمية، والسياسات والبرامج وتدابير الطوارئ التعليمية التي تسهم في الحدّ من تداعياتها على تلك العملية، وكيفيّة الاستفادة من التّعليم الإلكتروني باعتباره بديلاً مناسباً في ضوء انتشار الجائحة واستمرار تأثيرها ربّما لأشهر مقبلة (12).
وينقسم الكتاب إلي عشرة فصول وخاتمة، حيث يستعرض الفصل الأول إشكالية الصدمة الأولى للفيروس التي أدت إلى الإغلاق الشامل للمدارس والمؤسسات التعليمية وما ترتب على هذا الأمر من تحديات فرضت نفسها على التعليم ومؤسساته في مختلف أنحاء العالم. ويتناول الفصل الثاني مفهوم التعليم الإلكتروني وتداخلاته الإشكالية مع مختلف المفاهيم المتاخمة له في مختلف المستويات التعليمية. وقد كُرس الفصل الثالث (الأطفال في مواجهة الإعصار.. جيل في مهبّ كورونا) لمعالجة التأثيرات التي فرضها كورونا في حياة الأطفال وتعليمهم في مختلف أنحاء العالم. ويعالج الفصل الرابع التعليم عن بعد بوصفه خيارا استراتيجيا لمواجهة الأزمة ضمن تجلياته في مختلف لتجارب العربية والعالمية. أما الفصل الخامس فقد كُرّس للبحث في معطيات التجربة التربوية لدول الخليج العربي في مواجهة الأزمة. ويستعرض الفصل السادس إشكالية العلاقة بين التّعليم التّقليديّ والتّعليم الإلكترونيّ، كما يتناول السمات والخصائص التي تميز كل منهما في سياقه التاريخي، ومن ثم يبحث في الكيفيات التي يتمّ فيها الانتقال إلى التعليم الإلكتروني عن بعد في ظل الكارثة. وقد كرس الفصل السابع لمناقشة التحديات التي فرضت نفسها على التعليم العالي والجامعي في مواجهة كورونا ضمن منظومة التجارب العالمية والعربية، كما يبحث الكيفيات التي اعتمدتها مختلف البلدان في التصدي للكارثة ومتابعة التحصيل العلمي عن بعد في ظروف كورونا وتعقيداتها. وفيما بعد تم تناول مستقبل التعليم العالي والجامعي في ظل أزمة كورونا في الفصل الثامن. وعلى الأثر تمت مناقشة مستقبل التّعليم العام والأساسي فيما بعد أزمة كورونا في الفصل التّاسع. وفي الفصل العاشر، يستعرض الكتاب مسألة الدروس والعبر المستفادة من أزمة كورونا، كما يبحث في الوضع العربي المتأزم وصيرورة الانتقال التربوي إلى عالم الثورة الرقمية تحت تأثير الصدمة، كما يبحث في الكيفيات التي يمكن فيها للأزمة أن تحرّض المدرسة العربية على التفاعل مع معطيات العصر وتحولاته الثورية في مستقبل الثورة الصناعية.
ويمكن توضيح ذلك بالتفضيل حيث نجد الفصل الأول يبدأه الدكتور وطفه بمقدمة أكد فيها أن: ” صدمت جائحة كورونا الأنظمة التربوية في العالم، ورمتها بين مخالب أزمة لم يسبق لها مثيل في تاريخ التربية والتعليم، وجاءت لتدمّر فاعليّتها وتفجّر أطرها التّقليدية وتضعها أمام تحدّيات جديدة تهدّدها بالسّقوط والزوال. وفي ظلّ هذه الصدمة العنيفة فقدت المدارس والمؤسسات التربوية كثيرا من ألقها المعهود، ومن قدرتها على مواكبة المستجدات سواء في عالم الكوارث والأوبئة، أو في عالم الثورة الصناعية الرابعة. وليس من المبالغة في شيء القول: إنّ هذه الجائحة جاءت لتدقّ المسمار الأخير في نعش المدرسة التقليدية، ولتعلن موتها المؤكّد في مختلف أصقاع العالم. فالجائحة فرضت إغلاقاً كاملاً على المدارس ورياض الأطفال والجامعات والمؤسسات التعليمية في مختلف أنحاء العالم (صالح، 2020)، وانتقلت بالتعليم إلى حالة افتراضية موجّهة بمعطيات الثورة الصناعية الرابعة في مجال الاتصال والمعلوماتية. ولا ريب أنّ التحوّل إلى هذه الحالة الافتراضية قد بدأت تتحقّق بصورة واضحة وواقعية في مختلف البلدان. وقد ترتّب على الأنظمة التعليمية اليوم أن تودّع التّعليم التقليدي بمكوناته المعهودة، حيث المدرسة والمعلّم والطالب والسبورة والاختبار الورقي، وداعاً بائناً لا رجعة فيه (13).
ثم انطلق الدكتور علي وطفه بعد ذلك يناقش المحاور التالية: إغلاق المدارس ( من ص 36-38)، وشرارة الجائحة ( من ص 38-39)، وموجات مستقبلية (ص 39)، التعليم والجائحة: من صدمة الإغلاق إلى الأزمة ( من ص 39-50)، ومن خلال تلك المحاور توصل الدكتور علي وطفه إلي أن: ” القول أنّ البشريّة قد تعرضت إلى أزمة صحيّة لم يسبق لها مثيل، هي أزمة جائحة كورونا، التي تجاوزت مجال الصّحة العامّة لتشمل المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة… وكان أن وُضعت التقاليد والقيم والمواضعات والمؤسّسات، وسائر معهود النّاس ومعيشهم اليوميّ على المحكّ دفعة واحدة. وبدت الإنسانيّة، لبعض الوقت، في حالة شلل تامّ، بفعل الصدّمة والمفاجأة. وكان من أكثر القطاعات تأثّرا هو مجال التربية والتعليم. فقد فرض الخوف من العدوى وضرورة التباعد الجسديّ محاذير أصابت العمليّة التعليميّة التقليديّة في مقتل. وتمّ اللجوء إلى إغلاق المؤسسات التعليميّة، والاستعاضة عن الدّرس التقليدي الحضوري ببعض البدائل، من أهمّها التعليم الافتراضي، أو التعليم عن بعد. وهو بديل صاحبته مشكلات جديدة، منها ما هو ذو طبيعيّة مادية كالفقر ونقص الغذاء، وبعضها ذو طبيعة نفسية واجتماعيّة كتعرّض الناشئة للعنف والشعور بالعزلة والعمل المبكّر، والزواج القسري وختان الإناث… وأخرى ذات طبيعة تربويّة وفي مقدّمتها انعدام تكافؤ الفرص بسبب عدم توفّر إمكانات التواصل عبر الإنترنت للجميع على قدم المساواة… وغياب التّفاعل الحيّ بين المعلم والمتعلّم والتسرّب المدرسي، وتفاقم الأميّة… ولئن وحّد الخوف والهلع من جائحة كورونا الإنسانيّة، فإنّ المشكلات التي أنتجتها هذه الجائحة قد عمّقت الفوارق بين الدّول النّامية والدّولة المتقدّمة، مثلما عمّقتها داخل المجتمع الواحد بين الفقراء والأغنياء. وهكذا فإنّ الخبراء والباحثين والمنظمات الدّوليّة يتوقّعون أنّ تمتدّ آثار جائحة كورونا السلبيّة إلى الأجيال القادمة، وأنّ البشريّة ستحتاج وقتا طويلا لمعالجة تلك الآثار، وأنّ تاريخ الإنسان ما قبل كورونا على هذا الكوكب لن يكون كما بعده (14).
أما الفصل الثاني فجاء بعنوان” في مفهوم التعليم الإلكتروني وإشكالياته: من التعليم عن بعد إلى التعليم الإلكتروني”، وفي هذا الفصل قال الدكتور وطفه في مقدمته: ” اعتاد الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير أن يطلب من محاوريه تحديد مفاهيمهم ومصطلحاتهم قبل الخوض في الحوار والنقاش، لأن الوضوح في المفاهيم يبدّد الأوهام والمغالطات في الحوار والمناقشة. وقد شهر عنه قوله: “إذا أردت أن تتحدث معي فحدد مفاهيمك”. ومثل هذه المقولة تنطوي على حكمة بليغة يجب علينا استحضارها دائما في الحوار وفي البحث العلمي. فالبحث الجيّد هو البحث الذي يقوم على ركائز مفاهيمية واضحة. فالكثير من الخلافات والصراعات الأيديولوجية ناجمة عن غموض في المفاهيم، وعن غياب في السيطرة على الدلالات والمعاني الكامنة فيها. ولا يخفى على العارفين أن كثيرا من الجدل العنيف الدائر حول التعليم عن بعد ناجم عن غموض كبير في مفاهيم هذا النوع من التعليم، وفي تجلياته المتنوعة، ومن هذا المنطلق يترتب علينا منهجيا العمل على استكشاف أبعاد مفهوم التعليم الإلكتروني وتقاطعاته مع كثير من المفاهيم المجاورة له، مثل التعليم عن بعد في حالة الطوارئ والتعليم الرقمي والتعليم الافتراضي (15)
ويستطرد المؤلف فيقول:. . وغني عن البيان أن بلورة هذه المفاهيم والكشف عن دلالاتها وتداخلاتها يشكل مدخلا منهجيا مهمّا جدا في التأسيس للبحث الذي نقوم به حول التعليم الإلكتروني في ظل جائحة كورونا. ولا شكّ لدينا أن جائحة كورونا قد أدخلت مزيدا من التعقيد في السيطرة على مفهوم التعليم عند بعد بصورته الإلكترونية، وأن السيطرة على هذا المفهوم بأبعاده المختلفة سيشكل منطلقا يُؤسس عليه في تناولنا للتعليم الإلكتروني في ظل الجائحة، وذلك لأنّ كثيرا من الباحثين والتربويين يأخذون بالمفهوم الضيّق للتعليم الإلكتروني دون الغوص في معانيه ودلالاته المتنوعة. وتأسيسا على ذلك تدور المناقشات، وتبرز الاتجاهات الرافضة لهذا النّمط من التعليم بناء على وعي مشوش وخاطئ بخصوص مفهوم التعليم الإلكتروني وتعيّناته الفكرية. وقبل الخوض في إشكاليات التعليم الإلكتروني ودوره في تخطي الأزمة الكورورنية، يجب تحديد مفهوم التعليم الإلكتروني ودلالاته المعرفية، وبيان مدى صلته الفعلية بمنظومة أنواع التعليم (16)
ثم يتساءل المؤلف فيقول: فما التعليم الإلكتروني؟ متى نشأ هذا المفهوم وكيف تكون تاريخيا؟ وما العوامل والمتغيرات التي ساهمت في تكوينه؟ وكيف انفصل هذا المفهوم عن منظومة المفاهيم المتداخلة معه؟ ما فلسفة هذا المفهوم؟ ما مكوناته؟ وما هي تفاعلاته وتوظيفاته في ظل الأزمة الكورونية؟ (17).
وهنا نجد المؤلف يجيب علي هذه التساؤلات من خلال المحاور التالية: إشكالية المفهوم ( من ص 60-62)، ومفهوم التعليم الإلكتروني ( من ص 62-64)، وتعريف التعليم الإلكتروني ( من ص 64-70)، ومفهوم التعليم عن بعد ( من ص 40-75)، وما بين التعليم الافتراضي والرقمي والإلكتروني( من ص 75-80)، وما بين التعلم عن بعد والتعليم الإلكتروني ( من ص 80-85)، ومن خلال المحاور توصل إلي أن: ” بأن هذه المقارنة بين مفهومي التعليم الإلكتروني والتعليم عند بعد في حالة الطوارئ ستمكّننا في المستقبل من تعقب آثار التعليم في حالة الطوارئ، وتأثيرها في الثقافة التربوية العامة، وفي الرأي العام حول صلاحية التعليم عن بعد في مستقبل التربية والتعليم في العالم. وستساعدنا المقارنة بين هذين المفهومين على فهم أعمق وأشمل لفلسفة التعليم الإلكتروني ومضامينه التربوية، وتعزز فهمنا لخريطة المفاهيم وشبكاتها التي تغطي مختلف أشكال التعليم عن بعد وتجلياته الإلكترونية (18)؛ وعلى خلاف كل التصورات السائدة، التي تحيل التعليم الإلكتروني إلى مجرد ممارسة تكنولوجية لنقل المعلومات عن بعد، يأخذ التعليم الإلكتروني كما يري الدكتور وطفه: ” صورة منظومة معرفية حيّة متكاملة الأبعاد قوامها التفاعل الحيوي بين الثورة الرقمية والفكر التربوي في أكثر تجلياته أنسنة وتميّزا. وهنا يجب علينا أن نلح على أهمية الفصل بين التعليم عن بعد في حالة الطوارئ التي شهدناها على مدار السنة الماضية، وبين التعليم الإلكتروني الذي يحتاج إلى درجة كبيرة وعالية من الإعداد والتنظيم، ويمكننا أن نطلق على التعليم عن بعد في خالة الطوارئ تسمية أخرى أكثر وضوحا وهي: التعليم التقليدي عن بعد حيث يكون نقل المعلومات بصورة جامدة وفقا للمنهج التقليدي في التعليم. وهكذا، فالتعليم الإلكتروني يختلف عن التعليم التقليدي عن بعد كثيرا في المستوى والدرجة والقيمة، إذ يتمثل في كونه، وفي الوقت نفسه، ممارسة إنسانية ذكية، وتقانة رقمية متطورة، وفكر تربوي متقدم يقوم على فلسفة محددة وأهداف مصممة لتحقيق أفضل مستويات التعليم والتربية عند الأطفال والناشئة. وليس ممكنا أبدا تبنّي التعليم الإلكتروني من دون فلسفة جديدة للتعليم تتوافق مع تطورات العصر في أكثر مظاهره الرقمية الذكية حضورا وتطورا. والتعليم الإلكتروني، يقوم في فلسفته التربوية على إزالة الحواجز بين الأطفال في دائرتي المكان والزمان حيث يمكن للمتعلمين الانفتاح على العالم الذي يحيط بهم ويخرجهم من أقفاص الفصول الدراسية الضيقة إلى عالم أرحب فكريا وثقافيا ومعرفيا وإنسانيا بطريقة ينفتح فيها الأطفال على فضاءات إنسانية واسعة دون حدود أو قيود. وهو نوع من التعليم الذي يبشّر بسقوط كلّ أشكال التلقين والتحجّر المعرفي الذي تمارسه المدرسة التقليدية التي ما زالت تعيش في عصر حشو العقول بالمعلومات بينما يأخذنا التعليم الإلكتروني إلى عصر الإبداع المعرفي والابتكار العلمي. ومن المؤكد أن التعليم الإلكتروني يشكل نوعا من الثورة الإبيستيمولوجية في التربية التي تؤهل التربية للمشاركة الفاعلة في الثورة المعرفية التي تشكل السمة الأساسية للمجتمع الصناعي في ثورته الرابعة (19).
ينتقل الدكتور علي وطفه إلي الفصل الثالث وهو بعنوان “ الأطفال في مواجهة الإعصار.. جيل في مهبّ كورونا”، وفي هذا الفصل أكد المؤلف أن: “المدارس تشكّل الفضاء الحيوي لتنمية الأطفال والمراهقين وتحقيق رفاهيتهم ونموّهم المعرفيّ والأخلاقيّ. وتأسيسا على ذلك فإن تعطيل المدارس سيشكّل أزمة خانقة بالنسبة إلى الأطفال، إذ تلحق بالغ الأثر بالمجال الحيوي لوجودهم ونمائهم. وعند إغلاق المدارس لفترات طويلة يظهر عدد من المشكلات والصعوبات التي تواجهها هذه الشريحة العمرية.. ومن الصعوبة بمكان الفصل، منهجيّا وواقعيّا، بين إغلاق الدارس، وجوانب التأثير الذي أحدثه هذا الإغلاق في مجتمع الأطفال، حيث تتداخل العوامل والمعطيات بصورة بالغة جدا، فالعلاقة بين المدرسة والأطفال علاقة وجودية شديدة التعقيد، تترابط خيوطها وتتداخل بطريقة عمودية ودائرية، وعلى صورة شبكة معقدة التكوين. ومع ذلك سنحاول الفصل بين هذه المتغيرات بطريقة منهجية، لكنها لا تستطيع مهما بلغت من الدقّة والإحكام أن تعالج هذا التداخل بصورة كاملة. فالأبعاد الصحية والنفسية والاقتصادية والتعليمية تتداخل وتترابط وتتشابك ضمن منظومات تفاعلية جدا، آخذة بالأبعاد الأربعة للوجود بما فيها البعد الزمني المتحرّك. ومن المفارقات التي تزيد الأمور تعقيدا أن الأطفال هم أقل الفئات الإنسانية تعرضا للإصابة بالفيروس المستجد (كوفيد-19)، لكنهم يستطيعون نقل العدوى لمن يخالطهم من الكبار والبالغين. لقد كان تأثير الجائحة على التعليم هائلاً، كما ذكرنا آنفا، حيث بلغت نسبة الطلبة المنقطعين عن العمل 1.6 مليار طفل وطالب في 200 دولة (20).
ويظلّ، بالرغم من كلّ الفروض، سؤال مهم قائم يدور في خلد الكثيرين كما يقول الدكتور علي وطفه، ألا وهو: هل سيستمر زخم التعلم الإلكتروني فيما بعد كورونا، أم أنه سيختفي، وتعود الأمور إلى مسارها السابق؟ (21).
وهنا نجد الدكتور علي وطفه يجيب علي هذا التساؤل فائلاً: ” تتعدد الآراء هنا بين من يظن -أو ربما يتمنى- أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه، ومن يعتقد أنه لا رجعة عن التعلم الإلكتروني الذي طال انتظار التحوّل إليه بشكل أكبر” (22) من خلال المحاور التالية: التغذية وصحة الأطفال ( من ص 97-101)، وتأثير الإغلاق على الصحة العقلية والنفسية للأطفال ( من ص 101-105)، وتأثير إغلاق المدارس في مستوى رفاهية الأطفال ( من ص 105-106)، والاتجار بالأطفال واستغلالهم ( من ص 106-109)، وعمالة الأطفال ( من ص 109-110)، وزواج الأطفال ( من ص 110-112)، والاستغلال الجنسي للأطفال عبر الإنترنت ( من ص 112-113)، والصراع وتجنيد الأطفال ( من ص 113-115)، الفجوة بين الأطفال ( من ص 115-116)، وتعميق الفجوة بين الجنسين ( من ص 117-120)، واللاّمساواة في التعليم ( من ص 120-125)، والفاقد التعليمي والتسرّب ( من ص 125-127)، ومن خلال تلك المحاور توصل المؤلف لحقيقة مهمة، وهي أنه في النصف الأول من القرن الماضي كان التفكير السوسيولوجي يدور حول تضاؤل دور الأسرة لصالح المدرسة، وجرى الحديث عن موت الأسرة مع تصاعد دور المؤسسات التربوية الجديدة وتعاظم أهميتها. وقد اضطرت الأسرة إلى التخلي عن معظم وظائفها خلال العقود الماضية حتى أصبحت أشبه بمكان للنوم والراحة يلجأ إليه الأطفال بعد يوم متعب من الحياة في المؤسسات الخارجية. وكانت المدرسة – حتى خلال العطل الرسمية – تؤدي دورا حيويا في رعاية الأطفال وحمايتهم وتنظيم الرحلات الترفيهيّة لهم بعيدا عن الأسرة. وقد ظهرت كتابات كثيرة بعنوان موت الأسرة وموت العائلة بعد أن اشتد عود المدرسة ومؤسسات التنشئة الاجتماعية المساندة لها من رياض للأطفال ودور للحضانة ونوادي ومؤسسات عديدة جدا إلى الحد الذي اقتصر فيها دور الأسرة على وظائف محدودة للغاية تتمثل بالرعاية الأسرية (23)؛ ثم يؤكد المؤلف فيقول: ” والآن، وتحت هول الصدمة الفيروسية، تعود الأسرة من جديد لتقوم بدورها التقليدي، بل ولتقوم بدور المدرسة والمؤسسات التربوية والاجتماعية الأخرى. وأصبحت اليوم في ظل الجائحة حاضنا يضم فعالية مختلف الفضاءات الاجتماعية والتربوية والطبيعية، وهو حمل شديد الوطأة يثقل على كاهل الأسرة ويحملها مسؤوليات تفوق طاقتها (24) ؛ خاصة وأن التحديات التي فرضها كورونا كما يري المؤلف يحتاج منا اليوم إلى جهود كبيرة في مجال العلوم الإنسانية، ويمكن القول: إنه لا توجد حتى اليوم إجابات جاهزة عن طبيعة هذه التحديات التي تواجه الأطفال والناشئة والأسر في هذه المرحلة. فتدمير الفضاء المدرسي وتحوله إلى عالم افتراضي أو الانتقال إلى التعليم الافتراضي يطرح كثيرا من المشكلات الذهنية والعقلية عند الأطفال. وهنا يجب علينا القول بأن تغييب الواقع الاجتماعي للطفل يبقى كارثيا إذ لا شيء يعوض القطيعة بين الطفل والطبيعية أو بين الطفل ومؤسساته الاجتماعية (25).
ونذهب إلي الفصل الرابع، وهو بعنوان “التعليم عن بعد بوصفه خيارا استراتيجيا: تجارب عربية وعالمية”، وفي هذا الفصل ذهب الدكتور علي وطفه إلي أن الأزمة الناجمة أثرت عن ظهور جائحة كورونا في مستقبل الحياة ونوعيتها لجميع سكان الكوكب، ولاسيما الأطفال والشباب. وفي ظلّ هذا المشهد المأساوي أصيب ملايين البشر بالذعر والخوف وتعطلت مصالحهم، وأصيبوا بحالة من الاضطراب والفوضى المدمّرتين للحياة. فقد فُرِض على الجميع حجر صحي شامل في معظم دول العالم لمنع انتشار العدوى وتقليل معدلات الوفيات. وترتّب على المؤسسات التعليمية أن تتكيّف بسرعة مع هذا الوضع الجديد، وأن تعمل على تبنّي نموذج التعليم الإلكتروني عن بعد كوسيلة حيوية لحماية الأطفال والناشئة وضمان تعلّمهم (26)، ثم يؤكد المؤلف بأن الجائحة كشفت عن الأزمة الخفية لأنظمة التعليم في العالم، وأظهرت عجزها وضعفها البالغ أمام الأزمات والصدمات التي يمكن أن تواجهها في المستقبل. ولئن لامست الجائحة جميع وجوه الحياة، فإنّ التعليم كان الأكثر تأثرا. إذ فرضت الجائحة على المدارس والحضانات والجامعات أن تغلق أبوابها، وانقطع أكثر من 1.6 مليار طفل وشاب عن التعليم، كما ذكرنا آنفا. ووجد الطلبة أنفسهم فجأة في أكثر من 200 دولة مجبرين على التعلم في المنزل بواسطة التعليم عن بعد. وبعد أن كانت المؤسسات التعليمية تنظر إلى التعليم الإلكتروني كنوع من الترف، أصبحت تنظر إليه باعتباره ضرورة حيوية، ووسيلة لا بد منها لتمكين مئات الملايين من الطلاب والأطفال في العالم من التعلم، بعد العطالة التي ضربت مدارسهم ومؤسساتهم التعليمية. وعلى الرغم من تعرض العديد من البلدان في السابق لكوارث طبيعية وبشرية، فإنها لم تلجأ إلى استخدام التعليم عن بعد كحل لتلك الأزمات بالطريقة الشاملة نفسها التي تم بها تطبيقها في أعقاب أزمة فيروس كورونا (27) ؛ وإزاء هذا الإغلاق المدرسي والانقطاع الشامل للتعليم الذي امتدّ إلى كامل المعمورة، لجأت الدول إلى التعليم الإلكتروني لتعويض الطلبة عن قطيعتهم التربوية عن مؤسساتهم التعليمية. ولجأت الأنظمة التعليمية إلى موجة التعليم عن بعد عبر الراديو والإنترنت والتلفزيون وغيرها من الوسائل والوسائط الإلكترونية الممكنة. لكن المشكلة كانت تكمن في قدرة الأنظمة التعليمية على مواكبة التعليم عن بعد في حالة الطوارئ بما لديها من إمكانات وخبرات وبنى لوجستية تحتية. وهنا تثور أسئلة إشكاليّة مهمة حول الكيفيات التي تمّ فيها هذا الاعتماد ضمن متغيرات تتعلق بالتطور التعليمي والتهيؤ التكنولوجي اللوجستي لمواجهة تحدّي الانقطاع والإغلاق (28) ؛ ونظرًا لاستمرار الجائحة وتعاظم تأثيرها، كان على الأنظمة التعليمية أن تستمرّ في تناوبات الإغلاق، وإعادة الفتح على إيقاع تقدم الفيروس أو تراجعه. وقد عملت كثير من الدول على رفع القيود والحظر العام من أجل المحافظة على الاستقرار الاقتصادي، وشمل ذلك إعادة فتح المدارس ولاسيما مع البوادر الأولى لمظاهر الاستقرار في منحنيات الخطر الناجم عن الجائحة. لكن بعض الدول كانت أكثر حذرا وخوفا من “موجة ثانية” للفيروس. وفي منتصف يوليو 2020، التحق أكثر من مليار طالب، أي ما يعادل 61٪ من إجمالي عدد المتعلمين في العالم بمدارسهم ومؤسساتهم التعليمية (29).
ثم وجدنا الدكتور علي وطفه بعد ذلك ينطلق في هذا الفصل لمعالجة المحاور التالية: تحديات الانتقال إلى التعليم الإلكتروني ( من ص 140-145)، والتجربة الصينية في الانتقال إلى التعليم الإلكتروني ( من ص 145-148)، وتجارب عالمية ناجحة ( من ص 148-152)، والتجارب العربية في مجال الانتقال إلى التعليم الإلكتروني ( من ص 152-154)، ووضع التعليم الإلكتروني عربيا ( من ص 154-157)، وحلول عربية لإشكاليات التعليم الإلكتروني ( من ص 157-159)، وتجارب عربية في التعليم عن بعد (159-166)، وهنا وجدنا المؤلف يتوصل إلي حقيقة مهمة وهي أن إشكالية التعليم عن بعد، تأخذ في ظل جائحة كورونا، صورة أزمة شاملة، ويشكل هذا النّمط من التعليم، في ظل هذه الظروف الوبائية، كارثة إنسانية بما لها من أبعاد اقتصادية واجتماعية. فالمشكلة ليست في التعليم والتعليم عن بعد ذاته، وإنما في دوامة العلاقات المعقّدة التي تفرضها مختلف متغيرات هذه الظاهرة ولا سيما في البلدان الفقيرة أو النامية التي يصطلح على تسميتها ببلدان الجنوب. فالتعليم عن بعد في هذه البلدان جاء بصورة كارثية. وهو في الوقت نفسه يحمل في ذاته نتائج كارثية تربويّا واجتماعيّا واقتصاديّا (30)؛ فالبلدان المتقدمة استطاعت أن تعتمد التعلّيم عن بعد -وإن كان بصعوبة إلى حدّ ما- وذلك كنتيجة طبيعية لتوفّر البيئة التعليمية المناسبة والبنية التحتية من أجهزة ووسائل ومعدات ومهارات وخبرات. ولكن هذا التحوّل كان صعبا، وكارثيا في مختلف أنحاء العالم الثالث ولاسيما في دول الجنوب ومنها الدول العربية الفقيرة (31)؛ وفيما يتعلق بالدول العربية فقد لاحظنا أن هذه التجربة كانت صعبة ومعقدة ولاسيما في الدول العربية المنكوبة بالحروب والأزمات مثل ليبيا وسوريا والصومال واليمن حيث لا تتوفر أدنى مستويات البنية التحتية من ماء وكهرباء وشبكات وهي التي تعاني أيضا من أزمات اقتصادية خانقة كما هو الحال في لبنان على سبيل المثال وليس الحصر. وسنتحدث في الفصل القادم عن تجربة الدول الخليجية بوصفها مجموعة على درجة عالية من الاستقرار المالي والاقتصادي وتتوفر فيها البنى اللوجستية الضرورية لعملية الانتقال إلى التعليم الإلكتروني (32).
وفيما يخص الفصل الخامس والذي يقع تحت عنوان ” التجربة التربوية لدول الخليج العربي في مواجهة كورونا”، وفي هذا الفصل رأينا الدكتور وطفه يعلن لنا أن: ” تجربة الدّول العربية الخليجيّة في مواجهة أزمة كورونا تشكّل تجربة فريدة من نوعها. وتقوم هذه الفرادة على خصوصيّة هذه الدول بوصفها دولا نفطية تتّسم بالغنى والثراء الاقتصادي واللوجستي. وتتشكّل هذه المجموعة الإقليمية من ستّ دول، هي: السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين وسلطنة عمان. وتنضوي هذه الدول تحت المظلّة السياسية والاقتصادية لمجلس التعاون الخليجي، وهو اتّحاد شبه فيدرالي يجمع هذه الدول الستّ سياسيا واقتصاديا، ويطلق على هذه البلدان دول مجلس التعاون الخليجي (33)؛ ثم يستطرد قائلا: “… تتميّز دول الخليج بقدراتها المالية الكبيرة وبدرجة عالية من النمو الاقتصادي والتقدم العمراني والتّعليميّ في مختلف مظاهر وجوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية. ومن هذا المنطلق يُنتظر أن تكون تجربتها في مواجهة الأزمة وتبعات الجائحة فعّالة وناجحة ومميّزة بالمقارنة مع البلدان النامية، ولاسيّما البلدان العربية غير النفطيّة،. وممّا لا شك فيه أن التعريف بهذه التجربة وما شابها يعدّ ضرورة علمية تنطوي على خبرة تاريخية في كيفية مواجهة الأوبئة والحالات الطارئة يمكن الاستفادة منها في المستقبل، والعمل على تطويرها، وتطوير الأنظمة التربوية في الخليج والعالم العربي لتكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات والأوبئة والجوائح. وعلى الرغم من القوة المالية والاقتصادية التي تتمتع بها دول الخليج، فإن الأزمة التي هزت أركان العالم استطاعت في الوقت نفسه أن تزلزل الأوضاع الاقتصادية في دول الخليج العربي، وأن تسبّب أزمة اقتصادية كبيرة لم يشهد لها الخليج مثيلا من قبل. فقد أدّت الصدمة إلى انخفاض كبير جدا في أسعار النفط، وإلى تراجع مشطّ في الميزانيات وانهيار بالغ للأسهم في السواق الخليجية. وقد لا نبالغ إذا قلنا بأنّ الخليج العربي يعاني اليوم من شبه كساد اقتصاديّ مؤثّر وخطير جدا إذا امتدّ زمن الأزمة. وقد لاحظنا ذلك في سياسات هذه الدول التي بدأت تقلّص الإنفاق إلى مستوياته الدنيا، وتعيد النظر في البنية السكانية “المتورّمة” بالأجانب والوافدين. وقد أثّرت هذه الإجراءات في مختلف مظاهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية. ومن أبرز النتائج الخطيرة في مجال التّعليم الذي يعنينا في هذا المقام، تقليص ميزانيات وزارات التّعليم والتّعليم العالي والجامعات وتقليص النشاط في مجال البحث العلمي في مختلف الجامعات والمؤسسات التّعليمية حتّى أنّ بعض هذه المؤسسات الجامعية قد أعلن عن عجز في موازناته المالية في العام 2020 (34)؛ وعلى الرغم من هذه التحديات والصعوبات، فإنّ دول الخليج العربي كما يري الدكتور وطفه سجّلت نوعا من النجاح في المواجهة، ووضعت استراتيجيات تربوية واضحة، واستفادت من مختلف الميزات اللوجستية الرقمية المتوفرة بصورة جيدة للاستمرار في العملية التّعليمية. وقد صنّفت تجارب دول الخليج العربي ضمن التجارب الناجحة نسبيا في هذا الميدان (35).
ولتوضيح ذلك وجدنا الدكتور علي وطفه ينطلق لتحليل المحاور التالية: السمات العامة للتجربة الخليجية في مواجهة كورونا ( من ص 177-182)، والتجربة السعودية ( من ص 182-188)، وتجربة الكويت ( من ص 188-194)، وتجربة الإمارات العربية المتحدة ( من ص 194-198)، وتجربة قطر ( من ث 198-201)، وتجربة سلطنة عمان ( من ص 201-205)، وتجربة البحرين (من ص 208-210)، وقد توصل المؤلف لحقيقة مهمة وهي: ” وتنطوي التجربة الخليجية على دروس مهمّة في مجال تطوير التّعليم في مواجهة الأزمات والكوارث، وسيكون لهذه الأزمة تأثير كبير في مستقبل التّعليم والتّعليم العالي في الخليج العربي، وفي غيرها من البلدان والدول حول العالم، وستشكل أزمة كورونا منطلقا وحافزا يدفع دول الخليج العربي إلى إعادة هيكلة التّعليم بأنظمته وفلسفاته وتوجهاته، وإلى إحداث تحولات جذرية في مسيرة بناء الهوية التّعليمية. لقد كشف الجائحة كثيرا من مظاهر الضّعف والقصور في بنية النظام التّعليمي الخليجي ووظائفه، وقد حان الوقت لمباشرة عملية إصلاح ثورية في بنيته ووظائفه لتمكينه من مواكبة العصر بثورته الرقمية الهائلة وإنجازاته الإعجازية في مجال العلم والتكنولوجيا، “وهذا يوجب على (كذا! ) هدم الحواجز القائمة بين التّعليم الخليجي والحياة، أو بين الواقع والتّعليم، ومن ثم التغلب على مختلف جوانب الضعف والقصور في بنية التّعليم، والتركيز على أولويات التطوير والتغيير والإصلاح الجذري” (36) ؛ وبستطرد المؤلف فيقول: “. . ويبدو واضحا للخبراء اليوم أنّ الصدمة الاقتصادية التي فرضتها كورونا على مختلف الاقتصاديات العالمية قد أدّى، وسيؤدي في حال استمرار الأزمة، إلى انخفاض كبير في أسعار النفط الذي يشكّل المورد الأساسيّ لدول الخليج العربي، وسيؤدي هذا بدوره إلى عجز كبير في ميزانيات الدول العربية الخليجية. وقد بدا تأثير الأزمة الاقتصادية واضحا في ميزانيات وزارات التربية والتّعليم، ويمكن الإشارة، في هذا السياق، إلى تخفيض إنفاق الوزارات والهيئات التابعة لها في أغلب البلدان الخليجية. وقد بلغت نسبة هذه الخفض إلى 30% في دولة البحرين لمساعدة البلاد على اجتياز تداعيات تفشي فيروس كورونا، وتبع ذلك اتّخاذ إجراءات مماثلة من جانب السعودية وعُمان، إنّ خفض هذه الموازنات سيؤثر كثيرا، بلا شك. ومن غير الواضح ما إذا كانت وزارات التّعليم ستتأثر بسبب هذه التخفيضات وكيفية هذا التأثر وأبعاده، “إلا أن الواقع يشير إلى أن دول الخليج لديها القدرة والموارد اللازمة لإجراء التغييرات المهمة في نُظمها التّعليمية التي باتت حتمية لتعافي هذه الأنظمة وتعزيز قدرتها على المرونة والتكيف مع الأوضاع المستقبلية”. ومهما يكن من أمر، فإنّه” بقدر ما انطوت عليه هذه الجائحة من صعوبات جمّة، إلا أنها تمثل فرصة سانحة في حد ذاتها للاستفادة منها، ولدى دول الخليج القدرة على تحقيق إنجازات تتجاوز مجرد استعادة الأمور إلى سابق عهدها (37).
أما الفصل السادس وهو بعنوان ” من التّعليم التّقليديّ إلى التّعليم الإلكترونيّ: أنظمة التّعليم الأساسيّ في مواجهة الجائحة أنموذجا”، وفي هذا الفصل يري الدكتور علي وطفه أن كورونا قد طرحت فيضا من المشكلات والتّحدّيات في مختلف جوانب الحياة الاجتماعيّة والثقافية، ومن أبرزها كما يوضح الدكتور وطفه: “الصّراع القائم والجدل المحتدم حول مشروعية التّعليم عن بُعد في مواجهة التّعليم التّقليديّ. وتدور اليوم معارك فكرية شديدة الوطأة في جدل العلاقة ما بين أنصار التّعليم التّقليديّ وبين أنصار التّعليم عن بُعد في ظل الجائحة وما بعدها، وكلّ فريق منهما يدلي بدلوه في الانتصار لهذا الجانب أو ذاك. وضمن هذه الجدلية الفكريّة، هناك من يرفض التّعليم الإلكترونيّ كلّية، ويرفع شعار المدرسة التّقليديّة بكلّ معانيها ودلالاتها، وعلى الجانب الآخر هناك من يرفع شعار التّعليم عن بُعد ويرفض مختلف مظاهر التّعليم التّقليديّ بوصفه تعليما لا يصمد أمام التطوّرات التكنولوجية والرّقمية المذهلة. وفي تضاريس هذا الصراع الفكري تكمن طبقات من الحقائق والمتغيرات التي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار (38) ؛ ثم يؤكد الدكتور وطفه بأنه: ” يجب علينا، ونحن نتناول هذه المسألة، أن ننظر في مختلف جوانبها، وأن نبحث في مختلف زواياها. فكلّ رأي من الآراء، مؤيدا كان أو معارضا أو موازيا، يجب أن ينظر إليه في الإطار الذي انبثق فيه، وضمن المتغيّرات التي يظهر فيها. وضمن هذا السّياق يمكن القول: إن المشكلة الأولى تتعلق بطبيعة الممارسة التّعليميّة التي شهدناها وما زلنا في مواجهة الجائحة. فالانتقال السريع المفاجئ إلى التّعليم عن بُعد دون تحضير مسبّق شكّل منطلقا للفهم الخاطئ لطبيعة التّعليم الإلكترونيّ عن بعد، ومدى أهميته المستقبليّة قي ظلّ الثورة الصناعية الرابعة ” (39)، ثم يعلن المؤلف فيقول: ” وقد حاولنا مرارا في هذا العمل التّمييز ما بين التّعليم عن بُعد في حالة الطّوارئ والتّعليم عند بعد بصورته النّموذجيّة الإلكترونيّة، ووقفنا على ما بين الأمرين من اختلاف بيّن. فالممارسة التي نشاهدها اليوم – وعلى الأقل في أغلبها- تنتسب إلى ما يسمّى بالتّعليم عن بُعد في حالة الطّوارئ، وهي تجربة محمّلة بكثير من السّلبيات والصّعوبات والتّحدّيات التي تتمثل بضعف الخبرات والمهارات، وضآلة المحتوى الرقمي، وضعف التّخطيط، وتواتر المفاجآت، وضعف البنية التحتية الرقمية، وعدم قدرة المعلّمين والمتعلمين على التكيف الفعال مع هذا النّمط من هذا التّعليم المفاجئ، وهو تعليم جديد لم يعرفوه سابقا، ولم يألفوه خلال تجربتهم التربوية الحاليّة (40)، وهنا يجب القول إنّ التّعليم المدمج يبلغ أهميته القصوى في المدرسة الابتدائية والمتوسطة، وهو التّعليم الذي يأخذ بأسباب التّعليم الإلكترونيّ الذي يشكّل منطلق مواجهة الأزمات والاختناقات. فالتّعليم الإلكترونيّ اليوم لا يقتصر على إيصال المعرفة من المعلّم إلى الطّالب عن بُعد، بل يكفل لنا ما يسمّى بالتّعليم المعزّز بالواقع الافتراضيّ الذي ينقل الواقع إلى المدرسة ويأخذ المدرسة إلى الواقع كما أسلفنا في الفصول السّابقة. فالذكاء الاصطناعيّ أصبح ضربة لازب في التربية، ولا يمكن للمدرسة اليوم أن تخطو إلى المستقبل دون مواكبته باعتباره يشكّل ثورة صامتة مستمرّة في مختلف مجالات الحياة والوجود (41).
ولكي يوضح لنا بالتفصيل قدم لنا المحاور التالية: أهمية المدرسة ( من ص 222-226)، ونقد التّعليم التّقليديّ ( من 226-230)، والتّعليم الإلكترونيّ بوصفه ضرورة حضارية ( من ص 230- 237)، وإيجابيات التّعليم الإلكترونيّ ومزاياه ( من ص 237-250)، وهنا توصل المؤلف لحقيقة مهمة وهي أن: ” العالم يتطور رقميا، ويأخذ مداه إلكترونيا، ويطوف على أمواج الذكاء الاصطناعيّ بعد أن غرق في بحر الثورة الصناعية. كلّ الأشياء تغيرّت، وكل مظاهر الوجود تبدّلت، ويعيش العالم اليوم في الماء الدافئ للثورة الصناعية، وترتفع حرارته تدريجيا دون أن نشعر بها، وسترتفع بخفة ورشاقة إلى الدّرجة التي تؤدي إلى موت العالم القديم، وتبخره، ومن ثم تحوّله إلى مومياء أبدية منسيّة. فالعالم بمظاهره الحضارية يتلاشى ويزول، وما على الإنسان إلاّ أن يلقي نظرة من حوله ليلاحظ أنّ التغير الذي اجتاح العالم في سنوات وصل إلى حد يفوق حدود التصديق. لقد أحدثت الإنترنت نقلة ثورية، والذّكاء الاصطناعيّ يدقّ الأبواب ويتغلغل في أعماقنا. وفي ظلّ هذا الزّحف الجارف لثورة الإعلام والاتّصال يتغيّر العالم بقوّة وعزم واقتدار، يتغير الناس ويغيّرون أنماط حياتهم ووجودهم تحت مطارق القوةّ والإكراه، بصورة حتميّة لا خيار لهم فيها، من أبسط الآلات والألعاب إلى أكثر الأشياء تعقيدا في الوجود، مثل النانو تكنولوجي والطباعة ثلاثية الأبعاد وعالم الروبوتات (42)؛ ولا يمكن لأنظمة التّعليم التي تزحف باستحياء في الأرضية السفليّة لعالم الذكاء الاصطناعيّ كما يقول الدكتور وطفه: ” أن تصمد أمام العواصف الهائلة التي تفتّت الصّخر، وتنحت في سراديب الزمان والمكان، فالزحف والالتصاق بأرض القدامى لن يجديها نفعها، لأنّ العصف يعريها، ويهز الأرض تحت كمائنها. ولن تستطيع الصّمود طويلا أمام هذا العصف الجبار، وقدرها أن تتذرّى في الفضاء ما لم تركب أمواج التغيير، وتعلو مع مدها وجزرها “(43)؛ وباختصار، فإنّ مستقبل المدرسة سيكون بالضرورة افتراضيّا كما يعلن الدكتور علي وطفه في عالم افتراضي، وهذا يعني أنّ التّعليم عن بعد سيكون حقيقة مدويّة في عالم التّربية والتّعليم. فالمنصّات الافتراضيّة تتطوّر إلى مستويات مذهلة، والقادم سيكون مدهشا في مسيرة هذه المنصات المعنية بتدمير الحواجز بين ما هو افتراضيّ وواقعيّ في المدرسة في المستقبل القريب. وممّا لا شك فيه أنّ التّعليم بالواقع الافتراضيّ المعزّز سيكون نمطا ذهنيّا وفكريّا حاضرا في كل مناحي التّعليم، وهو ما يشبه إلى حدّ كبير اعتياد الناس على السّيارة بدلا من الحصان، واعتياد الناس على الطائرة في السّفر، بدلا من الجمال (44)، وستتحوّل مناهج التّعلّم كما يذكر الكاتب إلى رقمية تفاعلية، وستكون أكثر مرونة، وستتغيّر وتتفاعل مع المتغيرات العالمية، وستراعي الفروق الفرديّة بين الطلاب، وستتكيّف بحسب قدرات واحتياجات الطّالب، وستوفّر تقييماً للطالب حول مستواه التّعليميّ، وستوجهه لتجاوز الصّعوبات التي يواجهها في التّعلّم. وفي المستقبل القريب سنشاهد “تطوراً وزيادة في استخدام تقنية الواقع الافتراضيّ والواقع المعزّز خلال تفاعل الطّالب مع المادّة لتحسين وتعزيز عملية الاستيعاب في التّعلّم، وستسمح هذه التّقنيات بتطوير مختبرات افتراضيّة تفاعليّة لإجراء التّجارب العلمية الفيزيائيّة والكيميائيّة والنّمذجة الرّياضيّة وتحليل وإظهار النتائج في صور جرافيكية مباشرة من جهاز الحاسب ومن دون الحاجة للمختبرات المدرسية (45).
واما بالنسبة للفصل السابع، وهو بعنوان ” التعليم العالي والجامعي في مواجهة كورونا تجارب عالمية وعربية”، وفي هذا الفصل أكد الدكتور علي وطفه بأن جائحة كورونا قد صدمت بتأثيرها الخطير أنظمة التعليم العالي، كما هو الحال في أنظمة التعليم الأساسي، فأغلقت الجامعات أبوابها، وخلت من طلابها، وتعطلت أنشطتها الأكاديمية في مختلف أنحاء العالم لأوّل مرة في تاريخ التعليم العالي والجامعي. وكانت الجامعات – على خلاف المدارس في المراحل ما قبل الجامعية – أكثر قدرة وسرعة على تبني التعليم عن بُعد في حالة الطوارئ؛ لما تتمتع به من تأهيل إلكتروني وترسانات رقمية وخبرات علمية في هذا المجال. ومع ذلك فإنّ الإغلاق كان خاطفا وكارثيا في بتأثيره في حياة الطلاب، وفي مستوى تعليمهم، وامتد تأثيره الكبير ليشمل وضعية التقييم الجامعي والامتحانات والوضع القانوني للطلاب الدوليين في البلد المضيف. ولا جدال في أن قرار الإغلاق المؤقت لمؤسسات التعليم العالي، قد جاء استجابة سريعة لحماية الصحة العامة أثناء الوباء (46) ؛ وقد وقع هذا الإغلاق بداية، في مؤسسات التعليم العالي في الصين موطن الوباء الأول، وامتد ليشمل أوروبا وأمريكا وآسيا وإفريقيا. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال أمرت سلطات الولايات بالإغلاق، لكن معظم الجامعات كانت قد أغلقت بالفعل، ولا سيّما الجامعات العامة والخاصة الكبيرة التي أغلقت قبل أسابيع من تدخل الحكومة (UNESCO IESALC, 2020). وقد عصف الوباء بمؤسسات التعليم العالي وأصاب بعضها في مقتل، وخاصّة تلك التي لم يكن لديها استعداد مسبّق، أو خطة طوارئ لمواجهة الأزمة. ولم يكن أمام تلك الجامعات إلاّ خيار واحد يتمثّل في الانتقال إلى التعليم عن بُعد في حالة الطوارئ. وقد شمل هذا الإجراء مختلف مؤسسات التعليم العالي في العالم (UNESCO IESALC, 2020). وأدّت تجربة الإغلاق إلى اختبار أنظمة التعليم الجامعية من حيث قدرتها على مواكبة التعليم عن بُعد في حالة الطوارئ، وكشفت أبعاد الفجوة الكبيرة بين مؤسسات التعليم العالي أفقيا وعموديا، في مستوى الدول وفيما بينها. كما أظهرت التفاوت الكبير بين الطبقات والفئات الاجتماعية “وقسمت التجربة العالم إلى دول «متقدمة» تعليميا، وأخرى «متخلفة». وبالطبع لم تواجه دول الشّمال المتقدمة مشكلةً في «التعليم عن بُعد» لأنّها تعودت منذ عقودٍ على دمج التعليم الإلكتروني بنظيره التقليدي، ولذا انسابت تجربة المواجهة بلا عوائق تُذكَر” (مبارك، 2020). وعلى خلاف ذلك عانت الجامعات في الدول الفقيرة والنامية من مشكلات وتحدّيات كبرى تتعلق بقدرتها على مواكبة التعليم عن بعد، وعدم توفر الإمكانيات اللوجستية الضرورية لمثل هذه المواجهة. وفي كل الأحوال بدأت مؤسسات التعليم العالي والجامعات في العالم بتغيير استراتيجياتها ومناهجها لتلبية احتياجات الطلاب وموظفي التعليم والمهنيين. وقامت بعض الجامعات بإلغاء إجازات الرّبيع، ونُصِح الطلاّب الدوليون بالعودة إلى بلدانهم الأصلية (47)؛ وعلى الرغم من وجود إمكانية التعليم عن بُعد في حالة الطوارئ، فإنّ بعض الجامعات أوقفت التعلم والتدريس حتى إشعار آخر، بسبب النّقص في البنى التحتية لتكنولوجيا المعلومات اللاّزمة لكلّ من الطلاب والمعلمين. ولا تزال هناك تساؤلات حول كيفية المواءمة بين الفصول الدراسية والجداول الزمنية الأكاديمية، حيث تم بنجاح تنفيذ بعض البرامج على الإنترنت، في حين تعذّر تنفيذ البعض الآخر (48)؛ وقد فرض الطابع الأممي للوباء على الجامعات في جميع أنحاء العالم أن تعمل على توحيد الجهود مع المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، مثل منظمة الصحة العالمية ومعاهد البحوث والحكومات الوطنية، من أجل تحقيق أفضل الاستجابات التي من شأنها أن تمكّنهم من المساهمة في منع انتشار الوباء، مع ضمان استمرارية تعلم الطلاب، ومع استمرار الوباء في الانتشار، ما زال المشرعون ومسؤولو التعليم العالي يعملون معًا من أجل معالجة الآثار القصيرة المدى والطويلة الأجل للوباء على قطاع التعليم العالي، وذلك لمواجهة التحديات الآنيّة والبعيدة، ولاسيما في مجالات الإدارة والتمويل الأكاديمي والبنية التحتية وفرص التعلم (49) ؛ ولئن تناول المؤلف في الفصول السابقة المواجهة المصيرية بين كورونا والتعليم العام، وعالج كثيرا من التأثيرات التي تركتها الجائحة في مجال التعليم العام وفي مجال الحياة الاجتماعية بصورة عامة. فإنّنا نجده في هذا الفصل ينفرد بمعالجة قضايا التعليم الجامعي والعالي حول العالم، واستكشاف أهمّ التحديات التي فرضها الفيروس في منظومة ذلك التعليم.
ولكي يوضح لنا بالتفصيل قدم لنا المحاور التالية: فوضى التقويم الجامعي ( من ص 264-265)، وأساتذة الجامعة في مواجهة الجائحة ( من ص 265-268)، والطلاب في ظل الكارثة ( من ص 268-270)، وأزمة الميزانيات الجامعية ( من ص 270-271)، والبحث العلمي ( من ص 271-272)، وبين التعليم الإلكتروني والتعليم عن بُعد ( من ص 272-274)، وجودة التعليم الجامعي في ظل الوباء ( من ص 274-275)، والفجوة الرقمية الجديدة ” الصين وأمريكا (من ص 275-276)، وتجارب عالمية ( من ص 278-280)، وتجربة الجامعات الإفريقية ( من ص 283-284)، والجامعات العربية في مواجهة الأزمة ( من ص 284- 287)، وتجربة الدول الخليجية ( من ص 287-292)، والصعوبات والتحديات التي واجهت التعليم الجامعي عن بعد في الخليج ( من ص 296-297)، واستطلاع آراء المفكرين والخبراء في جدوى التعليم الإلكتروني في الخليج ( من ص 297-301)، وفي هذا الفصل توصل الدكتور علي وطفه لحقيقة مهمة وهي أنه علي على الرغم من أن معظم مؤسسات التعليم العالي لم تستثمر تقليديًا في التعليم الإلكتروني والتعليم عن بعد بوصفهما ركيزتين أساسيتين في تجربة التعليم الجامعي، فإنّ أزمة كورونا جاءت لتسرع إيقاع التغيير القائم على الذكاء الاصطناعي الذي بدأ يحدث تغيرات جوهرية في بنية التعليم العالي واستراتيجياته، واستطاعت كورونا في النّهاية أن تدخل حركيّة على التعليم العالي، وأن تدفع به للانتقال إلى التعليم الإلكتروني بأبعاده الافتراضية. وبدت هذه الموجة أكثر تأثيرا في الجامعات العريقة التي انطلقت تحثّ الخطى في اتّجاه اعتماد التعليم الإلكتروني بصورة كاملة، بما في ذلك بلورة الخبرات الأكاديمية بالصورة الرقمية الذكية على نحو كامل وشامل. ومن المؤكّد بأنّ الأزمة الحالية ستؤدّي عاجلا إلى تسريع هذا الاتّجاه الرقمي في التعليم في مختلف الجامعات في العالم، وربما ستؤدّي تجارب التعليم عن بعد التي فرضها كورونا على الجامعات والمؤسسات الأكاديمية إلى تعزيز التوجهات المستقبلية وإلى تحديث التعليم الجامعي، وترويضه على معطيات الثورة الرقمية في مجال التعليم الإلكتروني. ويبدو لنا أنّ ما بدأ كاستجابة قصيرة الأجل للأزمة، سيغدو، على الأرجح، تحولًا رقميًا دائمًا للتعليم العالي (50) ؛ لقد اتّخذت معظم مؤسسات التعليم العالي والجامعي كما يري الكاتب إجراءات نموذجية منذ البداية لحماية الصحة في الحرم الجامعي وفي المباني والقاعات. وشملت هذه التدابير تنظيم حملات إعلامية واسعة لتثقيف الطلاب بمخاطر الفيروس، وتقليص حركة التنقل داخل الجامعة وخارجها، ومن ثمّ القيام بالإلغاء التدريجي للفعاليات الأكاديمية والاجتماعية الحضورية. ومع ذلك، فإنّ فاعلية هذه التدابير سرعان ما تجاوزتها الأحداث التي أجبرت مختلف مؤسّسات التعليم العالي على تعليق جميع الأنشطة التي تتمّ وجهاً لوجه بشكل عملي بعد انتشار الفيروس المتسارع (51)؛ لقد تبيّن للمؤلف بوضوح في هذا الفصل وجود فروق كبيرة في عملية الانتقال بين الجامعات في الدول المتقدمة تكنولوجيا وبين الجامعات في الدول الفقيرة، واتّضح لنا أن الانتقال إلى التعليم الإلكتروني في الجامعات المتقدمة كان سلسا وسهلا وميسورا، ولكنه كان شديد الوطأة في جامعات الدول الفقيرة. وقد لاحظنا أيضا أنّ هذه الفروق كبيرة داخل البلدان، بين الجامعات المعروفة والجامعات الناشئة التي تعاني من صعوبات مادية ولوجستية ومن نقص في الخبرات والمهارات (52).
وننتقل للفصل الثامن وهو بعنوان” مستقبل التعليم العالي والجامعي في ظل أزمة كورونا”، وفي هذا الفصل ذهب المؤلف الدكتور علي وطفه إلي أن التّعليم الإلكتروني لم يكن طفرة عابرة فرضتها ظروف الأزمة التّاجيّة الخانقة، ولم يكن صرخة عابرة في ظلمة ليل ساكن. فالتّعليم الإلكتروني يعبّر عن تطوّر ذرويّ لمعطيات الثورة الصناعيّة الرابعة الجبّارة التي تجتاح معالم الحضارة الإنسانية المعاصرة. فمنذ زمن بعيد كان التّعليم الإلكتروني يتجذّر وينمو ويزدهر في عمق المؤسسات العلمية والمدرسيّة، وقد تجلّى تطوّره الحقيقيّ في نشوء الجامعات الإلكترونية والافتراضية، وفرض نفسه بقوة متجسّدا في المقرّرات الجامعية والمدرسيّة بصورة عامّة، وفق أصول ومناهج وفلسفات تربوية ضاربة الجذور. وقد تشكّل هذا التعليم في أقسام وفروع ومقرّرات جامعية مهيبة، وذلك في أروقة الجامعات والمدارس في مختلف أنحاء العالم. وكانت الجامعات تنحو إلى تعميم هذا التعليم الخلاق وتتّخذه علامة على درجة تطوّرها وتقدّمها، فانتقل التعليم داخل القاعات من السّبورة السوداء إلى السبورة الإلكترونية البيضاء، وأصبح استخدام الإنترنت ووسائل التّواصل الاجتماعي والهواتف اللّوحية المحمولة والمواقع الشخصية والتعليميّة جزءا لا يتجزّأ من الثقافة التربوية والتّعليمية في المدارس والمؤسّسات الجامعية. واعتدنا منذ فترة على مشاهدة أساتذة الجامعة والمعلّمين وهم يحملون الحواسيب جيئة وذهابا، ويستخدمونها في المحاضرات بشغف واهتمام وفعالية. ويدلّ هذا كلّه على أن التعليم الإلكتروني لم يكن صرخة عابرة في واد أصمّ، بل بات جزءاً صميمياً في مناهجنا وأسلوب حياتنا العلمية وعملنا الأكاديميّ، ويتجلّى تارة في حلّة إدارية مثل أقسام التعليم الإلكتروني في الجامعات والوزارات والمدارس، وتارة في حلّة علمية بوصفه مقرّرا يدرّس في الجامعات ويعمّم على الطلاب الذي كانوا وما زالوا، يطالبون دائما باستخدام أدوات هذا التّعليم في حياتهم العلمية والمعرفية (53)؛ ولو لم يكن الأمر على هذا النحو لما استطاع المجتمع الإنسانيّ أن يواجه أزمة الإغلاق المدرسيّ بهذا الزّخم الحضاري الذي انتقل بالمجتمع التربوي مباشرة إلى التعليم عن بعد، ولكان المجتمع التربوي يغطّ في سبات شتويّ عميق، حيث لا ضوء فيه ولا استنارة تومضها الشّاشات، ولا تواصل عبر الأثير ينبض بالحياة (54) ؛ وما يريد المؤلف قوله في هذا السّياق، هو أنّ المجتمع الإنساني كان على استعداد كبير لمواجهة هذا الإغلاق الرهيب، وكان على موعد مع هذه التّجربة النادرة في تاريخ التعليم في المجتمع الإنساني. فالعالم الذي نعيش فيه قبل كورونا كان قد استحضر نفسه وهيأ أدواته عبر الرمز والضّوء والإشارة والرقم الخوارزمي والومض الإلكتروني لهذه المواجهة وغيرها من الصّدمات المحتملة مع مستقبل غامض ومفخّخ بالمفاجآت الخفيّة على دروب الحضارة الإنسانية (55).
والسؤال الرئيسي الذي يتبادر إلى ذهان الدكتور علي وطفه في مقدمة هذا الفصل هو: كيف سيكون حال التعليم، ولاسيما التعليم العالي والجامعي فيما بعد كورونا؟ هل سيكون التعليم إلكترونيا عن بعد؟ هل سيكون نوعا من التعليم المدمج بين التعليم الإلكتروني والتعليم التقليدي؟ كيف سيكون حال المناهج ومستوى تأهيل المعلّم والوسائل والفلسفات والوظائف الأساسيّة لهذا التّعليم؟
ويجيبنا المؤلف قائلا: وهنا يجب علينا أن ننطلق من بداهة حضارية لمّحنا إليها؛ وهي أن التّعليم القادم كان قبل كورونا، وسيكون بعدها افتراضيا رقميا، يعتمد على الذكاء الاصطناعي. ويعود السّبب في ذلك إلى طبيعة التطور الحادث في فضاء الثورة الصناعية الرابعة، وما تنطوي عليه من تغيير شامل في أنماط الوجود والحياة. وسننطلق من مسلّمة أخرى مفادها أنّ كورونا سرّع في عملية التطوّر المستقبلي للتعليم الإلكتروني، وشكّل ضربة مهماز قوية زعزعت التّعليم التّقليدي وأربكت روّاده، وهيأته لنقلة جديدة نحو التعليم الإلكتروني بصيغتيه البعدية والحضورية، ودفعت الإنسانية إلى نمط آخر من التعليم القائم على الثورة الرقمية الهائلة في زمن الثورة الصناعية الرابعة التي ترتسم على صورة الذّكاء الاجتماعي والاصطناعي الخارق (56).
كما يناقش المؤلف في هذا الفصل عدة محاور منها: هل سيكون التعليم إلكترونيا فيما بعد كورونا؟ ( من ص 316-317)، وحوار إشكالي بين أنصار التعليم عن بعد والتعليم التقليدي ( من ص 317-321)، والمناهج المستقبلية فيما بعد كورونا ( من ص 321-325)، وزراعة المواهب الإبداعية ( من ص 325-329)، والمنافسة الأكاديمية: الشركات الإلكترونية ضد الجامعات ( من ص 329-331)، وهنا يتوصل المؤلف لحقيقة هامة وهي أن: ” تطوّر التعليم عن بعد من هيئته القائمة على النّقل إلى صورته الإلكترونية النموذجيّة لا يمكن أن يحدث إلاّ في سياق تكنولوجي واجتماعيّ واقتصاديّ محدّد، ويعدّ هذا الانتقال من الصّورة البسيطة إلى الصورة النموذجية تحدّيًا كبيرًا يواجه الأنظمة التعليمية في مختلف أنحاء العالم. وهذا يعني أيضا أنّ الانتقال من نموذج التعلم التقليديّ إلى نموذج التعلم الإلكتروني عن بعد ليس مهمّة بسيطة بل هي مهمّة معقّدة تنطوي على ممارسات استراتيجية فعالة. وفي هذا السياق، قامت بعض الجامعات في ظل الأزمة بمحاولات جادّة للانتقال بالتعليم من صورته التقليدية إلى هيئته الإلكترونية، فأدخلت منظومة من التّغييرات التدريجيّة، وركّزت على نهج التّعلم المدمج، وعزّزت فرص التّفاعل الحقيقية بين الطلاب والمعلمين عبر الإنترنت، ووظّفت عددا من المنهجيات والتقانات المتجدّدة. وقد أدركت الجامعات الرائدة عالميًا أخيرًا ضرورة الاستعداد للمستقبل، وبدأت تدرس كيفيّة تقديم التعليم والتّدريب العالي من خلال الإنترنت، مع النّظر إلى جدوى الاستثمار في الواقع الافتراضي والواقع المعزّز وإتاحته للطلاب في جميع أنحاء العالم. ومع أهمّية هذه المبادرات، فإنّ معظم الجامعات لم تبدأ بعد أي عملية للتكيّف مع التعلّم عن بعد بصورته النموذجيّة، ومما يؤسف له أن عددا كبيرا من الجامعات ولاسيما في البلدان الفقيرة ليس لديها بنية تحتية أو موارد كبيرة لتأصيل هذا التعليم القائم على أرقى إنجازات الثورة في ميدان الإلكترونيات والبرمجيات الرقمية المتقدمة في مجال التعلم عن بعد” (57)؛ ويستطرد المؤلف فيقول: ” بعد هذا كلّه يمكن القول إنّ هناك جامعات متقدّمة تقوم بالتعلّم النّموذجي عن بعد في أفضل المستويات، وعندما تضع الجامعات خططًا أكثر قوّة للتأهّب للكوارث في المستقبل، فإنّها ستكون قادرة على تحسين قدراتها وإمكاناتها الرقمية، وصولا إلى تحقيق أرقى مستويات هذا التعليم في حلّته المتطوّرة على صورة التّعليم المعزّز بالواقع الافتراضي والنانو تكنولوجي (58).
ونذهب إلي الفصل التاسع وهو بعنوان “ مستقبل التّعليم العام فيما بعد أزمة كورونا”، وفي هذا الفصل رأي الدكتور علي وطفه أنه ما زال كورونا حتّى السّاعة يمعن في الانتشار والتّدمير، وما زال يضرب أركان الكوكب، ويسحق اقتصاده، ويعطّل الحياة في مختلف مظاهرها، ويترك الناس في حالة من الهلع واليأس، فيعطّل عيشهم، ويدمّر أرزاقهم، ويغلق مدارسهم ومؤسّساتهم. وقد يكون هذا الفيروس من أخطر الفيروسات التي ضربت المجتمعات الإنسانية في التاريخ، ومع ذلك سيكون القادم ربّما أشد هولاً وأصعب وقعا. ومع ذلك، لا مفرّ من أن نتفاءل خيرا، وأن نصرّ على تفاؤلنا، ففي كل سواد بياض، وفي ثنايا كل كارثة بعض الأمل “(59)؛ وقد لا حظ المؤلف على سبيل المثال، بعض الآثار الإيجابيّة في مجال البيئة؛ إذ انخفض مستوى التلوّث البيئي النّاجم عن عوادم الطائرات والمصانع، وازداد اهتمام العلماء والسّياسيين بقضايا العلوم الحياتية والبيئة، وتراجعت الولايات المتحدة الأمريكية عن انسحابها من المنظّمات الدّولية الصّحّية والبيئيّة، وزاد الإنفاق على البحوث العلميّة في مجال الطبّ والهندسة الوراثيّة، وتطوّرت وسائل الاتّصال الإلكترونيّ، وظهرت صناعات جديدة متخصّصة في مجال الأوبئة. ولا يمكن أن نحصي الإيجابيّات التي تترتب على هذا الوباء، لكن أهمّها على الإطلاق -كما يبدو لي- هو التأهّب لعالم الكوارث القادمة، والتّحضير لمواجهات إنسانية متجدّدة مع الفيروسات والأوبئة (60) ؛ وفي نظر المؤلف أن هناك إجماع بين العلماء على أنّ العالم سيتغيّر بعد جائحة كورونا، وأنّ “كورونا جاء اختبارا لمدى قدرة الحكومات وجاهزيّتها ومرونتها للاستجابة لمثل هذه الأزمات، كما يقول سعيد الظاهري”. وضمن هذا السّياق الحضاريّ يشكّل “التّعليم أحد أهم القطاعات التي شهدت تغيّراً كبيراً خلال هذه الجائحة التي سرّعت في الانتقال لنمط التّعليم عن بعد أو ما يعرف بالتّعليم الافتراضي، كاستجابة ضرورية لاستمرار العملية التّعليمية خلال هذه الأزمة. التّغيير لن يقتصر على التّعليم عن بعد لكن سيطال نموذج وشكل العملية التدريسية مستقبلاً، لقد “غيّرت جائحة كورونا طرائق التّعليم والتعلّم لملايين الطلاب حول العالم، وأصبح الملايين من الطلاب يستعملون الهواتف الذكية والتّطبيقات التفاعليّة للتعلّم ويَحضرون الدروس التي تُبثّ مباشرةً على التّلفزيون. ولا شكّ في أنّ هذه الحلول الجديدة في التّعليم ستفتح المجال أمام المزيد من الابتكارات”، ومع “الانتشار الواسع لتقنيات الجيل الخامس سيتمكّن الطلاب من التعلم في كل مكان وفي أي وقت، وستدعم أنماط التعلّم الجديدة التّعليم التّقليديّ في الصفوف، مما يزيد من مهارات الطلاب وانفتاح أذهانهم. وستمكِّن الشراكات بين القطاعين العام والخاص وبين الشركات والمؤسسات في مجالات مختلفة -كما حصل في الصين- من الحصول على منصّات للبثّ والتّعليم من بعد معتمدة على التقانات السّحابية، وتوفير بنية تحتية متطوّرة للتعليم تديرها وزارات التّربية والتّعليم العالي ووزارة الاتصالات (61).
ولكي يوضح لنا الدكتور علي وطفه بالتفصيل قدم لنا المحاور التالية: حتمية التطور ( من ص 344-348)، وسيناريوهات متوقعة ( من ص 348-253)، وسيناريوهات العودة إلي المدرسة ( من ص 353-357)، وقد توصل المؤلف إلي حقيقة مهمة، وهي أن: ” جائحة كورونا لن تكون، على الأرجح، الكارثة الأخيرة، فالمستقبل قد يكون متخما بالأزمات وحافلا بالكوارث والجائحات التي تنتظر الإنسانيّة على الدروب ومفارق الطرق. ويجب علينا أن ننظر إلى هذه الجائحة بوصفها اختبارا قاسيا ودرسا مفيدا يستفاد منه في مواجهة التّحدّيات الحضارية المقبلة. ويمكننا القول، في هذا السياق، كذلك، إن كورونا يشكّل ضربة قاسية تهدف إلى إيقاظ الإنسانية من سباتها الحضاريّ الطويل، تنبيها لها لما يمكن أن يجتاحها من مصائب وويلات في الأزمنة القادمة. فالأزمة الكورونية صادمة، وهي على درجة كبيرة من الخطورة والأهمية، ولكنّها ليست، في نهاية الأمر، سوى تعبير عن الأزمة الحضارية الكبرى التي تتمثل في أزمة انتقال المجتمع الإنساني إلى حضارة الموجة الرابعة، وهو المفهوم الذي يستخدمه آفلين توفلر في وصفه للمرحلة العليا من تطوّر المجتمع الإنساني، فالثورة الصناعيّة الرابعة تدقّ الأبواب، وتنذر بأزمات كثيرة كامنة في تطويع الإنسانية على قوالب التّطوّر الجديدة المتمثّلة في الذّكاء الاصطناعيّ الخارق. ولئن كان المجتمع الإنساني اليوم يواجه أزمة كورونا، فإنّ هذه المواجهة تتمّ في خضمّ التحول العظيم للثورة الصناعية الكبرى الجبارة التي تعتمد الثورة الرّقميّة المابعدية في كل ميدان وحقل وقطاع وجانب من جوانب الحياة والوجود، فالإنسانية اليوم تخلع أثوابها القديمة كلّها تحت وقع الاهتزازات الكبرى للثورة الصناعية الرّقميّة، وترتدي حلّة حضارية جديدة مختلفة تماما عمّا ألفته وعهدته في الماضي. وهنا يأتي الوباء كضربة مهماز لتسرع أحصنة التقدّم الحضاري، ولاسيّما في مجال التريبة والتّعليم، وكأنّ هذا الوباء قد ولد خصيصا ليقدم دفعة حيوية للتعليم صوب دروب تقدّمه وتطوره المنشود تحت ضغط الثورة الصناعية الرابعة وتموّجاتها. نعم، جاء كورونا ليخرج التّربية من أوكارها التّقليديّة، ويدفع بها إلى فضاء جديد يتمثّل في الذكاء الإلكترونيّ الخارق الذي يشكّل المحرّك الجبار للثّورة الصناعية الرابعة (62).
وتحت تأثير كورونا العتيد بدأ الآباء والطلاب والمعلمون في جميع أنحاء أوروبا كما يقول المؤلف يتكيفون مع الوضعية الجديدة للتعليم عن بعد الذي ينحو إلى أن يكون تعليما إلكترونيا نموذجيا بامتياز. وعندما تبدأ المدارس في إعادة فتح أبوابها من جديد، فإن هذا الأمر لن يتطلب التكيف مع استخدام التكنولوجيا فحسب، بل سيتطلب كذلك تطوير هذه التكنولوجيا التّعليمية وإعداد المحتويات الإلكترونيّة والترّسانات الرّقميّة ضمن قوالب تربوية جديدة ومتطوّرة ومتكيّفة مع متطلبات الثورة الرّقميّة في مختلف مجالات الحياة الإنسانية. وعلى الرّغم من أنّ إغلاق المدارس تسبّب في البداية في حدوث اضطرابات تربوية واسعة، فإنّ هذا الأمر قد شكّل دافعا قويّا لتطور مختلف مناحي الإبداع والابتكار في العملية التربوي والتّعليمية. وتأخذ هذه التوجهات الابتكارية مسارها نحو الأفضل مع حركة الزّمن وتقدّمه المستمرّ. وهناك دلائل تشير إلى أنّ الأزمة ربّما يكون لها تأثير دائم على مسار تعلّم الابتكار والرقمنة (63).
أما الفصل العاشر والأخير وهو بعنوان ” كورونا: دروس وعبر: هل ستؤدي الصدمة الكورونية إلى يقظة التربية العربية؟، وهذا الفصل يركز علي المكاشفة البيداغوجية للدروس التربوية المستفادة من معايشة الجائحة الفيروسية لكورنا، حيث علينا أن نستكشف الشيفرة الجينية للتأثير الذي فرضه الفيروس في المجال التربوي والتعليمي. وتأخذ هذه الشيفرة هويتها في هذا التفاعل المريب والخطير بين كورونا والفقر والتعليم والتكنولوجيا والمستقبل، إذ لا يمكن الفصل بين هذه المتغيرات الدائرية المتداخلة في تفاعلها وتأثيرها. ومهما يكن فإن اجتماع الفقر وكورونا والاستغراق في الماضي ضمن انشوداته التقليدية المتخلفة عن ركب الحضارة التكنولوجية الذكية للعصر، يجعل من وقع الكارثة مهولا ومدمرا وخطيرا في مختلف المجالات، ولاسيما في المجال التربوي والتعليمي. لقد بينت التجربة الكارثية أن وقع كورونا وتأثيره التربوي كان أقل وطأة وثقلا في البلدان المتقدمة، ولدى الطبقات الاجتماعية الغنية الميسورة، وفي المناطق التي تتكاثف فيها الحضارة الرقمية. وعلى خلاف ذلك كان وقعه مخيفا رهيبا في البلدان الفقيرة، وفي واقع الطبقات الاجتماعية المهيضة، وفي المناطق التي تتكاثف فيها الأمية الحضارية. إلا أن ثمة دروس تربوية كثيرة يمكن لنا أن نأخذها بعين الاعتبار من صلب التجربة المرّة والمأساوية التي عشناها وتعايشنا معها خلال العام الماضي وبداية هذا العام الدراسي (64).
لقد أدت الجائحة إلى فرض تغيرات جوهرية في مشهد التعليم والتربية في العالم، وبلغت حدود هذه التغيرات كما يؤكد الدكتور علي وطفه إلى ما هو أبعد من كل التوقعات والسيناريوهات المحتملة؛ لقد صدم الفيروس وعي الناس وأيقظ اهتمامهم بكثير من القضايا الحياتية والوجودية، ووضعهم أمام الكثير من التحديات المعرفية، ودفع بهم إلى مواجهات صعبة ومعقدة مع منظومة من المشكلات الكبيرة، واستطاع يدفع بأمور كثيرة إلى صدارة الاهتمام الحكومي وإلى أولويات عمل المنظمات الدولية الفاعلة في المجتمع الإنسانية. وقد رسخ أهمية النظر إلى التربية بوصفها رافعة التنمية والتنمية المستدامة والمنطلق إلى مسارات النهضة الحضارية للثورة الصناعية الرابعة (65).
وقد أشار المؤلف في هذا الفصل بأن النظام التعليمي ما بعد كورونا سيكون مختلفا جدا عن التعليم التقليدي الذي ألفناه وعرفناه عبر عقود عديدة من الزمن، ومن المؤكد أيضاً أن التعليم المستقبلي سيكتسب ملامح جديدة مختلفة إلى حدّ كبير، ومن المؤكد أيضا أن الجائحة ستكون حافزا على بناء استراتيجيات جديدة للتعلم الإلكتروني، وهي استراتيجيات تشتمل على أهداف وفلسفات وقيم ومبادئ وأهداف جديدة مستجدة (66).
ومن صلب التجارب التي استعرض المؤلف بعضا من خلاصاتها نستطيع أن نتعلم الدرس الذي يفيض بالمعاني ذات الدلالة الاستراتيجية. ومنها: تثوير التعليم في زمن الثورة الرقمية ( من ص 372-373)، وتطوير المناهج الدراسية ( من ص 373-374)، وأهمية الأسرة ( من ص 374-375)، وأهمية المدرسة ( من ص 375-376)، والتعاون بين الأسرة والمدرسة ( من ص 276-377)، والاستعداد التكنولوجي ( من ص 377-378)،وجاهزية المحتوي الإلكتروني ( من ص 378-379)، والثقافة الإلكترونية والرقمية ( من ص 370-380)، والتخطيط التربوي للمستقبل ( من ص 280-381)، ومهارات جديدة قبل الشهادات ( من ص 281-282)، وأهمية البحث العلمي ( ص 383)، والابتكار ( من ص 382-383)، والتعاون الدولي ( من ص 383- 384)، وهل ستؤدي الصدمة الكورونية إلي يقظة التربية العربية ( من ص 284-387)، وقد توصل في هذا الفصل إلي حقيقة مهمة، وهي: ” كورونا جاءت بالدروس والعبر التي لا يمكن لنا أن ننكر جدواها وتأثيرها في حياتنا ووجودنا. وما قدمناه حول دروس كورونا ليس ألا غيضا من فيض، فالدروس التي تعلمها البشر خلال هذه التجربة المأسوية تفوق قدرتنا على الإحاطة والحصر. فالدروس في التربية كثيرة جدا وهي لا تقل أهمية عنها في الاقتصاد والحياة الإنسانية برمتها بأدنى تفاصيلها وأكثرها تعقيدا، وقد لا نبالغ إذا قلنا بأن كورنا قد أحدث ثورة في المفاهيم والتصورات في مختلف الميادين وفي مختلف أوجه الحياة والفكر الإنساني في الفلسفة وعلم الاجتماع والتربية والفن والأدب. ومن هنا يكرر المفكرون عبارة إن ما بعد كورونا لن يكون كما قبلها. فكورونا يشكل مرحلة فاصلة في تاريخ الإنسانية وهو في كل الأحوال دفعة قوية نحو المستقبل نحو زمن الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي الخارق (67)؛ وكل ما تمناه المؤلف هو أن تعمل الدول العربية بأنظمتها التربوية على الاستفادة من معطيات هذه المرحلة والدروس الكبيرة التي علمنا إياها كورنا القاتل. فنحن اليوم على مفترق طرق ونأمل أن تقوم مجتمعاتنا بتطوير أنظمتها التربوية لتلحق بعصر الثورة الصناعية وثوراته الرقمية اللامتناهية في دائرتي الزمان والمكان (68).
5 -الخاتمة :
ختاما، فإن هذه الدراسة، بما حملته من موضوعات ذاخرة، وثقافة واسعة، وفكر مستنير، وتحليل عميق، ومنهجية علمية، قدمت إجابات موضوعية حول أزمة كورونا وتأثيرها في الأنظمة التعليمية والتربوية، كما ركزت بشكل محوري على العلاقة بين الجائحة والتعليم الإلكتروني عن بعد، الأمر الذي استنفر الكاتب في أن يخوض عمار البحث في الحتميات التي فرضتها الجائحة على التعليم الإلكتروني، وحثّه على التفاعل الحضاري مع معطيات الثورة الصناعية الرابعة ومنجزاتها الرقمية الهائلة؛ علاوة علي تمكنه من أن يقدم صورة بانورامية قائمة على التّحليل العميق لطبيعية هذه العلاقة الجدلية بين التعليم الإلكتروني والجائحة والثورة الصناعية الرابعة.. وبعد فصول مضنية من الترحال في تضاريس كورونا المثيرة للجدل تربويا واجتماعيا (69)، وجدنا المؤلف يتساءل عن مصير الأنظمة التربوية العربية ضمن معادلة الأزمة والصدمة، ويجترح تساؤله ماهيته الإشكالية من عمق الصدمة الحيوية للفيروس التي اجتاحت مختلف مشاهد الحياة الإنسانية ومظاهرها الاجتماعية، ولاسيما في المشهد التربوي الذي شهد اهتزازا كبيرا تحت تأثير هذه الصدمة التي قدر لها أن تعجل في صيرورة التحول التربوي إلى فضاء الذكاء الاصطناعي الذي يفرض نفسه بقوة القوانين الحتمية للتطور (70).. كما شدد المؤلف خلال مسيرته في الهضاب الصعبة والمنزلقات الخطرة لتأثير كورونا، على أنّ هذه الصّدمة قد لعبت دور الموقظ المنبّه على ضرورة الانخراط في الثورة الحضارية الرقمية، والإعراض عن واقع التخلّف الشّامل الذي يعيشه العالم العربي. وواجهتنا حقائق جديدة صادمة تتعلق بالحاجة الملحّة الى الإصلاح الاجتماعي والتربويّ (71).. لقد كشف لنا كورونا كما يري الدكتور علي وطفه الإصلاح التربوي مفهوم قاصر ما لم يرتبط بالإصلاح الاجتماعي الشامل، وأنّ أيّ إصلاح تربوي سيبوء حتما بالفشل ما لم يرتبط فعليا بمشروع اجتماعيّ اقتصاديّ حضاريّ شامل. وقد عرفنا الآن لماذا أخفقت، وستخفق، كلّ المشاريع الإصلاحية التّربويّة التي لم ترتبط جوهريا وعمليا بالإصلاح الاجتماعي الشّامل (72).
والنّقطة الأكثر أهميّة التي وقف عليها الدكتور علي وطفه، بفضل الصدمة، هي هذا الارتباط المصيري بين التربية والاقتصاد وحركة التّطوّر المعاصرة التي تنتشر بلا حدود على صورة ثورات علميّة رقميّة سيبرانيّة متدفّقة في إطاريْ الزمان والمكان (73)، واتضح للمؤلف أن التربية التي لا تتحرّك في هذا الفضاء سيُحكم عليها بالفشل والاندثار، فالعمل على مواكبة المدرسة للثورة الصناعية الرّابعة مصير حتميّ إذا أرادت التربية، ومن ورائها المجتمع، الاستمرار في الوجود وظيفيّا وحضاريّا. وهذا الأمر يؤسّس لنزعة ثوريّة في التربية والتّعليم تقوم على تحرير المدرسة من براثن الممارسات التقليديّة المتآكلة والمتهالكة في مختلف الأبعاد والتجلّيات (74)، وهذا يعني كسر الجمود القائم بين المدرسة والعصر الجديد، بين المدرسة بوصفها ماضيا والمستقبل بوصفه ثورة علمية رقمية تستنفر العالم الذي نعيش فيه بلا حدود ولا قيود. كلّ هذا وغيرُه يعني أنّ الثورة التّربويّة والتّعليميّة أصبحت مطلبا وجوديا ملحّا لا يقبل التّهاون والتّأخير. فالمدرسة العربية مدرسة تقليديّة، تعيش على قيم الماضي ورؤاه وتصوّراته، ولا يمكنها، بحالتها الراهنة، أن تنسجم مع مقاصد العصر وثورته الرّقمية، ذلك أنّ الثّورة الرقميّة الصناعيّة في هذا العصر تتطلّب ثورة إبيستيمولوجية في قطاعي التّربية والاقتصاد، بل في الحياة برمّتها. وما لم تتحرّك المدرسة في هذا الاتّجاه فإنّ العواقب ستكون وخيمة على الأجيال، وضريبتها لا تحتمل على مستقبل الأطفال والناشئة. فالعالم يتغيّر، ولا يمكن للتّربية أن تظلّ في أبراجها العاجية في حالة انفصال عن حركة التّاريخ والحضارة (75).
نعم لقد نبّهنا كورونا إلى ما يجري في العالم من إنجازات عظيمة مهولة فالعالم في نظر المؤلف يعيش منذ عدة عقود في مجتمع المعلوماتية الذي تلعب فيه تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات الدور الأكبر في عملية الإنتاج الحديث، والذي يتّسم بأنّه إنتاج كثيف للمعارف. ومع تضاعف المعرفة الإنسانيّة، تحوّل الاقتصاد العالميّ إلى اقتصاد يعتمد على المعرفة العلمية، وفي هذا الاقتصاد المعرفيّ تحقّق المعرفة الجزء الأكبر من القيمة المضافة، ومفتاح هذه المعرفة، بلا منازع، هو الإبداع والتّكنولوجيا. فنحن نمرّ الآن بمرحلة من التطوّر تُعرف بتطوّر العلم التقني حيث لا يتمّ التّعامل مع مجموعة من العلوم التّطبيقيّة بالمفهوم القديم للعلوم، وإنّما يتمّ التعامل معها في مجـال التّطبيق التّكنولـوجيّ الذي يتفاعل مع منجزات كلّ العلوم الأساسيّة، ويجعل الفارق بين المعرفة المتولّدة عنها وتطبيقها الزّمني ضئيلا” (76).
وهنا يتساءل الدكتور علي وطفه بإلحاح، فيقول: أين نحن الآن من هذه الثورة؟ وما الذي أنجزناه حتى اليوم في غمار حركتها الإبداعية المتواصلة؟
وهنا يجيبنا الدكتور علي وطفه فيقول: ” تفيد الوقائع أن مؤسّساتنا التّعليميّة ما زالت حتى اليوم تعيش في عالم المعلومات، في الوقت الذي تعيش فيه البلدان المتقدّمة في عصر المعرفة الإبداعية، وتبيّن بعض الدّراسات أنّ المسافة الزمنيّة الفاصلة اليوم بين البلدان النّامية والبلدان المتقدّمة في مجال التّصنيع والثّورة الرقمية بعيدة المدى واسعة البون. وهذا يعني أنّه لا بدّ للمجتمعات العربية بمؤسّساتها التّربويّة أن تخترق الزمن الفاصل، وأن تنتقل إلى مدارج الثّورة الإبداعية من خلال مضاعفة الجهود التّربويّة والحضاريّة بغية اللّحاق بالعصر وثوراته المتقدّمة. وهنا، ومن جديد، يوجد لدينا إحساس عميق بأنّ كورونا قد ضاعف قدرة المجتمعات النّامية على الاختراق ولاسيّما في المجال التربويّ (77) ؛ فالتّعليم الإلكتروني، الذي عرفناه كما يذكر المؤلف، والذي سنعرفه في السنوات القادمة، يشكّل فعلا المنصّة الحقيقيّة التي يتوجّب فيها على التّعليم العربي أن ينطلق في مساحات العالم الرقميّ وثوراته المعرفيّة (78)، وهذا يعني أنّ التعليم الإلكتروني يحمل في ذاته بذور النّهضة العقليّة والنقديّة، وينقل المدرسة من حالة الكساد الذهنيّ القائم على الذّاكرة إلى فضاء ذهني جديد يتميّز بقدرته على توليد الذّكاء والتّساؤل والقدرات الابتكارية والعبقريّة. فالتعليم الإلكتروني لا يكون في جوهره إلاّ تعليما بنائيّا يركّز على أكثر نظريات التعلّم حداثة وتطوّرا في مجال تطوير القدرات العقلية والابتكارية للأطفال والمتعلّمين(89).
وهنا، وفي هذا السّياق، وفي معترك هذه المواجهة مع كورونا، يؤكد الدكتور وطفه بأنه لمن الواجب على الأنظمة التّربويّة في العالم أن تطوّر استراتيجيات جديدة لمواجهة مختلف التحدّيات الناجمة عن الثّورة الصناعيّة الرّابعة، ولاسيّما تحديات اختفاء الوظائف، والعمل على تأهيل الناشئة تأهيلا مستقبليا يعتمد على احتمالات الذّكاء الاصطناعي، وتمكين الناشئة من الخبرات والمهارات والمعارف التي يمكنها أن تواكب حركة التطوّر التّكنولوجي الهائل في العقود القادمة من القرن الحادي والعشرين. خاصّة أنّ الإنسان قد استطاع، حتى يومنا هذا، أن يجد لكلّ معضلة مخرجا عبر تاريخه الطّويل، وهو بطاقته اللاّمحدودة وإمكانياته المذهلة قادر على أن يحقّق المستحيل، وكلّنا أمل أن تجد الإنسانية طريقها المستنير في المحافظة على الكينونة الإنسانيّة في معركة البقاء والمصير(80).
وفي نهاية حديثنا عن قراءة كتاب” قراءة في كتاب إشكاليّات التّعليم الإلكترونيّ وتحدّياته في ضوء جائحة كورونا”، لا أملك إلا أن أقول تحية طيبة لأستاذنا الفاضل الدكتور علي أسعد وطفه، ذلك المفكر الموسوعي الناجح الذي عرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.
وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.
الهوامش:
1- أ.د/ محمود هلال عبدالباسط عبدالقادر: أزمة جائحة كورونا ” 19 Covid ” وإشكاليات التعليم عن بعد: تحديات ومتطلبات، جامعة الملك خالد- المملكة العربية السعودية، عدد مارس – ج1- (83) 2021م، ص 4.
2- د. زايد محمد: أهمية التعليم عن بعد في ظل تفشي فيروس كورونا، مجلة الاجتهاد للدراسات القانونية والاقتصادية، المجلد: 09/05/2020م، ص 488.
3- محمد أبو عدل: آليات مبتكرة للتعليم عن بعد في زمن كورونا، مجلة العلوم التربوية والنفسية، المجلد الرابع، العدد 41، المركز القومي للبحوث غزة، 2020م، ص 155.
4- د. علي أسعد وطفه: إشكاليّات التّعليم الإلكترونيّ وتحدّياته في ضوء جائحة كورونا قراءة سوسيولوجيّة في جدليات التّفاعل والتّأثير، مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية 2021م، ص 15.
5- د. صابر جيدوري: قراءة في كتاب رأسمالية المدرسة في عالم متغير للدكتور علي وطفه، مركز نقد وتنوير، 11 ديسمبر 2020م.
6- د. علي أسعد وطفه: نفس المصدر، ص 24.
7- نفس المصدر، ص 24-25.
8- نفس المصدر، ص 25.
9- نفس المصدر، ص 17.
10- نفس المصدر، ص 13.
11- نفس المصدر، ص 23.
12-نفس المصدر، ص 23-24.
13- نفس المصدر، ص 32.
14- نفس المصدر، ص 50.
15-نفس المصدر، ص 59.
16- نفس المصدر، ص 59.
17- نفس المصدر، ص 60.
18- نفس المصدر، ص 84.
19- نفس المصدر، ص 85.
20-نفس المصدر، ص 93.
21- نفس المصدر، ص 96.
22- نفس المصدر، ص 97.
23- نفس المصدر، ص 128.
24- نفس المصدر، ص 129.
25- نفس المصدر، ص 130.
26- نفس المصدر، ص 135.
27- نفس المصدر، ص 136.
28- نفس المصدر، ص 137.
29- نفس المصدر، ص 138.
30- نفس المصدر، ص 166.
31- نفس المصدر، ص 167.
32- نفس المصدر، ص 168.
33- نفس المصدر، ص175.
34- نفس المصدر، ص 176.
35- نفس المصدر، ص 177.
36- نفس المصدر، ص 208.
37- نفس المصدر، ص 209.
38- نفس المصدر، ص 217.
39- نفس المصدر، ص 218.
40- نفس المصدر، ص219.
41- نفس المصدر، ص 220.
42- نفس المصدر، ص254.
43- نفس المصدر، ص 255.
44- نفس المصدر، ص 256.
45- نفس المصدر، ص 257.
46- نفس المصدر، ص 261.
47- نفس المصدر، ص 262.
48- نفس المصدر، ص 263.
49- نفس المصدر، ص 264.
50- نفس المصدر، ص 301.
51- نفس المصدر، ص 302.
52- نفس المصدر، ص 303.
53- نفس المصدر، ص 311.
54- نفس المصدر، ص 312.
55- نفس المصدر، ص 313.
56- نفس المصدر، ص 314.
57- نفس المصدر، ص 331.
58- نفس المصدر، ص 332.
60- نفس المصدر، ص 340.
61- نفس المصدر، ص 341-346.
62- نفس المصدر، ص 357.
63- نفس المصدر، ص 358.
64- نفس المصدر، ص 367.
65- نفس المصدر، ص 368.
66- نفس المصدر، ص 259.
67- نفس المصدر، ص 397.
68- نفس المصدر، ص 398.
69- نفس المصدر، ص 25.
70- نفس المصدر، ص 401.
71- نفس المصدر، ص 401.
72- نفس المصدر، ص 402.
73- نفس المصدر، ص 402.
74- نفس المصدر، ص 403.
75- نفس المصدر، ص 403.
76- نفس المصدر، ص 404.
77- نفس المصدر، ص 405.
78- نفس المصدر، ص 405.
79- نفس المصدر، ص 406.
80- نفس المصدر، ص 406..
81- نفس المصدر، ص
82- نفس المصدر، ص
83- نفس المصدر، ص
84- نفس المصدر، ص
85- نفس المصدر، ص
86- نفس المصدر، ص
87- نفس المصدر، ص
88- نفس المصدر، ص
89- نفس المصدر، ص
1 تعليق
د
أعجبني المقال كثی ًرا وتأثرت بھ فجائحة كورونا صدمت الحیاة الإنسانیة وھ ّزت أركانھا في مختلف
تكویناتھا الوجودیة، ویتجلى تأثیر ھذه الصدمة في مختلف جوانب الحیاة الإنسانیة في الأدب والفلسفة والتاریخ والتربیة وفي مختلف العلوم والفنون، كما أعجبني تركیز المقال علي أن تأثیر كورونا في التربیة والتعلیم كان مھولا إذ وضع الأنظمة التربویة والاجتماعیة في العالم المعاصر على محك الصدمة ورماھا في مخالب الأزمة الفریدة من نوعھا في تاریخ التربیة والتعلیم إذ أنھا المرة الأولي التي یتم فیھا غلق جمیع المؤسسات التعلیمیة على مستوى العالم مرة واحدة، وقد تسببت الجائحة في أكبر انقطاع للتعلیم في التاریخ، حیث كان لھا حتى الآن بالفعل تأثیر شبھ شامل على طالبي العلم والمعلمین حول العالم، من مرحلة ما قبل التعلیم الابتدائي إلى المدارس الثانویة، ومؤسسات التعلیم والتدریب التقني والمھني، والجامعات، وتعل ُّم الكبار، ومنشآت تنمیة المھارات، وقد تسبب الجائزة بأضرار أكبر في منظومة التعلیم في البلدان الفقیرة بسبب سوء البنیة التحتیة الإلكترونیة وھذا ما یعتبر سبب رئیسي في تسرب الأطفال من التعلیم ونمو ظاھرة عمالة الأطفال، أعجبني حقا تركیز المقال علي أضرار جائحة
كورونا واستفدت منھ في فھم تأثیر الجائحة علي التعلیم،